حتى نُحْسِن فَهْم سياسة الولايات المتحدة!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4423 - 2014 / 4 / 13 - 10:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


لم أرَ تفسيراً لسياسة ومواقف الدول أسوأ من "التفسير الشخصي"؛ فالقوَّة العظمى في العالَم، وهي الولايات المتحدة، تنتهج سياسة، وتَقِف مواقف، في أزمة الصراع السوري، والصراع الإقليمي والدولي في سورية، تتَّسِم بـ "الضَّعْف (والتخاذُل، والتَّخَبُّط، والتناقض بين القول والفعل)"؛ لأنَّ رئيسها (الأَسْوَد، الديمقراطي) "ضعيف شخصياً"؛ مع أنَّه في ولايته الرئاسية الثانية والأخيرة، والتي يمكنه، وينبغي له، فيها أنْ "يتأسَّد"، ويَجْعَل ضعف هذا قوَّةً!
إنَّ هذا تفسير يليق بالذهنية السياسية العربية التي (لأسباب تاريخية) تَجْنَح لتفسير السياسة على أنَّها امتداد لشخص وشخصية الحاكم الذي بيده كل شيء يَخُصُّ عالمنا السياسي؛ ولو كان للولايات المتحدة مصلحة حقيقية وحيوية واستراتيجية في أنْ تُغيِّر سياستها ومواقفها تلك بما يجعلها تشبه كثيراً ما نرغب فيه، أو نرغب عنه، لَرَأَيْنا "ضَعْف" أوباما (الشخصي) يَنْقَلِب قوَّةً (وبأساً).
ولَمَّا بدا الرئيس أوباما عازِماً على توجيه "ضربته العسكرية المحدودة" لقوى ومنشآت ومواقع عسكرية سورية تُمثِّل القوَّة الكيميائية لبشار الأسد، اتَّضَح لنا وتأكَّد (وقد تولَّى هو بنفسه توضيح وتأكيد هذا الأمر) أنَّ هذه الضَّربة لا تحظى بتأييد شعبه، والكونغرس، وقوى مهمَّة في إدارته؛ وكأنَّ الولايات المتحدة كلها لم تَرَ بَعْد في الصراع السوري ما يَجْعَل لها مصلحة حقيقية في التورُّط فيه (عسكرياً في المقام الأوَّل).
أَعْلَم أنَّ "حلفاء" بشار الدوليين والإقليميين (روسيا وإيران و"حزب الله" اللبناني، في المقام الأوَّل) أقوياء (بميزان القوى النسبي) في هذا الصراع؛ لكن لو كان للولايات المتحدة مصلحة في تغيير الواقع على الأرض بما يُرجِّح كفَّة المعارَضة على كفَّة بشار و"حلفائه" لَمَا ظلَّ هؤلاء "الأقوياء" بقوَّتهم، أو بقوَّتهم نفسها.
لقد أسَّست الولايات المتحدة، أو سمحت بتأسيس، تَجَمُّعاً دولياً وإقليمياً (وعربياً) أُطْلِق عليه اسم "أصدقاء سورية (أو الشعب السوري وثورته)"؛ لكنَّها ظلَّت تَنْتَظِر أنْ يتطوَّر الصراع السوري، فتتمخَّض عواقبه بضغوطٍ (على المعارَضة) تسمح لها بالتأسيس لمعارَضة سورية "صديقة"، بالظاهر والباطِن، للولايات المتحدة، التي يهمها، في المقام الأوَّل، معرفة البديل من بشار الأسد، قبل إطاحته، ومن أجل أنْ تكون لها مساهمة كبيرة في إطاحته؛ وما زالت الولايات المتحدة "تَخْتَبِر" القوى التي يُمْكِنها أنْ تكون هذا "البديل"، أو تؤسِّس له؛ والصراع مع "داعِش"، وأشباهها، هو جزء من هذا "الاختبار" الذي لم ينتهِ بعد.
مصلحة واحدة للولايات المتحدة (وقوى أخرى من حلفائها) هي الواضحة المُثْبَتة المؤكَّدة حتى الآن، ألا وهي استمرار هذا الصراع؛ لكن من غير أنْ يتمكَّن أحد طرفيه من التغلُّب على الأخر، وهزمه وسحقه؛ فَمَع بقاء هذا "البديل" أقرب إلى "الاحتمال" منه إلى "الحقيقة الواقعة"، لا "حليف" للولايات المتحدة في الصراع السوري إلاَّ "استمرار هذا الصراع (واستمراره بلا حسم)".
الولايات المتحدة الآن لا تسعى في حلِّ هذا الصراع؛ فإنَّ "إدارته"، مع "توظيفه" و"الاستثمار فيه (استراتيجياً)"، هي ما يستبدُّ بتفكيرها، ويستأثر باهتمامها؛ فسورية هي ساحة الصراع التي فيها يَسْتَنْزِف ويَسْتَنْفِد ويَسْتَهْلِك خصومها الدوليون والإقليميون، وفي الدَّاخِل السوري، قواهم بأنواعها؛ وكأن موقع هذا الصراع يشبه "الثقب الأسود"، يلتهم، ويشد إليه، كل ما يَقَع حوله.
قد تكون الولايات المتحدة صادقة في كراهيتها لبشار الأسد (وهذا ليس بالأمر المُسْتَغْرَب؛ فإنَّ خَيْر حلفائه لا يُحِبُّونه) لكنَّ أحداً من العقلاء في عالَم السياسة الواقعي لا يُشكِّك في صِدْق حُبِّها لأفعاله؛ فهو يُدمِّر سورية نفسها، ويُشْرِك قوى دولية وإقليمية في تدميرها، ويضطَّر حتى معارضيه ومناوئيه إلى خوض الصراع بما يجعلهم شركاء في هذا التدمير. وإنَّها لطوباوية سياسية صَرْف أنْ يَعْتَرِض مُعْتَرِض قائلاً: ليس للولايات المتحدة مصلحة في تدمير وتمزيق سورية.
إنَّ سورية المُدمَّرة الممزَّقة، والتي تحالف بشار مع قوى دولية وإقليمية لإخراج الصراع فيها عن سِكَّتِه الطبيعية، هي مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة وإسرائيل في المقام الأوَّل؛ ولو قُيِّض لهذا الصراع أنْ يتوقَّف الآن لاكتشفنا أنَّ للولايات المتحدة (وبعض حلفائها) مصلحة في "الاستثمار الاستراتيجي" في جهود "إعادة البناء" لسورية كلها، أو لسورية التي ما عاد في مقدورها أنْ تعيش إلاَّ مجزَّأة مُقسَّمة.
الولايات المتحدة، وبصرف النَّظر عَمْن يحكمها، ما زالت، في سياستها، محكومة بمبدأ لكسينجر، قال فيه إنَّ على الولايات المتحدة أنْ تَعْلَم وتُدْرِك أنَّ لها مصلحة حقيقية واستراتيجية في "إدارة" بعض الأزمات، و"الاستثمار فيها"، لا في "حلها (وتسويتها)"؛ وأحسبُ أنَّ "الأزمة السورية (وبأبعادها الدولية والإقليمية)" هي من جِنْس هذه الأزمات؛ وسياسة الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، هي سياسة "تُرى"، ولا "تُسْمَع"؛ فانظروا إليها بعيون الواقع، ولا تكترثوا لِمَا تسمعونه من أقوال وتصريحات، إنْ أفادت في شيء، فلا تفيد إلاَّ في إظهار وإبراز الهوَّة السحيقة بين "القول" و"الفعل" في سياستها.