أردوغان: غطرسة السلطان تطيح به!


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4402 - 2014 / 3 / 23 - 09:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بعد الاتهامات المتواصلة بالفساد المالي، نشهد الآن انحداراً آخر مدهشاً في السيرة السياسية لرجب طيب اردوغان رئيس الوزراء التركي: محاولة إغلاق شبكة التواصل الاجتماعي «تويتر»! لماذا يُسرع اردوغان في استدعاء نهاية مأسوية لفترة حكمه وقد كان قاب قوسين من احتلال مكانة مرموقة في التاريخ، ليس الخاص بتركيا وحدها، بل والشرق الاوسط وما ارتبط منه بالإسلاموية الحركية على وجه التحديد؟ طوال عقد كامل ابتدأ من ٢٠٠٢ أدهش حزبه، العدالة التنمية، مؤيدي الاسلاميين وخصومهم عبر مراكمة نجاحات داخلية اقتصادية وخدمية وأيضاً سياسة خارجية حاولت تصفير الأزمات مع الجوار، نجحت في بداياتها، لكن تدهورت في نهاياتها. بيد ان اردوغان وقع في ما وقعت فيه أجيال من القادة عبر التاريخ الطويل للبشرية: الخليط المُعقد والغامض من النشوة بالسلطة حتى الثمالة، وتمثل القيام بدور شبه مقدس معطوف على سيكولوجيا القناعة الذاتية بالأبوية على الأمة المعنية. لماذا يضحي اردوغان برأسماله الكبير، المحلي والاقليمي والعالمي، ويلقي كل منجزاته السابقة عرض الحائط ويتحول إلى واحد من سلسلة الحكام الشبقين بالسلطة المطلقة، ولا هم له سوى أن يبقى على رأسها؟ عندما تتلبس اي حاكم فكرة انه اصبح «أبا الشعب» وأن الجميع هم مجرد أفراد في عائلته التي هو وحده يعرف مصلحتها ويقرر لها ما يخدمها ويضرها، فإنه يكون قد دخل مرحلة السلطوية والديكتاتورية من بابها العريض. العلاقة بين الحاكم والشعب هي علاقة «عقد اجتماعي» يقوم على تخويل الشعب للحاكم بالقيام بمسؤوليات معينة، وتحت بصر ومراقبة الشعب الذي هو «أبو نفسه» ولا أب عليه.

خصائص أو سمات السلطوية والديكتاتورية والانجرار إليها، ومنها ما أشير إليه اعلاه من سيكولوجيا الثمالة بالسلطة، مشتهرة وكتبت فيها مصنفات. لكن إذا كانت تلك السمات تعمي الساسة والقادة الديكتاتوريين عن تعقّل الامور ورؤيتها كما يراها كل الناس من حولهم معروفة ولا جديد فيها، فإن تسربها الدائم في حال القادة الذين يقطعون نصف مسيرتهم بنجاح ملحوظ تأخذنا إلى حيرة شبه مستديمة. فهذا الصنف الأخير من الحكام يتبوأ دفة القيادة على رافعة التأييد الشعبي، إما مُعبراً عنه بالآليات الديموقراطية المباشرة كما في حالة اردوغان وانتصاراته الانتخابية المتتالية، او بآليات إجماع ظرفية خاصة في لحظات الانعطاف والتحرر الوطني من احتلال اجنبي. في هذه الحالة الاخيرة، هناك قائمة طويلة من قادة حركات التحرر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كانوا على رأس النضال ضد المُستعمر وبذلوا تضحيات كبيرة، وبعيد لحظة التحرر والاستقلال صعدوا إلى الحكم على رافعة الجماهيرية والتأييد الشعبي. كانوا رموزاً أُحيطت بهالة فائقة من القدسية والرومانس الثوري تراكم خلال سنوات الكفاح ضد الاستعمار. آخرهم وأكثرهم صخباً وهالة في السنوات الاخيرة كان تشافيز الذي أيدته جماهير عريضة من شعبه في بداية حكمه (وبقي قسم كبير منها إلى مماته)، لكن تطورت عنده آفة الأبوية وتسنّم المسؤولية الإلهية عن فنزويلا وشعبها، وقضى وقتاً كبيراً في سنواته الاخيرة وهو يحاول تغيير الدستور ليتيح له البقاء في الرئاسة إلى الابد! وهو ما كان قد فعله، بحكم الامر الواقع او الدسترة، فيديل كاسترو في كوبا، مستثمراً نضاله وتاريخه الطويل ضد الاستغلال والاستعمار الاميركي المجاور لبلده.


افريقيا بدورها غنية بدروس الانتقال من موقع البطولة إلى موقع الاستبداد والانحدار التدريجي، وبسرعات متفاوتة وفق البلد والحالة، من هالة القداسة النضالية والنجاحات إلى مهاوي الديكتاتورية والبطش بالشعب نفسه. روبرت موغابي هو أكثر الأمثلة حضوراً في الوقت الراهن، إذ لا يزال يواصل الحفر في طبقات الاستبداد وعبادة الذات، وقد تجاوز التسعين، وبعد ان قضى ردحاً من الزمن وهو ينهي رفاق التحرير ودرب النضال الطويل. موغابي احتل موقعاً كبيراً في قائمة قادة تحرير القارة الافريقية، إلى جانب كوامي انكروما في غانا، وكينث كاوندا في زامبيا، ومانديلا في جنوب افريقيا وآخرين كثيرين. ربما الوحيد الذي سار وئيداً بكل احترام ونضج إلى مكانه اللائق في التاريخ هو مانديلا. الآخرون رفضوا تلك المكانة وأصروا على تبديد ما جمعوه من انجازات. أردوغان لا يقدم جديداً في تشبثه المدهش بالحكم، بل يعيد سرد القصة المكرورة والمملة، لكن المؤسفة.

المؤسف في السردية الأردوغانية هو إضاعة الفرصة على تركيا نفسها لمواصلة تثبيت ما حققته في السنوات الماضية، اقتصادياً وتنموياً، وأيضاً دستورياً ومؤسساتياً. في سنوات «الحقبة الذهبية» لحزب العدالة والتنمية نجحت السياسة في إبعاد الجيش عنها تدريجاً وتمدينت المؤسسة الدستورية والقضائية واقتربت تركيا اكثر من صيغة الحكم الاوروبية، حيث سيطرة المؤسسة المدنية على العسكرية. في تلك الحقبة لم ينصرف الحزب إلى «سياسات الهوية» والأسلمة والانهماك بالتاريخ وتعريف من هو التركي وما هي الهوية الاسلامية لتركيا. عوض تضييع الوقت والجهد في قضايا مفتوحة على التغير الدائم ومطاطة ومتحولة، كرس الحزب وحكوماته المتعاقبة جهده على «سياسات الخدمات» والإنجاز الاقتصادي وتقليل معدلات البطالة، وتوفير المناخ للاستثمارات الاجنبية. كان التركيز على «سياسات الخدمات» هو احدى المميزات الأساسية التي فرقت بين «العدالة والتنمية» والاسلاموية العربية بتلويناتها المختلفة. فحركات الاسلام السياسي العربية سواء من وصل منها إلى الحكم او بقي في المعارضة منهمكة حتى أذنيها في «سياسات الهوية» ومعارك دونكيشوتية حول «هوية الشعب» و «هوية البلد» وكيف يجب ان يعبر عن ذلك في الدستور، وأين تكون الشريعة والقانون، بينما البلدان تغرق في وحل المشكلات والفقر والتخلف والبطالة واقتصاداتها تواصل التدهور.

أيضاً، كان «العدالة والتنمية» قد طرح نموذجاً مختلفاً لجهة العمل الوطني والجبهوي، وأقله في الإطار الاسلامي والمحافظ. فالحزب تشكل اساساً على قاعدة تحالفات بين مكونات عدة ليست كلها قادمة من مربعات الإسلام الحركي التركي الذي أسسه نجم الدين اربكان، بل هناك دوائر من المحافظين والقوميين القريبين من الاسلاميين، وهناك الشرائح الاناضولية الواسعة المختلفة التدين، وهناك طبقة رجال الاعمال الذين توسموا في الحزب محاربة الفساد وخلق بيئة استثمارية صحية... وهكذا. هذا يختلف عن الحزبيات الضيقة التي تطرحها الاحزاب الاسلاموية العربية والتي تضيق ذرعاً بمن يقف في المربع الاسلاموي نفسه، فضلاً عن الاطراف الاخرى التي يُنظر إليها نظرة عدائية شبه مطبقة.


لكن كل ذلك وغيره كثير يتم الآن تدميره بتسارع كبير ومدهش على يد اردوغان الذي صار همه الأكبر القيام بما امكن من تعديلات قانونية ودستورية ومناوراتية كي يصبح رئيساً لتركيا بعد انتهاء فترة حكمه كرئيس وزراء. مهجوس الآن بكيفية تحويل موقع الرئاسة التركي من منصب رمزي إلى منصب يتم تحويل مسؤوليات رئيس الوزراء له. الاتجاه الجبهوي عند حزب العدالة والتنمية تآكل إلى درجة هائلة إذ لم يخسر فحسب قواعده غير الاسلامية والتي كانت تؤيد الحزب بسبب اهليته وكفاءته ونظافة يده، بل خسر ايضاً الدائرة الاهم من الاسلاميين وهم جماعة فتح الله غولن. أبعد من ذلك ظهر الخلاف المستتر والطويل بين اردوغان وعبدالله غل إلى العلن عندما اعلن الاخير عن رفضه لمسألة اغلاق «تويتر» واعتباره غير قانوني، بل قام بنشر تغريدات خاصة به، منحازاً الى مستخدمي «توتير» ضد اردوغان نفسه. التحدي والسؤال الحقيقي يواجه حزب العدالة والتنمية الآن، ذلك انه أمام خيارين احلاهما مر: إما ان يوقف التدهور ويعود الى فكرة المؤسساتية على حزب فردانية وتسلط رئيس الوزراء ويعزل اردوغان ويطيح به داخلياً، وإما ان يبقي الامور على ما هي عليه فيهوي الحزب كله وتجربته مع أردوغان في رحلة السقوط الكبير.