ساد ستوكهولم القسم الرابع عشر هوراس ألفريدسون (3) نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4417 - 2014 / 4 / 7 - 12:25
المحور: الادب والفن     



ربط هوراس ألفريدسون جوستين فوق طاولة، وأراد أن يشق بِجِلْدَةٍ فمها، فتحرك تمساحٌ من وشمٍ على ذقنها فاغرًا فمه مهددًا إياه. أغمض هوراس ألفريدسون عينيه، وفتحهما.
- يا إلهي! همهم هوراس ألفريدسون.
- ماذا؟ استهجنت جوستين أمره.
- التمساح!
- أي تمساح؟
- على ذقنك.
- الوشم؟
- إذن فهو وشم!
- انتظر!
- لماذا؟
- لأكلمك.
- تريدين كأس ماء؟
- لأكلمكَ قلتُ.
- يحق لي ألا أسمعك.
- اسمعني!
- تكلمي!
- ستشق بطني، أليس كذلك؟
- سأشق بطنك وصدرك ورأسك.
- كما يفعلون للموتى.
- على الإطلاق.
- ولكني لست ميتة.
- ليس مهمًا.
- مهم.
- لكِ وليس لي. لن أرتكب جريمة قتل. ممنوعة الجرائم في ساد ستوكهولم.
- ولكني سأموت.
- لن تموتي.
- سأتألم.
- هذا صحيح.
- ليس في قلبك رأفة.
- هذا صحيح.
- لماذا؟
- لم أسأل نفسي لماذا.
- اسألها.
- ربما لأنني كنت أكره القطط وأنا صغير، فأرشقها بالحجارة، وأسبب لها الألم الشديد.
- لماذا لا تشرّح لك إذن قطًا؟
- ممنوع جلب القطط في ساد ستوكهولم.
- حررني، وسأحضر لك قطًا في حقيبة يدي.
- الخطر سيكون كبيرًا.
- لن يكون هناك أي خطر.
- ...
- ماذا قلت؟
- ليس الشيء كالشيء.
- التشريح هو التشريح، حيوان، إنسان، جماد، واحد.
- ليس الجماد.
- أريد القول...
- وليس الحشرات.
- أي القطط تحب؟
- التي تلتهم الجرذان.
- لماذا الجرذان؟
- نحن لا نعلم.
- نحن لا نعلم ماذا؟
- تنسين الطاعون.
- الطاعون هنا في السويد وفي عصرنا؟
- نحن لا نعلم.
- أي القطط تحب؟
- قلت لك التي تلتهم الجرذان.
- أقصد نوعها.
- الفارسية.
- لماذا؟
- لأنها تلتهم الجرذان.
- اتفقنا، سأتيك بفارسية.
- لم نتفق.
- أنا أعرف الكل في ساد ستوكهولم، الكل في جيبي.
- ليس أنا.
- ليس أنت ماذا؟
- لست في جيبك.
- أقصد...
- كَلَّمْتِني بما فيه الكفاية.
- انتظر!
- دعيني أشق بهذه الجلدة فمك كيلا يزعجني صراخك.
- وإذا ما أحضرت لك واحدة؟
- واحدة؟
- واحدة مثلي.
- واحدة مثلك وأنت لديّ؟
- أحسن مني.
- التشريح لا يهمه أحسن أو أسوأ، التشريح هو التفجير، تفجير الدم والخراء والنخاع بعد قطع اللحم.
- اللحم ليس واحدًا.
- بلى بلى.
- ليس واحدًا، وبالتالي الدم والخراء والنخاع ليس واحدًا. تريد أن أثبت لك؟
- مع واحدة مثلك؟
- مع اثنتين مثلي.
- ...
- لا تتأوه!
- أنا حائر.
- لا حيرة في ساد ستوكهولم، الحيرة تبدأ على عتبته وتنتهي في الميناء، ليس بعيدًا عن الحيتان.
- لا أثق بك.
- ثق بي.
- لا.
- ثق.
- مع اثنتين مثلك.
- مع اثنتين مثلي.
- توأماك.
- ليماي.
- لا أثق بك.
- فكني.
- لا يعدل المرء عن قراره في ساد ستوكهولم.
- فكني، يا دين الكلب!
- ستسببين لي المتاعب.
- فقط فكني.
- وما الضامن؟
- تعال معي إذا أردت.
- دعيني أشق...
- يجب أن تثق بي.
- لا شيء يضمن.
- كما في كل مكان.
- ما عدا في ساد ستوكهولم.
- بالنسبة لك.
- دعيني...
- فكني، يا دين الكلب!
- لا أثق بك.
- فكني.
- سأفتح بطنك أولاً.
- تحب رائحة الخراء كما أرى.
- كثيرًا.
- لن تفكني إذن.
- لا.
- سألوثك.
- هذا لا يهم.
- ستنتشر عنك رائحة الخراء في كل مكان تذهب إليه.
- هذا لا يهم.
- لن تنام وفي مِنخريك رائحة الخراء.
- هذا لا يهم.
- لا فائدة إذن.
- لا فائدة.
- أيها الفيلسوف المُخفق!
تعثر هوراس ألفريدسون ببسطار عسكري، وسقط بطوله على الأرض، وهو يضرب رأسه بجرار انفتح، وبان فيه مسدس جميل كقمر ستوكهولم. ابتسم له أول ما وقعت عليه عيناه، وتناوله بأصابع مرتعشة. لمسه كما لو كان يلمس جسد امرأة، وضغطه على ثديه، وعلى بطنه، وعلى فرجه، وجعله بين فخذيه.
- مُخفق؟ تستطيعين أن تقولي، قال هوراس ألفريدسون، وهو يهدد جوستين بالمسدس المنتصب بين فخذيه. تعرف ذلك زوجتي، ولم تقله أبدًا لي، ويعرف ذلك أصدقائي، كل أصدقائي، وهم لذلك ينعتونني بالعسكري، ويعرف ذلك طلبتي، ولا يجدون ما يفعلون سوى طاعتي. حتى أنا خبأت عني ذلك، فتهت في اعتباراتٍ مُضَلِّلَة. في أحد الأيام، كدت أقتل طفلاً، هذا لأني فيلسوف مُخفق. كنا نقضي أنا وزوجتي عطلة الشتاء تحت قدم الجبل الأبيض، كل هذا الأبيض في بلدنا لم يكن كافيًا. كنت في أعلى الهضبة، وزوجتي في أسفلها. لست أدري لِمَ لَمْ أكن في أسفل الهضبة، وزوجتي في أعلاها. فهمت بعد ذلك، لأني لم أكن مخفقًا في الفلسفة بل في كل شيء. طلبت مني زوجتي أن آتيها بالزلاقة، لِمَ الزلاقة، وهي في أسفل الهضبة؟ انحدرتُ عدة خطوات، ثم، لست أدري لماذا، تركت الزلاقة تزلق باتجاهها، فلم تزلق باتجاهها، وانحرفت باتجاه طفل كان يعبر تحت. أخذت أركض كالمجنون لأمسك الزلاقة، لأبعد الطفل عن مسارها، كنت أعرف أن لا هذا ولا ذاك ممكن. وفي اللحظة الحاسمة، سحبت الأم ابنها. لم تكن ترى الزلاقة التي كانت ستقضي عليه. أخذتْ يده، وذهبتْ به بعيدًا، بكل عادية.

* * *

قضت جوستين أيامها بين منتزه القصر الباريسي وشقتها فيه، كانت تتجول في النار الخضراء وحدها، دون رفيق، أو كانت تغلق عليها الباب، وتنام في حضن الذكريات، دون مُنادٍ. رهيبة كانت ذكريات جوستين، ومع ذلك كانت تعيش عليها. كانت طريقتها اللاعادية في الحياة العادية، الروتين، الوقت الطويل، السأم، السلوك الحميد لكل من هم حولها. وعلى مقربة ليست بعيدة من القصر، كانت تتفجر من حين إلى حين صيحات تضع البنادق حدًا لها. لا طعم للسلوك الحميد كان وكل فرنسا لقمة سائغة في فم من لا أخلاق لهم، فرنسا ترقد على جمر، وتنهض على جمر. أشعرها ذلك بضعفها، وحنت إلى بؤسها. فهمت أنها، وهم كانوا يغتصبونها، كانت الأقوى، وهم كانوا يسوطونها، وهم كانوا يكوونها، وهم كانوا يحشونها، وهم كانوا يمزقونها بأنيابهم وأنياب الكلاب. بكت على الماضي الفظيع الذي عاشته، وهي في الثانية عشرة، وهي في السادسة عشرة، وهي في الثانية والعشرين، وعلى المدن الفظيعة التي قطعتها، أوسير وفيان وغرونوبل وليون، وزادها ذلك عزلة وسأمًا. كانت الحرية مقيِّدة لها، والسلام عبئًا، فكدرتها الحرية، وأعياها السلام. وعندما كانت البلابل تشدو، وهي على مقربة من إحدى بحيرات المنتزه، كانت جوستين تبكي، فلم يعد شيء يطربها، لم يعد الجميل يهز عواطفها. وعلى أي حال، عواطف جوستين لم يكن يهزها إلا الشرير.
- الحياة هكذا، يا حبيبتي، مرة لك ومرة عليك، قالت جولييت لأختها ذات يوم لتخفف القليل عنها.
- تريدين القول مرة غالب ومرة مغلوب، تصحح جوستين.
- هذا لا يبرر بأي شكل سأمك وعزلتك.
- أين الغالب وأين المغلوب؟
- أترين؟
- في زمننا زالت الحدود ما بينهما.
- أريحي نفسك إذن، واعتادي على حياتك الجديدة.
- وما أنا بفاعلة بالله عليك؟
- ستقتلين نفسك في نهاية الحساب.
- تنسين أمرًا ثانويًا.
- ما هو؟
- سرطان ثديي.
- ستقطعينه وتقطعين معه كل حياتك الماضية.
- وهل ستبقى لي حياة؟
- جوستين، يا حبيبتي!
- يا للمصيبة!
- لقد انتهى كل شيء!
- أحقًا لقد انتهى كل شيء؟
- أنت هنا في كل أمان!
- أحقًا أنا هنا في كل أمان؟
- لن يلحقك أقل سوء!
- أحقًا لن يلحقني أقل سوء؟
- ماذا أفعل كي أُسَكّن روعك؟
- لا شيء.
- كل شيء عادي هنا.
- تريدين القول كل شيء عادي غير عادي.
في الليل، لم يكن يرضي جوستين نومها العادي. كانت ذكرياتها الفظيعة تقيم معها هدنة خلال الليل، تريد ذكرياتها أن تريح نفسها من ذكرياتها، فتطاردها اللاذكريات، حياتها المسئمة في القصر. في النهار، لم يعد التنزه يرضيها، ولا القيلولة في أية ساعة تريد. التهمت الكتب، قرأت منها ما استطاعت عليه، فمكتبة القصر كانت تضم بين طياتها آلاف الكتب. وجدت في القراءة بعضًا من سعادتها البائسة، إلى أن جاء رجال الشرطة بأمر من محكمة التفتيش. جعلوا من الكتب أهرامات في شوارع التمرد، وأحرقوها. سمعت كل باريس صرخات شخصيات الروايات واستغاثاتهم، ورأت كل باريس كيف عصر الأنوار على الصرخات والاستغاثات يزداد توهجًا. سنشرب من ماء النافورة، قالت الأفواه الظمأى. سننام تحت سماء مليئة بالنجوم، قالت الأجساد التعبة. سنحلم بالحرية، قالت الأثداء المقموعة.



* يتبع القسم الخامس عشر