عام رابع: من ال-مو معقول- إلى المقاومة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4401 - 2014 / 3 / 22 - 12:57
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

قد يمكن تلخيص الانفعال المنسي عند قطاعات واسعة من السوريين طوال عقود حكم حافظ الأسد الثلاث بعبارة واحدة: مو معقول!
"مو معقول" أن يستطيع النظام ترويض الجيش الذي أتى هو منه وتحويله إلى جهاز جسيم، منخور بالفساد والطائفية والخوف؛ "مو معقول" أن يتمكن من تحطيم الأحزاب السياسية التي وسم اصطخابها الحياة السياسية السورية ربع قرن بعد الاستقلال؛ "مو معقول" أن تصبح شوارع دمشق ميدانا لزعرنة عناصر "سرايا الدفاع" التي كان يقودها أخوه رفعت، واللاذقية ميدانا للشبيحة؛ "مو معقول" أن يتدخل النظام في لبنان ويحطم منظمة التحرير ويقتل ألوف الفلسطنيين، بينما هو يرفع راية القضية الفلسطينية؛ "مو معقول" أن يقضي معتقلون بالكاد نشروا بيانا أو قالوا كلمة في السجن عشر سنوات وعشرين سنة؛ "مو معقول" أن يقتل عشرات الألوف في حماه ويدمر ثلث المدينة؛ "مو معقول" أن يستمر تعذيب المعتقلين في سجن تدمر عشرين عاما؛ "مو معقول" أن تعامل سورية كمزرعة خاصة، وأن تدار مثل مزرعة خاصة؛ "مو معقول" أن يستمر النظام ثلاثين عاما، حاكما لبنان وليس سورية وحدها؛ "مو معقول" أن يُهيء حافظ ابنه باسل لوراثة "الجمهورية"، ثم أن يفرض على السوريين الحداد عليه حين مات الابن بحادث سيارة، وأن يوصف بأنه شهيد؛ "مو معقول" أن يجري تغيير الدستور خلال دقائق ليفصل على قياس الابن الآخر!
قال السوريون "مو معقول" تعبيرا عن ذهولهم وعجزهم عن التصديق. لكن فيه أيضا تعبير عن هشاشتنا، أفرادا ومجتمعا وكيانا، وعدم قدرتنا على التحول من الدهشة إلى المبادرة، ومن عدم تصديق ما يجري إلى تغيير الواقع.
وبينما نحن في ذهولنا الطويل، كان "المو معقول" هو بالضبط ما يقع ويرسخ نفسه. عشنا في ظله الثقيل 30 عاما، ثم 11 عاما أخرى. ثم 3 سنوات إضافية.
استُخدِمت كلمات مثل "الوحشية" و"تغول الدولة" لمقاربة الحال، لكن السوريين قلما أمكنهم تحويل عنائهم الرهيب إلى معان قوية. لدينا ضعف لا يطاق في الملكات المفهومية والرمزية التي كان يمكن أن تحفر عناءنا في سجل الألم الإنساني، وفي سجل التحرر الإنساني. نقول أشياء ليست قليلة، لكنها خفيفة ومتلاشية، لا نُسمي، لا نبتكر مفاهيم وقيما وعقائد، لا نصنع صورا ورموزا مؤثرة. هذه ليست أفعال معرفة، بل هي أفعال مقاومة وتحرر وظهور ذاتيات وفاعلين جدد، أفعال وجود.
في هذا نحتاج إلى ثورة تكمل ثورتنا المحطمة، وتشكل استمررا مغايرا لها. لا نقول إن الثورة الحقيقية هي هنا، في بناء جمهوريات المعاني ومجتمعات المفاهيم المتحررة، وفي ابتكار العقائد والتضامنات الجديدة، لكن نكاد نقول ذلك. وقد لا يتمثل الفرق بين المجتمعات في المحن التي تصيبها، أو الأوضاع المجنونة التي قد يبتلي بها الناس، بل في القدرة على تحويل المحن إلى معاني، والجنون إلى عقول جديدة، مفاهيم ورموز وقوانين، وأديان، وفي تطوير مواثيق لتوليد المعقولات... نحن لم ننتج شيئا مهما على هذه الصعد منذ أزمنة بعيدة. وهو ما يعني أننا نعيش عيشا مباشرا، لا ننفصل فيه عن الواقع الخام، ولا ننتج واقعا آخر، إنسانيا ومعقولا.
وبفعل ذلك، اجتمع على السوريين شرط "المو معقول"، المعاش واقعيا والمحروس بالقوة، مع ضعف إنتاج معقولات قوية تشكل واقعا منظما، أو نظاما مميزا للواقع. دون معان ترويه وتحفظه وتؤوِّله وتعيد تأويله، عناؤنا الرهيب ضاع أو كاد.

بعد الثورة استعاد "المو معقول" سيرته كاملة وتفوق على نفسه. في شوراع دمشق صار يُهتف: شبيحة للأبد، لأجل عيونك يا أسد! وتكتب على الجدران شعارات: الأسد أو نحرق البلد! أو: الأسد أو بلاها هالبلد! المضمون الفكري والقيمي للنظام اليوم هو "الأسد"، لا شيء آخر، وهو يوغل في الوحشية بالتناسب مع فقر محتواه. في السجل منذ الآن 9 ملايين ونصف مهجرون، أي 40% من السكان، ومنهم مليونان ونصف خارج البلد، وصناعة موت منظمة في أقبية الأجهزة الأسدية (11 ألف ضحية خلال عامين وخمسة أشهر في دمشق وحدها، 12 ضحية في اليوم الواحد)، واستخدام الطيران الحربي وصواريخ سكود والسلاح الكيماوي ضد "السوريين السود"، سكان "العالم الثالث الداخلي".
من الأب إلى الابن هناك استمرارية لا ريب فيها: "سورية الأسد"، دار العبودية السياسية وتمردات العبيد الدامية.
لكن مرة أخرى هناك ما أخذنا على حين غرة، وصرنا نهتف كل حين: مو معقول! إنه المسلك الإجرامي لمجموعات إسلامية محاربة. في ظهورها وفي توسعها، وفي سلوكها حيال المجتمعات المحلية، هناك الكثير مما هو "مو معقول" بشأن هذه المجموعات. "مو معقول" أن تسيطر داعش على الرقة ومناطق من شمال وشمال شرق البلد؛ "مو معقول" أن يخطف أشجع الثائرين ويغيبون دون معلومات عنهم؛ "مو معقول" أن تختطف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي في الغوطة الشرقية على يد "جيش الإسلام" وبالترتيب والتفاهم مع "جبهة النصرة"، دون معلومات عن مصيرهم بعد 3 شهور ونيف من الاختطاف؛ "مو معقول" أن تتقاسم "جبهة النصرة" والنظام عوائد النفط في دير الزور؛ "مو معقول" أن يُقطع رأس تمثال أبو العلاء في المعرة ويُحطّم تمثال هرون الرشيد في الرقة؛ "مو معقول" أن يجري قتل طفل في الثالثة عشر في حلب لأنه جذّف في كلام عابر؛ "مو معقول" أن تقطع يد سارق مفترض، وأن تجلد نساء لأنهن لم يتنقّبن تماما!
لكن إن كان لنا ألا نقضي سنوات إضافية في الذهول وعدم التصديق، بينما يصنع "الدواعش" وأشباههم الوقائع على غرار ما سبق أن فعل نظام الشبيحة الأسدي، فلا بد من مقاومة متجددة. يمكن لانقضاء ثلاث سنوات على ثورة السوريين أن يكون منطلقا لتجدد مقاومة المسخ المتعدد الرؤوس، واستجماع المقاومات المتفرقة المشتتة حاليا، ومن أجل تفكير جديد متحرر، وتيارات تحررية جديدة.
كان العام الثالث من صراعنا فظيعا على السوريين، بدأ بتدخل أميركي "معقول جدا" من وراء الستار لحماية النظام من السقوط عسكريا على يد الثورة (كان هذا ممكنا حتى مطلع ربيع 2013 في رأيي)، ثم بتدخل إجرامي معقول جدا بدوره من "حالش" بأوامر طهران وبأموالها، متزامن تقريبا مع الصعود والتوسع المشهدي لـ"داعش".
العام الرابع يمكن أن يكون عام العمل على استعادة زمام المبادرة، على صعيد التواصل والتفكير، وأشكال الانتظام والعمل، كمدخل إلى أشكال أكثر فاعلية من العمل التحرري.
في عالم يتقاسم تخريبه قوى إجرامية ثلاثة، الأميركي الإسرائيلي الذي أجزم أننا لا نحيط إلا بقليل من أذاه أثناء الثورة السورية (دع عنك سجلّه قبلها)، و"الحوالش" و"الدواعش" (بزعيميهم المحتجبين، وبما لا نحيط يقينا بكثير من روابطهما) وأشباههما، ونظام الشبيحة الأسدي الذي يخفى عنا الكثير أيضا من أسراره وروابطه (مقدارالتدخل الإيراني، والعراقي...، عمليات قذرة على يد مجموعات جهادية مصنعة) تختلط الثورة ضد الطغيان حتما بكفاح التحرر الوطني وبالصراع ضد الطغيان الديني.
في مواجهة ثالوث الشر هذا أكثر ما يلزمنا كفاح المخيلة والتفكير الحر، وابتكار أشكال جديدة من التضامن والتنظيم والاعتقاد، لإخراج مقاوماتنا التحررية من مأزق التجزؤ والحصار.
الخيال وشجاعة الفكر والأمل حلفاؤنا، وإن يكن الواقع حليف أعدائنا. لا نثق بغير حلفائنا.