وصول غودو النص الكامل النهائي


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4398 - 2014 / 3 / 19 - 08:57
المحور: الادب والفن     




الأعمال الكاملة
الأعمال الروائية (25)


د. أفنان القاسم


وصول غودو
L’ARRIVEE DE GODOT



رواية




إلى ذكرى صموئيل بيكيت



القسم الأول

في محطة الشمال، لم يكن هناك مكان واحد لقدم، القطارات تَقْدَمُ أو تُقْلِعُ، والركاب ينزلون أو يصعدون، وهم دائمًا في منتهى العجل، وهم دائمًا يسحبون حقائبهم أو يحملونها، وهم دائمًا لا ينظرون إلى بعضهم، ويبحثون عمن ينتظرهم. كنت الوحيدَ بينهم مَنْ ينظرُ إلى الجميع، بِدونِ حقيبةٍ أحملها أو أسحبها، ودونِ أحدٍ بانتظاري. أفحش من فاسية، فجّ الطبع، لا يُغْني عني فتيلا. ابتسم إبليس بثغري على مرأى امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمرها في نقلها. بدا عليها أنها تنتظر عون أحد يسقط عليها من السماء، لكني لم أقدم لها أقل عون، لا أنا، ولا عازف الغيتار الجالس هناك، ذلك الشُّحْرور الناريّ، ولا أيُّ القادمين من كل أوب، وداومت على الابتسام الشيطانيّ، وأنا أنظر إليها بفجاجة. ابتسمت المرأة على وضعها، لا مجال للتراجع، كما لو كانت تقول لنفسها، دون أن تدري كيف. لا سيما لا حيلة فاضحة. جهنم هي محطة الشمال، الناس فيها كلهم شياطين على قرونهم يحملون العالم، وبمخالبهم يخنقون النار. كان عليها أن تتخذ خطوة حاسمة ككل مرة تجد فيها نفسها في مأزق، ولا شيء هذا من باقي مآزقها، أمورها الخطيرة، مأمورياتها الخطيرة، حياتها، دون أي ميل إلى المخاطرة. تركتها من ورائي حائرة، ووجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، بسبب عدم تحملها السفر في القطار، كما كان افتراضي، لا لفساد الهواء أو الأخلاق، فإفساد الأخلاق يبدأ بإفساد العقل، وإفساد العقل بإفساد الطفولة. لهذا علاقة بي أنا الشبيه بالفصامي، ولماذا لا أقولها بِدونِ مواربة؟ أنا المفصوم. فجأة، أخذت الأم تهرول صوب مقهى من مقاهي المحطة لأجل قطعة سكر تعيد إلى الصغيرة حيويتها. على الرغم من قلق المرأة على ابنتها داومت على الابتسام، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام بصفاقة، خاصة عندما نعرف أن في جيبي قطعة سكر مغلفة بورقها. في الواقع، كنت قد احتسيت قهوتي في مطعم القطار دون سكر، كما هي عادتي دومًا، وكما هي عادتي دومًا وضعت قطعة السكر المغلفة بورقها في جيبي. أخرجتها دون أن تنقطع ابتسامتي الوقحة، كما لو كنت أزف خبرًا سعيدًا للفظّ الذي كنته بإزاء الضعفاء، المزدري، المتزعزع، الزعّاق. فليكن كل البشر فريسة لضيقها، فلتنطبق السماء على رؤوسهم ما بقوا أحرارًا، فلتبتلعهم حيتان البحار! استرعى رجل وامرأة شديدا التجهم انتباهي إليهما، ودفعاني إلى السير من ورائهما كداء الذئب، فأنا القدر اللئيم، اليد الخفية، الأصابع الغائصة في حيض النساء وغائط الرجال على حد سواء. لا الفكر الشارد أنا ولا الكلب الشارد، فلا تفوتني شاردة ولا واردة. كان كل منهما يسحب حقيبتين، ومن وقت إلى آخر كان الواحد يلقي على الآخر نظرة كوبيدون إله الحب للبشر، قرأت فيها آياتٍ مدنسةً من الأسى والعذاب، نظرة عاجزة تزيد من عجزها رقة القسمات الغالبة على محياهما، عجز الرقة في عالم لا ينقصه شيء، لا الفساتين الحريرية ولا بدلات السموكنغ. لماذا أنا؟ السؤال الدائم على شفة الترف. لماذا أنا، يا دين الرب؟ لماذا الحب خراء البشرية؟ لماذا العناق فلسفة القضيب؟ فلسفة القضيب أقول لا فلسفة المَهْبِل المتباهي؟ لماذا الجسد شهوة تخنقنا؟ تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أعرض ابتسامة القواد، وفي خيالي يخترق جسد الواحد الآخر على حافة جهنم، وهما يزعقان زعيق الملعونين. إذا بالمرأة تُفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بعناق الرجل عناقًا ملتهبًا، وهي تنفجر باكية، بينما الرجل يحاول أن يتدارك البكاء، وهو لا يفوه بكلمة واحدة. على حافة جهنم، وهما يمزقان النار بأظافرهما، وهما يلتهمان النار بفمهما، وهما يقذفان النار على البشر شرائع سماوية. لهذا كان الناس ينظرون إليهما، دون أن تبدو على وجوههم أمارات الاستغراب أو التأثر، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، كانوا فقط ينظرون، كان بعضهم ينظر، وهو يتابع طريقه، وبعضهم كما لو كان ينظر إلى ما لا يستحق النظر إليه، كانت أخلاقهم الشريفة، أو كانوا لا ينظرون بتاتًا كشابين، أسود وأبيض، كانا يجلسان بين أيدي ملوك الشطرنج هناك غير بعيد، كغائطين مهملين، فهما أقرب في وضعهما إلى شطط المخيلة من شطط السلوك. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بيأس لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، ونفسها تطير شَعاعًا. كان رجلها، حبيبها، الأصابع التي تركتها تعبث لأول مرة بثدييها، القصص الخلاعية البذيئة، وحديث ما بعد الطعام. اعترضت سبيل الرجل مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها، ومنعته من اللحاق بالمرأة، والرجل كل تعاسات الدنيا تزحف من وجهه لتغطي كل كيانه حجابًا أبيض من الليل وأسود من الثلج، فلا يستشف نواياه، ولا يتشاغل عن الضجر. جرفته مجموعة العفاريت الصغار في الاتجاه المضاد، وهو، بعد أن التفت بحثًا عن المرأة عدة مرات، ومد يده في الاتجاه الذي ذهبت منه عدة مرات، استسلم للموج، وترك نفسه طوع إرادة أخرى كمدينة شاغرة، كقصيدة خمرية، كحروف شفهية. لم يكن هذا حال الكل من القادمين، كانت الراهبة التي تتقدم، وهي حبلى، شيئًا آخر، شيئًا من إرادة نفسها الشيطانية، الإرادة عندما تغدو القدرة على تحقيق كل شيء، حتى أقصى الأشياء، وفي وضع الراهبة أغربها، أجنّها، أكثرها لامعقولية، تحقيق ما لا يتحقق، ما لا يخطر ببال، ليس للتحدي أو الوِساطة في شئون البِغاء، ولكن لأني أريد هذا، يكفي أن أريد هذا، وأن أتجاوز الذات، ليس بدافع أية بطولة، ولا لأني أرمي إلى تحدي نظام الأشياء، بل لأني أريد هذا، وبكل بساطة، لا حاجة بي إلى إفهام الآخرين، لأني أريد هذا، وليس عليّ أن أقدم أي تبرير. اغتصابها وهي في الثالثة عشرة كان بداية الطريق، بعض السوقيين اغتصبوها في عتمة الورد الأحمر، تحت قنطرة من الآهات ساقوها إليها. وهم يشقون عباب البحر وعصا الطاعة في نفس الوقت، أطل عليها وجه الله، كان حديقة من النرجس، لهذا قررت أن تهب جسدها للماء. تكرر اغتصابها وهي في السابعة عشرة، وهي في التاسعة عشرة، وهي في العشرين، وفي كل مرة كان يطل عليها وجه الله حديقةً من النرجس. انتهى لديها كل شك منهجي، وشككت نفسها في نفسها. في الدير، استقبلت خنازير الغبطة واحدًا تلو واحد، ووجه الله يطل عليها حديقةً من النرجس.
وعلى العكس، كانت إحدى نجيمات السينما تبحث عن تبرير لكل شيء، تسريحتها، ماكياجها، مشيتها، فستانها، زنارها، حذاؤها، حقيبتها، كل شيء، كل شيء، للناس، للكاميرا، للمجد، للوهم، كان الوهم جميلاً، كان الوهم أجمل منها، ومن موهبتها، لهذا كانت تبحث عن تبرير لكل شيء، ولم تكن تنجح في كل شيء، الأضواء عالمها، ولم تكن الأضواء لتهتم بها. ربما اليوم، الأضواء لا تهتم بها، أما غدًا، الأضواء ستهتم بها. اغتصابها هي الأخرى كان بداية الطريق، نسيت في أية سن كانت لما اغتصبت لأول مرة، لكنها تتذكر قبلات النار التي أحرقتها ومخالب النمور التي مزقتها. المرأة هي هذا، أن تُغتصب، فاللذة عليها أن تكون غابية، حيوانية، جنونية، أن تُشتق من أنفاس الشياطين، أن تتفجر البراكين معها، أن تتهدم الجبال، أن تتلوى الثعابين، أن تنتثر الرمال على أكف العواصف، وتنتشر الأمواج على أكف الزوابع، أن تغلي الشوكولاطة في صهاريج الهلاك. احتارت، وهي ترى من بعيد مجموعة من الصحفيين والمصورين تنقض عليها، فظنت أن اليومَ غدٌ، ونسيت إخفاقها الذريع في دورها الأخير، في الفيلم الذي أصرت على عدم تذكر اسمه، والمنتج الذي أصرت على عدم النوم معه، والأستوديو الذي أصرت على عدم وضع القدم فيه، الكاميرات أخذت فلاشاتها تعميها، كاميرات، وفلاشات، وصحفيون، وصحفيات، وقنوات، وأيضًا كاميرات، وأيضًا فلاشات، وأيضًا صحفيون، وصحفيات وقنوات، ولم تكتشف إلا بعد أن وجدت نفسها وحيدة على الرصيف أن كل هذا لم يكن لها، كل هذا كان لثلاثة كلاب تشي تسو، تحيط برقابها قلادات الماس، بينما يسحبها ثلاثة حراس سود بكامل أناقتهم، فخاصة الإنسان ألا يخص نفسه بشيء.
تعال هناك، يا حبيبي. لم أعرف إذا ما كان هذا الصبي، هذا الصبي السمين، السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، المرافق لأمه، من القادمين أم المغادرين. كان يبدو على أمه ما يبدو على المشمئز من الحياة، شكلها يوحي بشجرة زيتون اشمأزت نفسها. تعال هناك. هناك. أجلسته أمه على مقعد، ولفت صدره بمنديل. فتحت الحقيبة، كانت ملأى بالساندويتشات. خذ، كُلْ، يا حبيبي، قالت الأم. أنا جائع، يا ماما، قال الصبي. كُلْ، كُلُّ هذا لك، يا حبيبي، قالت الأم. لماذا نجوع، يا ماما؟ سأل الصبي. لنأكل، يا حبيبي، أجابت الأم. لنأكل، يا ماما؟ لنأكل، يا حبيبي. لنأكل حتى نشبع، يا ماما؟ لنأكل حتى نشبع، يا حبيبي. لنأكل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل هذا، يا حبيبي. لنأكل كل كل كل كل كل هذا، يا ماما؟ لنأكل كل كل كل كل كل هذا، كل هذا، لنأكل كل هذا، كُلْ، يا حبيبي، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ، كُلْ...
حقًا لم يكن أحد بانتظاري، بينما كان المنتظرون لغيري كثيرين. صديق أو قريب أو حبيب أو عابر سبيل أو ناب لمريض أو نصل لسكين أو باقة شوك لقلب حزين أو وكيل لأحد الفنادق أو... كانوا يتعانقون بحرارة، الرجل والمرأة أو المرأة والمرأة أو الرجل والرجل، ولم يكن يبدو عليهم أنهم افترقوا. كانوا يتعاونون على نقل حقائبهم بشكل أقرب إلى المرح، ويشيرون بفرح إلى درج المترو أو إلى باب الخروج. لنغادر هذا الجحيم إلى ذاك الجحيم، كأنهم كانوا يقولون لبعضهم. يا للشناعة، الفردوس! أهله يستحقون الشنق! كل واحد اختط لنفسه سلوكًا. كانت الراهبة الحبلى تتقدم من بعيد، واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تتقدم، وهي لا تنظر إلى أحد، على عكسي، عندما اكتشفتُ راهبة أخرى بين المنتظرين، حبلى هي أيضًا، تلوح بيدها، وهي تنط، وتتكركر، وهي تنط، وتقول "هيه!" كي تراها القادمة، ورأتها القادمة، لكنها ظلت تتقدم واثقة، حارقة، ساحقة، كانت تسير برزانة دير أرمنيّ، وجمال كنيسة غوطية، كانت تتهادى بوقار بيت مغلق، وطلاوة علبة ليل للمثليين. لم تكن تنتمي إلى الراهبات اللواتي نعرفهن، كانت مشروعها، شارة صليبها، إشارة تحيتها. بكل طيبة خاطر. رفع وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وهو يبتسم كالأبله سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الشيطانية تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن الابتسام كالأبله، بلاهة؟ لنقل علة ذاتية، شائبة معدنية، تشويشية، بينما كان وكلاء آخرون يكتفون برفع اللوحة ليأتي بعضهم معرفًا بنفسه دون أقل تعقيد. وقفتُ أراقب وكيل الفندق ذاك مراقبة من شاءت الأقدار أن يقع بين يديّ الشريرتين، وقد غلبت على صوته نعومة الخاضع لمهنته ولمبولته وللعالم، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن الابتسام كالأبله إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل القادمين. أخذ يلوح بلوحته كطفل، ورأيته، وهو يخلل بأصابعه شعره، فيكبر قليلاً، ويبدو ودودًا على الرغم من بلاهته. عندما لاحظ أنني أنظر إليه جاءني، وعاد بابتسامته البلهاء يسألني إذا ما كنت السيد المنتظر، فقلت ما لم أكن مخطئًا أنا هو، تعال! وقفت وإياه عند أعلى الدرج المؤدي إلى المترو، ودفعته بقدمي كشيء لا يُذكر. زين لي الشيطان أن أفعل ما فعلت، فرأيت في محطة الشمال ما لم يره غيري: تشييع جنازة الوقت. ألقيت نظرة على الرصيف الخالي. هكذا كان الرصيف: خاليًا. منذ قليل كان مفعمًا بالديدان، والآن هكذا هو، خالٍ كَسُوار فقدت صاحبته ذراعها. الرصيف الخالي. في لحظة من اللحظات، كل شيء يخلو مما هو فيه، ويبدو للعين فارغًا كحبة رمان لا شيء فيها. الفراغ من جهة، ومن الجهة الأخرى الامتلاء، الإطلال على الآخر بالأذى، بالعِداء، ببذر الرعب قمحًا، مما جعلني أفطن لشخص كان هناك ببدلته السوداء المخططة وقبعته السوداء الحريرية. كان هناك بانتظار شخص آخر لم يصل، ربما ألغى رحلته، أو فوت قطاره، أو تعمد عدم أخذه. رأيت الرجل يقف دون حراك، وهو ينظر باتجاه الرصيف الخالي نظرة ثابتة، راسخة، عميقة، سحيقة، أبدية، سرمدية، لا نهائية، ما ورائية، إلهية، كان ينظر إلى أشياء لا تراها العين، وكان لا يتحرك، ينظر، وينظر، ولا يتحرك. كان ينظر إلى ما وراء الرصيف، والرصيف يمتد إلى ما لا نهاية، يذهب إلى كل المدن، كل الأوطان، يقطع كل الصحاري، كل البحار، يدور حول العالم، والرجل يداوم على النظر دون حراك. اِفْتَضَحَتْ مؤامرة الانتظار، ولم يُفْضِ الرجل بمكنونات فكره. تساقطت الآمال الغير المبررة، وتلاقى الأبرار والأشرار دون أن يطلبوا مني تبريراتٍ لذلك.
في محطة الشمال، لم يكن هناك مجال للكلام كالعادة، لعدم توقف مكبر الصوت عن إعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، بالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، على الرغم من اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة التي لا تتوقف عن التحرك صعودًا وهبوطاً حسب حركة السير. رغم كل العقبات، لم تكن للمسافر حاجة إلى كل هذا الصخب، إضافة إلى ذلك نبرة المضيفة التي تعتذر بحدة إذا ما تأخر قطار عن الوصول أو تهلل بحدة إذا ما وصل قطار في الوقت المحدد، كان صوتها حادًا دومًا إلى درجة يثقب فيها الأذن، لهذا لا أحد يحادث أحدًا، وإلا عليك أن تصيح، وأولئك الذين يتصايحون فيما بينهم تظنهم يتهامسون بالمقارنة مع الصخب غير المنقطع لمكبر الصوت، لساكسفون يوم القيامة. والحال تلك، لم أميز إذا ما كان الفتى والفتاة الجالسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة إلى جانب طبيب أسنان وكاتب مع أكداس كتبه وحوض لقرشٍ ذكرٍ يتوادعان أم ينتظران أخذ القطار القادم. طلب الأبلق العَقوق بكثيرٍ أهون! كانا يقتربان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا، ويشدان يديهما بيديهما، وأحدهما ينظر في عيني الآخر كمن بَرَدَ للواحدِ حقٌّ على الآخر. نظرت إلى شفتي كل منهما، كان العبث لا يتوقف عن الكلام، دون أن أسمع شيئًا مما يقول. كانا لا يتوقفان عن الكلام، ومعًا في آن واحد سال الدمع من عينيهما ينبوعًا من الأشواق، وراحا يمسحان جبهتيهما بجبهتيهما كما تفعل الضواري لما تريد الضواري تقليد العشاق من الناس، ويهزان رأسيهما هز الأعراف اللامصدقة لما سيقع مع عبور الرياح، فقلت لا بد أن أحدهما سيسافر تاركًا الآخر، وهما لهذا السبب يبكيان غير قادرين على احتمال الفِراق. على الرغم من دراماه، كان الوداع بردًا على قلبيهما، تباريح الهوى، تباريح الدهر، تباريح الحياة. فجأة، نهضا، وابتعد أحدهما عن الآخر سائرًا في الطريق المضاد إلى باب من أبواب المحطة. لم أبتسم هذه المرة، لأن الأمر محير بالفعل: عاشقان ينفصل أحدهما عن الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع المجهول، فأي قطار سنأخذ إلى الحياة، لنواصل موتنا، ومع من؟ أولاد المومس كثيرون، في كل مكان، كلهم ليسوا أشرارًا مع ذلك، هناك برتقال حلو وبرتقال مر، وكلاهما يبقى برتقالاً. برتقال ابن مومس يبقى! حجج باردة! أفكار أساسية في الوقت نفسه! يجب ألا أبرقش في الكلام. شرط مُعَطِّل. تَعَطُّل البشر والآلات. جاءت فتاتان كل واحدة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وتعانقتا بحرارة، وهما تقبلان بعضهما من الثغر، وكأنهما تقولان لبعضهما: الليلة الماضية ندف الثلج علينا من سماء الجحيم، غطت كل واحدة منا الأخرى بثديها، ونامت حتى ساعة ما قبل قيام القطار. لم تبق على قيام القطار سوى عدة دقائق، وأنا، لو طلبتُ قلبَهَا لأعطتنيهِ! أليس غريبًا أن يمضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يركض بكرته كالسهم؟ لم يكن يصطدم بأحد على الرغم من اكتظاظ المحطة بالناس، كانت محطة الشمال تمتلئ بالمسافرين القادمين بقدر المغادرين، وكأن لا أحد فيها يذهب أو يجيء، محطة معلقة بين عقارب الوقت وخطوط السكك الحديدية، محلقة ككوكب. وكان لاعب الرُّغبي يركض بكرته من طرف إلى طرف كما لو كان يركض في ملعب دون أن يصطدم بأحد، وأنا أتابعه بعينيّ إلى أن يحتجب عن ناظري، ثم لا يلبث أن ينبثق من بين الحقائب والأجساد، إلى أن يحتجب عن ناظري من جديد. لم يكن يتبرم من انتظار أحد، لم يكن يلهث، لم يكن يبدو عليه التعب، كان يلعب. كان كل واحد من الركاب يلعب على طريقته، ويتسلى. كانوا يتلهون بالنظر إلى ساعات المحطة، ساعات كثيرة، ساعات لا تعد ولا تحصى، ساعات، ساعات، ساعات بلا حساب، ساعات لقضم الوقت، لابتلاعه، لتعبيد الفضاء، كانوا يتلهون بالنظر إلى الساعات دون أن يلتفتوا من حولهم. كان انتظار إقلاع القطار بمثابة لعبة مع الوقت، فتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع أو أمر الوصول في الحالة المضادة. برهان على الشجاعة؟ برهان الحقيقة؟ برهان الخُلْف؟ جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن يدرك أحد السبب الذي أدركته، كانوا يحملون نقالة ذهبوا بها من طرف المحطة إلى طرفها الآخر. لم يسقط أحد تحت عجلات ناقلة الحقائب، كان المسافرون يفكرون، وكل واحد يقول لنفسه: مثلي لا تَخْفَى عليه أبازيرك. وما لبث المسافرون – من كل فئات الأقاقيا - أن هبوا إلى امتطاء أحد القطارات في اللحظة التي سُمح لهم فيها بذلك، ولم يعودوا يبالون بما يفعله رجال المطافئ. وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا مع حقيبته هناك على مقربة من العربة الأخيرة دون أن يصعد فيها، ترك القطار يغادر، وبقي على الرصيف ساكنًا سكون الخائف من السفر مع الموت، ناظرًا إلى القطار، وهو يبتعد، يبتعد، ابتعاد البرهان القاطع. قلت لنفسي ما فتئ يعيش في خياله، لهذا.
سمعت أحدهم ينادي من ورائي، فظننت أنه يناديني. يا ماخور الخراء! عندما التفت، لم يكن المُقعد ينظر إليّ، لم يكن يراني، لم أكن أنا المقصود. كان ينادي "جان"، وينظر بعينيه المذعورتين إلى الناحية التي يبدو أن جان ذهب منها. كان ينادي "جان"، ويقول "جان أين ذهبت؟"، على ركبتيه جثة من كرتون مستطيلة، وينادي "جان". لم يكن أحد يأبه بالمُقعد، "جان" كان ينادي، وهو يمد رأسه بين المسافرين بحثًا عن جان في الناحية التي ذهب منها. "جان، يا ماخور الخراء!". "جان ذهب إلى الحانة كالعادة، أيها الجد! قلت مناكفًا مستعدًا لزعزعة الشخص العادل الساكن فيه، اخرأ عليه، أيها الجد!" "وعدني بألا يعود إلى الشرب، جاني الصغير!" "اخرأ عليه، قلت لك، لا تنتظره! إذا انتظرته، فوّتّ قطارك، أيها الجد!" " أفوّت قطاري لا شيء، فوّتّ الحياة!" شيء لا يدخل في المعقول! أخذ يبكي كطفل، فذهبت بي بعيدًا عنه أمام شباك بيع التذاكر هناك حيث كان اثنان يتبادلان الكلام بأدب جم لأن أحدهما قطاره على وشك الرحيل، وهو يريد أن يسبقه لشراء تذكرته. كان عليه أن يطلب الإذن من المنتظرين الباقين ليمضي أمامهم، وفي اللحظة التي شاء هذا لذاك أن يسبقه إلى شباك التذاكر، فتح شباك آخر، فشكر ذاك هذا. فهم الكل الرجل، والكل عليه ألا يفهمه، وتَرَكَهُ الكل ليكون أول المشترين لتذكرته، والكل عليه ألا لا تدب بينه وبين الكل العقارب. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، لكن روحهم المتحضرة فرضت عليهم هذا التصرف اللائق، ولم يبزُلوا القضية. لا نبتسر الأمور! قطارات تُؤخذ في مواعيدها، ومسافات تُقطع في مددها، وبطون تحبل تسعة شهور. حضارة الحبل تسعة شهور، والمسافات ذات المدد المحددة، والقطارات ذات المواعيد الثابتة. وإذا ما تخلى الوقت عن أشجار الكستناء فهل سيكون هناك شتاء؟ وهل سيشوي العرب والهنود الثمر البنيّ في الشانزلزيه؟ الحمد لله أني لا أحب الكستناء! لا أحب الإنفاق! أنا رجل لا يَبِضُّ حجرُهُ! أبطأُ من غراب نوح! على مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يحادث ماكينة تبديل النقود قائلاً إنها لم تعطه مقابل ما ابتلعته. نَعَتَ الماكينة بالسارقة، وتوجه إلى شرطيين كانا يمضيان من هناك، فظن الشرطيان أن في الأمر نكتة راحا يضحكان عليها، والشاب يقف حائرًا لا يدري ما يفعل خاصة عندما قال إن قطاره على وشك الرحيل. كان ابنًا لجهنم هذا الشاب، فأردت مساعدته في اللحظة التي اقترب فيها أحد المتسولين الشرفاء من الشاب، شرفاء كقفاي، وسأله عما هو فيه، عندما عرف مشكلة الشاب مع الماكينة، ابتسم كقضيب. كان يعرف سرها، ضربها بطريقة جعلتها تصرف النقود لصاحبها، ومقابل ذلك أعطاه الشاب ورقة نقدية تعادل تسول نهار كامل في محطة الشمال، نشلتُهَا منه نشل عشرات النشالين، أقاقيا الأيادي الحرة المتحررة من كل جنائنيّ.
"جان أين ذهبت، يا ماخور الخراء؟"
دفع أحدهم المُقعد بهدوء، وهو يسأل أي القطارات قطاره. "ولكنك لست جان"، قال المُقعد بشيء من الحيرة. "لست جان، أجاب الرجل، أما إذا كنت تريد أن تفوّت قطارك، فهذا أمرك". "شكرًا لك، تمتم المُقعد، وهو لا ينفك عن البحث بعينيه عن جان. ألم يزل في الحانة؟" "ماذا؟" "جان، ألم يزل يثمل؟" " أنا لا أعرف، أنا لا أعرف جان!" "لم يزل يثمل، هذا الوغد!" "فليذهب إلى الجحيم!" "ماذا تقول؟" "أقول فليذهب جان إلى الجحيم!" "أحسن له، الجحيم أحسن له!" انفجر المُقعد ضاحكًا، فاستغرب الرجل تصرفه. سمعه يهمهم: "كل هذا يبعث على الضحك!" قال الرجل بلا مبالاة: "اضحك ما شاء لك!" انفجر المُقعد باكيًا، فاستغرب الرجل مرة أخرى تصرفه. سمعه يهمهم: "يا ماخور الخراء! يا ماخور الخراء!" شيطانيًا، بَعَثَتْ دموعُ المُقعد في نفسي ارتياحًا. وعقلانيًا. رفعت رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق عليه فتاة يطير شعرها وفستانها، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، فلم أفهم علاقة الفتاة بذلك، ربما لأسر الانتباه. كانت الفتاة مثيرة بالفعل، ليست جميلة فقط بل ومثيرة، جميلة بالفعل، مثيرة بالفعل، تثير الانتباه والغلمة والرغبة في القتل. ومع ذلك، كانت بعض الرؤوس لا ترتفع صوبها، بل صوب لوحة القطارات، وأحيانًا صوبها وصوب لوحة القطارات، كرؤوس السمك المقطوعة، فالإعلان كان على مستوى واحد مع لوحة القطارات، لاستبطان الأشياء واختراق عزائم الناس. كانوا كالدجاجة التي تلقي بطنها، ظهرًا لبطن. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات دون أن تبالي بامرأة الإعلان ولا بالقطارات. إنجليزيات. وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات. ليس بجمال فتاة الإعلان هذا صحيح، لكنهن يبقين جميلات، مدمرات، قوادات. شيء عذري خائن يفلت من وجوههن، يهاجمك، يحتلك، يشبعك رَجسًا ورذيلة. كن ينتظرن. ينتظرن القطار القادم. ينتظرنه وهن واثقات من أخذه. كباص الطابقين. كالمترو الذاهب إلى أكسفورد. كقوارب التيمز. كتاكسيات الميفير، كدجاجات حبش السفارة الأمريكية. في يوم الثانكسغفنغ. كدراجات الهايد بارك. كأقداح البيرة والسكوتش والعرق. في فصل الشتاء. كن يبتسمن لبعضهن من وقت إلى آخر. لم يكنّ ينظرن إلى المارة. كنّ ينتظرن. كان يبدو عليهن الاطمئنان من أخذ القطار والوصول إلى لندن في الوقت المحدد. بعديًا. مررت من أمامهن، ولم يلتفتن إليّ. لم أذكّرهن بأحد. لا العشيق ولا الأب ولا الأمير شارل. كنت بالنسبة لهن امرأ لا شأن له، امرأ ينيك نفسه.
كيف لم يلفت انتباهي إليه ذلك الهرم المقلوب على رأسه والذي لم يتم بناؤه بعد؟ ذهبت لأنظر، فرأيت رجلاً في الأربعين من عمره يعمل على بناء الهرم، ووسطه الأعلى عارٍ، كان يعمل بجد، ولم ألاحظ في الحال العقرب السوداء التي تحيط بأقدامها المشعرة صدره. كان يعمل بجد، يرفع بفضل عضلاته المفتولة الحجارة الضخمة، ويعمل بجد، يصفر أحيانًا، ويعمل بجد، يتأمل من وقت إلى آخر جدران هرمه، ثم يعود، ويعمل بجد. كان يبدو عليه الجد، وكان يعمل بجد، وكأنه بجده يريد أن يقاوم سرطان رئته. تجربة البقاء. تجربة الفناء. جهنم الأرض لمن بغيت عليه الحياة بغيًا. أكثر مما ينبغي. اختار الإنسانية التي أريد: اللا إنسانية. لهذا كنت أعطف عليه. رأيته، وهو يحك صدره، وكأن سرطانه يُخرج رأسه من صدره ليحكه له، يحك صدره بتلذذ، ويتأمل جدران هرمه، ويبدو في عينيه بريق الأمل: اللا أمل. "ربما أنجزته الليلة، قال الرجل دون أن يلتفت إليّ، إنه قبري". "إنه قبرك"، قلت مؤكدًا. "إنه قبري"، أعاد الرجل بصوت حيادي لا أقل قلق فيه، كان جادًا. "تلك الأشياء، هل تراها؟ تابع الرجل، ودومًا دون أن ينظر إليّ، طعام وشراب وقليل من الذكريات، صور ابنتي وزوجتي ورسائلي ومخدتي التي نمت عليها طوال أربعين عامًا، سآخذها معي تمامًا كما كان يفعل الفراعنة. لكني لا أعرف متى، قبري على وشك الإنجاز، وأنا لا أشعر بأي ألم". حمل حجرًا ضخمًا، وذهب به إلى الناحية الأخرى.
هل يعقل أن يموت المرء في اللحظة التي ينجز فيها بناء قبره؟ يعقل. في عالم غير معقول يعقل. أقول يعقل، أنا المبغض للبشر. المبغض لكل شيء ما عدا سيقان النساء. بنات نعش الكبرى والصغرى لِمَ أحبها؟ لأنها بالنسبة لي سيقان النساء. وأحب بنات آوى، وبنات عِرس، وبنات مُقْرِض، وبنات الماء. سمعت شابًا أسود البشرة سواد الماس في أرض الجحيم يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وقبل أن يذهب الشاب، قال له إنه ليس متأكدًا. وقف الشاب بانتظار الإعلان عن قطاره، وهو يرفع رأسه من فترة إلى أخرى صوب الساعة. كان قطاره سيقوم بعد عشر دقائق، بعد خمس دقائق، بعد دقيقة، بعد ثلاثين ثانية، وها هي الساعة تتجاوز موعد قيام القطار، بثلاثين ثانية، بدقيقة، بخمس دقائق، بعشر دقائق، ولم يتم الإعلان عن إقلاع القطار. وقف الشاب الأسود كالضائع، كمن فوّت أعظم فرصة في حياته، كمن بنى على الرمل، كمن باء بالفشل، ولم يفكر في الذهاب إلى مكتب الاستعلامات. كان على ثقةِ أصحابِ البابِ الخادع، وبشكل غامض، بقدوم قطاره الذي سيستقله بين لحظة وأخرى. لم أشأ التدخل، لأن هذا ما كنت أريد، ألا يأتي البيوت من أبوابها، وقطاره يكون قد غادر على أية حال. لم يكن ينتظر مني التدخل، إذن لم أتدخل، حتى ولو طلب مني التدخل، فلن أفعل، لأني لست هنا لأتدخل، وإذا كان الخطأ خطأه، فليتحمل وحده تبعة خطئه، ولتبل بينهم الثعالب.
تفاجأتُ بإحدى الفتيات السوداوات، سوداء كالنار، غيداء كالهلاك، عذباء كالليل في علب النهار، وهي تسحب الشاب الأسود من ذراعه سحبها لأعياد الملعونين بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وتعدو به إلى الرصيف الصحيح. "من حظك أن القطار قد تأخر عن الرحيل"، قالت الفتاة السوداء. شكرها الشاب الأسود، والدمع يكاد ينبجس من عينيه. عادت الفتاة السوداء، وهي تبتسم لي ابتسامة طوباوية، فابتسمت لها ابتسامة شيطانية. قبلتني من خدي، فقلت إنها تخطئ الهدف، لأني غريب عن كل شيء هنا، عن كل من هم في البلد، عن أحلام البشر، عن اللا منتحرين في السين ومن قمم نوتردام وبرج إيفل، عن هواة الرقص في كباريهات الفردوس، وما أنا هنا سوى بالصدفة. ازداد تعلق الفتاة السوداء بي، وقالت إنها غريبة عن كل شيء هنا، أو بالأحرى كانت غريبة، ثم ما لبثت أن اعتادت على كل شيء بعد أن عرفت كل شيء، أسرار الأجساد والمحاكم. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرفَ كل شيء عن محطة الشمال كما عَرَفَتْ، فترددت، لأني كنت هناك لا لأعرف بل لأتعرف، ولكن يبدو أن كل القادمين والذاهبين لا يهمهم أن أتعرف عليهم. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني الفتاة السوداء من يدي كما تسحب حقيبتها، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات بدا منعزلاً كأرض جهنم. كان هناك مركز للشرطة، وبعض المكاتب المغلقة، ولم تكن هناك قدم واحدة، العزلة تفوق الخيال. كانت ابنة أفريقيا لا تنظر إليّ، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها، فلا أُعدى بمرض، ولا أحملُ العدوى إليها، إلى أن دخلنا منطقة كلها سكك حديدية، خطوط ميتافيزيقية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، قالت الفتاة السوداء عنها إنها مقبرة القطارات. ونحن في وسطها، حررتني الفتاة السوداء من قبضتها، وابتسمت لي، فلم أبتسم لها، بل بقيت عابسًا، فماذا أنا بفاعل في مقبرة للقطارات؟ كنت أفكر مكان لا خير فيه. "ستعرف كل شيء بعد قليل"، قالت الفتاة السوداء. لم تبتسم هذه المرة، وبدا على وجهها القلق. لم يكن الخوف، كان القلق. لم أقرأ الخوف بين سطور وجهها، بل القلق. قلق لا يدركه العقل.
أخذت تصلنا ضربات سوط، وصرخات، مزيج من لعنات وقهقهات، وما لبث شخص مربوط بحبل من عنقه أن قفز من إحدى العربات المحطمة، وهو يحمل أربع حقائب، ويلف وسطه بوزرة بيضاء، تبعه آخر في ثياب القرصان، على عينه عُصابة سوداء، وهو يواصل ضرب الأول بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، وهذا يقهقه قهقهة بلهاء، وهو في منتهى السعادة، ويواصل حمل الحقائب الأربع. قلت لنفسي دعوة بالشر، وادعاء بالمعرفة. سأل القرصان إذا كانا قد وصلا الميناء، فأخبرته الفتاة السوداء بشيء من عدم الرضى بالظروف الراهنة أن هذه محطة الشمال، وأن لا ميناء هنا. عاد يجذب حامل الحقائب بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، وحامل الحقائب لا يحاول الرد، بل يكتفي بالقهقهة البلهاء، وهو في منتهى السعادة. قال القرصان إن خادمه بطبيعته كاذب ومخادع، فالإنسانية كاذبة ومخادعة، وهو لا يفعل سوى أن يضلله لئلا يركب البحر، البحر عدوه اللدود، لأنه يصاب بالدوار، بسبب الدوار جاء به إلى محطة الشمال ليسافر في البر، لكن جزيرته لا طريقٌ بريٌّ يوصل إليها، ولا اندفاعُ الحياة. همهمتُ "بل اندفاع النهاية"، والأمواج تتصارع في مخيلتي. عاد القرصان يضرب خادمه، وخادمه يكتفي بالقهقهة البلهاء، ويبدو أنه لا يطلب من سيده سوى المزيد من الضرب، المزيد من الإهانة، المزيد من الأقاقيا. كقطيع من الدواب، كحقل من الزؤان، كرهط من الكلاب. "أن يعذب المرء قطًا، قلتُ، نوقفه في الحال، أن يعذب إنسانًا، لا نفعل له شيئًا". "هذا ليس إنسانًا، قال القرصان، هذه الإنسانية". سألني إن كنت أعرف أقرب طريق إلى البحر، فقلت "جهنم". "أيها؟" "وهل هناك غيرها؟" "هناك. هناك جهنم الفوق، وهناك جهنم التحت". "جهنم، جهنم!" صحت، وعلى صياحي ترتعد ابنة أفريقيا. "أقرب طريق إلى البحر الركوب بالقطار حتى بحر الشمال أو الذهاب إلى مارسيليا، قالت الفتاة السوداء قوادة كما أريد، منشغلة البال كما تريد، لكن الذهاب إلى مارسيليا من محطة ليون، وليس من محطة الشمال، أضافت الفتاة السوداء قوادة دومًا منشغلة البال دومًا، أقرب طريق إلى البحر تبعد حوالي ألف كيلومتر من محطة ليون". ثارت ثائرة القرصان، ومن جديد أخذ يضرب خادمه بالسوط، يجذبه بالحبل، ويلعنه، يتدفق بسيل من الشتائم، لأنه لم يخدعه بالطريق إلى البحر فقط ولكن أيضًا بالمحطة التي سيركب فيها القطار إلى البحر، فالبحر لديه ليس بحر الشمال بل مارسيليا، جهنم كل بَحّار يحلم بالاحتراق فيها. "مارسيليا ما دقّ من الحوادث وجلّ، قلتُ، ما صغر من الذنوب وكبر، فيها البحّار، وفيها القواد، وفيها قاطع الطريق، فأيهم أنت؟" " كل هذا، طن القرصان متفاخرًا، البحار والقواد وقاطع الطريق!" وبعد قليل من التفكير، قال إن لديه شعورًا بأننا نخدعه نحن أيضًا كخادمه، وإنه يسمع صوت البحر. أرهف السمع، ورفع عن عينه السليمة العُصابة السوداء فاحصًا مقبرة القطارات من كل ناحية، فلم يقع إلا على جثث القطارات المحطمة أو المهجورة وبعض الطيور الغريبة الشكل، والتي أخذت تنعق، فتسبب الانزعاج لسوداء أفريقيا والقلق والدمامة، تضاعف من انشغال بالها ومن قوددتها. "هذه الطيور ليست النوارس، قال القرصان للفتاة السوداء، وهذه بالفعل محطة الشمال، والبحر ليس قريبًا، يا قحبة البحر!" وعاد يجذب بالحبل خادمه، ويضربه بالسوط، وخادمه يطلق قهقهته البلهاء، ولا يلقي بالحقائب الأربع، بل يتشبث بها، يتشبث بها، يتشبث بها إلى ما لا نهاية: دليله الوجودي.
تركناهما، أنا والفتاة السوداء، وذهبنا إلى قطار آخر محطم قرب شجرة عارية، ما لبث أن خرج من تحت قاطرته أخوان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، اضطربت الفتاة السوداء على مرآهما اضطراب القرية الإفريقية النائية المحاصرة بالنار، يعذبها وخز ضميرها، وتتحمل العذابات الأبدية. كانا يعرفانها، فسألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل ليعلقا جسدهما. أجابت بالنفي، وأنا أنظر إليهما، فأراهما كالطاعون الدُّملي، وأبتسم للإنسانية المشوهة، فقالا إنهما كانا يعرفان أنها لن تحضر لهما الحبل ليعلقا جسدهما، لكنهما سيقضيان ذات يوم. كيف؟ هما لا يعلمان كيف. دون الحبل لن يتمكنا من الموت شنقًا. لكنهما يتدربان على ذلك كل يوم بالتعلق على أغصان الشجرة، واختيار أقواها. أشارا إلى بعض الأغصان المكسرة: "هذه الأغصان لم تكن لتحتمل جثتنا المزدوجة، ونحن لهذا سعيدان." غدا التوأمان السياميان طوْرَهما وقدْرَهما. ليس لأنهما ما كانا ليموتا لو تعلقا على هذه الأغصان الطرية بل لأنهما عرفا ذلك، وسيعرفان بالتالي أية أغصان ستقوى على حملهما، فيكون موتهما أكيدًا. كانا كمن يحلمان، وكانا يبتسمان لي بوجهيهما المزدوجين دون أن يرياني. كانا لا يحسان بوجودي، ولولا الحبل الذي كانا يريدانه من الفتاة السوداء لما أحسا بوجودها هي الأخرى. كانت جميلة الطوغو تستمع إليهما على كره منها، تعرب عن مخاوفها بالقلق، فأشم رائحةَ قِنَّبِ الوجود. قالا إن عليهما العودة إلى ما تحت القاطرة، وأوصيا الفتاة السوداء على عدم نسيان الحبل في المرة القادمة، على أن يكون طويلاً ومتينًا. أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. بقيت الفتاة السوداء، هي الأخرى، في مكانها دون حراك. كان لسانها يتدلى كالكلبة الظمأى تحت شمس الطوغو المحرقة، وكان عليّ أن أظللها بذراعيّ، وأن أجلب لها بعض الأنسام. وكالكلب الظامئ على صورتها، لعقتُ لسانها بلساني، فلم يؤثر هذا فيها شيئًا. تناولت لسانها بأصابعي، كان طريًا رخوًا برخاوة الخز. سعيت إلى إخراجه من فمها، وهي مستسلمة لي تمامًا، فلم أستطع، مما جعلها تلهث، وترجو أن أفعل، وألا أتركها دون عون. سال العرق من جبينها، فلعقتُهُ، ولعقت جبينها، وكل وجهها، وعدت ألعق لسانها، وكل لسانها يضيع في فمي. عدت أنقل لسانها بأصابعي، وكل ألسنة حيوانات الغاب، كل الألسنة المهولة كانت بين أصابعي، وكل الدكتاتوريين، وكل المناجم، وكل الآبار التي جف الماء فيها. سقطتْ بلسانها على عضوي، فلم أتركها تفتح الدكان. راحت بي لعقًا من فوق بنطالي، راحت بي لعقًا، راحت بي لعقًا، إلى أن ارتوت تمامًا.
قطعنا، أنا والفتاة السوداء، خطوط السكك الحديدية إلى عربة معلقة، عربة وردية اللون، وكأنها معلقة في لوحة. لم يكن للعربة سلم للصعود، ولم يكن بالإمكان الدخول فيها من الأعلى. من الأعلى كيف؟ لم أطرح السؤال على الفتاة السوداء، كانت تنظر إلى العربة المعلقة، ويبدو عليها التردد. سمعتها تهمس: المنية ولا الدنية! كانت طريقتها في التعبير عن قلقها. وبينما أنا حائر أفكر في كيفية الدخول إلى العربة، فتح أحدهم نافذة، وأطل برأس أرمد الشعر ووجه تملأه الغضون، وراح يحدثنا، دون أن يحدثنا، وكأنه على خشبة مسرح. قال إنه لا يعرف عن المسرح شيئًا، لكنه معلق في مسرح، مسرح بدوره معلق في الفراغ. وضع يده فوق عينيه، وهو ينظر في كل اتجاه من مقبرة القطارات، وسأل الفتاة السوداء إذا ما صادفت بعض الممثلين، وهي في طريقها إليه، فنفت الفتاة السوداء، "لم أصادف في طريقي سوى قرصان يربط خادمه بحبل، قالت الفتاة السوداء، ويضربه بسوط ظنًا منه أنه خدعه، فهذه ليست الطريق إلى البحر". قهقه الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، وقال "بل هي الطريق إلى البحر، أيها المجداف! الطريق إلى البحر لا بد أن تمضي بمحطة الشمال". "إن البحر للقرصان هو بحر مارسيليا وليس بحر المانش"، أوضحت الفتاة السوداء بصوت مضطرب، فقهقه الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه ثانية، وقال "هذا المجداف لا يعرف أن الطريق إلى المانش الطريق إلى الموت، الطريق إلى العبث، الطريق إلى اللامعقول وسخرية الوجود والفاجعة الإنسانية، الطريق إلى الحرية. وهل صادفتِ غير هذين من الممثلين الهاذين؟" سأل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الفتاة السوداء. "إنهما الأخوان السياميان اللذان تعرفهما، واللذان يسعيان إلى الانتحار شنقًا دون أن يصلا إلى ذلك أبدًا"، أجابت الفتاة السوداء بصوت مضطرب دومًا. غضب الرجل الأرمد الشعر ذو الوجه المليء بالغضون، "هذان ليسا ممثلين، قال، هذان شخصان في جسد واحد من رواد مقهى التجارة". انتبه فجأة إلى وجودي، فأشار إليّ، "وهذا الذي معك، من هو؟ لا يبدو عليه أنه ممثل". ترددت الفتاة السوداء قبل أن تقول "لا أعرف". لم يبن على الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الانزعاج، وبشيء من الرضى قال إنه من غير المهم أن نعرف من هو الذي معنا، وأراد الذهاب، فعجلتُ القول: "أنا شخص غير موجود في الحياة الدنيا". "هناك حياة دنيا الآن وهناك حياة آخرة!" تهكم رجل الحفر والرماد. "هذا يتوقف على المكان الذي تضع فيه قدمك، أوضحتُ قبل أن أضيف، قدم في القبر وقدم في البحر". فحصني بعينيه الجاحظتين مليًا، وابتسم ابتسامة شيطانية لذيذة، ثم غادر نافذة العربة المعلقة.
ابتسمت بدوري ابتسام الشياطين، كان كل منا، أنا والرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، يفهم الآخر دونما حاجة لنا إلى معرفة كيف كان كل منا يفهم الآخر. لم يكن مهمًا، حتى فهم الواحد منا للآخر لم يكن مهمًا، حتى هذا المكان المعلق بجثث قطاراته وخطوط سكته الحديدية في الفراغ لم يكن مهمًا، هذا المكان المقبرة الذي يتنفس بأمواته، كان هذا المكان محيرًا، ولم يكن مهمًا. كنا شرارةً للنار، هذا ما يهم، أن تكون شيئًا يحرق. أفقت على ابنة أفريقيا، وهي تمد إصبعًا خَضِلَة إلى اللامكان، وتقول هناك أسكن. لم أقف على ما تقول، نظرت إلى حيث أشارت ثم نظرت إليها، لم يكن القبر، ولم يكن البحر، فأوضحت أنها تسكن بعد نهاية خطوط السكك الحديدية، بعد ذلك الضوء الأحمر المعلق بين السماء والأرض. لم تكن لخطوط السكك الحديدية نهاية، لكني قلت لنفسي، هذا المكان سيظل مقبرة قطارات بعد كل شيء، وللمقبرة نهاية. لم يكن لمقبرة القطارات جدار يحيط بها، فهي مقبرة قطارات. كان هناك جدار قصير محطم. انتظرت أن يظهر بيتها بعد الضوء الأحمر المعلق بين السماء والأرض، فلم يظهر شيء. وعلى العكس، بدأت أسمع نحيب رضيع، فقفزت الفتاة السوداء إليه، وحملت ما لم أره بين ذراعيها، وألقمته ثديها، ثم ذهبت به مدللة، وقد ذهب عنها قلقها، ولذة لا تدانيها لذة لذتها. قدمت الفتاة السوداء الرضيع لي دون أن أراه، وهي تقول إنه ابنها، وهي تتركه كل يوم هنا في اللامكان، وتذهب طلبًا للرزق. هذه الفتاة لا بد أنها مختلة العقل، قلت لنفسي. لم أفهم أنها عاهرة محطة الشمال إلا عندما تفاجأتُ بها، بعد أن وضعت الرضيع في سرير وهمي، وهي تعانقني، وتقول إنها على استعداد لفعل أي شيء في سبيل إطعام ولدها. احمرت الدنيا في وجهي، فالوقت ليس للمضاجعة. أردت العودة من حيث جئت، إلى محطة الشمال، حيث العالم جهنم الدنيا والناس كمثرى اللهب. اعترضت ساحرة الطوغو طريقي، فشممت رائحة ليست زكية، رائحة المستنقعات، رائحة مزيجة من بول الفيلة ومني التماسيح كنت أعشقها، وهي تقول إننا لم ننه بعد الاطلاع على كل خبابا محطة الشمال. ستنيم ابنها، وبعد ذلك سترافقني إلى عالم المحطة السفلي، فلمحطة الشمال عالم سفلي مليء بالغرائب. لم أصمد للإغراء، فرائحتها، رائحة النتانة والفسق، دوختني تدويخًا جعلني أقبض عليها بمخالبي، وأمزقها، وفي رأسي دوائرُ الدوائرِ في الماء. كنت أدور بها، وهي واقفة، فأدخل في ظهرها تارة، وفي بطنها تارة، وهي تصرخ كمن يقوم بفعل العشق لأول مرة. كان كل جسدها الأسود ساحة مفتوحة لمعركةٍ الهزيمةُ فيها لكلينا، كل ثدييها بين أصابعك، وأنت تضغطها من خلفها، فتترنح، وتميل برِدفيها بين فخذيك، وكأنها تبتهل إلى الله ألا تخرج منها، وكل رِدفيها بين أصابعك، وأنت تخترقها من أمامها، فتتلوح، وتميد بفرجها، وفيها فرجك. ترفعها إلى القمم الشماء، ثم تتركها تسقط عليك، وبفمها تأخذك، لتدمر أفريقياها. وأنت تسعدك مناظر الدمار، ودمارك، دمار بلدك، البلدان، القارات، العالم، أكثر ما يسعدك، فتصيح بها أن تعض، لتتفجر وهي تعضك، أن تعض، أن تزيل أفريقيا، أن تعض، وهي تعض، وأنت تصرخ فاقدًا لعقلك، تعض، وأنت تأخذ بها خنقًا، فلا يكفي ما تعض، أن تعض، أن تخنقك من فرجك، فتعض، وتبدأ أنت بالتلوي، وهي تعض، وتعض، وتعض، وأنت على وشك إنفاق الروح، وفجأة تتفجر، كآلاف الخيول، وتملأ فمها بالحياة، بينا كل كِيانك وكل كِيانها يذهبان إلى الموت بمحض إرادتهما.
عدنا أدراجنا، أنا وابنة لومي، دون أن نقع على العربة المعلقة ولا على الشجرة العارية ولا على الخادم ولا على القرصان، لم تكن هناك سوى تلك الطيور الغريبة التي تنعق من ورائنا، وتتبعنا، وتحفر القلق ببراثنها في جبين مرافقتي مصيبةً إياها في صميم قلبها. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات الذاهبة والآيبة، وكأنه يوم الخراء. الأجراس تدق، والطبول تقرع، والساكسفونات تدوي دوي الرعود. لم تكن الظواهر الغَرّارة، كانت مظاهر الحياة. دفعتني الفتاة السوداء إلى درج يهبط تحت الأرض، فرأيت عند نهايته على اليمين المستودع، وهناك صف من المسافرين الحاملين لأقفاص فيها شتى أنواع الطيور الإفريقية الملونة: شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... يودعونها، ويعطيهم المسئول وصلاً بها. "هنا مملكة الخيال، شرحت الفتاة السوداء، كل شيء يبدأ من فكرة، مهما كانت غريبة، وكلما كانت غريبة أعجزت، ولولا التحدي لما كان الإعجاز". لاحظت أن هناك شخصًا يريد أن يودع صندوقًا حديديًا ضخمًا، وهناك فتاة يبدو عليها الحياء تريد أن تودع مكنسة كهربائية. قلت لساحرة الطوغو "ليس في كل هذا ما هو غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل هذه الأقفاص ذات الطيور الإفريقية بينما ليس واحد هناك من أصحابها إفريقيًا". "كما لو كانوا يرسلون الجنود إلى المذبحة"، أظهرت الفتاة السوداء الفرق. "لكنها لا تؤكل"، رميتُ، وأنا أضحك في عُبي. "الذبيحة الإلهية، هل تعرف ما هي؟" "لم أكن أعرف"، ألقيت، وضحكي يزداد أكثر فأكثر. على اليسار، كانت هناك عدة شبابيك للصرف، لم يكن عليها الإقبال على المستودع نفسه، لكن فضة الأضواء الوهاجة شدت انتباهي إليها، فضة أشبه بأجواء عالم الملعونين، وشد انتباهي أيضًا الصرافون إليهم، كانوا يرتدون ثيابًا براقة كثياب الأبالسة، ولم تكن بينهم امرأة واحدة. "لمملكة الخيال مصاريع تتنوع تنوع المراحل أبطالها ذوو سجايا مُخْتَلَقَة"، عادت الفتاة السوداء تشرح. واصلنا السير، أنا والفتاة السوداء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جياد سوداء أخذت أشكال الأرقام. "ما هذا سوى رمز جبري في مملكة الخيال للرمز الرقمي في الإمبراطورية الإلكترونية"، قالت مرافقتي، وهي تشير إلى جياد الساعة. "هل هذا هو كل العالم السفلي لمحطة الشمال؟ أبديت للفتاة السوداء عدم دهشتي، مستودع للأمانات ومكتب للصرافة وجياد على شكل الأرقام؟" ابتسمت الفتاة السوداء: "أعطِ العبدَ كُراعًا يطلبُ ذِراعًا". كانت تبتسم لعدم صبري، كانت راضية تمام الرضى عن رد فعلي، هذا يعني أنني أريد معرفة العالم السفلي لمحطة الشمال، وأنني وقعت أسير فكرتي عنه. تقدمت الفتاة السوداء من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح بدا لي أنها كانت تمسكه طوال الوقت بيدها، وإذا بباب في داخلها اجتزناه إلى عالم هو خرائي بالفعل، عالم من الأضواء والأشياء لا ذاكرة للأسماء فيه ولا للوجوه: الجياد الرقمية والسيارات الرقمية والأراجيح الرقمية والمهرجون الرقميون والموسيقيون الرقميون والراقصون الرقميون وكافة الألعاب الرقمية، لم يكن هناك من الناس العاديين سوى بعضهم. "هنا إمبراطورية الأرقام، عادت الفتاة السوداء إلى الإيضاح، كل شيء ينتهي من فكرة، وبكلام آخر، الفكرة الأخيرة هي هذه، بعد ترميزِ الرسائل ترميزَ الكائنات والأشياء." أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال القذر من الأقدام، ونحن أتعس أناس في دنيا الدكتاتورية الرقمية، وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي لمحطة الشمال. "مستوى إنساني، وصفت الفتاة السوداء، يتعلم فيه الإنسان كيف يكون شيئًا آخر غير ما هو عليه، غير مقولب، كرد فعل على القولبة الرقمية، لا حربًا عليها وإنما تحايلاً عليها، وذلك من أجل التعايش وإياها." ثلاثة أماكن شدت انتباهي إليها، المكان الأول للمافيا، حيث كان يدخل رجال أنيقون جدًا، يبتسمون كثيرًا، ظلالهم تبتسم لكثرة ما كانوا يبتسمون، لم يكونوا مسلحين، وكانوا يتحادثون بأدب واحترام كبيرين، يبادلون أكداس النقود في المحفظات بأكعاب المخدرات أو أنواع المجوهرات بعد أن يقوم خبير بفحصها. تذمرتُ من حال هي غيرها، فبررت رفيقتي: "استر ذهبك وذهابك ومذهبك!" المكان الثاني للتجميل، حيث كانت تدخل نساء بوجوه تختلف عنها عندما تخرج، وكأن الوجوه أقنعة تخلعها النساء بكل بساطة. رأيت السوداء تدخل بوجه أسود وتخرج بوجه أبيض، الوجه أبيض والجسد أسود، والبيضاء تدخل بوجه أبيض وتخرج بوجه أصفر، الوجه أصفر والجسد أبيض، والحمراء تدخل بوجه أحمر وتخرج بوجه أسمر، الوجه أسمر والجسد أحمر... وهكذا. قلت: "حتى الشياطين لا يقدرون على فعل هذا، وهم لو قدروا لما فعلوا!" فبررت رفيقتي: "مِنَ الذَّوْدِ إلى الذَّوْدِ إبل!" ترددت بين الدخول وعدم الدخول. "أنا أحلم بوجه أنمش وشعر أحمر"، قالت الفتاة السوداء عما في نفسها، واعتبارًا للوضع، أجلت ذلك إلى يوم آخر، فلم أر بعدُ كلَّ شيء من العالم السفلي لمحطة الشمال. المكان الثالث كان للعبادة، للعبادة؟ "كيف هذا للعبادة، وهذا المكان الغوليّ الذي لا يعرف أحد فيه الله؟" سألت متهكمًا. "للعبادة"، أكدت الفتاة السوداء. حاولت دفعي إلى الدخول، فرفضت، قلت أمكنة العبادة ليست أمكنتي، لكنني تفاجأت بالراهبة الحبلى، وهي ترفع ثوبها لزبون، وتكشف عن ساقيها المزينتين بمطاط الجوارب. راح الزبون يجسها من بطنها الضخم، ثم ذهب معها. عندئذ وافقت على الدخول لأرى، وفي قاعة شبه معتمة، رأيت عشرات الراهبات في أوضاع مختلفة، كن يضاجعن، ويرتلن. لم يثرني المشهد جنسيًا بينما الفتاة السوداء نعم لما التصقت بي، ووضعت أصابعي على ثديها، في فمها، تحت لسانها. "خذني كراهبة"، توسلت. "ولكنهن لسن راهبات"، قلت بعين الخبير التي لي. "خذني ككلبة!" "كل هذا استيهام!" "خذني! خذني!" اعتذرتُ، وأنا أقول لم أر بعد كل شيء. دفعتها، أنا هذه المرة، من أمامي، وخرجنا.
أشارت مرافقتي إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، "لا أحد يتصرف بورع مثلك"، قالت الفتاة السوداء غاضبة، وأرادت تركي، فرجوتها البقاء، فأنا لا أحمل هاتفًا خلويًا أسترشد بواسطته بنظام التوضيع العالمي في عالم أجهله ولا أعرف مجاهله. قالت إنني الوحيد بين بني البشر دون أن أنتظر شيئًا، دون أن أنتظر أحدًا، دون أن يقلقني شيء، دون أن يعجبني شيء، فابتسمتُ مرتبكًا كمن يسترأف الشيطان. لم أر نفسي مضطرًا للإجابة، كنا قد دخلنا في ميدان سباق للجياد الرقمية، امتطيت واحدًا، وامتطت الفتاة السوداء واحدًا، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك، وبالطبع لم نكن لا أنا ولا الفتاة السوداء من الفائزين. "جياد خراء، وفوق هذا لم نربح!" ربأت بنفسي عن ذلك. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات الرقمية، فجاءت الفتاة السوداء التاسعة وأنا العاشر. "لا حظ لي في هذا الماخور، قلت لها، مثلك، رغم أنني لست مثلك"، فنظرت الفتاة السوداء في عينيّ، وسألتني فجأة من أكون. لا أحد، أنا الفسق، أجبتها، أنا الحرام، وأنا أرسم ابتسامة إبليس على ثغري. أغضبها مرة أخرى جوابي، لكنها حافظت على جأشها، وبعد لمسة بيدي على خدها، ابتسمتْ لكؤوس الزهرة. ابتسامة مُحْزَنة، ابتسامة إفريقية. "لم يعد الأمر يزعجني كثيرًا"، سلمتْ بالأمر، وأبدت ارتياحها لصحبة واحد غريب الأطوار مثلي، لا يُخبر مرآه عن مجهوله. سألتُ إذا ما كان هذا كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، "ليس هذا كل شيء"، قالت الفتاة السوداء، وسحبتني من يدي كما تسحب كلبها، فعويت، وهي تضحك مني. لم تعد قلقة، كانت تضحك. أحقًا تضحك لأنها لم تعد قلقة؟ لأنها لم تعد؟ تبخرت مع القلق؟ قلقها الوجودي كان الضحك، الضحك مني، الضحك من الأشياء، الضحك من الحياة، أكثر ما يفهم هذا الشياطين الذين هم مثلي.
كان هناك مِصعد، نزل بنا أنا والنار السوداء طابقين آخرين تحت الأرض، وهي تشرح: "هنا لا مملكة الخيال ولا إمبراطورية الأرقام، لا شيء يبدأ من فكرة أو ينتهي، لا شيء يكون، لا شيء لا يكون، هنا الكون قبل البغ بانغ، العدم الكائن." عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف وجوه الغرباء الغريبة، كانوا كلهم ممن لا إقامة لهم، لا أوراق رسمية، لا علاقة بالشمس، بالعالم، حتى ولا بالموت، بمقابر القطارات أو بمقابر البشر، لا علاقة لهم إلا بعمل عابر يساعدهم على العيش تحت أقدام المسافرين وعجلات الحياة وخطوط السكك الحديدية. تربصتُ بهم، لكني كنت الشر، وما عرفوا. ابتسمتُ لهم، فظلت وجوههم عابسة. حاولت التحدث مع بعضهم، فلم يجيبوا. تجنبوني، واختفوا في جحورهم، جحور قذرة للجرذان. وعلى الرغم من ذلك، كانت القناعة تزيد وجوههم عبوسًا، قناعة نهلستية ليست مفسرة، ليست منطقية، لا تدرك بالعقل، وتدرك بثغور الأخطبوط. رأيت بعضهم يأكل الخراء، وبعضهم يشرب الشخاخ، وبعضهم يمارس العناق، وبعضهم يرى التلفزيون، وبعضهم يستمع إلى الموسيقى، وبعضهم يدخن أو يحشش، وبعضهم يرقد، وبعضهم يقامر، وبعضهم يراهن، وبعضهم يداعب قطًا أو كلبًا أو قردًا أو ثعبانًا أو أخطبوطًا أو تمساحًا أو قرشًا... لم تكن هذه الحيوانات رقمية. كان عالمهم التحت الأرضي هذا البعيد عن براثن الشرطة عالم حرية لهم بشكل من الأشكال. حرية من يزرع الملح في محيطات المجهول، ويحصد السمك الوهميّ! "هؤلاء على عكسك يُخبر مرآهم عن مجهولهم"، همست الفتاة السوداء في أذني، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها المليئة بجسدي الرقمي إلى المِصعد، "لنصعد إلى الطابق الوسط"، طابق لم يكن الجحيم، ولم يكن الجنة، طابق بين وبين. رأيت أغرب ما حلق من طير، الرأس قدم والقدم جناح، وأعزز ما اتقد من جمر، اللهب ثدي والثدي ثلج، وكأنني، وأنا أطل على حديقة في النعيم، أطل على بركان في الجحيم. لم يسعدني التناقض، من طبيعتي أن يسرني التناقض بين الأشياء والألوان والحالات، التناحر، التذابح، التناكح، لكنني هنا، في هذا المكان الغائطي في غرابته، لم أكن مبتهجًا، والحق أنني لم أكن مغتمًا، فمن طبيعتي أيضًا حيادية سفينة مربوطة على الرصيف. لم تكن حال مرافقتي السوداء التي اسودت الدنيا في عينيها، على تهديدٍ فَجّرَ الرعبَ فيهما، فزَلّت بها القدم، وكادت تسقط في جمر جهنم. انتظرت عوني، وأنا أقف مشدوهًا، وأحدق في وضعها الصعب الطارئ، وضعها غير المتوقع، وضع الملعونين، ولم أتقدم لعونها، كان عليها أن تعين نفسها بنفسها، وتثبت جدارتها بالعيش. تركتها، وذهبت كالكلب اللاوفيّ، وهي من ورائي تستنجدني، ترجو، وترجو.



القسم الثاني

كان القِنَّب الهنديّ في كل مكان، في الحديقة، في الأصص، على النوافذ، على جانبي الباب الخارجي، كان يملأ الفضاء اخضرارًا بتعاريق أوراقه، وكان بظلاله يغطي السماء، ومن الغيمِ يصنعُ الفساتينَ للنجوم.
- أين أنتِ، يا عدن؟ سألت الأم بصوتها النديّ.
لم تجب الصغيرة عدن التي كانت تلعب بين التشعبات الخضراء، وهي لا تريد العودة إلى الدار، الأكل يمكن أن ينتظر، وهي ليست بعد جائعة.
- عدن...
حملت الصغيرة عدن البربيج، وفتحت الحنفية. راحت تُسقي نبتةً أمُّها النداوة وروحُها الخَضْب.
- عدن، اقطعي لي بعض الأعواد للسلطة.
- أنا أسقيها، ماما، صاحت الصغيرة عدن من مكانها.
- بعض الأعواد.
- حاضر.
- حالاً.
- حاضر، ماما.
أغلقت الصغيرة عدن الحنفية، ووضعت البربيج، وبدأت تقطع أعواد القنّب الهنديّ. لاكت ورقة بينما هي تواصل القطع، فثانية، فثالثة.
- عدن...
- أنا أقطع، ماما.
- عجلي.
- أخاف أن أفسدها، ماما.
- هذا ضاغط لي.
- هذا ضاغط لها.
- أن يكون ضاغطًا لها شيء جيد، ليس لي، ولتكن الأوراق صغيرة.
- لتكن الأوراق صغيرة، ماما؟
- وكأنك لا تعرفين!
- حاضر، ماما.
- عجلي إذن.
جاء سرب من الفراشات الزرقاء، فألقت الصغيرة عدن ما قطعت، ولحقت بكائنات عالمها الأخضر. أخضر من الأسود عالمها، وأكبر من أكبر حلم. الشجر، طيور الخُضَيْر، طيور السُّنونو، العنادل، الأقواس الإفريقية. جسدها العاري تحت الشمس. أسود من الأبيض جسدها، وأصغر من أصغر قارة. الطفولة، نهار الليل، الحلمات الخجولة. لعبت معها على الرمل، وغنّت معها: نحن الطبيعة / الرمل أزرق / نحن الوجود / العدم أزرق / نحن اللهب / الكلأ أزرق / نحن البحر/ الموج أخضر... أشعلت النار السوداء، ورقصت معها، ومن النار السوداء انبثقت فراشات خضراء أخذتها بين ذراعيها. فراشة خضراء غدت مثلها، فحلقت فوق اللهب بجسدها.

* * *

وجدت الفتاة السوداء نفسها وحدها على أرض الجحيم، فراحت تتفقد جسدها إذا ما كانت النار قد التهمته، وكان جسدها على ما هو عليه، في كامل صنعه. لم تكن هناك نار، ولم تكن هناك شياطين. كانت هناك السهول، وكانت هناك المياه. لكن ما لفت نظرها لون الكلأ الذي كان أزرق، ولون السماء الذي كان أخضر. لم تفكر طوال حياتها في هذا أبدًا، أن يكون لون الكلأ أزرق، ولون السماء أخضر. فكرت طوال حياتها أن في الجحيم النار، لا شيء غير النار، وأن في النار الشياطين، لا أحد غير الشياطين. أمها أيضًا كانت تفكر مثلها، وجدتها، وأم جدتها، وأم أم جدتها، وأم أم أم جدتها، حواء. كانت تلك صورة العدم المتغلغلة في كينونتها، بينما العدم شيء حي ككل الأشياء. ما يختلف لون الأشياء فيه. وليس هذا فقط. نظرة المرء إلى الأشياء. ابتسمت الفتاة السوداء، وهي تتأمل عالم الجحيم على حقيقته. كان للونيه وقع السحر عليها، في انعكاسهما وفي عكس ما اعتادت عليه. ماهية جديدة لم تبحث عنها يومًا، لأنها بالنسبة لها لم تكن موجودة. كانت ممحوة، كسماء لا غيوم فيها، كبحر لا أسماك فيه، كفضاء لا كواكب فيه. كانت مواراة، كثدي تحت فستان، كبطن في الماء، كساق أخفته القبلات. هذا الوجود لم يكن منسيًا، كان النسيان.
لتثبت جدارتها على العيش، كان على الفتاة السوداء أن تعيش. ولتعيش، كان عليها أن تستكشف. ولتستكشف، كان عليها أن تجد لا أن توجد، فهي موجودة، وما يَهُمُّ في وضعها الحالي ليس كونها موجودة، وإنما الوجود.
وبينما هي تفكر فيما تصطدم به مباشرة على أرض الجحيم، سقط عليها صوت الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر:
- إنها القواعد التي تكوّن الشكل.
- عندما كنتُ صغيرة كان القِنَّب الهنديّ في كل مكان، وكانت هناك فراشات خضراء وزرقاء، ليست تلك التي تستكين بنا إلى الهوان على أي حال، أجابت الفتاة السوداء.
- على أرض الجحيم لا مكان للهوان، أكد الرجل ذو شعر الرماد ووجه الغضون.
- عندما كنت صغيرة، كنت أقطع بعض الأعواد لأجل سلطة أمي، الأعواد الطرية بأوراقها الصغيرة، هنا الكينونة شيء آخر، الكينونة في أرض الجحيم ليست الكينونة. ومع ذلك، السماء من لون القِنَّب، والعشب من لون البحر.
- وكيف يكون للدينار نِفاس؟
- لا أهمية لشيء آخر غير هذين اللونين.
- ولونك الأسود.
- لوني الأسود يبقى مسألتي في الجحيم وعلى الأرض.
- ومسألتي أنا الأبيض الذي لولا الأسود لما كان أبيض، والأسود الذي لولا الأزرق والأخضر لما كان أسود، أسبابنا واحدة لنكون، كما ترين.
أخذها من ظهرها، وراح يزرع عنقها قُبُلاً.
- توقف، توقف، رددت الفتاة السوداء، وهي تقهقه.
- نحن نتكايف ليس غير، وإلا كيف تريدين أن تكون أرض الجحيم حديقة قِنَّبِنَا؟
- توقف، توقف.
- وداعًا ما كنا، أهلاً وسهلاً ما سنكون، هذا ما يقول الأبيض للأسود.
- وداعًا يا أفكارنا، أهلاً يا أفعالنا، هذا ما يقول الأسود للأزرق والأخضر.
- فليحاول أي واحد فينا أن يصنع جحيمه على هواه. هكذا...
- توقف، توقف.
تركها الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، وذهب ليستلقي على طرف من العشب الأزرق.
- هلا استلقيت إلى جانبي لنقوم بفعل الحب؟ خَتَرَ الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه.
- لا، رفضت الفتاة السوداء.
- لِمَ هذه اللا القاطعة؟
- لم تزل تطاردني فكرتي عن الجحيم لهبًا وشياطين.
- هكذا هم المعذبون على الأرض، تطاردهم فكرتهم عن الجحيم حتى في الجحيم، والجحيم كما ترين عشب أزرق وفضاء أخضر، لهذا هم يقاسون الأَلْواء واللأْوَى.
- لكل مداعبة لِبْسَة.
- ولكني أشتهيك، وأريد أن أضاجعك.
- لست عاهرة ملبيةً طلبَ الزبائن.
- هنا ما معنى أن تكوني عاهرة؟ هنا الكينونة لا تختفي وراء الكائن، المضاجعة وراء المضاجع.
- ها هو يلت ويعجن في المسألة.
- أُلَبِّقُ الكلام أنا أم أحفظ نصًا عن ظهر قلب؟
- سأُلجئ أمري إلى الله.
- هنا ما معنى أن يكون الله؟ هنا كل الأفكار عنه ماتت، هنا الله لا يكون كما لم يكن أبدًا هناك.
- هنا المضاجع يختفي وراء المضاجعة، وهناك المضاجعة تختفي وراء المضاجع، إلا إذا ما أشعلتَ نارًا يكون لونها أسود، فتنبثق منها فراشات خضراء.
- النار سوداء أم بيضاء أم حمراء أم سمراء أم صفراء هي النار، وهنا لا نار الهنا ولا نار الهناك، لا مضاجعة هنا غير المضاجعة التي نحن جزء منها.
- ها هو لا يتردد لحظةَ عينٍ عن قول ما يعتقد لا كأمي، أمي كانت تخفي ما تعتقد، وكنت لهذا أحب أمي.
- هنا لن تكرهيني، لا حب هنا غير الحب الذي نحن جزء منه.
- أريد القول...
- في الجحيم ليس هناك ما نعتقد، إلا إذا كانت الحقيقة اعتقادًا، وليس هناك ما نخفي، إلا إذا كان الجحيم كابوس الأمهات والأبناء.
- ها هو يحل عُقَدَ مسرحيةٍ معقدةٍ بعمرِ الكون.
استلقت الفتاة السوداء إلى جانبه، فانحنى عليها، وراح يكشف عن ثدييها، ويرفع عن ساقيها، وأصابعه تذهب إلى الكلأ الأزرق مداعبة إياه.
- يلذ لي أن ألمس ثدييك، ساقيك، بطنك، خصرك، كل جسدك، دون ملذة آثمة، لا مكان للإثم في هذا المكان، وكل ما هو هنا يعطيك ما يلزَمُك، ليس أكثر من اللازم، وليس أقله. الملذة كاملة، لازمة. غير الكامل، غير اللازم، في حضن الأزرق، لا وجود لهما. هذا البحر الذي ننام فيه، والذي ليس بحرًا كباقي البحار، هو السبب في إلغاء الناقص والباطل. أنا الكائن منه، المضاجع منه إذا شئت، وتلك النجمة السوداء في السماء الخضراء، هي الكائن منها. نحن نجوم سوداء، كلنا كائنات منا، كلنا مضاجعون منا، سود، بلا أصل، أنت بلا أصل، ونحن بلا أصل مثلك.
- هذا لا يُلزم بشيء غير ما يُلزم.
- تتلاشى الأوهام، كالصور المتلاشية تتلاشى، ولا يبقى سوى حضورنا.
- اضغط ثدييّ، أكثر، أكثر، افتح ساقيّ، أكثر، أكثر، عض فرجي، أكثر، أكثر...
- حضورنا الذئبيّ.
- أكثر، أكثر.
- حضورنا الذئبيّ العاديّ.
- اخترقني، رجت لاهثة، بالله عليك أن تخترقني.
- تظنين نفسك على الأرض، فما مكان الله في رجائك؟
- اخترقني، يا دين الرب!
ألقته فوقها، وهي تبعد ساقيها إلى أقصاهما، داقة إياه بينهما، صارخة، خادشة، عاضضة، مرددة: يا دين الرب! يا دين الرب! إلى أن ظفرت بما تبغي. ترامى كل منهما على طرف، وبقيا هكذا شبه غائبين، وأصداء العناق تلفهما. بعد قليل، أحاطت بهما أربع أقدام لبطن ونصفين أعليين.
- من أنتما؟ صاح الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر والفتاة السوداء بصوت واحد.
- نحن النسيان، أجاب السياميان بصوت واحد يملأ أرض الجحيم بالأصداء.
كان ذلك كما لو خرجت السيارة عن الطريق فجأة.
- في الجحيم؟ أنتما النسيان في الجحيم؟ استغرب الرجلُ السكنيُّ بالعصرِ شعرُهُ المحروثُ بالزمنِ وجهُهُ كما لو كان يريد القول لا رهبنة في الإسلام. أنتما الذاكرة في الجحيم!
- الأمور مرهونة بأوقاتها، قال السياميان، والرجل الحكيم يرنو إلى حديثهما. لم يستطع العلم فصلنا عن بعضنا، ثم نسينا العلماء، لم تستطع التكنولوجيا فرزنا عن بعضنا، ثم نسينا التكنولوجيون، لم يستطع الشعر شقنا عن بعضنا، ثم نسينا الشعراء. هنا يكمن الداء! هذا الكائن الميتافيزيقي الذي هو نحن كان يأس الفلاسفة بعد أن تلاشى أملهم الأخير، ثم تلاشى أملنا: آه! ما أجملنا جسدًا في جسدين. آه! ما أروعنا جسدين في جسد. آه! ما أكملنا جسدين بين الأجساد. كنا طبيعتنا المسيخة، خطأً طبيعيًا، سهوًا طبيعيًا، وانتظرنا من الطبيعة أن تصحح خطأها. انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- تلاشت الأصداء، همهمت الفتاة السوداء.
- انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- التلاشي، عادت الفتاة السوداء إلى الهمهمة.
- انتظرنا، انتظرنا، انتظرنا.
- تلاشي الأشياء ونحن فيها، همهمت ابنة أفريقيا بلهجة حيادية.
- ثم لم نعد ننتظر، ختم السياميان ودمعة حرّى تسيل من عينيهما.
- تتلاشى الأشياء فنتلاشى، أوضح صاحب الوجه المتغضن والشعر الأرمد، فلا نهرب منها أو نتوارى عنها، نحن المضاجعون. ماذا كانت تقول لكما أمكما وأنتما طفلان؟
- ابقيا على حالكما، كانت تقول لنا، رد السياميان، فلا نهرب منا ولا نتوارى عنا.
- الأمر واحد في الجحيم.
- والحقيقة؟
- واحدة.
- هل سيذكرنا أحد يومًا؟
- هنا على التأكيد.
- وهناك؟
- وما الفائدة؟
- لنخلص.
- وما الفائدة؟
- لنكون.
- وما الفائدة؟
- لنخرج من جلد السياميين، ونكون كالآخرين.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح للنسيان تاريخًا.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح للتاريخ نسيانًا.
- وما الفائدة؟
- لئلا نصبح التاريخ والنسيان.
- وما الفائدة؟
صمت الشابان المِسْخان حائرين، فمدت الفتاة السوداء إليهما ذراعيها. أجلستهما بين ساقيها، وأعطت لكل منهما ثديًا.
- أنتما في الجحيم، يا دين الرب! نبر الرجل ذو وجه الغضون وشعر الرماد، فلا تتركا الأهواء تتلاعب بكما، ضاجعوها!
عندئذ، حضر القرصان، وهو يسحب خادمه بحبله، وخادمه يحمل حقائبه الكثيرة دون أن تبين له قامة أو وجه.
- ألهذا البحر أرض ترشدوننا إليها؟ سألهم القرصان، وهو ينظر في كل الاتجاهات.
- هذا البحر أرض لا أرض لها، أجاب الرجل الحكيم.
- غريب! همهم القرصان الذي لا يُفتات عليه بشيء، لم أر بحرًا في حياتي أشبه به بحرًا.
- كيف كانت البحار الأخرى؟
- بشواطئ، كانت بشواطئ، وكانت السفن في كل مكان. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه، وساطه بسوطه، وخادمه يهز رأسه مؤكدًا متوجعًا. هنا لا توجد سفينة واحدة. ضاعت السفن، وضاع البحارة. هل أنتم بحارة؟ ولم ينتظر جوابًا. لستم بحارة. انسحب البحارة مع انسحاب الموج، لم يبق منهم كائن واحد. كل ما رأيت، أرانب تهرب في كل الاتجاهات، بيضاء بلون الجحيم. الجحيم الآخر. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه، وساطه، وخادمه يهز رأسه تحت ثقل ما يحمل مؤكدًا متوجعًا. هذه لغته الطبيعية، لا أحد يفهمها سواه. لغة حوت. إذن لا أرض لهذا البحر.
نظر القرصان إلى السياميين بعين الالتفات، وقال:
- لم أر في حياتي سمكًا من هذا النوع. أليس كذلك، أيها الحوت؟ قال لخادمه الذي اندفع إلى الوراء ليتفادى سوط سيده، وسيده لا يحرك يدًا، وأسقط كل ما يحمل. خذ، خذ، خذ، هذا جزاء من لا يحسن حمل تاريخ سيده على ظهره، نبر، وقد راح به ضربًا وركلاً. إنه لا يحسن حمل أي تاريخ، هذا الحوت، حتى تاريخ نفسه، فالحيتان أخف عليها أن تكون بلا تاريخ، ليس مثلنا. وتلك المرأة السوداء، هل هي حوتك؟ غابك؟ زوجك؟ توجه بالسؤال إلى الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه دون أن يدعه يجيب. اليوم الزوجات عاهرات للأسماك، إنه آخر زمن.
- النساء في الجحيم لسن زوجات ولسن عاهرات، ألقى الرجل العاقل الغير الزمنيّ.
- الجحيم أينه؟
- أين تضع قدمك.
- البحر.
- البحر في الجحيم جحيم.
- الآن فهمت بعد كل هذا الإبحار طوال آلاف الأعوام ولم أجد اليابسة، أليس كذلك، أيها الحوت؟
اختطف الخادم السوط من يد سيده، وساط نفسه، إلى أن أدماها، ثم أعاد السوط إلى سيده.
- نِعْمَ الحوت! نِعْمَ الحوت! ردد القرصان، وهو ينظر إلى الفتاة السوداء، فألفاها تنهض.
أخذت الخادم من يده، وضغطت جراحه على ثديها، فصاح القرصان، وهو يجذب مرؤوسه، غاضبًا:
- هذا الشيء لا يستحق أقل عطف!
- هذا الحوت، صححت الفتاة السوداء.
- هذا القضيب، يا قفاي!
- كلنا بنوه.
- بنو ساقط بنو ماقط بنو لاقط.
- كان ذلك في البدء، تدخل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، وهو ينظر إلى الشمس السوداء في رَأْدِ الضحى.
- الشاب المغفل الذي هو، نحن كلنا، أبناء القحبة، بنوه! سخر القرصان.
- ثم كانت الملذات، أضاف الرجل الحكيم، الملذات الفانية.
- بمقابل، تابع رجل البحر، الملذات بمقابل، وغير الملذات بمقابل، كل شيء بمقابل، هذا هو قانون الذين أبوهم حوت قفاي!
- هل تعرف من نحن، يا أبانا الصغير؟ سأل الأخوان السياميان الخادم.
أمام أمارات الحيرة على وجهه، قالا تعسين، وعبرات الزجاج تسيل من عينيهما:
- نَسِيَنا الكل حتى هذا القذر، أبونا!
- ماذا قلتُ؟ قهقه القرصان، لا تاريخ للحيتان، لا ماض ولا حاضر ولا ماخور، يكفيها وزن أجسادها الرازحة تحته!
- خفة أجسادها، خاطر الرجل الحكيم برأي.
- ثقل أجسادها، يا دين الرب! نرفز رجل البحر، هذا يدل على أنك لم تر حوتًا في حياتك.
- تحت أم فوق، تتفق الآراء وتختلف، أكد الرجل الحكيم.
- حول قفاي! طن القرصان، وعاد يقهقه.
سكت فجأة ليهمهم ضائعًا:
- الأرض! اليابسة!
والسياميان يتراءان في مرآته المحطمة.
- سنذهب معك للبحث عن الأرض، قالا للقرصان، وهما يتقاسمان حمل الحقائب مع الخادم.
- البحث عن الأرض، البحث، الإبحار، حتى في الجحيم نواصل البحث، ولا نرتاح!
- لننسى.
- لتنسيا ماذا؟
- أننا النسيان.
- تعالا إلى البحث عن الأرض، تعالا إلى عبث الذاكرة، ولكن مقابل ماذا؟
- مقابل لا شيء.
- أنتما لا تعرفان الشيطان.
- لا نريد أن نعرفه.
- تريدان أن تلقيا بنفسكما في الماء.
- نريد أن نلقي بنفسنا في الخراء، في المغامرة إذا شئت.
وهم هناك في أقصى أطراف الجحيم، نظرت الفتاة السوداء إليهم، وقالت:
- علينا أن نبحث نحن أيضًا في أرض ليست أرضنا عن أرضنا، كما كانت تقول أمي، وهي تضرب رأسها بأعواد القِنَّب. كانت تكره العالم، فتضرب رأسها بكل شيء، بأي شيء، وفي إحدى المرات ضربت رأسها برأسي، وكادت تحطمه لي.
- وما الفائدة؟ تساءل الرجل الحكيم، وهو ينظر إلى وجه الأفريقية الأسود، جِد الأسود، فيراه أبيض، ويهمس لنفسه: الوجه مرآة القفا.
- ليكون للمضاجعة معنى.
- معنى الخراء تريدين القول.
- معنى، أي معنى، يا دين الرب!
- وما الفائدة؟
- حتى في الجحيم نحن نظل إنسانيين.
- وما الفائدة؟
- ليكون للمضاجعة خراء المضاجع الأعلى.
- ماذا قلنا؟
- اليد العليا، العاطية.
- أُفَضِّلُ هذا.
- اليد السفلى، الآخذة.
- هذا أَفْضَلُ.
- اليد العليا واليد السفلى كثدي المرأة وقضيب الذئب.
- المعنى على أكمل وجه.
- المعاني، مُتَع الحياة، يا دين الرب!
- مُتَع العقل، الماخور!
- الماخور والآخرة.
- العاهر والدنيا.
- متاع الغرور.
- متاع الكذب.
اهتزت أرض الجحيم بصورة مدوخة، اهتزاز البراكين قبل أن تتفجر، وبدأت تَظهر بين الانعكاسات الزرقاء سيقان تعدو لرهط من سود الذئاب، أنيابها أنياب الشياطين، يسيل اللعاب منها. دارت بالفتاة السوداء، فمسحت لها أشداقها، وهدّأتها. ماءت كالقطط بين يديها، وأسبلت كالغزالات جفنيها. قضمت العشب الأزرق، ولاكته قرفة، ثم قاءته، وهي تتضور جوعًا. لم تَسْعَ في أرض الجحيم فسادًا، ككل من هم على أرض الجحيم، وها هي ذي تسعى إلى حتفها. كشفت الفتاة السوداء ثدييها، وقدمتهما لها، فترددت لَواحِمُ الجحيم. لعقتهما لعقًا خفيفًا، وهي تموء وتسبل جفنيها، ولم تتأخر عن الاستعار، والفتاة السوداء في منتهى الهناءة. تفجرت البراكين، وسالت الحُمم كالأنهار. حُمم زرقاء. حُمم سوداء، وحُمم بيضاء، وحُمم حمراء، وحُمم سمراء، وحُمم صفراء، والفتاة السوداء تشد الذئاب إلى صدرها بقوة وحنان، وكأن الذئاب أبناؤها. احترق العشب، وغدا أزرقه أسود. وصل اللهب إلى السماء، وغدا أخضرها الهلاك. غادر سكان الكهوف أماكنهم، وارتدوا أثواب النار، قرونًا بعد سكوت ريحهم. أسكرتهم صفوف المعذبين، وسلبت لُبَّهم. سلخوا كثيرًا من وقتهم في التفنن الجحيميّ، حرق الأهداب، حرق الشفاه، حرق الحلمات، حرق الغابات، حرق الأقدام، ولتهدئة الخواطر، حرق الجسد برمته كحقل من قمح الذنوب، كبحر من موج الخطايا، كغاب من شُقْر الخيانة. أنا أخون، فأنا إذن أكون. أقاتل روتين كل يوم، تفاحة ما بعد الظهر، قُبُلات الزوج. أحرر ثديي من أسنانه، فخذيّ من مخالبه، فرجي من حياتي معه في باستيله. جنته الباستيل، وجحيمي الحرية. عدم الإخلاص عدم الحرمان. في الأزقة المؤدية إلى محطة الشمال. أقداح النبيذ. قبلات الرصيف. باقات الظلال. سأحبك حب النار للحلمات، وسأكون لغيرك، هذه هي حريتي، حرية ذئبة. سأخون الإخلاص لأني إنسانة، ثم سأخلص للخيانة لأني قبلات فرويد. أحلامه وأنا معه في فراش أمه، فأنا أمه وعاهرته اللتان لم تكونا له، زوجته وذئبته، ابنته وعشيقته. الشمس في الصيف ذَهَبُنا، والقمر في الشتاء بُرازُنا. مباهج العقل لنا مباهج الأطياز. أنا طالبة اللذة طالبة الهوية. الجحيم مملكتي، حريتي، إخلاص الشياطين لي.

* * *

لم تكن عدن تتوقع أن يطلب منها سكرتير السيد ريمون الانتظار، كانت المرة الأولى منذ ستة شهور في عملها "كمحاسبة" بالمعنى الذي أقنعت به نفسها، وهو على كل حال لقب الشرف الذي كان مستخدمو الفندق الخاص يستعملونه عند الحديث عنها، منذ الساعة التي تصفُّ فيها سيارتها الأوستن السوداء على عتبة الباب الفخم الداخلي المصنوع من خشب كرز الطير حتى تأخذ الأموال الموضوعة في حقيبة يد، وتغادر البوابة الخارجية التي تُفتح وتُغلق بشكل أوتوماتيكي تحت أعين كاميرات المراقبة.
- السيد ريمون يريد التكلم معك، قال السكرتير الأنيق بهيئة صارمة، وهو يصب لها قدح ويسكي.
- والحقيبة؟ استفسرت عدن قلقة، هل الحقيبة جاهزة؟
- الحقيبة جاهزة.
- أينها؟
- مع السيد ريمون.
- لماذا؟
- …
- أجب، لماذا؟
- بثلج أم بدون ثلج؟
- بدون ثلج.
قدم إليها القدح، بهيئة صارمة دومًا، وغادر الصالون.
تناولت عدن جرعة من الويسكي اللذيذ، وتهادت بكامل حسنها وبهائها حتى القنينة، لتعرف الماركة. تناولت جرعة ثانية، وللتمتع الذي أحست به، ملأت قدحها حتى الحافة، وجرعت منه برغبة نهمة. ذهبت بنظرها إلى كل زاوية من زوايا الصالون الفخم، وابتسمت لأشيائه، للثروة، للمجد، لبيكاسو، لفينوس، للمخمل، للحرير، لكؤوس الزهر، للأقاقيا، لأحذية القمر، لغرافاتات الشمس، لسُرّات البورصة، لأثداء الإليزيه، وأرسلت الزفرات. جرعت قدحها حتى منتصفه، وتهادت بقامة الغزال التي لها حتى النافذة لتلقي نظرة طويلة على الحديقة. كان الربيع، وكل شيء أسود أخضر. وكانت الفراشات. زرقاء. خضراء. فتحت النافذة لتسمع صداح العنادل، فوصلها مع الصداح صوت أمها: "عدن..." همست: "ماما!" وصوت أمها من جديد: "عدن، اقطعي لي بعض الأعواد للسلطة." "أنا أسقيها، ماما." "بعض الأعواد." "طيب." "حالاً." "طيب، ماما."
- أنا مثلكِ، قال السيد ريمون من ورائها، أفتحُ النافذة لأسمع صداح العنادل.
- أوه! معذرة، سارعت عدن إلى القول، وهي تستدير، وتجرع كل ما بقي في قدحها. سأغلقها.
- اتركيها على حالها.
صب صاحب الفندق الخاص لنفسه بعض الويسكي، وتقدم بالقنينة من عدن، وعاد يملأ نصف قدحها. خلصته القنينة، وصبت حتى الحافة، ثم أخذت مجلسًا على الكنبة الوثيرة، وهي تضع القنينة على الطاولة الصغيرة، وتمد ساقيها الجهنميتين إلى أبعد حد، ساقيها الحارقتين، ساقيها الخالقتين، ساقيها الإلهيتين، الشيطانيتين، المدمرتين، المبيدتين.
- ماذا سنقول للجحيم؟ سأل السيد ريمون، وهو يأخذ مكانًا إلى جانبها عاصفةً من العطر.
- إنه الجنة! أجابت عدن ثملة.
- ماذا سنقول للجنة؟
- إنها الجحيم!
- هل النار تحرق؟
- تحرق.
- كالقبلة؟
- الحقيبة... جاهزة؟ همست عدن قلقة، وهي تضع أصابعها على فمه.
- جاهزة.
- أينها؟
- هناك.
- هناك أين؟
- هناك.
- سيد ريمون، تلعثمت عدن، وهي تنحني على صدر الرجل القوي، وتشمه، كل نييي سير سين تَضَجّ برائحة السيد ريمون، ما هي؟
- شانيل، رد السيد ريمون، وهو يجرع قدحه دفعة واحدة.
- أَيُّها؟
- أنتِ.
انقضت عدن على فم الرجل القوي تاركة قدحها يتحطم بما فيه، وما لبثت أن سقطت على الأرض وإياه، وهما في عناق عنيف بدأته ساحرة أفريقيا، وأنهاه شيئًا فشيئًا سيد نييي سير سين. جعلها تُدخل إصبعها فيه إلى أقصاها، كانت عادته، وإلا ما أثارته إثارة الحيوانات لما تضاجع الحيوانات، وما أشعرته بجوهره المخدوش لينتقم منها أفظع انتقام. تَكَسَّرَ ظفرها فيه، فجُن جنونه، وجعلها تُدخل إصبعًا أخرى. كانت بعضُ لَذَّتِها هي الأخرى، فتركته يُدخل إصبعه فيها. كان عنيفًا كقطيع من النقابيين، وكان هستيريًا كفريق من المناضلين. مزقها بمخالبه تمزيق المخمل والحرير، وهي تصرخ صراخ القتيلين القتلة، وقطع حلمتها بأسنانه قطع اللحم الرخص، باكورة ناره، فأغمي عليها. كانت طريقته في ركوب الأهوال والأخطار، وكخاتمة بعد أن حشا فيها عنق القنينة اخترقها صارخًا كمن مسه الشيطان.
عندما عادت عدن إلى نفسها، وهي في أتعس حالاتها، وجدت حقيبة يد سوداء إلى جانبها، ولا أحد غير حقيبة اليد السوداء. كانت بينهما خطى يسيرة، وكانت لهما خطوات الشيطان. لا، لا يمكن استدراك كل شيء! في زهرة الخراء، لا يمكن استدراك كل شيء! كانت جدارتها، قدرتها، قلقها، طموحها، متعتها، أي شيء. مُتَع الحياة كمُتَع العقل كلها مُتَع. لا مُتَع في نهاية المطاف. مضاجعات. أخلفت موعدها مع تمثال دانتون، ولم تعطه قبلاتها. فتحت الحقيبة السوداء على أكداس من اليوروهات، وانفجرت باكية. حملتها، وبقدم ثقيلة غادرت جنة الملعونين.




القسم الثالث

في محطة الشمال، كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ، والركاب يقومون بطقوس من جهنم، كما لو كانوا شياطين على عجل دائم من أمرهم، كانوا يسحبون حقائبهم أو يحملونها وكأنهم يسحبون أقدارهم ويحملون عبء ذنوبهم، وهم دائمًا لا ينظرون إلى ما يفعله غيرهم، ويبحثون عمن ينتظرهم على باب الجحيم، فينقذهم من عذابات الحياة والقلق الناجم عن الأحاسيس الماورائية المتولدة من التفكير في الحصان الأبيض والأقاقيا، في الدانتيل والموسى، في المال ومقدمي البرامج التلفزيونية الذين هم ها هنا دون حياء منذ عشرين ثلاثين أربعين بل وخمسين عامًا، وغدوا لهم واحدًا من كوابيس كل يوم. كنتُ الوحيد ما بينهم دونَ أن أكون ما بينهم بدونِ حقيبةٍ أحملها أو أسحبها ودونَ أن يكون أحد بانتظاري، فينقذني من عذاباتٍ لم تكن عذاباتي، ويزيل عني قلقًا لم يكن قلقي. لهذا كان يمكنني الابتسام في عالم كل ما فيه يبعث على التجهم، وحتى القهقهة إلى حد تفجر الخراء في الأمعاء، وتلويث وجه العالم. ابتسمتُ على مرأى امرأة مفرودة القامة، في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، وكأنها تنقل معها كل ما تمتلك. في هذه الظروف، كانت في وضع من ينتظر عونًا من أحد، إلا أنها بدت جهنمية قادرة على حمل أشيائها وحقائبها، حتى بلا عربة، صورة لعصر حديث قام على القوة، فلم أمد لها أيةَ يدٍ للمساعدة. ند عنها نباح مُخْشَوْشِن، وهي تنبذ البشر نبذ النواة. كل هذا كمن يحمل موته بيد وحياته بيد، كل هذا كمن يصعد الجبل لأجل أن يقطف زهرة غير محددة المعنى، كل هذا كمن يريد أن يكون شخصًا لا عاديًا. لكن عازف الغيتار، ذلك الشُّحْرور الناريّ، الجالس هناك، توقف عن العزف، وجاءها يعرض عليها خدماته، فانتهرته، وطردته، وأنا أواصل ابتسام من لا يريد الحد من رغباته الشيطانية، وأنظر إلى الشاب الموسيقيّ بطرب المحصور بفكرة الحصان الأبيض. المتعذر الحصول عليه. حملت المرأة أشياءها وحقائبها، وتحركت، أشبه بالتنين على أرض الجحيم، وأخذت تقهقه كمن تقول لنفسها ها أنا أنهض بأعبائي، وأتحمل كل مسئولياتي. تركتها من ورائي، وهي واثقة بقدراتها، وفي الوقت ذاته قلقة من ألا تكون على قدر هذه القدرات، أن تخونها قدراتها أو أن تتخلى عنها، فيكون فشلها. ألم أقل لكِ إنك ستموتين تحت عبء قدراتك؟ هذا ما يثير الكدر في نفسي، ثقتي الكبيرة في قدراتي، لا شكي فيها، يا دين الرب! وجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، ظننت في البداية أن ذلك بسبب عدم تحملها السفر في القطار، لكنني كنت على خطأ، فالأم صفعت ابنتها ما أن رفعت الصغيرة رأسها تريد السير على قدميها: "هذا لأنك شيطانة ابنة جن! لماذا لم يمتني الله يوم مولدك؟ أنا، لا أنتِ، يا حبيبتي! أنا، فقط أنا!" وانفجرت باكية قبل أن تتابع: "فأنا لا أحتمل ما أنا فيه، لا أنتِ، يا قملتي، أنا، أنا!" عرفت حينذاك أن البنت كثيرة الحركة تسبب الإزعاج للأم إلى حد تمني الموت، وبدافع الخوف على ابنتها من الضياع في محطة الشمال كانت الأم تضربها، وتُفقدها حيويتها. على الرغم من الوحشية الأمومية للمرأة داومت على الابتسام الشيطاني الذي لي، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام الشيطاني دون أن يكون ابتسامي في محله، خاصة وأن الصغيرة كانت تتألم لتصرّفٍ بلا عِوَض، وتُرْغَم على وضعٍ غير وضعها، وضع تنطلق فيه بحرية صغار الأفاعي ككل الأطفال. لم تنقطع ابتسامتي الشيطانية، ابتسامة تحصيل الحاصل، لكن رجلاً وامرأةً يصطليان في نار الكره شدا انتباهي إليهما، وجعلاني أتبعهما. كان كل منهما يسحب حقيبتين ضخمتين كحوتين، ويشقان طريقًا تنفصل إلى اثنتين في وادي الجحيم. لم يكن الواحد يلقي على الآخر أية نظرة، بينما قرأت في عينيهما كل صفحات الضغن والسُّم، سُمٌّ وضغنٌ جعلا من محياهما عشًا لبنات ذي الناب. تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أترك ابتسامتي الشيطانية تمزق بمخالبها الوجهين الجهنميين. كانت طريقتي في دكهما إلى الحضيض. إذا بالمرأة تفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بتمزيق وجه الرجل بأظافرها، وهي تهمر، وتبدي عن نواجذها، بينما الرجل يحاول تدارك ذلك دون أن ينجح. كان الناس ينظرون إليهما بشيء من التلذذ، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، ويرتعشون حبورًا، كانوا يرتعشون حبورًا، وبعضهم ينتظر أكثر، أن يدافع الرجل عن نفسه كمجرم كسفاح كتمساح أمريكيّ، فيغرق الكل في مستنقعٍ للأوباش. لم يكن المشهد عاديًا يتكرر كل يوم، لهذا كانوا يرتعشون حبورًا ارتعاش الأحياء على حواف قبور غيرهم، وهم يصبون إلى المزيد، حتى أن شابين، أسود وأبيض، كانا هناك غير بعيد قد توقفا عن خلع ملوك الشطرنج، وأتيا بأظافرهما ليشاركا المرأة في تمزيق وجه الرجل. ماذا دهاكما، يا دين الكلب! تفجرت المرأة بهما، هذا رجلي، وهذا بصلي معه، فاذهبا إلى النعيم! ضغطته على صدرها، ولعقت جراح وجهه، وجهه، كل جسده. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بارتياح لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، بينما لم تمنع مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها الرجل من اللحاق بالمرأة، والرجل كل أمارات الرغبة في الانتقام تَشُلُّ وجهه لتغطي كل كِيانه. لم يجعل الرجل مجموعة العفاريت الصغار التمكن من جرفه في الاتجاه المضاد، وهو يضرب بقبضته هذا أو ذاك، هذه أو تلك، أينما كان، في الوجه، في الصدر، في البطن، وهو يضرب بقبضته، وهو يضرب بقدمه، دون أن يترك نفسه طوع إرادة أخرى، وبدوره مزق وجه المرأة، ولعق جراح وجهها، وجهها، كل جسدها، وعند ذلك بدا عالم الجحيم عالم استرداد الشرف للجميع. للجميع؟ ليس تمامًا، فتلك الراهبة الحبلى كانت تمشي مثقلة ليس مما في بطنها، كانت مثقلة بشيء آخر غير الشرف، شيء اسمه العار، العار من الذات، العار من الوجود، العار من الظل، كانت مثقلة بظلها، بالعار من ظلها، وكانت تتحاشى النظر في عيون الناس، ليس مثلي أنا ابن الشرموطة، كانت تسعى إلى الاختباء منها، ولكن كيف؟ ثوبها الفضفاض ممتلئ ببطنها، وبطنها هو العار، عار اسمه الانتكاح، لامرأةِ دينٍ الانتكاحُ هذا اسمه العار، وشيء آخر ربما كان الأقاقيا، فالأقاقيا هي الوجه الآخر للعار، للأقاقيا والعار نفس المعنى، لكنهما شيئان مختلفان. "ما هذا سوى تَنَكُّر، يا دين القرد! همست الراهبة الحبلى لنفسها، ككل شيء، كالعرصة في بيغال، كوزيرة الثقافة، كامرأة الفضاء، تَنَكُّر، الشيء الوحيد الحقيقي ما هو فيّ، هذا الجنين الذي سيبدأ موته يوم مولده، جنين أيًا كان أباه. إنه زوج أمي الذي قتلته، يا دين القرد! ولأنجو من فعل رهيب كهذا كان عليّ أن أختار تَنَكُّرِي: قناع المعتقَلة أو قناع الراهبة."
كانت إحدى نجيمات السينما تشكل صدرها بأقاقيا كبيرة، وتصبغ وجهها بماكياج هائل، ترفع إلى الأعلى شعرها كناطحة سحاب، وتمضغ علكًا، وهي تفتح فتحًا كبيرًا شفتيها الملوثتين بأحمر الشفاه تلويثًا عابثًا، وتبتسم لجمهور خفي من الشياطين ورواد البورصة، كان ذلك تَنَكُّرَها، وكانت تحرك بإصبعها حقيبتها البلاستيك، بغنج، بإثارة، بإغواء، وهي تنظر إلى كل من يتجاوزها بتحد بيغاليّ. "تعال، كي أرميك تحتي"، كأنما كانت تقول لكل من يضرب كتفها بكتفه، فجاء من جاء. حمل لها ثلاثة شبان حقائبها، فاعتقدت أنهم عرفوها. في فيلمها الأخير كان لها دور لا يذكر، "ربما شاهدوا الفيلم أكثر من مرة، منايك الخراء هؤلاء!" قالت لنفسها. ضاعفت من غنجها، ودلعها، وقرفها، والشبان الثلاثة أحاطوا بها، والتصقوا بها، وجذبوها، وأحدهم قد مد براثنه، ومزق رافعة ثدييها، مما أفزعها، فصرخت، ودفعتهم بقوة، وعنف، وبربرية، وأخذت تركض، وهي تضرب بالمسافرين في محطة الشمال، تضرب بالأشياء، حطام الدنيا.
"تعال هناك، يا حبيبي." كان الصبي في التاسعة أو العاشرة، وهو يزن تسعة وتسعين كيلوغرامًا. "هناك، تعال هناك، سترتاح قليلاً، ثم سنواصل طريقنا، يا حبيبي"، قالت الأم، وهي تبحث عن حظوة لدى ولدها. "أنا تعب، يا ماما"، قال الصبي، وهو يشعر شعور من ارتكب ذنبًا. "أعرف، لهذا، اجلس، يا حبيبي"، قالت الأم. "لماذا لا تحملينني، يا ماما؟" قال الصبي. "سأحملك، اجلس أولاً، أرح قدميك، يا حبيبي"، قالت الأم. جلس الصبي قليلاً ثم نهض. "أرحت قدميّ، يا ماما"، قال الصبي. "أنت متأكد، يا حبيبي؟" سألت الأم. "أنا متأكد، يا ماما"، أجاب الصبي. "أرحت قدميك، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "إذا أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، دعني أحملك، يا حبيبي." كان ثقيلاً كالمرساة، فوقعت به، والصبي يقهقه. كان يعشق هذا، وكانت تقول: "للناس في ما يعشقون مذاهب."
لم يكن أحد بانتظاري، ويا للحظ! فالمنتظرون لغيري لم يكونوا لإنقاذ الناس مما هم فيه. كان الصديق أو القريب أو الحبيب أو الخادم أو السائق أو السارق أو الناهق أو الداهق أو الباشق أو اللاحق أو أو وكيل أحد الفنادق أو... كانوا يتقابلون كالغرباء: كل واحد منا سيأخذ القطار ذات يوم! لهذا كان اللقاء ما بينهم عابرًا، من قطار إلى آخر، من محطة إلى أخرى، من جحيم إلى آخر، من فاست فود إلى آخر، من تنزيلات إلى أخرى، من سوق إلى آخر، من نويل إلى آخر، من نوبل إلى آخر، من فيلم فرنسي إلى عرس إسلامي الرجال فيه مفصولون عن أقلام الحُمرة. الرجل غير سعيد بلقاء المرأة أو المرأة بلقاء المرأة أو الرجل بلقاء الرجل. رجل في الستين لم يكن سعيدًا بلقاء زوجه الصبية، زوجة صبية في العشرين، ليس لأنها دميمة، وهي حسب شهادتي ليست دميمة، ولكن لأنه لم يكن سعيدًا بلقائها. كانت زوجه، كان يعرفها، والآن لم يعد يعرفها، هل كان حقًا يعرفها؟ لهذا لم يكن سعيدًا بلقائها، بانتظار أن يأخذ القطار القادم، فالأقاقيا قطارات نأخذها. متى تكون آخر محطة؟ لا أحد يعرف. كالموت. القلق ليس لأن لا أحد يعرف متى، ولكن لأنها ستكون آخر محطة. وبعد ذلك؟ بعد المحطة الأخيرة؟ الماخور الأخير؟ فالإنسان مسافر بطبعه. ليجيب على سؤال اللاوجود اخترع حماقات الوجود، الشعائر الدينية، الانتساب إلى الأحزاب، أتبار الشوكولاطة. كان ابنٌ غيرُ سعيدٍ بلقاء أبيه، كان يتمنى لو يكون أي واحد من الموجودين في محطة الشمال أباه ما عدا أبيه، ليس لأنه يكرهه، ولكن لأنه لا يحبه، ليس هكذا، لأنه لا يتوقف عن الرحيل. الهناك شيء أبعد من جهنم، سيبيريا، هونولولو، جزيرة العرب، البحر الميت، آه! البحر الميت. لهذا، لنحيا علينا ألا نعتاد الرحيل، هذا ما سيعرفه الابن فيما بعد، عند ذلك سيحب أباه، وسيكره إيّاه. نسج الكلام. نسج الخيال. لنعد إلى التَّنَكُّر، إلى الحقيقة الزائفة للأشياء في محطة الأقاقيا: كانت راهبة أم عليا تقف هناك قصيرة مكعبلة متذمرة تميل برأسها يمنة ويسرة بحثًا عن الراهبة الحبلى بين القادمين، وتهمهم شاتمة، وعندما رأتها في الأخير ببطنها المنتفخ الدافعة له كبطن الأسقف من أمامها، قبضت على الصليب، وأخذت تضرع إلى الله، وتدعو عليها بالدمار، وعلى الكون، تدعو، وتدعو، وتهمهم، والقادمون لم يكونوا ليهتموا بما تدعو. بماذا تنصحني؟ كان القادمون لا يبالون بما تهمهم، يتباطأون، ولم يكن يبدو عليهم أن رحيلهم قد انتهى مع وصولهم إلى محطة الشمال. كانوا في رحيل أزلي، وكانوا يجرجرون حقائبهم، وهم يخبطونها بحقائب غيرهم، وكأنهم مكرهون على ذلك، يخبطونها بكل من يعترضهم، فلا تُسمع في الآفاق سوى صيحات الألم وصرخات الاحتجاج: يلعن دين... ابنة الشرموطة... ابن الشرموطة... بدي أنيكك... كانوا لا يترددون عن رمي حقائبهم من أعلى الدرج المؤدي إلى المترو. مواطنو الدولة الأكثر رعاية. بماذا تنصحني، يا دين الرب؟ رَفَعَ وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وكأنه يرمي إلى ضربي بها، وهو يعبس سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الشيطانية الملوِّثة لثغري تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن العبوس كالوغد، عبوس وبشاعة لا مثيل لهما، بينما كان وكلاء آخرون أكثر إجرامًا يجذبون القادمين من خناقهم مهددين، فيذهب هذا أو ذاك معهم. وقفت أراقب وكيل الفندق ذاك، وقد غلبت على صوته خشونة الكاره لجهنم، لموزارت، لميتشيغان، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن العبوس كالوغد إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل الركاب. قوس قزح. شاذ. منطق ثنائي. أخذ بلوحته يضرب حتى حطمها، ورأيته، وهو يشد بأصابعه شعره، يريد اقتلاعه، ويبدو أكثر بشاعة من ابنة هيغو. عندما لاحظ أنني أراقبه كالملاك الخارج على القانون جاءني، وعاد يسألني، ويهددني، يريدني أن أكون السيد المنتظر، فكانت ابتسامتي الشيطانية جوابي دومًا. رماني بعدة شتائم مغلظة، وهو يعبس، وارتدى وجهه قناع كل الفجائع الدموية في المسرح الإغريقي، ثم ذهب بطيئًا متثاقلاً، دون أن يلقي نظرة أخيرة على رصيف المحنة، كغيره، ليس كل غيره. "ما به؟" سألني أحدهم. "ذابت أَظْفَارُهُ فيما لا طائل له"، أجبت. "هذا ما يذهلني". "في جحيم محطة الشمال لا تزال في الأذهان ذكرى اللهب الذي انطفأ مثلكم جميعًا، الأحياء ما بينكم ذكرى، فانسَهُ!" شيء قليل الأهمية، رواية مشوهة، سر شائع. كان رجل في بدلته السوداء المخططة وقبعته السوداء الحريرية يُحْدِقُ النظر في اتجاه الرصيف، والدمع يسيل من عينيه. رأيته يبكي كالثاكل، ولا يمسح دمعه السائل على خده. كان يبكي، ولم أكن أدري إذا ما كان يبكي على حبيب لم يصل. كان يذرف الدمع، ويداوم على النظر في اتجاه واحد حتى غاب كل شيء في عينيه، لم يعد يرى شيئًا، غدا العالم جحيمًا أبيض منطفئًا، أطفأ جحيم العالم بدمعه، وأبقى على جحيمه مشتعلاً، ليذيق نفسه ضربةَ منقارٍ عقابًا.
في محطة الشمال، كان الكلام شيئًا أقرب إلى السُّخرة، شيئًا مرهقًا ومفقدًا للأعصاب، فمكبر الصوت لا يتوقف لحظة واحدة عن إرهاب المسافرين، وذلك بإعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، لغات بناءة لكنها في هذا السياق هدامة، أضف إلى ذلك الرقص الجهنميّ الذي تمارسه اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة صعودًا وهبوطاً على إيقاع هو أيضًا هدام مدمر. نُصْبَ عينيّ، كان المسافر يخضع لكل هذا الصخب، وكنت أتساءل إذا ما كان ذلك من طبيعته، وزيادة على هذا، ذلك التواطؤ إلى حد الاشتراك في الجرم من طرف المضيفة عندما تصر على الاعتذار إذا ما تأخر قطار عن الوصول بنبرة فوقية تدغدغ عدم الصبر الأزلي لدى الفرد أو عندما تصر على التهلل عند وصوله في الوقت المحدد بنفس النبرة الفوقية دومًا، نبرة تعيد إلى الفرد الضائع في الجحيم بعض التوازن. كانت نبرتها المخضعة نبرتها الجسيمة بمثابة ترويض للذات قبل الأذن، لهذا كان الواحد يصرخ عندما يحادث الآخر دون حرج، لا شيء غير الصراخ في الجحيم، وفي الجحيم يعتاد المعذبون صراخهم، حتى ولو لم يعتادوا جحيمهم هم يعتادون صراخهم، ويقبلون خراهم. والحال هذه، كان فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما يصرخان عند الحديث ولا أحد ينتبه إليهما، وأولئك الذين لم يكونوا يصرخون لحديث كانوا يصرخون لوجع كأولئك المنتظرين دورهم من أجل خلع أضراسهم لدى طبيب أسنان المحطة، أو أولئك الذين يتصفحون كتب الكاتب الموجعة صوره وكلماته، أو... أو أولئك الذين يرتعدون فرقًا على رؤيةِ سمكٍ قرشٍ ذكرٍ وسمكةٍ قرشةٍ أنثى في حوض غير بعيد من أصابعهم دون أن يمثل لا الواحد ولا الواحدة تهديدًا حقيقيًا لهم. كان الفتى والفتاة يصرخان، وكأنهما يتشاجران، فقلت لا بد أن أحدهما على وشك السفر بعد أن قررا الافتراق إلى الأبد. كان الشرر ينبثق من عينيهما، وهما يبتعدان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا، وهما يبتعدان بجسديهما، وهما يبتعدان بِكِيانيهما، وهما يبتعدان بقبلات الأمس، وهما يداومان على الصراخ بطريقة حاقدة ولئيمة وذئبية. لم يكن بإمكاني متابعة حركة شفتي كل منهما، كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، والكل يسمع ما يقولان دون أن يميز بالفعل ما يقولان، فالكل بدوره يصرخ. ذاتية الكائن هي هذا، مزيج من الدفاع الذاتي والتدمير الذاتي. خيل إليّ أنني أسمع قرعات طبول، وأصوات أبواق، وخيل إليّ أن وفودًا من شياطين جهنم بدأت تتقاطر. كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، ومعًا في آن واحد انفجرا ضاحكين، ضربا كفيهما كفًا بكف، وهما يهزان رأسيهما لماخور مفاجئ، فقلت لا بد أنهما وجدا حلاً لمسألتهما، وهما لهذا السبب يقهقهان كأبناء العفاريت. توقعت أن يأخذا القطار معًا لكنهما نهضا فجأة، تأبط كل منهما ذراع الآخر، وسارا في الطريق المؤدية إلى باب المحطة. ابتسمت هذه المرة لانخداعي انخداع البطاطا: عاشقان يعود أحدهما إلى الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها إلى جهة من الجهات! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع الأنا، الأنا السفلى، فأي قطار سنأخذ إلى الذات المنحطة، لنفهم ذاتنا الوضيعة، ومع من؟ صَلَفٌ تحتَ الراعِدة! جاءت فتاتان كشخصٍ واحدٍ يتراءى في مرآته، وكل منهما تسحب حقيبة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وبعد أن قبّلت إحداهما الأخرى من ثغرها قبلة طويلة لاعبة انفصلتا، وذهبت كل منهما إلى رصيف. أخرجت كل منهما مرآة من حقيبة يدها، وبدأت بمخاطبة نفسها: "وماذا لو وقع حادث، انقلب القطار أو فجره إرهابي؟" "أفضّل أن أقتل نفسي." "لِمَ انفصالنا إذن؟ لنقتل أنفسنا، هذا أحسن." "نقتل أنفسنا، فنموت؟ أنا لا أريد أن أموت!" "وعندما تحلمين بي في الليل، وأنا أنام على جسدك كاللهب، كجهنم، كالشيطان، كقصر الإليزيه، وبكلام آخر كالموت المدوخ؟" مضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يركض بكرته كالسهم المتلولب بين الموجودين في محطة الشمال دون أن يقدر على تفادي الكل، فيصطدم بهذا، ويصطدم بذاك. كانت محطة الشمال تمتلئ بالأقاقيا القادمة بقدر المغادرة، تضغط على نفسها ضغط الماء في حوض بابا قرشٍ وماما قرشةٍ وصغارِهِما، تصنع من نفسها جِرمًا واحدًا، جسدًا واحدًا لا يتجزأ، نوعًا من أكواريوم البشر، وكأن الكل إليها يجيء، محطة ممتلئة بالبشر وبالوقت، فلا نهاية للبشر، ولا نهاية للوقت. وكان لاعب الرُّغبي يركض بكرته من طرف إلى طرف ظنًا منه أنه يركض في ملعب، وهو يصطدم بهذا، ويصطدم بذاك، وأنا أتابعه بعينيّ دون أن يحتجب عن ناظري، فيلقي بالكرة وبجسده بين أكمة من الحقائب، ثم لا يلبث أن ينقل الكرة وجسده، ويقوم بما قام به، ولكن في الاتجاه المعارض. كان يلهث، ويعرق، ويبدو عليه التعب، كان يدفع ثمن اللعب. كان كل واحد من الركاب يدفع ثمن اللعب بشكل من الأشكال، فأَخْذُ القطار كان لعبة، لعبة تسليهم، كانوا يتلهون بالسفر والرحيل، الرحيل إلى أماكن عديدة بعيدة دون أن يهمهم أمر الوصول، المهم أن يقلع القطار، وتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع إذا كانوا من المسافرين في محطة الشمال أو أمر الإقلاع في المحطات الأخرى إذا كانوا من المنتظرين، مع الشعور بارتباك كبير، وبرغبة جارفة في الهرب. جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن أدرك السبب إلا عندما رأيتهم يحملون على نقالتهم لاعب الرُّغبي، ذهبوا به في الوقت الذي سقط فيه أحدهم تحت عجلات ناقلة الحقائب، والمسافرون يهبون إلى امتطاء أحد القطارات، وكأنهم يرتلون أغاني المجد. هذه هي كل المسألة! وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا يهرول مع حقيبته ليلحق بالعربة الأخيرة. وهو يضع قدمه على عتبتها، أُغلقت الأبواب، فوقع على ظهره. نهض بقوة شاب في التاسعة عشرة، وتعلق بالقطار الذي أخذت عجلاته تدور. لم يكن خائفًا من السفر مع الموت، بل كان يسعى إلى ذلك، وكان يبتسم، دونما يرجع عما هو فيه. في هذا العمر، لا شيء يمثل تهديدًا غير هذا العمر!
وهذا النداء من ورائي: "جدي... جدي..." التفتُّ، كان شاب يبحث عن جده، سألني أين هو المُقعد الذي كان هنا، وكأنني المسئول عن اختفائه، لا يعلم على أي رجل يقف. قال إن اسمه "جان"، وهو ترك جده المُقعد هنا، في هذا الماخور. أوضح أنه تركه لأن امرأة نادته، كان لها صوت أمه، صوت رجيم، فذهب إليها. قال إن أمه ميتة، لكنه ذهب باتجاه الصوت. صوت كان يأتي من قطار، لكن القطار غادر. عندما عاد، لم يجد جده. ومن جديد، سألني "أين هو، يا قحبة الخراء؟" قلت "لست الرب العليم لأعرف، لم يكن من الواجب تركه." "ظننتها أمي، يا قحبة الخراء! همهم الشاب، أمي ميتة، لكنني ظننتها أمي، كان الصوت صوتها، ثم غادر القطار." راح ينادي "جدي... جدي..." وتركني، وهو لم يزل ينادي "جدي... جدي... جدي..." ماذا يعني أن تموت أمك؟ ابذل كُلَّ مُرتَخَصٍ وغالٍ! سبحان الله! لا تحسن الظن في شيء! هناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بعنف لأن أحدهما قطاره على وشك الإقلاع، وهو يريد أن يشتري تذكرته، وما لبثا أن تبادلا اللكمات: "يا دين الرب! يا دين الرب!" لم يتدخل المسافرون، استمروا في شراء تذاكرهم، وكأن ذلك كان ردهم المسروق كرهًا. فتح شباك آخر، فشكلوا صفًا ثانيًا سريعًا من أمامه، وترك الكل الرجلين يتشاجران إلى ما شاء الله، إلى الأبد لو يلزم، رُذالة الناس. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، روح متحضرة أم غيره، لم يكن ذنبهم، شيء لا رادّة فيه. كانت سلطتهم المطلقة! وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يضرب ماكينة تبديل النقود بقدمه، "لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان يردد، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟" "لأنك ترزح تحت ثقل الخطايا"، قلت له. "أية خطايا، يا دين الكلب!" تعجبت النار الحمراء. "أرسل نفسك على طبيعتها"، عدت أقول له. "قحبة الماكينة هذه ابتلعت نقودي، يا دين الكلب!" وعاد يضرب الروبو المالي بقدمه، في الوقت الذي كان فيه شرطيان يمضيان من هناك، فألقيا القبض عليه بتهمة السطو والتخريب، والشاب يتابع ما يدور مذهولاً خاصة وأن قطاره سيقوم بعد عدة دقائق. ماذا لو تقاسمنا؟ همس أحد المتسولين الغشاشين في أذني، وهو يقترب من الماكينة في اللحظة التي ذهب فيها الشرطيان بالشاب إلى مركز الشرطة. حكى معها بطريقة جعلتها تصرف النقود في الحال، وكأنه كان على تفاهم معها. من العبث أن يكون المتسول على تفاهم مع ماكينة الصرف، من العبث أن تفهم الماكينة كلامنا – هذه الماكينة - من العبث أن تسرق، الملوك يسرقون، والأمراء يسرقون، والرؤساء يسرقون، والوزراء يسرقون، والإسكافيون يسرقون، وكذلك الطيور على الساعة الثانية عشرة في حديقة السلطه، لكن كل ذلك جرى أمام عيني، ووقع دون أدنى شك مِنْهَجِيّ.
"جدي..."
دفع أحدهم الجد المُقعد بهوس الممسوس، وهو يقهقه، والجد يصرخ بكثير من الذعر، "ولكنك لست جان! جان، أين أنت، يا جان؟" تراشقا بالشتائم: "ابن الشرموطة!" "أنيك أمك!" "سأفقع قفاك!" "سأفجر خراك!" وفي اللحظة التي قذف فيها الممسوسُ الشيخَ المُقْعَدَ من رأس الدرج المؤدي إلى المترو، رفعتُ رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها. كانت الفتاة على وشك الطيران، والسقوط بين أذرعنا، وكان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على استثمار كل شيء، وأول شيء الألباب. خلبت الفتاة أنظارنا، وكنا على استعداد لنفعل كل ما تأمرنا به صورتها مقابل تملكنا لها. أحس كل واحد منا بالفتاةِ ملكًا له، وبدأ كل منا يدفع الآخر بعيدًا عنها. جَعَلَنَا كل هذا الجمال الإلهي وحوشًا فيما بيننا، لم نعد نهتم إلا في إقصاء الآخر، أَخْذ مكانه في عالم الساقين، وكَنْس ما يمثله من خطر. كل الخطر الذي كان تحت الفستان دون أن نراه، ونحن إن رأيناه لا نريد السماع به، واكتفينا بدرء خطر الواحد عن الآخر. استرشدنا بقضيبنا لا بعقلنا ، وكنا لنا بالمرصاد. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على اللوحة ولا أحد منا يهتم بها، غدت الفتاة كل الكون، وساقاها كل الوجود، كل اللاوجود، كل عدم الحياة، كل ثلوج السويد، كل أمطار الحبشة، كل ساحرات الدعاية. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت اللوحة، وهن عازمات على وضع حد لنزاعنا، وذلك بلفت نظرنا إليهن. إنجليزيات. إنجليزيات وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات كالشيطانات، كأسرارها، كإراداتها، كالرضاء بالموت، كالحاظيات برضاء الملوك. شيء عذري فاسق يطغو على نظراتهن. شيء أقرب إلى الخراب. لم يعدن ينتظرن القطار القادم. كن ينتظرن انهيارنا، فيأخذننا إلى الفردوس، جحيمهن كان الفردوس. رحن يبتسمن لبعضهن ثم رحن يقهقهن، وجعلن منا ضحايا أبديين. لم نعد أنفسنا. كنا شيئًا يشبهنا، شيئًا ليس ملموسًا، شيئًا أقرب إلى ظلالنا. عند ذلك، لم يعد أخذ القطار لهن والوصول إلى لندن أمرًا مهمًا. القطار القادم سيكون فيما بعد، سيقوم فيما بعد، سيقوم في اللحظة التي سيقوم فيها.
"من العادة أن يقوم الهرم على قاعدته ليلامس برأسه الشمس"، قال لي أحدهم، فانتبهت إلى ذلك البناء الشاذ في محطة الشمال. "للرطل رطل وأوقية، علقت قبل أن أضيف: الشمس في محطة الشمال غير الشمس، وأنا أفكر في الإله رع، هذا المغفل. يظل آلهة مصر بطبيعتهم أرضيين حتى الخراء، النيل شيء أرضي، والدلتا، والصعايدة بشواربهم المجرمة، كل ما في مصر أرضي، كل ما قيل عن حضارتهم غلط، كل ما في مصر رمل." كان باني هرم محطة الشمال ينقل الحجارة الثقيلة، وينظر من حوله بغضب من يرعى عليه حُرمته. لاحظتُ على صدره العاري أفعى جبارة وحشية تلفه، وكلما وضع حجرًا، التقط الأفعى، وعضها. "هكذا أقاوم سرطان الرئة، قال الرجل لي، وهو يعطيني ظهره، الألم يواجَهُ بالعنف، لهذا ألمي لم يحن. على ألمي أن يحين بعد أن أنجز بناء قبري." أشار إلى الهرم، وهمهم بكلمات لم أفهمها، كان يتكلم اللغة المصرية القديمة. تناول حجرًا ضخمًا، وفلقه كهمجيّ. "المدنية همجية، قال الرجل، المدنية سرطانية، شيطانية، جحيمية، وأنا لهذا أحطم المدنية." كتب على الحجر باللغة الهيروغليفية: ألم الإنسان هو رع الذي فينا!
كشف الرجل عن ذلك كسر، هل كان مضطرًا؟ كل شيء مكشوف في محطة الفراعنة دون أن نكتبه أو نقوله، كل شيء مرئيّ، كل شيء مسموع، لا أحد يخفي شيئًا. لهذا كان القلق الكائني الذي لنا، لأن كل شيء مكشوف، لا شيء خفي، لا شيء سري، لا شيء فضائحي، موت الأطفال لا شيء في بغداد أو في الأوتوروهات. أن تشرك بالله. سمعت شابًا أبيض البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وهو يؤكد ذلك. لم تكن ساعة الإقلاع، لكنه كان واثقًا من الإقلاع حينما يحين ذلك، فالمراقب كان متأكدًا من الرصيف، والرصيف هو هذا. رُفِعَ من الأمر! لم يكن في حياته أكثر منه ثقة كتلك اللحظة. رُفِعَ الجثمان! كان واثقًا من قيام قطاره بعد قليل، وانطلاق كل حياته. كان إحساسه بضبط حياته كمن يضبط ساعته، لا خطأ هناك، لا خوف هناك، ولن يكون خطأ هناك أو خوف. كنت فخورًا به فخري بإبليس، لو كنت مكانه لراودني نفس الشعور بالثقة، بعدم الخطأ، بعدم الخوف، بامتلاك حياتي قبل أن تذهب حياتي إلى مكان لا يُرقى إليه.
وأنا أتأمل الشاب الأبيض بإعجاب ديني، تفاجأت بإحدى الفتيات البيضاوات، وهي تسحبه من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وراحت تعدو به إلى رصيف آخر. لم يكن الرصيف الصحيح، خَلَّته، وتركته هناك حائرًا، بعد أن عطلت عليه حياته. عادت الفتاة البيضاء، وهي تبتسم لي، فلم أبتسم لها، كانت قد عطلت على الشاب حياته، كل حياته. زجرتُها: "عاهرة قذرة!" أرادت أن تقبلني من خدي، فأشحت بوجهي عنها. "عاهرة قذرة! أعدت، عطلتِ على الشاب الحياة، لماذا فعلتِ هذا؟" "ليعرف كل شيء عن حياته بدافع الخوف والخطأ وبشكل آخر، ولئلا تكون ثقته بالأشياء ثقة عمياء ثقة الناس بحب الله لهم، فتغدو الأشياء لا شيء غير أوهام"، أجابت الفتاة البيضاء. قلت لنفسي هذه الفتاة يركبها الشيطان، فتركتها تتعلق بذراعي، وهي تعيد: "بدافع الخوف والخطأ، وما ألذ الخوف عندما نتمكن من الحد منه، وما ألذ الخطأ عندما نتمكن من معالجته." قالت إنها في محطة الشمال بالخطأ، لم يكن قطارها، لكنها عرفت أشياء مُرَوِّعة في محطة الشمال لم تكن تأمل بمعرفتها، وعرفت بالتالي حياتها، ما الحياة، ما الموت. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن الحياة كما عَرَفَتْ، فترددتُ: "عن الموت؟" "عما في قلب الألماس الأسود من بياض." "إذا كان ارتكاب أخف الضررين هو ما سأعرف، فأنا لا أريد أن أعرف، ولأني هنا لا لأعرف كل شيء عن الحياة بل كل شيء عن محطة الشمال." "لا نشوش الأمور!" سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها، قيمة باطنية، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان من وراء كل القطارات بدا منقطعًا عن عالم المحطة، فلم يكن المكان الذي يشدني بالفعل. كان هناك مركز للشرطة فيه ضابط يبدو عليه الجوع، فرأيت فردين من أفراد الشرطة قادمين بظرف من الوجبة السريعة، كما ورأيت امرأة على باب أحد المكاتب المغلقة، وقبل أن تفتحه، وتدخل، ألقت نحوي نظرة كوبيدية، وهي تبتسم لي ابتسامة من بعث الله من الموتى. كانت الفتاة البيضاء لا تنظر إلى حيث أنظر، تسحبني، كما لو كنت حقيبتها، وكنت أتبع من ورائها طائعًا ككلب، إلى أن دخلنا منطقة تتسلقها خطوط السكك الحديدية كالشريانات من كل ناحية، جثث القطارات فيها كثيرة، قالت الفتاة البيضاء عنها إنها مقبرة القطارات. ونحن في قلبها، تحررتُ من قبضة الفتاة البيضاء، وابتسمتُ لها ابتسام الشيطان لمركزية ذاته، فلم تبتسم لي، وعلى العكس عَبَسَتْ، وتَجَهَّمَتْ، فمقبرة القطارات تبقى مقبرة تبعث على القلق، وتثير الأفكار السوداء كالبيضاء حول ما بقي منا أو ما سيبقى منا. ستعرف كل شيء عن الحياة بعد قليل، قالت لي الفتاة البيضاء، وبدا على وجهها الخوف. لم يكن القلق، كان الخوف. لم أقرأ القلق بين سطور وجهها، بل الخوف، خوف من كسروا بينهم رُمحًا.
أخذت تصلنا ضربات سوط من إحدى العربات المحطمة، وصرخات سببها العذاب والألم، اندفع في إثرها شخص بوزرة بيضاء مربوط بحبل من عنقه قافزًا يريد الهرب، والنفاد بجلده. ظهر رجل في ثياب القرصان على عينه عُصابة سوداء، ثم قفز، هو الآخر، من وراء الأول، وهو يجذبه بالحبل، ويواصل ضربه بالسوط، ويلعنه، ويأمره بالعودة وحَمْلِ حقائب أربع كانت موضوعة على باب العربة المحطمة، وهذا يصرخ من شدة العذاب والألم، ويترامى على قدميه. قال القرصان بصوت رنّان، وهو يشير إلى الرجل المربوط بحبل، إن الخادم هذا كذب عليه، الإنسانية تكذب دومًا، فهنا ليس شاطئ السين، هنا مقبرة للقطارات، بسبب الحقائب كذب عليه، فهو لم يعد باستطاعته حملها بعد أن حملها دون انقطاع طوال رحلة دامت... ينظر إلى ساعته، تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان. "أنا آت من جزيرة ضائعة في وسط المحيط عومًا، تابع القرصان، منذ تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان، وأنا أعوم كسمك القرش. وهذا الجحش يحمل الحقائب الأربع على ظهره، ويعوم ككلب البحر، ثم مشينا بعد ذلك طويلاً، طويلاً جدًا، مشينا بعد ذلك طويلاً جدًا، طويلاً جدًا جدًا قبل أن تكذب عليّ الإنسانية قائلة إننا وصلنا إلى شاطئ السين، لأجد نفسي في مقبرة للقطارات، مقبرة للقطارات فقط لا غير، هكذا هي الإنسانية، الإنسانية كاذبة منذ مولدها." "الإنسانية تخشى الموتَ حيةً"، قلت للقرصان. "إذن لماذا يا إنسانية جئت بي إلى هنا؟" طن رجل البحر. "لتموت"، قلت، والخادم يقبّل يد سيده. "كل هذه الإنسانية التي تتنفس كأقحب الكلاب، وتقول لتموت!" تعجب القرصان. "الموت يطاردها، وهي تطارد الموت، لهذا." أخبرته الفتاة البيضاء بشيء من الوجل أن خادمه لم يكذب، حقًا هم هنا في مقبرة قطارات محطة الشمال، لكن شاطئ السين على بعد عدة محطات في المترو. تنفس الخادم الصعداء، وهو يمسح جراحه، ويرمي سيده بنظرات مستعطفة. "شاطئ السين انتهى، أضافت ساحرة السويد، دون أن يذهب عنها الوجل، جمعت البلدية رمله في أكياس بانتظار فصل الصيف، فالأمور مرهونة بأوقاتها." عاد القرصان يجذب خادمه بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، ففصل الصيف لم يزل بعيدًا، يجذبه، ويضربه، ويلعنه، ويأمره بحمل الحقائب الأربع، للعودة من حيث جاءا، سيقضيان تسعة عشر عامًا آخر وتسعة شهور أخرى وتسعة أيام أخرى وتسع ساعات أخرى وتسع دقائق أخرى وتسع ثوان أخرى... "مهلاً، قلت للقرصان، وأنا لا أريد به خيرًا، ابقيا في المقبرة ضيوفًا على الأموات الحديديين حتى الصيف القادم، الصيف على الأبواب، وستأتيكما هذه الفتاة البيضاء بكل ما تحتاجون إليه، هذا وعد، أليس كذلك؟" أضفت، وأنا أتوجه بالكلام إلى الفتاة البيضاء التي رشقتني بنظرة فيها بعض الهلع، بينما عاد الخادم يقبّل يد سيده. وبعد تردد لم يدم طويلاً، طلبت منهما الفتاة البيضاء ما طلبتُ كمن تطلب الموت نائمة. أعادت "هذا وعد"، وهي تبحث قربي عن الاطمئنان. على الرغم من موقف الخادم الارتيابي، قلت "اترك مملوكك إذن وشأنه، الإنسانية توجعت الكثير مقابل لا شيء." بدت على وجه الرجل المعذب أمارات الشكر والعرفان، وانتظر من سيده أن يسمع لي، إلا أن رجل البحر رفع عن عينه السليمة العُصابة السوداء، وأخذ يفحص المكان دون أن يروقه ذلك. "بل سنذهب إلى فندق قريب من شاطئ السين، أي الفنادق أقرب إلى شاطئ السين؟" سأل. "كلها"، أكدت الفتاة البيضاء مع بعض الارتياح. أعاد القرصان العُصابة السوداء على عينه، ورفع سوطه إلى أقصاه يريد ضرب خادمه قبل أن يأمره بحمل الحقائب الأربع. أخذ الفتاة البيضاء خوف عظيم، فأمسكتُ بقبضته. "اضربه، قلت للمتجبر، ولكن لا تضربه أمام الفتاة." "فتاة قفاي!" "إذن سنتركك لتواجه ما تستحقه من مصير." "مصير قفاي!" "الغير المتروي من تصرف." "تصرف قفاي!" ما أن سمع الخادم قولي حتى استقام، واستطال، غدا أطول من سيده، وراح على سيده نباحًا، وبأسنانه هجم، وعضه من ذراعه، فدخل الاثنان في معركة ضارية لم نر نهايتها. كانت الفتاة البيضاء قد سحبتني من يدي هاربة، وطيور غريبة تنعق ليس بعيدًا، التفتت باتجاهها الفتاة البيضاء جاحظة العينين. حَمَلَتْ حجرين أو ثلاثة، ورشقتها بها، وهي تلهث من شدة الخوف، ثم عادت تسحبني من يدي، وذهبت بي بأسرع ما تستطيع عليه إلى قطار محطم يربض كجثة تمساح قرب شجرة جافة تكسرت كل أغصانها إلا من غصن واحد سميك في وسطها.
خرج من تحت القاطرة توأمان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع لم تخفف رؤيتهما مما لدى الفتاة البيضاء من وجل، فكأنهما تنين آدميّ. ما أن وقعا على النار البيضاء حتى سألاها بتعطش لا يُروى إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالنفي، وأنا لا أحس بالهدوء يرين عليها، فقالا لم تبق لهما سوى فرصة واحدة للانتحار شنقًا، أغصان الشجرة التي جرباها كلها لم يبق منها سوى غصن واحد لم ينكسر. بدا عليهما الحزن، وجمجما "نحن خطأ لا يمكن تقويمه!"، فطلبتُ منهما ألا يحزنا، لأن طريقة الانتحار شنقًا ليست الطريقة الوحيدة، وهي ليست بالطريقة المناسبة. أزجيت إلى ذهن مرافقتي كل صور الموت التجريدية، فبدا على وجهها الخوف أكثر من قبل، أخذت ترتعد، وترجوني ألا أدلهما على ما ليس بمقدورها احتماله. كانت من طبيعة رقيقة، تقبل بكل شيء مهول على ألا تضطر إلى مشاهدته. "على الأمور المتعلقة بالموت في مقبرة القطارات أن تمضي كما لو كانت في عالم المحطة دون غصب أو اغتصاب"، قالت الفتاة البيضاء، وهي تزم شفتيها. لم يفهم التوأمان المشوهان كلامها، قالا إن عليهما العودة إلى ما تحت قاطرة قطار ولى زمانه، وطلبا من الفتاة البيضاء الانتباه إلى نفسها، وعدم الخوف، والشجاعة اقتداء بهما. "للشجاعة قوة، وأنا لست القوة، تدخلتُ، لعدم الخوف الشجاعة، وأنا لست الشجاعة، للانتباه إلى النفس الحماية، وأنا لست الحماية." "صغارًا كلما أشعلت لنا أمنا المدفأة كانت توصينا ألا ننسى إطفاءها قبل أن ننام"، ارتعشت ساحرة السويد. "هذا لأن أمكم كان همها حمايتكم"، علقتُ. "وكلما تضاربنا مع أندادنا في الحارة، وذهبنا نشكو أمرنا إليها كانت تضربنا." "هذا لأنها كانت تريدكم أن تكونوا شجعاء." "وعندما كنا نتردد في قذف أجسادنا في ماء البحيرة أيام الشتاء كانت ترغمنا على ذلك." "هذا لأن القوة لها أقوى من كل شيء." "ثم ماتت أمنا... وكأنها ماتت منذ قرون! ليس باستطاعتي أن أكون كغيري ممن هم في محطة الشمال، وأكثر في مقبرة قطاراتها"، عادت ساحرة السويد إلى الارتعاش. "هذا لأنكم الحضارة القادمة، الخوف هو التعبير العميق عن إنسانيتها." "حضارة أم غير حضارة، إنسانية أم غير إنسانية، هذا ليس بصلنا"، قال المشوهان، وأراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك، بينما عاد نعيق الطيور الغريبة يصلنا من بعيد منيعًا على الزمن. ترامت الفتاة البيضاء في أحضاني، تريد أن تودعني خوفها، موتها، المجهول. نزلتُ بيديّ من ظهرها إلى رِدفيها، ورحتُ أرفع تنورتها، وأكشفهما لأذبح أصابعي عليهما. كانا من الطراوة والنداوة ما لم يكنه رِدفان في الوجود، وأنا كلما دعكتهما كلما ازدادا طراوة ونداوة، وكلما ازدادت رغبتي في ذبح أصابعي عليهما، ذبحي كلي، وإلقائي لقمة سائغة للمناقير الشرسة. أدرتها، وسقطتُ على رِدفيها بفمي، لأذبح عليهما شفتيّ. كانت قبلاتي الشلالات، ولساني السويد، ورأسي الأرض. لم تكفني الأرض، فجئت بالكون، وذبحت على رِدفيها النجوم. أحسستها تدوخ، فثنيتها لتستند بيديها على الأرض. كانت في وضع أكثر ما تعبده الآلهة، ولما لم أكن إلهًا، اكتفيت بعناقها منهما، وأنا ألعق خوفي وموتي ومجهولي الذي لا يخفى على أحد.
قطعنا، أنا وساحرة السويد، المقبرة من وسطها إلى عربة معلقة كالأرجوحة على أكف الريح، وبالفعل راحت تتأرجح مع هبوب بعض الرياح. خُيل إليّ أنها ستسقط أرضًا، والفتاة البيضاء من تحتها صاحت من الخوف، وهي تحمي رأسها بيديها، وعلى صيحتها خرج أحدهم من النافذة برأس أرمد الشعر ووجه متغضن، وسأل إذا كانت الصرخة صرخة أحد المشاهدين، منذ مدة طويلة لم يأت مشاهد واحد ليرى مسرحيته. عندما رآنا، غضب منا أشد الغضب، واتهم الفتاة البيضاء بتحريض المشاهدين عليه. "مشاهدوك في الماضي كانوا يأتون إلى مسرحك بدافع الفضول وليس حبًا بك أو إعجابًا بما تكتب"، أجابت الفتاة البيضاء. فقال الرجل ذو الشعر الأرمد والوجه الممتلئ بالغضون إن كل هذا ما يطمح إليه، أن يأتي المشاهدون بدافع الفضول، لأن كل شيء في الحياة يتوقف على هذا: الفضول، ولا بأس من الاحتقار بعد ذلك، ولا بأس من الاستهزاء بعد ذلك، ولا بأس من كلام المومسات بعد ذلك، لأن كل هذا جزء من سيادة العبث، العبث عندما يصبح حياة كل يوم، الطعام والشراب والهواء والشخاخ والخراء والنياك والفساتين القصيرة للممثلات. "لا ممثلات في مسرحياتك"، قالت الفتاة البيضاء. "أنت كل الممثلات بالنسبة إليّ، قال الرجل الأرمد الشعر والوجه المتغضن، ساقاك من تحت فساتينك القصيرة التراجيديا في فصلين، والكوميديا في فصلين، والقمر في فصلين." أشار إليّ، وسأل إذا ما كنت من المشاهدين أم الممثلين. "لا من هؤلاء ولا من أولئك، قلت مزهوًا بنفسي، أنا مسرحياتك القادمة، الشيطانية، الماخورية، المدقوقة بالنار، والتي ستخلدك إلى الأبد." "وما الفائدة؟ ألقى صاحب المسرح، الخلود، ما الفائدة؟ الخلود في حياتي لا الخلود في مماتي." ابتسم، وهو يدمدم أني أنا أيضًا مصنوع من فصلين، ولكن من فصلين غير موجودين، ومن زوبعتين، ومن زنزانتين، ومن كل حماقات الإنسانية، وغادر النافذة.
ابتسمت بدوري، كان كل واحد منا، أنا ورجل شعر الرماد ووجه الحُفَر، يفكر التفكير ذاته، وكأننا كنا سياميين في رأسينا. لم تكن مقبرة القطارات ذات قيمة مطلقة لولا مسرحه المتأرجح على أكف الريح، ولا الموت، ولا المواخير. عادت الفتاة البيضاء تسحبني من يدي بعيدًا عن الطيور الغريبة الناعقة، ولولا إحساسي بسحبها لي كحقيبة لَزُلْتُ من الوجود. فجأة، هاجمها طائر بعين واحدة، ومنقار منكسر، وجناح ممزق، فسقطتْ عليه بيديها وقدميها، وأخذت به ضربًا أشرس ضرب، وهي تصرخ بشجاعة لم أر أختًا لها. كانت تضرب بدافع الخوف، ولولا الخوف لما ضربت، إلى أن سحقته محولة إياه إلى جثة هامدة. بدا على وجهها الارتياح، وهي تداوم على الارتعاش، فجمعتها بين ذراعيّ إلى أن هدأت تمامًا. أشارت إلى بيت حقير بعد آخر قطار محطم، "هناك بيتي، قالت النار البيضاء، وهي تعجل السير، وهناك يعود اطمئناني لي." وبالفعل ما أن دخلنا حتى تبدلت سيماؤها، غدت طلقة المحيا، وخفت تحمل ابنًا رضيعًا كان بانتظار أن تلقمه ثديها، وهذا ما فعلته بسعادة كل أم. بعد أن أنامت طفلها، تعرت، وعرتني، وأنا لا أعترض. كانت مهنتها في محطة الشمال، لكني كنت أريد أن أعيش الحياة تمامًا كما تعيشها عن طريق الخطأ، كانت هذه فلسفتها التي تبنيتها في اللحظة التي وافقتُ فيها على اللحاق بها كحقيبة، ككلب، كماخور، وأنا لهذا عملت كل ما بوسعي كي أكفيها لذة. زلقتُ على جسدها أصلةً جائعةً من المناطق الحارة، ولففتها بعضلاتي، وأنا أربط عنقها بلساني، وأجعله في فمها، فامتلأ به حلقها، وتغلغل عميقًا في الأحشاء. نفضتها من أحشائها، وفجرت الجزر والأرخبيلات والمياه الجامدة. أحسستها جبلاً من الجليد ينهار في المحيط، فتتلاطم موجًا تحتي تريدني أن أفجر شمس السويد وقمرها ونجومها الدانية والقاصية. وأحسستني جملة من البشر الهائمين على وجوههم، فيغدو لساني ألسنةً تلعقها من كلِّ طرفٍ من جسدها، وأكثر ما تلعق ثديها وبطنها وفرجها. أدخلتني في غابات ستوكهولم البيضاء، ورحت أتجول برأسي في أكثر ما أبدع الزمان خلقًا، أتجول بصدري، أتدمر ببطني، وبفخذيّ، وبساقيّ، وبقدميّ. لَعَقَتْنِي بدورها، فَدَبَّتْ فيّ كل حرارة الموت الأبيض الهابة ريحه من أعماق صحارى سكاندينافيا، ريحٌ زادتني رغبة في قمعٍ على قمع، واستبدادٍ على استبداد، وتسلطٍ على تسلط. ولتنجو من هلاكٍ كانت تريده أكثر ما تريد، جعلتني أربض بين رِدْفيها، فرحتُ أشخر كآلاف العقارب، وأنا أدخل في العالم وأخرج، حتى زلزلت العالم وكل ما فيه. وهذه المرة، هي التي راحت تشخر، وتعوي، وتصهل. جعلتُها تشعر بمعانقتها للأبالسة، كنت قادرًا على اجتراح كل ما تعجز عنه مقابل أن أتدارك خوفها، لأن في الخوف كما أرى، من موقع الشياطين الذي لي، تدميرًا ليس فقط للذات في عدمها بل وللعالم في عدمه، وزوال مملكة الموت الخلاق. سمعتها تهمهم، وهي تغوص في خاصرتي، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بفرجها! قبلتني من كل مكان من جسدي مكافأة منها على دعارتي، ووعدتني ألا تخيب ظني في شيء، وأكثر من هذا أن تكون لي كلها كائنًا وكيانًا حيث سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فللمحطة عالم سفلي مليء بما لا تصدقه عين ولا يخطر ببال، بينا أنا لا أسأل عن الوالي، ولا أتساءل هل.
عدنا أدراجنا، أنا وبيضاء ستوكهولم، دون أن نقع على العربة المرفوعة على أكف الريح ولا على الشجرة ذات الغصن الأوحد ولا على القرصان ولا على خادم القرصان، حتى أن تلك الطيور الغريبة التي تنعق لم نقع عليها. اجتزنا مقبرة القطارات مع مفارقة في الشعور لدينا بعدم الموت، باستبداد الحياة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة ليستقبلنا الصخب في محطة الشمال، متعة الصخب، وضجيج الناس، متعة الضجيج، وحركة القطارات الذاهبة والآيبة، متعة الحركة. أسباب العيش. أسباب الراحة. أسباب الحضارة. حضارتنا. اللا إنسانية. على نطاق لم يسبق له مثيل. دفعتني الفتاة البيضاء إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تطلب: "أغمض عينيك أو افتحهما ترى ما تراه." "هذا ليس حُلمًا"، قلتُ. "لا"، قالت. "هذه ليست حقيقة." "لا." رأيت في الطابق الأول السفلي هذا ما هو عجيب، رأيت طيورًا إفريقية ملونة لها ما لنا من قامات، شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... تقف في طابور أمام المستودع على اليمين، وهي تحمل في أقفاصٍ أربابها من البشر، تودعها لدى مسئول مقابل وصل بعد أن تدفع. شيء مذهل. كانت البومة الصمعاء تتصرف كامرأة، وكذلك الببغاء، وأبو قُرَيْن كرجل. كل هذا غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل أولئك الناس في الأقفاص، وكلهم كانوا بيضًا من عندنا. "نحن في حُلم ليس حُلمًا وفي حقيقة ليست حقيقة"، علقتُ. "نحن على عتبة الحلم/الحقيقة الحقيقة/الحلم، أوضحت الفتاة البيضاء، الحلم/الحقيقة الحقيقة/الحلم عالم الغد الذي يبدأ اليوم سندخله عما قريب." أمسكتني من يدي، فقلت "يدك دافئة." "هذا لأنها يد أمك"، قالت الفتاة البيضاء. "ولكن ليس لي أم"، همهمتُ. "فلتكن هذه اليد البيضاء أمك إذن"، طلبتْ. "فلتكن هذه اليد البيضاء أمي السوداء إذن"، اقترحتُ. "هؤلاء كلهم سبّلوا ثروتهم للخير"، أضافت الفتاة البيضاء. "يا للخسارة، همهمت، لن يجدوا عندي ما يرضيهم." على اليسار، رأيت من وراء شبابيك الصرف الزبائن، ومن أمامها الصرافون، في ثياب براقة كثياب الكرنفالات. كان الوضع معهم معكوسًا كما كان مع الطيور خارج الأقفاص. عالم محطة الشمال السفلي عالم منقلب على رأسه، أريد القول عالم انقلبت فيه الأدوار، وتلاشت الفروق بين إنسانه وحيوانه، بين إنسانه وما فوق إنسانه، عالم تراجيدي، حُلمي، ولكن تراجيدي، فلا من مخرج هناك. واصلنا السير، أنا والفتاة البيضاء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جِمال أخذت أشكال الأرقام. أبديت للفتاة البيضاء دهشتي، "حتى الأرقام تبادلت الدور مع الحيوان في العالم السفلي لمحطة الشمال، ويا له من حيوان!" ابتسمت الفتاة البيضاء. "الغريب في عالم محطة الشمال السفلي لم يزل، قالت الفتاة البيضاء، والأمر لن يقف عند حد تبديل الأدوار، فلم تعد هناك أخطاء." "كل هذه المؤشرات تعني ذلك"، قلت. تأملتها عن مقربة، لم تكن خائفة من أن تمثل دورًا آخر غير دورها، فلا من خطر هناك. لهذا كان انسجامي مع غير ما هو منسجم. تقدمت الفتاة البيضاء من خزانة حديدية بقدم جريئة، وفتحتها بمفتاح ذهبي كان معلقًا حول عنقها على باب في داخلها اجتزناه، فإذا بنا في عالم كل شيء فيه ضديّ: الجِمال الرقمية تركب الرجال، والسيارات الرقمية تتراجع في سيرها، هذا ما ظننته في البداية، ثم تأكد لي عكس ما ظننت عندما رأيت سائقيها يقودونها من ظهرها. وكان هناك تراجيديون رقميون كالمهرجين يُضحكون، كانوا يُضحكون البالغين ممن هم هناك، ولا يؤثرون في الصغار أقل تأثير. وكانت في العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال كافة الألعاب الرقمية الخطرة كضرب النار مثلاً للصغار، واللا خطرة كالكُلات للكبار. طغى سحر الكلام لدي على سحر الأفعال، فاحتملتُ ما لا يُحتمل، وسَدَدْتُ على رفيقتي باب الكلام. سمعتُ ما أريد سماعه، وتركت لخيالي الجهنمي الحرية في تصدير الشر على هواه. أخذنا ننتقل، أنا والفتاة البيضاء، من مكان إلى مكان، وأنا أنتظر أن أرى أكثر مما رأيت، بعد أن أعلمتني الفتاة البيضاء أن هذا العالم عالم التعارض والتبدل يتبدل كل يوم كل ساعة كل دقيقة. آه! ما أجمل الشر. تفاجأنا بأقزام يصرعون مقابل لا شيء وببساطة لا تصدق عمالقة من رجال المافيا، قياس الخُلْفِ، وبنساء يدخلن إلى مكان وهن بأجمل الوجوه ليخرجن منها بأبشعها، خروج عن القياس. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة البيضاء، كون الراهبات يسعين إلى العودة بنا إلى التعارض الحضاري، إلى بداية البدايات في تطورنا الطبيعي، عندما رحن يطفئن النار والدين، وهن يعطين أنفسهن عند العناق من ظهورهن. كان يتم كل شيء في الظلام الدامس للمكان وللمعرفة، وأنا عندما حاوَلَتِ الراهبة الحبلى معي، مَنَعَتْها الفتاة البيضاء، وخلصتني من نزواتها، وتلك تردد: أنا الصلاة التي لن يقيمها كاهن، أنا الثوب الذي لن ترتديه امرأة دين، أنا السُّم الذي لن تجرعه مدام بوفاري مؤمنة!
أشارت الفتاة البيضاء إلى غيري من كبار رجال الأعمال والوزراء، "رجال الانحطاط ووزراء الظلام"، قالت الفتاة البيضاء بازدراء شقائق النعمان. كنت غير متفق معها ومتفقًا معهم تمامًا، الظمأ للسلطة كعاهرة يسعون بشتى السبل إلى امتلاكها، للمجد كقضيب في فم التاريخ، للجاه كقفا للبورصة. ولأول مرة فهمتُ لماذا يحكون عن النار والنور في الكتب السماوية، قبل انطفاء العالم، والسقوط في السديم. دخلنا في ميدان سباق الجِمال الرقمية، فحملتُ واحدًا، وحملتِ الفتاة البيضاء واحدًا، كنا في ثقب الحلم، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك منا. كانت هذه حضارة أخرى، لكنها لا تنتمي إلى العدم، إلى التخلف المطلق، ليس إلى العدم، إلى نوع من لعبة اللامعقول في عالم محطة الأقاقيا المتعارض، ليس إلى العدم. حضارة المستعمِر المنتج لاستعمار غيره له، فهذا هو الاستعمار الرقمي. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات التي تقاد من ظهورها دون أن يؤثر ذلك في التطور، وكانت تلك تجربة من أجل التوازن في التعارض وتبادل الأدوار. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة البيضاء من يدي، إن لم أرتكب خطأً، كما تسحب كلبها الجَرِبَ أجملَ كلب، وذهبت بي إلى مِصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهنود الحمر، قدمتهم الفتاة البيضاء لي. "هؤلاء هم الفلسطينيون"، قالت ساحرة السويد. "الفلسطينيون! أنت مخطئ يا الثلج الأبيض، قلت لمرافقتي، أما إذا كان الأمر كذلك، فلمفهومكم المتطور للأمة أنتم السويديون. الفلسطينيون هم أحذية ساندريلا منتصف النهار في الليل الميت، طناجر شوربة الفلاسفة المؤمنين في البحر الميت، أرانب ملوخية المستوطنين في الحلم الميت، تراجيدْيَاهُم عادت بنا إلى زمن داوود وجالوت، وتراجيديا الهنود الحمر راحت بنا إلى عصر اللوحات والجوّالات." كانوا يشربون الجعة أو يتعاطون المخدرات أو ينفخون الأعشاب، وكانوا يقيئون في المكان الذي يجيئهم القيء فيه، ويبولون على الجدران التي يكونون قربها، وأحيانًا على رؤوس المستلقين. كانوا هنودًا عن حق، أصليين. من السذاجة أن يقال عنهم فلسطينيين! ابتسمتُ لهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون ابتسام الشياطين، حاولتُ التكلم معهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون كلام أبناء المومس من العفاريت، لم يكونوا يعرفون سوى شرب الجعة وتعاطي المخدرات ونفخ الأعشاب وباقي الأشياء الحضارية، لم يكونوا ليروا أبعد من خط سكتهم الحديدية، خطٌ وهميّ، يمتد منذ الأزل، كالأزل. أشارت الفتاة البيضاء إلى وجوههم المصبوغة بألوان القتال، "إنهم في وضع من هو في حرب دائمة"، قالت الفتاة البيضاء. "ليخسروها دومًا، وإلا ما كانت المسرحيات الغنائية"، ألقيتُ. وضع غير معقول، ضد المعقول، ضد الموجود، ضد "ضد الضد"، كانوا جزءًا لا يتجزأ من العالم السفلي المتعارض لمحطة الأخطاء حتى الصباح الذي يحمد القوم فيه السُّرى. سحبتني البيضاء السكاندنافية من يدي كما تسحب فيلمًا لِبِرْغمان إلى المِصعد، وصعدت بي إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين. أذهلني وجودي غير المتوقع قرب البحر الميت من ناحية، وجزيرة العرب من ناحية. كانت تطفو على سطح البحر الميت جثث لا تعد ولا تحصى من البُواءات، وكان يخرج من جزيرة العرب الأنبياء، فينزعون عن البُواءات جلودها ليكتبوا عليها رسائلهم المقدسة. لم يكن للبواء شيء مقدس إلا في الهند، ونحن لم نكن في الهند، كنا في بحر الموت قرب كثبان الموت والموت أبدًا لم يكن شيئًا مقدسًا إلا في الهند. كانت تلك صفة للتعارض على صفة بين أشياء عالم محطة الشمال وحالاته المتراوحة بين إسفاف الأخلاق وإسفاف الأساليب. اختفت النار البيضاء وراء أحد الكثبان، وبعد عدة لحظات عادت، وهي ترتدي الساري الهندي، ساري بلون الرمان، وبين حاجبيها بقعة بلون الرمان، وبيدها حبة رمان فتحتها، وبدأت تأكل العقيق منها أكل من لا يخاف من شيء، وتطعمني، فلا أمثل دور النبي، وأتمنى ألا يمضي الوقت، وألا لا نتعلق خطأً بين نابيه السامّتين.



القسم الرابع

كانت المقبرة المكان الوحيد الذي ترتاح فيه الصغيرة أنيتا، كانت عالمها الثاني، وبين القبور كانت تتسلى، تقلم الجنبات، تسقي الزهور، وتنظف الشواهد، وأكثر ما كانت تُعنى بضريح من الرخام الأبيض عليه صليب كبير. كانت تقول بيتها، ومرارًا حاولت فتحه، واكتفت في الأخير بأن يكون دومًا مغلقًا على كل الأسرار التي تركتها فيه.
- عندما يفتقد المرء أنيتا يجدها في المقبرة، جاء صوت أنثوي من ورائها.
كانت صديقتها بريتا، بالأحرى صديقة أمها.
- أوه! بريتا، قالت الصغيرة أنيتا دون أن ترفع رأسها، إنه بيتي.
- أعرف أنه بيتك.
- وأنا أنظفه.
- أنا لا أجده وسخًا.
- وسخ أم غير وسخ، ماما تريدني أن أنظفه.
- ألا تجدين أن ماما تبالغ بعض الشيء؟
- عندما تقول ماما شيئًا، ماما تعرف ما تقول.
- وإذا قالت القمر سيتفجر؟
- أيضًا.
- ألا تخافين من أن يتفجر القمر؟
- أخاف.
- لن يتفجر.
- إنها ماما.
- بيتك ما أنظفه!
- ليس رأي ماما.
- ما أسعد النائم فيه.
- مَنْ هذا؟
- أوه! معذرة.
- في بيتي لا ينام أحد.
- أعرف.
- ماما تريده أن يكون الأنظف.
- هناك بيوتٌ الشِّشَمُ أنظفُ منها.
- وعدتُ ماما أن أنظفه كل يوم.
- هل تريدين أن أعاونك؟
- أحضري لي ماءً من النافورة هناك.
- أُحْضِرُ لكِ ماءً...
- من النافورة هناك.
حملت المرأة الدلو، وذهبت باتجاه النافورة.
- املأيه جيدًا، صاحت أنيتا، وهي منهمكة دومًا في تنظيف القبر الرخامي الأبيض.
عادت بريتا بالدلو الثقيل، وهي تسأل:
- أين ذهبت أمك؟
- لا أعرف، أجابت أنيتا، والدلو يسقط من بين يديها الصغيرتين، والماء يضيع سدى.
- كان من اللازم ألا أملأه جيدًا، ألقت صديقة الأم، سأعود إلى ملئه حتى منتصفه.
- شكرًا، يا بريتا، همهمت الصغيرة أنيتا.
ثم دون أن ترفع رأسها:
- ماما لا تغيب عن البيت طويلاً، ربما تكون قد عادت.
- سأعود إلى رؤيتها في المساء، قالت بريتا قرب النافورة، هذا الماء اللذيذ يشعرك بالظمأ.
عبّت بريتا الماء عبًا، وهي تتأوه، وهي تتنهد.
- إنه لذيذ بالفعل!
ثم وهي تضع الدلو بين اليدين الصغيرتين:
- أنت هذه المرة لن تسقطيه.
- أنا لن أسقطه.
- طيب، سأذهب. أشعر ببعض الجوع.
- أنا ببعض التعب.
- هكذا ستنامين جيدًا، وستحلمين أحلى الأحلام.
- أحلم بالقبور.
- هل هو قبرك المفضل؟
هزت الصغيرة أنيتا رأسها، وهي تواصل شطف الرخام، وتلميعه.
- قولي لأمك إنني سأعود إلى رؤيتها هذا المساء.

* * *

سارت الفتاة البيضاء في عالم الموت، وكل شيء حيّ من حولها: الشموس ليست شقراء والأقمار ليست خبازية، الأشجار ليست خضراء والأحجار ليست وردية، المناقير ليست صفراء والعناكب ليست فيروزية. لم يكن هناك انتظار، والكائن هناك يولد خالدًا، يبقى الكائن حيًا في عالم الموت، ولا حاجة به إلى التفكير في موته. راحت الفتاة البيضاء تفكر، والكل يسمع أفكارها: عندما أقدر على السير على الأمواج، كانت تفكر، وهي تنظر إلى الناحية الأخرى من البحر الميت، وكانت تشم رائحة الصوديوم والماغنيسيوم. لم تتأثر للرائحة النافذة، ولم تأبه بالطبيعة. لم تكن منها جسدًا ولا روحًا، لم تكن طبيعتها ولا جوهرها، كانت قدرتها. عندما أقدر على الطير فوق الأمواج. في عالم الموت لا نتساءل، وبالتالي لا نقلق، لا نخاف، في عالم الموت ننفذ، يجري التنفيذ بالتوافق مع قدراتنا، فالكائن لا يموت، الكائن دائم، والكينونة دائمة. الديمومة هوية للكينونة والكائن، الكائن هو الكينونة، والكينونة هي الكون. يوجد الكائن في عالم الموت ليكون. من يكون؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟ هذا لا يهم. كل هذا. ليقدر. ليفهم. ليعرف. عندما أقدر على التجول مع الأمواج.
سمعت الفتاة البيضاء قهقهة لم تحدد من أين تأتي، فصاح الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر:
- هنا، هنا!
كان يجلس بين أعرافٍ أوراقُها غامقة، ويرتدي قميصًا غامقًا.
- فوق، فوق!
رفعت الفتاة البيضاء رأسها.
- ماذا تفعل فوق؟ سألته دون أن تفتح فمها، في عالم الموت لا حاجة بنا إلى التكلم بأفواهنا.
- لأكون معك، أجاب الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه دون أن يفتح فمه.
- معي كائنًا فوق شجرة؟
- أكون معك أكون مع الموت.
- أنت تتكلم من بنات أفكارك لا كأمي. وأنا صغيرة، كانت أمي تتكلم من بنات الواقع، كل شيء كان واقعًا لها، حتى تفجير القمر، وكانت تطلب مني غسل أحد القبور، لأنه كان بيتي، حتى الموت كان جزءًا من الواقع.
- كلنا مع الموت معًا، أمك كانت تعرف هذا.
- كانت تعرف، وكانت كمن لم يكن ولن يكون، مثلنا كلنا.
تدحرج الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، وقفز، فإذا به يقف مقابل الفتاة البيضاء.
- هذه هي طريقتنا في أن نكون، في أن نخرأ، فالحياة خراء. ألم تقل لك أمك إن الحياة خراء؟ وخراء هي القدرة، القدرة الإرادة؟
- قالت لي، ولكن القدرة إرادة حقًا.
- الخراء! في عالم الموت الإرادة استعارية، الفعل استعاري، الحدث، لهذا لا حقيقة زائفة هناك، لا حقائق هناك، هناك حقيقة استعارية واحدة، حقيقة حقيقية لا يدركها الموتى في عالم الحياة، ويدركها الأحياء في عالم الموت، فلا خراء في عالم الموت.
- دعني أفكر! لو كانت أمي هنا لقالت الكائن المدرِك بالموت، وهي لهذا كانت تطلب مني تنظيف ذاك القبر ذي الرخام الأبيض. وتبعًا لخطابك، الكائن المدرِك بالخراء.
- على كل حال.
- بلى، بلى! بشكل ملموس كالقبور.
- بشكل غير ملموس كالخراء الافتراضي في عصرنا.
- لا أيام صيف لاهبة هنا كما كانت تريد أمي أن تكون أيام الصيف في السويد، وهي لهذا السبب كانت تعد لنا برنامجًا يوميًا يسعد الجميع، ولما يحل الصيف بعد، كانت واقعية حتى وهي تلقي بنفسها في مستقبل غير أكيد، "كانت ستكون".
- كمن يتلمس طريقه في الظلام.
- في الضياء. بحرية.
- في صحن الوجود، صحن اللاخراء، الموت في حالتنا، الحرية جوهر كل شيء. كما هي الحال لدى أمك يوم "كانت ستكون"، هذه الحال بالنسبة لي ستبقى ساندويتشات الخبيصة بالخيار والطماطم كل صباح، مع طاس كبير من الحليب بالعسل.
- ليست استعارةً الحريةُ على التأكيد، فلنا نحن السويديين ساندويتشات الخبيصة بالخيار والطماطم الحرية.
- ليست استعارةً الحريةُ، ساندويتشات الخبيصة بالخيار والطماطم، الفعل الحر، نخرأ في عالم الموت، نعم.
جذبها إلى صدره، وقبلها.
- آه! ما ألذ شفتيك، طعمهما كطعم البيرة.
- إنه الطعم ذاته على شفاهنا جميعًا على الرغم من أن ماما لم تكن تحب البيرة، وأنا مثلها، كنا نحب القرفة، مع الشاي، مع القهوة، مع الويسكي أحيانًا، وكثيرًا مع البول، الشمبانيا الخفيفة التي لنا.
فجأة، أخذت الفتاة البيضاء تلهث، وكذلك الرجل الحكيم. جس كل منهما بأصابعه ثغره، وعنقه، وثديه، وبطنه. على مقربة منهما، كان السياميان يمارسان الاستمناء، وكل كائنات عالم الموت تنال من اللذة قسطها. حالما انتهيا، راحا بالجذوع البرتقالية طعنًا، وكل كائنات عالم الموت تنال من الألم قسطها. وعند إهراق الدمين الأبيض والبرتقاليّ، في الحالين، يبقى عالم الموت على حاله: سليمًا.
- هذا لأن الكائن فعل والفعل استعارة، أناطت الفتاة البيضاء بشرط، فلا قبور هنا نغسلها، ولا أمهات تقول لنا أن نفعل ما تريد، هذا لا يمنع من الحلم بكوب كبير من بولنا، الشمبانيا الخفيفة.
- لو نظرنا لوجدنا، استنار الرجل الحكيم بعقله، البول الحقيقي.
- لن نعود إلى الوراء، حتى هذا الحلم الذي لا يكلف شيئًا كبيرًا شيء كبير.
- كلُّ شاةٍ مِن رِجلها تُناط.
- هل يجوع الموتى؟
- يود الموتى لو يأكلون دجاج الباسك مع مرقة هندية إلى جانب أرز مصري أحمر، ولكنهم لا يأكلون.
- هل يظمأ الموتى؟
- يود الموتى لو يشربون عصير رمان اليمن كل الفراديس فيه وكل ليالي شهرزاد اللانهائية، ولكنهم لا يشربون.
- هل يغفو الموتى؟
- يود الموتى لو يحلمون بساقي غريتا غاربو وثديي ماريلين مونرو وشفتي أنجيلينا جولي، ولكنهم لا يحلمون.
- هل يشقى الموتى؟
- يود الموتى لو يستلقون على بلاجات سان تروبيز المحجوزة للعراة وممارسة الاستمناء في ظلال النساء كما في ظلال الرجال، ولكنهم لا يتعبون.
- استعاري كل ما يشعرون.
- خرائي لاخرائي، أمنية لا يتلهف الكل إلى تحقيقها.
- حمى اغتراب لا تلفحنا كشمس صيف لن يأتي.
- تَوَلُّد.
- تَوَلُّد تلقائي. خرائي لاخرائي.
- تَوَلُّد، فقط تَوَلُّد، لا خوف ولا كَرْب ولا تساؤلات لا فائدة منها.
- ما بعد النفس. التوت الأبيض، العنب الأبيض، الأقاقيا البيضاء.
- ما قبل النفس. التوت الأسود، العنب الأسود، الأقاقيا السوداء.
- ما بعد المنطق. النحلة الحبلى، الوردة الحبلى، الفراشة الحبلى.
- ما قبل المنطق. النحلة الثدي، الوردة الفرج، الفراشة القضيب.
- وماذا عن لهيب الذكرى؟
- لا توجد ذكريات، فلا زمن هناك. تكون كائنات الماضي والماضي لا يكون. هل تريدين كوبًا من بولكم أم من بولنا؟
- تكون، تكون، رددت الفتاة البيضاء باحثة عما تخلقه من وسائل، بول أمي، بول أمي!
راحت ترقص دون دافع، وتدندن دون دافع، ثم ما لبثت أن راحت تخلع ثيابها دون دافع، وترتدي العراء دون دافع، لما يكون دون الدافع كائن الكينونة. على عكس الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، الدافع لديه هو الدافع: يبكي لأنه يريد أن يبكي ويضحك لأنه يريد أن يضحك، يهلوس لأنه يريد أن يهلوس ويصرخ لأنه يريد أن يصرخ. تطارد الكينونة الكائن في دوافعه حتى تهلكه.
- ما بكَ؟ سارعت إلى سؤاله، وهي تضغط نفسها في أحضانه. أنا قبرك، فما الذي جرى لك؟
- نحن الموتى تهلكنا الدوافع، برر، وهو يضغط نفسه في أحضانها، ويهمهم: يا قبري! يا قبري!
- تقول موتى ونحن أحياء في عالم الموت؟ أحياء! صلبان تتكلم، تعانق، تقيء، تخرأ، صلبان غالية على قلوبنا على الرغم من كل شيء، وصلوات صادقة؟
- استعاري ما أقول، كل ما نقول استعارة لاستعارة أو استعارة عن استعارة. هل تريدين كوبًا من بولنا أم من بولكم؟
- لولا جهلي بالاستعارات لقلت كل ما نخرأ، كل ما نبول، أريد واحد جعة ممزوجة من بولنا وبولكم... الحقيقيين. كل ما نبول، كل ما نخرأ، يا دين الرب!
- نخرأ، إحدى مُلْهَمات الشاعر.
ابتسمت الفتاة البيضاء.
- تبتسمين، فتبتسم المدن.
ضَحِكَتْ.
- تضحكين، فتضحك القارات.
قَهْقَهَتْ.
- تقهقهين، فتقهقه الكوكبات.
وصلهما صوت غاضب تبعته ضربات سوط:
- تقدم، أيها الكلب! لا تتظاهر بالعياء! لا تلوث البيئة الطبيعية بدموعك! لا تلمع ببريق الغباء! لولاك لما كنت سعيدًا!
ظهر القرصان، وهو يجر بحبل خادمه، وهذا يحمل على ظهره حقائب عديدة، ثقيلة. ما أن وقعت عيناه على الفتاة البيضاء والرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر حتى قال لهما، وخادمه يتهاوى على الأرض:
- مخرت عُباب كل بحار العالم، فلم أجد أحيا من البحر الميت، ولا أبيض من البحر الميت، ولا أحلى من البحر الميت. لو تُرك لي الخيار بين البحر الحيّ والبحر الميت، لاخترت البحر الميت.
- كل شيء ميت في البحر الميت، قذف الخادم، وانفجر ضاحكًا.
- اخرس، أيها الكلب! قرع القرصان الخادم بسوطه ولسانه. هذا الكائن الملقى على هامش عالم الموت كقمامة ها هو يتلفظ بحماقات أجمل ما يستطيع عقله عليه.
- كل شيء حيّ في البحر الحيّ، عاد الخادم يقذف، وانفجر ضاحكًا.
- ألم أقل لكما ما أجملها من حماقات يستطيع عليها عقل.
- كل شيء ميت في البحر الحيّ.
- اخرس، فلتخرس، أيها الكلب!
- كل شيء حيّ في البحر الميت.
- نعم، كل شيء حيّ في البحر الميت. ليست كل الحماقات في دماغه دميمة.
- كل شيء...
- اخرس، أيها الكلب! ليت أنك لم تكن!
أمره بالعُواء، فعوى. أكثر، فعوى أكثر. أكثر، أكثر، فعوى أكثر وأكثر. أكثر، أكثر، أكثر، فعوى أكثر وأكثر وأكثر. حضر السياميان، وراحا يتبادلان مع الخادم العُواء، وحضر عدد من الكلاب، وَضَرَبَ عُواءٌ فظيعٌ الآفاق. أخرس القرصان الأفواه بسوطه، وعندما حط صمت القبور ما بينهم، تنهد، وأفضى بمكنونات فكره:
- كلب وقط كانا لي، كلما غبتُ انتظراني، على أحر من الجمر، كل يوم، ويومًا بعد يوم، فرحلاتي طويلة، أنا القرصان، أطولها الرحلات التي كنت أقوم بها في بحار الخراء. كانا ينتظرانني دون كلل، كان الانتظار يُقرأ في عيني الحيوانين، غدا الحيوانان الانتظار. إلى ما لا نهاية له. هنا لا الحيوان ينتظر ولا الإنسان. ارتاح الجميع، إلى الأبد، في عالم الأبد.
عاد خادمه والأخوان السياميان يعوون، فأخرسهم بسوطه.
- عندما لم يعد هناك انتظار العُواء أسهل المهن، جمجم القرصان كمن يُلقي بشيء لا يؤبه به.
- وإلى أين أنت ذاهب هكذا؟ سألت الفتاة البيضاء.
- إلى الطرف الآخر من البحر الميت.
أنحى الرجل الحكيم عليه باللوائم:
- هل تقدر على السير على الأمواج؟
- للتغلب على القوى الطبيعية؟
- هل تقدر على الطير فوق الأمواج؟
- للتغلب على القدر؟
- هل تقدر على التجول مع الأمواج.
- للتغلب على الأهواء؟
- أغلب الظن أنك مغلوب على أمرك.
- ما عاقَ عندي ولا لاقَ.
- لم تصل الحداثة بعد إلينا.
- ما أشبه الليلة بالبارحة.
- كيف ستفعل؟ سألت الفتاة البيضاء، وهي تستهدي عقلها.
- سأركب ظهر هذه السمكة المزدوجة في نصفها الأعلى، هذا ما سأفعل.
عوى السياميان فرحًا، وعبس الخادم ترحًا.
- ما من فرحة إلا وبعدها ترحة، قهقه لص البحر.
- أي جحيم جحيمه هذا الذي تعويان فرحًا لاستعباده لكما استعباد أباطرة الشر لأحذيتهم من إنسان وحيوان، حَذّرَ الخادمُ المِسْخَيْن، إلا إذا كنتما من هواة الجَلد في أي زمان وفي أي مكان، وشعاركما "لا بد مع الخراء من إبر النحل"!
- لا تستمعان إليه، نبر القرصان، وهو يسوط خادمه بأقصى عنف، إنه لذو مآبر في الناس.
لما فجأة انطلق صهيل، وبرز حصان أبيض جاء يعدو، ووقف هاشًا باشًا بين يدي القرصان. داعبه بيده، والحصان يشب طربًا.
- هذا الحصان كان لي قبل أن أغدو قرصانًا، أوضح لص البحار، عرفته بعد أن عرفني، وعرفني قبل أن أعرفه. لما مات بدلت رأيي، بدل أن أكون قاطع طريق غدوت قاطع بحر.
- اتركه لنا، طلب الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر دون أن يهتدي إلى شيء، أنا وهذه الفتاة لا نحب البحار، ولا نقدر على قهرها.
- سآخذه معي، سأُرْكِبُهُ على ظهر السمكة المزدوجة، وسيكون لي ذا كبير عون على الضفة الأخرى، فهذا البحر هو آخر بحر.
بلبل أفكارَ الخادمِ كلامُ سيده، فذهب إلى زاوية، وانفجر بالبكاء.
- أيها الكلب، تعال! أمر القرصان.
جاء الخادم، فساطه، والخادم يلعق نعله.
- ضع الحقائب على ظهر هذه السمكة الطيبة، عاد القرصان يأمر، والحصان، وأنت، واجعل لي مكانًا أنام فيه طوال الرحلة، فما أبطأ ما يمضي الوقت في هذا العالم!
على سماعها لهذه الكلمات، أخذت الفتاة البيضاء تعطس. أَعْدَتِ الجميع، فراحوا كلهم يعطسون، تمامًا كما كان عهدهم في عالم الأحياء، وإحساس ما ورائي بالقلق يتولّد لديهم من التفكير في الخراء والملح، وكأنهم غادروا بالفعل عالم الأموات. داوم القرصان وصحبه على العطس، وهم يبحرون، تسع عشرة عطسة، سريعة في البداية، وبطيئة في النهاية، والفتاة البيضاء تلوح لهم بيدها إلى أن تواروا عن نظرها.
- ها هم يتوارون عن النظر، قالت ابنة العدم الأبيض تحت تأثير الأمر غير المطلق.
- لن نقدر على تعقّب آثارهم، قال ابن الوجود المتغضن الأرمد تحت تأثير الأمر المطلق.
- على أي حال، أَفْضَل هكذا.
- سيظل هذا العالم الذي ارتبطوا به واسطتهم إلى أنفسهم وهم خارجه.
- ونحن الذين في داخله؟
- واسطتنا إليه.
- هل سنتوقف يومًا؟
- سنتوقف.
- متى؟
- متى نموت.
- نحن في عالم الموت.
- متى نعتاد.
- ألم تعتد؟
- لم أعتد على الملح، ودروب الحرية ملح، فلم أزل من مواطني بلدان الأحياء من هذه الناحية.
- خُذِ الأمرَ بقوابلِهِ.
- الملح؟ بقوابلِهِ؟
- قليله سكر.
- قليله ككثيره ملح.
- العدم ملح.
- مرعب أن يكون العدم ملحًا.
- خلال الليل، أشعر بأني أعانق الملح، فأفكر في البتراء.
- كم من مرة اغتُصبتِ في حياتك؟
- كثيرًا.
- هل هم المخبرون السِّرِّيُّون؟
- هم وغيرهم.
- لهذا.
- البتراء ليست ماخورًا، يا دين الرب!
- إذن لماذا لا تشعرين خلال الليل بأنك تعانقين السكر؟
- سكر في عالم البحر الميت؟ قل الفوسفات، البوتاس، المغنيسيوم، الصوديوم...
- قضيب نهر الأردن.
- ذات مرة، عملنا بيكنيك. كنت صغيرة. شوينا اللحم، ودخنا النارجيلة. ليس أنا. زلقت قدمي، فصعدت الموجة إلى فرجي. الماء. الملح. كانت الشمس قوية. بعد أقل من ساعة أخذت أصرخ، أصرخ، فحار في أمره كل من كان معي، إلى أن سالت قطرات وردية مني. فقدتُ عذريتي. كانت تماثيل الملح.
انبثق سرب سمك أبيض من الأمواج الميتة، سمك مربع كالهريرات، أسنانه مربعة كزعانفه، أذياله مربعة كرؤوسه. وهو يلقي بنفسه على الشاطئ، ظنت الفتاة البيضاء أنه يريد الانتحار، لكنه راح يبحث في الرمل عن الحصى، ويأكله. وهو يعاني فظيع الآلام، رأت الفتاة البيضاء الموت وهو يعاني الموت، فالموت في البحر الميت حياة، وقالت لا مهرب منه، لكنها لم تشأ الهرب من مسؤولياتها. سأساعِدُكَ، سأرأفُ بكَ، سأحميكَ من نفسِكَ، قالت الفتاة البيضاء للسمك، دون أن تفعل شيئًا. هَرَفَتْ بكلمات لا طائل من ورائها، كالبرتقال الفضيّ، كالفضة البرتقالية، كالبرتقال البرتقاليّ، كالفضة الفضية، كالبرتقاليّ البرتقاليّ، كالفضيّ الفضيّ. كلمات، فقط كلمات، ككلمات الدجال من الأنبياء. لم تكن لها وللسمك هوية واحدة وكان لها وللسمك لون واحد. اللون ليس الهوية ولا الخراء. تفاقم قضم الحصى، وبدا للفتاة البيضاء أن قمم جبال الملح تنهار. تماسكت، وقالت لنفسها: البغلُ الهَرِمُ لا يُفْزِعُهُ صوتُ الجُلْجُل. انهارت قمم جبال الملح بالفعل، فكان رد فعلها الطبيعي، ألا تنهار الطبيعة، ألا ينهار الكون. فرشت بطنها للسمك المربع، وفي رأسها اهتز القبر من التصفيق. التهم السمك الأبيض سُرَّتَها، وغاص في بحر بطنها. لم تكن في بحر بطنها تماثيل الملح، كان كل ما فيه ينطق بلسان الخراء الذي تفجر، وأغرق الكتب، بإرادةِ من هَزِقَ بالضحك. حاوَلَتِ النومَ، وككل ليلة لم تستطع. كان السهاد، لا شيء غير عقرب موت تفتح عينيها على الأحياء. لم تكن تفكر في امرأة حبلى بالأوهام كانتها ما بينهم. لم تكن تفكر في رجل يرفع قضيبه لها مهددًا. تساقطت النجوم سوداء، والأقمار سوداء، والثلوج سوداء. كانت بيضاء، والأسود لون سهادها. الاكتئاب لا لون له، له طعم الملح وكرز الهُنَاك. تناولت كمشة من الحبوب مع كوب ماء دون فائدة. ما العمل لأجل إغراء شيطان النوم؟ كشفت له فخذيها، بطنها، ثدييها. خلعت قميص نومها، ومدت له ذراعيها. رجته أن يأتيها، جذبته إليها، جعلته فوقها، أحسته فيها، فتأوهت، وقطعت الموج والزجاج، أدمت أصابعها، أدمت روحها، نهقت، لعنت العالم. المغرور.

* * *

انتثرت النجوم هنا وهناك في مقبرة بير لاشيز، كانت عيون النائمين فيها المتلألئة بفرح العدم. وعلى العكس، كانت أنيتا تبكي، وتذرف الدمع السخين. لم تكن تدري بمن تلوذ، كانوا يفتحون قبر الفتاة ذات العشرين عامًا التي دُفنت هذا الصباح ليخرجوها، فاقترب من أنيتا حارس المقبرة، وأخذ يعمل على استرضائها.
- كل ما في الأمر أننا نُكريها، يا آنسة أنيتا، وعند الفجر سنُعيدها إلى أذرع الملائكة كما هي عادتنا مع غيرها، فكفكفي دموعك.
لم تكفكف أنيتا دموعها، بل انفجرت على صدر حارس المقبرة باكية أضعافًا مضاعفة، وهذا يهدهدها:
- طيب، يا آنسة أنيتا! طيب، يا آنسة أنيتا!
وضع الرجلان جثة الفتاة في سيارة لاند روفر بيضاء، وصاح أحدهما قبل أن يجلس وراء المِقْوَد:
- كل شيء تمام!
- هيا، يا آنسة أنيتا! طلب حارس المقبرة برفق.
دفعها بنعومة، وهي تضغط الصليب الكبير على صدرها، وأجلسها إلى جانب الجثة.
- كما قلتُ لكِ، عند الفجر سنُعيدها إلى أذرع الملائكة.
غادرت اللاند روفر البيضاء المقبرة الشهيرة شاقة شوارع باريس المشعة بالأنوار المرتدية للأحلام إلى مكان منعزل في أحد الأزقة الشعبية. لم يكن هناك أحد، لم يكن هناك شيء آخر غير النجوم. حمل الرجلان الجثة، ودخلا من الكراج إلى صالون تجميل. مدداها على حمالة، وتركاها مع أنيتا. بعد تردد، كشفت ساحرة السويد وجه الميتة، كالقمر كان وجهها. وهي على وشك البكاء من جديد، حضرت امرأة في كامل أناقتها.
- كالعادة كما أفترض، قالت المرأة بصوت مفعم بالحياة.
- كالعادة، ردت أنيتا بصوت مثقل.
كشفت المرأة كل الجسد الرائع، ودفعت الحمالة إلى الحمام، وراحت تغسل الفتاة الميتة، ولما انتهت، نشفتها، وجففت شعرها، وعطرتها، وعادت بها. بعد ساعة من الزمن، كان الجثمان في كامل زينته. فتحت المزيّنة يدها، فوضعت أنيتا فيها رزمة من النقود.
- إنها لكِ الآن، ألقت المرأة ببشاشة قبل أن تذهب.
تقدمت أنيتا من ساحرة الموت، وتأملت وجهها الفتان مليًا، ولم تقدر على عدم الابتسام، وعدم الرغبة في طبع قبلة صغيرة على ثغرها.
عادوا يشقون شوارع باريس، والأنوار تنعكس على وعن الموت الجميل في ثوبه الشفاف. بدت الفتاة الميتة تبتسم لباريس، وباريس تبتسم لها. كم رائع هو الموت، همهمت أنيتا لنفسها. كان كل أحلام الأحياء.
من الباب الخلفي لعمارة في شارع الأنفاليد، باب الخدم، دخل الرجلان بحملهما إلى المِصعد، وأنيتا لا تتوقف عن طلب الانتباه إلى مليكة السماء. وَضَعَهُم المِصعد في الطابق السادس، وكان عليهم أخذ الدرج إلى الطابق السابع. غضبت أنيتا، لأن رأس الفتاة الميتة ضرب في الجدار، وفي الدرابزين، فلمسته بحنان لتزيل وجعه. دخلوا شقة من باب منفرج، واتجهوا إلى حجرة نوم مددوا في السرير ساحرة الموت. خلعوا ثوبها الشفاف، وجعلوها عارية تحت غطاء. اطمأنت أنيتا إلى أن كل شيء على ما يرام، فصرفت الرجلين، وقطعت ممرًا طويلاً في آخره باب فتحته على حفلةِ استقبالٍ المدعوونَ إليها في كامل صخبهم.
- كل شيء على ما يرام، يا سيدي، همست أنيتا في أذن صاحب الحفلة.
- أشكرك، همهم الرجل الثري، خذي قدح شمبانيا.
- أفضّل الذهاب.
لكنه تناول قدح شمبانيا عن صينية، وقدمه لها.
- أفضّل الذهاب، وسأعود على الخامسة صباحًا.
- سأحتفظ بك هذه المرة.
- ولكن، يا سيدي...
وضع قدح الشمبانيا في يدها، وهو يبتسم بندى، فلم تصمد طويلاً.
- لماذا؟
- ستعرفين فيما بعد.
- فهمتُ، ستفعل هذا أمامي. أنت مريض بالفعل، يا سيدي!
- لدي الكثير من النقود، لهذا. غريب؟
- أغرب الأغرب!
- كما تقولين.
- لنبدأ إذن.
- ليس قبل أن تجرعي كمية من أقداح الشمبانيا.
- اطمئن، إنها جميلة كالقمر! الناظر إليها لا يشك أبدًا في كونها ميتة.
- ليس لأجل أن تحتملي ذلك.
- لأجل ماذا؟
أعطاها ظهره، وذهب إلى مجموعة أنيقة من الرجال، وراح يهمس في آذانهم. جرعت أنيتا قدح الشمبانيا الأول، فالثاني، فالثالث، وتناولت الرابع، وزحفت حتى البوفيه. أكلت من الطعام أنعمه، ابتسمت لهذا، وهزت رأسها لتلك.
- اتبعيني! أمر صاحب الحفلة في أذنها، فتبعته.
سحب الرجلُ الغطاءَ عن الجسدِ الميتِ، وقال مسحورًا:
- حقًا! إنها جميلة كالقمر.
خلع ثيابه، وراح بجسد الفتاة الميتة قُبُلاً تحت عيني أنيتا الذائبة اشتهاءً. مد يده إليها، فجاءت، وهي تخلع ثيابها خلع الممسوس من طرف الشيطان. التقط الشفتين الميتتين بثغره، وأدخل أصابعه في ثغر أنيتا. راح يمص اللسان الميت، وأنيتا تمصه من جذره، وراح يعض الثدي الميت، وأنيتا تعضه من ثديه، وراح يلعق الفرج الميت، وأنيتا تترك يده تضيع في فرجها، يده الشرسة، البربرية، اللارحيمة، فتصرخ كل ستوكهولم صراخ الملعونين، وتنهار على الجسد الميت آخذة إياه في حضنها بدافع الغيرة والرغبة، وكأن الفتاة الميتة عادت إلى الحياة، وأخذت تلعق هي الأخرى، وتعض، وتهرق دم القُبَل. قَلَبَهَا الرجل على بطنها، واخترقها من ظهرها، فأخذت تشخر وتعوي وتصهل بفم أنيتا. أخرجته منها، والتقمت عضوه المنتصب كمسلّة بفمها، وهي تترنح على حافة الهاوية، وكل جوهره يكاد يتفجر على لسانها، لكنه اندفع في الفم الميت، وقذف المحيطات. بلعت أنيتا بعض الأمواج، واكتفت مؤقتًا بما حصلت عليه.
- هل أعجبكِ؟
- أعجبني.
- إنها تجربة فريدة في التاريخ!
- أعرف. لهذا.
- لهذا ماذا؟
- لهذا.
- لماذا تبتسمين؟
- هكذا.
- هكذا لماذا؟
- هكذا.
- قولي لي.
- لأذهب بك إلى كل المقابر.
- إلى طنجة.
- هل للمقابر في طنجة صفة خاصة؟
- لا.
- لماذا طنجة؟
- لا أعرف.
- هل تعرف طنجة؟
- لا.
- ولا أنا.
- أعرف ستوكهولم.
- مقبرة كبيرة ستوكهولم. بيضاء.
- كالموت.
- كالموت.
- كالحلوى بالقرفة.
- كالحلوى بالقرفة.
- ك...
- ماذا؟
- ...
- ماما...
- ماذا؟
- لا شيء.
- قولي لي.
- كان هناك قبر، قبري المفضل، وكانت ماما...
- وكانت ماما؟
- لماذا أقول لك هذا؟
وهما يدخنان سيجارة، إذا بالباب ينفتح، وبالمجموعة الأنيقة من الرجال تدخل، وهي تحمل فروجها. تركهم صاحب الحفلة بصحبة الفتاتين المُطْلَقَتَيِ السلطة، ومارسوا بدورهم الجنس بِدونِ استعداء ودونِ أيةِ أغراضٍ عدائية.
القسم الخامس

في محطة الشمال، كانت السماء تقوم ولا تقعد على غير عادتها في عالم افتراضي، فالحاجةُ تشحذُ القريحة كما يقال، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ على أكف الغيم، والركاب يقومون بأفعال خيالية، كما لو كانوا من عُصبة الشياطين. للنزول إلى الرصيف، كانوا يجعلون من النجوم سلالم لهم، وللصعود إلى الغيم، من أجل أخذ هذا القطار أو ذاك، كانوا يركبون على ظهور الجياد الرقمية المجنحة. لم يكونوا على عجل دائم من أمرهم، ولم يكن سحبهم لحقائبهم أو حملهم لها يشكل عبئًا كبيرًا. كان كل شيء يتم كما يريدون، وكما يرغبون، كما يعالجون ألواحهم. لم يعد هناك من ينتظرهم عند الوصول، مثلي تمامًا، ولا من يأتي لوداعهم، كان كل منهم المنتظر لذاته المودع لذاته، هذا لا يعني أن الوداع كالاستقبال لن يكون في مكان آخر غير محطة الشمال، مكان آخر لم يعد مهمًا جدًا أين يكون، طالما أنه سيكون رقميًا، وسيكون دون أدنى شك، فهي حضارة المستعمِر المنتجِ لاستعمارِ نفسه. لهذا لم أكن وحدي المبتسم بفم الشيطان في محطة الشمال، حتى الابتسام لم يعد له ما يبرره بعد أن حلت الإرادة الرقمية محل إرادة البشر، وانتهت كل الصعوبات، أسبابها خاصة، المنكّدة. ابتسمتُ على مرأى امرأة غير متكلفة التصرف في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ليس بسبب عسر وهمي أو خيالي، كان ابتسامي بسبب نقلها لأشيائها وحقائبها على ظهر جمل رقمي، ودون أن تطلب عونًا من أحد، حتى سيارتها. "لا تشكرني، رجاء، خاطبت المرأة الجمل الرقمي، عليّ أنا أن أشكرك، لكنك لا تنتظر حتى هذا. تسألني إذا ما كنتُ اليوم أكثر سعادة؟ في الماضي لم أكن أبدًا سعيدة، وفي الحاضر لم يعد هذا مهمًا، أن أكون سعيدة." كانت لكل شيء لكل شخص إرادة رقمية في محطة الشمال، فها هو عازف الغيتار، هذا الشُّحْرور الناريّ، يتسلق طرفًا من قمر أحمر، يعزف، ويغني، صوته الملائكي يشنف الآذان، والناس في محطة الشمال تسمع، لكنه لم يكن هناك لتسمع الناس، لم يكن هناك إلا ليعزف، ويغني، كانت تلك غاية غاياته، ألا يكون هناك إلا ليعزف، ويغني. لم يكن يريد مالاً من أحد، ولم يكن أحد يفكر في إعطائه بعض المال، كان في محطة الشمال فقط ليعزف، ويغني. كان يكتفي بالعزف والغناء، ولا بأس ألا يسمع أحد، كان يكتفي بابتسامة جواد رقمي مجنح، أو عندليب رقمي يشاركه في الترنيم، أو طاووس رقمي يفرش ذيله طربًا. كان كل شيء في محطة الشمال يكون بأمر بشر رقمي، بإرادة بشر رقمية، إرادة بشر جماعية، إرادة بشر دون إرادة، لأنها تكنولوجية، كلية، دائمة. لم يعد للخوف من الموت وجود، وبالتالي لم يعد للأديان لزوم. الخوف من الموت أدى إلى هستيريا جماعية: الأديان. ولنزوات ليست مشبعة، اخترعوا الشيطان كنزوة شرجية والله كنزوة قضيبية. عذبوا أنفسهم، ولم يعذبهم وخز ضميرهم. وجدتني أسير على شكل ثقب إلى جانب أم تمسك بيدها طفلة لم تتجاوز العامين أشبه بالملاك الرقمي المتحرر من كل تاج حديديّ، وفي لحظة من اللحظات، أفلتت الصغيرة من أمها، وأخذت تركض كفراشة رقمية، والأم تبتسم لها غير قلقة عليها، لكن أحد الجِمال الرقمية كاد يسحقها لولا حملي إياها، وإعادتها إلى أمها التي شكرتني، وابتسمت لي، وتركت البُنَيَّة تذهب إلى أين يحلو لها الذهاب، فلم يعد هناك أيُّ خطر وهمي، هو في الحقيقة ليس بالخطر الأرضي. لم أفارق الأم والابنة بناظري، كانت الأم جميلة، ولم يكن ذلك لأنها كانت جميلة، بين البشر الرقميين الجَمال ميتافيزيقي، كان ذلك لأنها كانت أُمًا فيلية في طبعها لا في طبيعتها. الفيليات شيء غال، والنرجس في ماء الماوراء، والحب الذي يمكن أن يتحول إلى كره العقارب لسمها، وساعتئذ يكون الصراع، ويتحول البشر الرقميين إلى بشر من عندنا، يدمرون أنفسهم، ولو يلزم يدمرون أنفسهم، ويدمرون غيرهم، يدمرون العالم لو يلزم. هذا ما شدني إلى رجل وامرأة يبدو على وجهيهما يأس العقول الالكترونية، ومن يقل يأس العقول الالكترونية يقل جبروتهم، وما يتبع ذلك من بطش للأقدار الرقمية، التي لن يصمد أمامها ضعاف النفوس. كان كل من الرجل والمرأة يسحب حقيبتين ضخمتين دون أن يكون ذلك بذي بال، كل ما كان يرمي إليه الواحد كالآخر عقاب المجرم باسم الجماعة، كان يبدو على وجهيهما أنهما يحبان بعضهما البعض حبًا عظيمًا إلى حد العقاب، لذنبٍ ارتكبه الواحد أو الآخر أو الاثنان، ذنب لا يستحق المغفرة. لم تكن الخيانة، فالخيانة شيء عادي في العالم الرقمي. كان كل واحد يمر بهما من ركاب محطة الشمال يعرف ما أعرف، ويعرف أيضًا أن شيئًا رهيبًا سيقع بين لحظة وأخرى. لم تكن هناك فائدة من التدخل، كان كل شيء قد تم قبل أن يتم، مبرمجًا، وكان من الأجدى تأجيل ذلك ولو القليل، ريثما يجد العاشقان نفسيهما بعيدين عن أنظار باقي البشر الرقميين، فللرقميين، الشياطين البشر أم الشياطين الشياطين، حياتهم الخاصة وحسهم الباطنيّ. لكن شيئًا من هذا لم يحصل بعد أن حُددت النهاية التي تنتظرهما التي ينتظرانها قبل هذا الوقت بكثير. فجأة، سقطت الحجارة الرقمية في اللوحة من بين أصابع لاعبين، أسود وأبيض، كانا يتسليان مع ملوك الشطرنج هناك على مقربة، فرمت المرأة حقيبتيها أرضًا، وغدت لهبًا رقميًا أحرق رجلها في عدة ثوان. تم كل شيء في عدة ثوان، دون أن يكون لنا الوقت الكافي لتأمل المشهد، ولو لم تفعل هي لفعل هو، ولكانت نهايتها. هذه هي الإرادة الرقمية، الرقميون البشر أم الرقميون الرقميون، عزمها، وإصرارها على الوجود الرقمي، استحقاقها لتبوء العرش الرقمي. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بكل أنفة وعظمة، ومجموعة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تنحني لها إجلالاً. امتطت جوادًا رقميًا مجنحًا، وصعدت إلى حيث كانت، إلى القطار الذي جاء بها قرب راهبة حبلى على أكف الغيم الرقمي. "راهبة وحبلى"، قالت المرأة دَهِشَةً. "الملائكة تحبل أيضًا والشياطين في العالم الرقمي، قالت الراهبة الحبلى قبل أن تضيف، إذا ما شاء الرب." ضحكت المرأة، "يشاء أو لا يشاء، في عالم رقمي، كل شيء جائز، الرقمي هو الله." "قصدي كان هذا، على عهد مريم كان الروح القدس، واليوم الروح الرقم." "روح رقم! أي روح؟ كل واحد رهين بأعماله." "زوجي هناك بانتظاري، تذرعت الراهبة الحبلى للهرب من حوار تعرف جيدًا إلى أين سيؤدي، وهي تشير إلى أحد القساوسة، فاعذريني"، وذهبت ليأخذها القس بين ذراعيه بحرارة، ويطبع قبلة طويلة على ثغرها.
أول ما غادرت نجيمة السينما السلم الرقمي للنجوم، إذا بعشرات الكاميرات تقصفها بفلاشاتها وعشرات الصحفيين والصحفيات بأسئلتهم: "احكي لنا قصة تعاقدك مع شركة غومون؟ لماذا أعجبك السيناريو؟ لماذا تم اختيارك بين عشرات الممثلات المعروفات؟ لماذا كل هذا الاهتمام المفاجئ بك؟ متى سيبدأ الكاستنغ لأجل الأدوار الأخرى؟ متى ستبدأ البروفات؟ متى سيبدأ التصوير؟ من سيمثل الدور الرجالي الأول إلى جانبك؟ من سيمثل الدور الثاني؟ الأدوار الأخرى من النساء؟ من الرجال؟ هل كانت لديك شروط معينة بخصوص الدور الأول الرجالي؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟" جن جنونها، بدأت تصرخ، وهي تبعدهم، فكل هذا لم يحصل، عقد، وسيناريو، ودور أول، ودور ثان، ودور ثالث، إلى أن ظهر المنتج الذي عزمت على عدم النوم معه، وهو يحمل العقد بيده. جذبها من ذراعها، وهو يهمس في أذنها "سأشرح لك فيما بعد." قدم لها قلمًا أمام كل كاميرات الدنيا، وقال لها "وقعي هنا"، انحنت لتوقع، وفستانها يكشف عن أروع نهدين، بينما المنتج يذوب فيهما رغبة، وهو يفكر كل سلطة التكنولوجيا علينا ولا شيء أعظم من هذه السلطة، كل التسامي الرقمي الذي فينا ولا شيء أعظم من هذا التسامي، كل الخلق الرقمي الذي لنا ولا شيء أعظم من هذا الخلق، ولا أجلّ، ولا أفظع!
"أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال صبي سمين جدًا لأمه، وهو ينطنط كالمنطاد. "أنت تحمل ماما، يا حبيبي؟" قالت الأم وشفتاها ترتعشان من الخوف على ولدها مفكرةً: قابل الخير بالشر! "أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال الصبي، وهو لا يتوقف عن النطنطة، وهو يتخيل أنه رقمي، وهو يشعر بمغص لتكلس في المعدة يسعى إلى نسيانه. كان يبدو خفيفًا كطابة. "لا، أنا أحملك، يا حبيبي"، قالت الأم وشفتاها ترتعشان من الخوف دومًا على ولدها مفكرةً: قابل الشر بالخير! "لا، أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال الصبي. "لا، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، يا حبيبي." "لا، أنتِ لست خائفة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، خائفة عليك كثيرًا، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، لست خائفة عليّ كثيرًا، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي." لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، أنا كبيرة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، أنت لست كبيرة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، أنا كبيرة عليك، كبيرة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، أنت لست كبيرة عليّ، لست كبيرة عليّ، يا ماما." وحملها، فإذا بها ترقى الجبال المسننة الأطراف، وتأخذ بالقهقهة.
كما قلت منذ قليل، لم يكن أحد بانتظار أحد، الانتظار في محطة الشمال غدا ذكرى من الذكريات، بدون انتظار، يتصرف المرء من تلقاء نفسه، لكنني لاحظت أحد وكلاء الفنادق ينتظر، كما لو كان يعيش دومًا في الماضي، قطارًا أبدًا لن يأتي، ويجعل نفسه تحت تصرف غيره. وأنا أتقدم منه، رفع الوكيل لوحته المكتوب عليها اسم نزيل في وجهي، وسألني إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الشيطانية، ضرب بذقنه الأرض، وقال إنه هنا منذ ساعات، ولا من قطار قادم. "قطار الموت"، همهمت. لكنه لم ينتبه إلى ما قلت، أخذ ينادي، وينادي، وينادي، وصوته يبدو كصوت إنسان يأتي من زمان آخر. تأملت وجهه، ووجهه يبدو كوجه إنسان يأتي من مكان آخر. كانت الجياد الرقمية المجنحة تملأ سماء محطة الشمال، وهو لم يكن يلاحظ أيًا منها. أردت أن أشرح له، أن أقول له كل هذا الإبداع من ورائه الموت، فالموت يدفع إلى كل إبداع يبقى بقاء صاحبه رقميًا ويخلد، القلة مبدعة، والبقية الباقية من العباد تبتدع لها مكانًا في الفردوس البارحة وفي التكنولوجيا اليوم، فتقطع حياتها في سلام أو في الخراء. لكن الأحمق لن يفهم، سيظل الأحمق فَجْلاً، سيظل يعيش في مكان آخر، مكانه القديم، سيظل عبدًا لزمن آخر، زمن مضى، ولن يقدر على التحرر مما هو فيه، حتى بتدخل خارجي، تدخلي، تدخل فلك البروج. تركته ينادي كمن ينبش قبرًا إلى أن بُح صوته، ولم يعد يسمع أي صدى من أصداء الماضي، كان كل الحاضر الآن يفرض على الواقع حضوره الرقمي. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت شابًا يرتدي بذلة سوداء مخططة، ويضع على رأسه قبعة سوداء حريرية، الوحيد الذي ينزل من القطار، ويركض على الرصيف، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويحرك ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويقف فجأة، يلتفت، ثم يلتفت، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ولا أحد هناك لاستقباله. قلت هذه هي الفكرة الرقمية المُضَيَّعَة!
في محطة الشمال، لم يعد البشر الرقميون بحاجة إلى الكلام الكثير، كانت إشارة من الرأس أو من اليد تكفي وبعض الكلام الوجيز. لم يعد هناك مكبر صوت يمارس الإرهاب على المسافرين، فلا أحد منهم بحاجة إلى معرفة ساعة وصول هذا القطار ومغادرة ذاك، كان كل شيء للرقميين من البشر معروفًا، وهم ليسوا بحاجة إلى وسيط أيًا كان، كانوا وسطاء أنفسهم إلى العالم وإلى ما في العالم من أشياء. والحال هذه، إما القُبول أو القُبول. رأيت فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما لا ينبسان بكلمة، كانا يتبسمان لبعضهما، وفقط. وهناك ليس بعيدًا منهما كان طبيب الأسنان قد وجد كل الوقت للاعتناء بأسنانه، فلم يكن لديه أي زبون، وكذلك حال الكاتب، وقد أخذ من عظيم الفراغ يقص صفحاته، فتنبثق منها الصور والشخصيات هاربة. وعن أسماك القرش، كانت قد نبتت للوالدين أجنحة كالجياد، وعندما كان أحدهم يحتاج إليهما، ينقلانه بين أسنانهما دون أن يؤذياه، حتى أسماك القرش قد حبت نفسها بالخصال الرقمية. كان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما إلى ما لا نهاية، ولم يكن يبدو عليهما أنهما سيأخذان القطار، كانا هناك لأنهما يريدان التبسم لبعضهما، وفقط. "تبتسمين، أنا في ريو..."، كما تقول الأغنية. وصلتني ضربات على البيانو، كان شوبان، وكان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، وشوبان هناك لأنهما كانا يتبسمان لبعضهما، كل هذه الضربات الرقيقة على البيانو لأنهما يتبسمان لبعضهما، وليس لأنهما في محطة الشمال، أو لأنهما سيفترقان. ربما لأن الواحد سيستنزف ماله من أجل الآخر. شيء لا لا نزاع فيه. أخذت الفتاة جرعة من قهوتها، وعادت إلى التبسم، وكذلك فعل الفتى، أخذ جرعة من الكوكا-كولا، وعاد إلى التبسم. ربما لم يكونا من البشر الرقميين، لكنهما كانا يحسنان التبسم، وكان هذا شيئًا عظيمًا، لا تقدر عليه التكنولوجيا، كعصر حبة ليمون، كقضم لوح شوكولاطة، كقطف حبة مشمش من بستان في نيس.
جاءت فتاتان، وكل منهما تسحب حقيبة، وأخذتا مكانًا حول طاولة قرب الشابين العاشقين. طلبتا قهوة، وأمسكت الواحدة يد الأخرى، قَبّلت إحداهما الأخرى من ثغرها، دفعتا، ثم نهضتا. كان هناك جواد رقمي مجنح بانتظارهما، وما هي سوى عدة ثوان حتى غادرتا المكان إلى قطار يقف على أكف الغيم. "متى سنعود؟" سألت الأولى الثانية بّرِمَةً. "لماذا؟" سألت الثانية الأولى دَهِشَةً. "لنكون معًا." "نحن معًا." "أن نكون معًا تحت شيء آخر." "لا تكوني مصابة في رأسك!" "أن نكون معًا في باريس..." جاء أحد لاعبي الرُّغبي مباشرة صوبي، وسألني إذا كنت أرغب في اللعب معه، لم أكن أرغب، وقلت أرغب. كانت الحركة في محطة الشمال فوق، وتحت كانت المحطة شبه فارغة. لعبنا حتى مللنا، بقدر جحافل من الأولاد، بعد ذلك، ودعني لاعب الرُّغبي، وشكرني على لطفي. جاء رجال المطافئ، ونظروا هنا وهناك، ثم ما لبثوا أن غادروا المكان. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت عربات حمل الحقائب بالمقلوب بينما يقودها صاحبها دون خوف من الاصطدام بأحد، وعند سماعي لصفارة المراقب، رأيت القطار بالمقلوب، وكل الناس الذين كانوا على رصيف الغيم، صعدوا كلهم ما عدا شيخ عجوز لعجزه، مما جعل القطار يتأخر عن الإقلاع حتى ساعده الناس على حمل حقيبته كمجيرِ أُمِّ عامر. وبلمح البصر، بعد ذلك، غادر القطار على خطوط سكك الغيم. الحقيقة الرقمية هي هذه، حقيقة الوهم، البابونج. سالت دمعة إنسانية على خدي، فخبأت انفعالي. حتى الشيطاني الذي فيك يبكي عليك! بكاء لذيذ كسرقة رزمة قناني ماء فيتِل من لَدُنْ كارفور.
هنا تحت، دفع شاب من أمامه عربة جده المُقعد، وهو يقول له إنهما سيسافران معًا، وإنه سعيد لأنهما سيسافران معًا. "وأنا أيضًا سعيد، يا جان"، قال الجد. "ستكون مفاجأة لها"، قال الشاب. "لأمك؟" سأل الجد. "ستكون مفاجأة لها"، أعاد الشاب. "نعم، ستكون مفاجأة لها"، قال الجد. "لم أرها منذ مدة طويلة"، قال الشاب. "نعم، منذ مدة طويلة، قال الجد، منذ موتها." "منذ موت أمي لم أرها"، قال الشاب. "نعم، منذ موتها، قال الجد، منذ مدة طويلة." "لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب، منذ موتها، وستكون مفاجأة لها." "نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد، المسكينة، ستكون مفاجأة لها..." ولم أعد أسمع ما يقولان. هناك، لا أحد يخطل في كلامه، لا أحد أمام شبابيك بيع التذاكر، كان الكل يشتري تذكرته على إنترنت، فلم يعد بالركاب حاجة إلى عمل صف طويل يدوم ساعات، حتى أن البعض كان يشتري تذكرته على ظهر القطار، إذا وجد على ظهر القطار مكانًا، من أحد المراقبين الذين ينقلون في جيوبهم شبابيك بيع التذاكر الإلكترونية. رحلة على ظهر الغيم، قرأت بخط عريض، السماء مُلْكٌ للجميع. هذا هو عالم الرقميين الجدد، همهمتُ ودمعة إنسانية ثانية تسيل على خدي، أنا المتنبئ بالشر، فالآتي أكثر عجبًا. "الإبرة أكثر خطرًا من المدفع!"، قلتُ. على مقربة ليست بعيدة، غيرُ دفقٍ من المال. كانت ماكينات تبديل النقود، ولم يعد أحد بحاجة إلى تبديل نقوده بعد أن توحدت العملة في كل أوروبا على التقريب. جاء عمال برافعاتهم، واقتلعوها من جذورها تحت حراسة شرطيين، وذهبوا، بينما أخذ متسولان أحدهما شريف والآخر غشاش بالبكاء وتوبيخ الأقاقيا، ولسان حالهما يقول: كلُّ كلبٍ ببابِهِ نَبّاح!
البكاء لا ينفع شيئًا في العالم الرقمي للبشر، قلتُ، وأنا أرفع رأسي إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها بالمقلوب، فمحطة الشمال الحقيقية فوق، والناس فوق يقفون بالمقلوب، ينظرون إلى تحت. لم يكن يهمني أي إعلان هو، كانت الفتاة كل ما يهمني، شعرها المتطاير وفستانها الكاشف عن ساقيها. الشياطين كالآلهة يحبون السيقان العارية، المبيدة للآمال، المثيرة للفتن! هل سيقان المرأة هي التي خلقت الآلهة أم الآلهة هي التي خلقت سيقان المرأة؟ لو كنت إلهًا يختار خالقه لاخترت سيقان المرأة. يتحول الكلام الزقاقي بأمرهما إلى آيات، اللمس الوحشي إلى حرائر، الوعد المستحيل إلى شموس. تنهار الجبال، تزول البحار، تنطبق السماوات. كل مسائل الوجود المحيرة هما، مسائل القلوب، مسائل الفلاسفة التي يستسلمون أمامها. كل الظلال التي نسيها أصحابها في الحي اللاتيني، وكل القبلات التي لم تعرفها بعد أرصفة باريس، وكل التنانير القصيرة التي لم تلبسها فرنسا! سيقان المرأة، سيقان الحياة، سيقان العدم! أيها الفرح، أسعد الله صباحك! فليسقط الحزن! كانت مواعيد القطارات تتلاحق على لوحة بالمقلوب إلى جانب صورة الفتاة المتطايرة الشعر والفستان المطيرة للعقل للزمان، وكانت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات بالمقلوب، وتنظر إليّ، وتضحك عليّ. إنجليزيات. إنجليزيات قمريات سفيهات ينظرن إليّ بالمقلوب، ويضحكن عليّ، لأني أميل برأسي كي أرى البنطال القصير للفتاة التي يتطاير فستانها دون أن أتمكن من ذلك، فكل شيء فوق بالمقلوب، كل شيء فوقَ أكفِّ الغيم بالمقلوب، فوق أكف القلوب. أخذت الإنجليزيات يشرن إليّ بالصعود، بالذهاب معهن إلى لندن لو أريد، لكني كنت في محطة الشمال كآخر محطة، فلنقل حتى الوقت الحاضر، آخر محطة حتى الوقت الحاضر، قبل أن أنضم إلى العدو. أيه؟ أي عدو، في كل مكان العدو. كانت أجمل الفتيات السفيهات يشرن إليّ بالصعود، وهن بالمقلوب دون أن تكشف فساتينهن عن سيقانهن، سيقان النساء هي الخالقة للآلهة، للشياطين، للمواخير، وأنا لعجزي عرفت أني لست إلهًا ولا شيطانًا من صنع سيقان النساء. كنت فيلمًا إباحيًا في سِكس شوب إلى جانب أفلام رقمية كثيرة على الرفوف، ولم أُلفت نظر أية واحدة من الأقاقيا.
أمسكني أحدهم من رأسي، ورفعه إلى ناحية في السماء فيها هرم رأسه إلينا، وعلى بابه رجل يبكي دون أن يكون الألم سببًا. كان تنين رقمي يمزق صدره دون أن يتمكن من الإجهاز عليه على الرغم من إنجاز الرجل لمكان موته. كان يبكي لأنه أنجز بناء قبره، ولم يكن يمكنه الموت. كان التنين الرقمي يسعى إلى عونه على الموت، وفي السماء، لا يوجد موت في السماء، يوجد الموت في تروكاديرو.
أنا سأموت على رصيف في محطة، إذا كان شيطان يموت، كي أداوم على سماع المسافرين، فأعتقد أني لم أزل حيًا. كالأقاقيا الحمراء. سمعت شابًا أحمر البشرة يسأل موظفًا في المحطة عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى فوق، وقال على الشاب أن يمتطي جوادًا رقميًا مجنحًا. وهو يبحث عن جواد رقميّ مجنح، اعترضته فتاة حمراء، وسحبته من ذراعه إلى رصيف أرضي فارغ من البشر. تركته ينتظر القطار هناك، قطار لن يجيء أبدًا، وجاءتني، وهي تبتسم لي ابتسامة المومس. ابتسمتُ لها، لابنة الخديعة، وأنا أقول لنفسي خديعة المرأة سماوية، لها غاية سامية. غاية مومسية. "أعرف لماذا فعلتِ هذا؟" قلت للفتاة الحمراء. "أما هو، فلا يعرف"، قالت الفتاة الحمراء. "سيعرف عندما يدرك أن القطار لن يصل أبدًا"، قلت للفتاة الحمراء. "عند ذلك ستكون كل القطارات الأخرى قد غادرت محطة الشمال، قالت الفتاة الحمراء، وستكون الصدمة. أنا هنا لأصدم، لأهدم، لأقطع كل صلة بالعالم القديم، أنا هنا لأخدع، لأكذب، لأحرق كل ما لم تستطع عليه أمهاتنا، أنا هنا لأعذب لو يلزم، ليعرف الناس أننا لسنا كلنا ملائكة طيبين"، أضافت الفتاة الحمراء. "ليعرف الناس أننا لسنا كلنا شياطين طيبين"، قلت للفتاة الحمراء مصححًا. تعلقت الفتاة الحمراء بكتفي، وطبعت على خدي قبلة. "رافقني أرافقك"، سألتني الفتاة الحمراء. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها، وأنا أتدحدل من ورائها مصطدمًا بهذه القدم أو ذاك العامود بينا هي تضحك عليّ، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان بدا منقطعًا عن عالمي المحطة القديم والجديد، مكان منسيّ. كان هناك مركز للشرطة مفتوح لا أحد فيه، ومكاتب متفرقة، مفتوحة، لا أحد فيها، كانت تبدو مهجورة، لا فائدة من وجودها. داومت الفتاة الحمراء على سحبي، وكأنني حقيبتها أو كلبها، أتدحدل تارة وأنبح تارة، وهي تضحك عليّ، إلى أن دخلنا منطقة تتقاطع فيها خطوط السكك الحديدية كخطوط اليد، القطارات المحطمة والصدئة فيها كثيرة، قالت الفتاة الحمراء عنها إنها المقبرة القديمة للقطارات. "والجديدة؟" سألت. أشارت إلى فوق. "فوق أين؟" "فوق، فوق"، وهذه المرة راحت تقهقه. "تقهقهين، أنا في ساكوراجيما"، تلعثمت، وأنا أتعثر، ولولاها لوقعتُ، بينما عادت إلى القهقهة. "ما برخو القدم هذا؟" ألقت ساخرة. "تسخرين، أنا في إيجافجاللاجوكول." تثاءبتُ دونما حاجة بي إلى النوم أو بسبب العياء، "هل تريد أن أهزك على فخذيّ؟"، تهكمت حمراء باريس. "تتهكمين، أنا في كيلويا." وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من بعيد سفينة تبحر على ارتفاع عدة أمتار من خطوط السكك الحديدية، توقفت عند مستوى رأسينا، وما لبث أن أطل منها قرصان يضع على عينه عُصابة سوداء. قال إنه أعمى، لا يرى شيئًا، ومع ذلك، رفع العُصابة السوداء، وأخذ يجول بجفن مغلق في كل الأنحاء. "هل هذه محطة الشمال؟" سأل القرصان. أكدت الفتاة الحمراء أنها محطة الشمال، "هنا المقبرة، أضافت محددة، وهناك المحطة." أطلق القرصان ضحكة مجلجلة، ونادى على خادمه، وهو يقول إنها المرة الأولى التي لم يخطئ فيها رغم فقدانه لبصره، وإن إبحاره لم يذهب سدى. أطل الخادم بوزرته البيضاء، وهو يحمل حبلاً طويلاً لفه حول رقبة القرصان، وجذبه منه، فسقط هذا أرضًا، لكنه نهض كالجني، بعد ضَرْبِ خادمه له عدة ضربات بالسوط وأَمْرِهِ إياه بحمل حقائب أربع كانت هناك. أطاع القرصان، ونفذ ما أُمر به في الحال ليتفادى لسع السوط. تعثر لعماه، فقاده الخادم بالحبل، إلى أن حطا القدم على قضيب حديدي. "هذا القضيب الحديديّ هو البحر الذي لي"، هتف لص البحر، وسقط بجسده عليه ليقبله ويضمه بقوة. "ليس هذا"، قلت. "إذن ماذا، صرخ القرصان بعنف، هل تكذبني يا هذا." "نعم، هو هذا"، تراجعتُ، فانفجرت الفتاة الحمراء ضاحكة. "هل تهزأين بي، أيتها المومس الصغيرة؟" عاد القرصان يصرخ بعنف. "إنه لا يتوقف عن جعل نفسه ضُحكة لغيره"، بررت الفتاة الحمراء مشيرة بإصبعها إليّ. "لا تشيري بإصبعك إليه، قمعها القرصان، فأنا أرى ما لا أرى، أنا الضرير." "لم أفهم"، همهمتُ. "لا أحد يفهمني أكثر من خادمي، قال القرصان، فلسعه خادمه بالسوط، أرأيتما؟" لم تكن الفتاة الحمراء راضية عما يجري، خاصة وأن الخادم لم يتوقف لحظة واحدة عن لسع سيده بسبب أو بغير سبب. كانت تغلي. "سأشير إلى ما لا ترى، إلى ما لم ترَ، إلى ما لن ترى، إلى السعادة التي لم تجدها في أعماق المحيطات"، كذبت حمراء باريس. "هل هو قضيب عوليس أم ماذا؟" سخر القرصان. "والله إني صادقة، فانظر!" دفعت قطعة حطب رست السفينة عليها، وأسقطتها على رأسيهما لولا دفعي لهما بعيدًا تساقط اللوفر وبرج إيفل والسوربون في إحدى لعبات ننتندو. "ها أنت تفعل ما لا تقول وتقول ما لا تفعل كغيرك ممن يفعلون ما لا يقولون ويقولون ما لا يفعلون!" سخرت الفتاة الحمراء. "لماذا تريدين التخلص منهما؟ ماذا فعلا لك؟ قرصان وخادمه وقضيب حديدي كل عالمهما؟" "تحرق روحي الطاعة لمن لا طاعة له، أبدت الفتاة النارية، وهذا ما لم أشاهده في سكناتي وحركاتي." "هذا لا شيء"، قلت. "لا شيء كيف؟" احتجت الفتاة الحمراء. "هذا شيء كثير"، قلت متناقضًا. "أنتَ تخريني!" نبرت مرافقتي، وهي تعطيني ظهرها إلى شجرة لم يبق منها سوى جذعها، وكأنها تريد الالتحاق بالشفق القطبي الشمالي.
خرج من تحت قاطرة قطار محطم توأمان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، فكأنهما مخلوق تحت أرضي مثير للقرف والاشمئزاز. ما أن وقعا على الفتاة الحمراء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالإيجاب، وهي تخرج بلطة من مخبأ فهمتُ في الحال مغزاها، فعبدتُ ربة الشر، واختلجت كل أعضائي اغتباطًا. "ولكن هذه بلطة وليست حبلاً، قال التوأمان السياميان، نحن نريد حبلاً، حبلاً، لنشنق نفسنا، نريد حبلاً نربط به عنقنا هكذا، هكذا، وليس بلطة." أشارت الفتاة الحمراء إلى الجذع، فقط الجذع ما بقي من كل الشجرة، "لم تعد الشجرة شجرة، وأنتما لا تزالان على حالكما"، قالت. لم يفهم التوأمان السياميان، أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. "احملا السلاح، وكونا إرهابيين، اقترحتُ مع الصيحات الغاضبة للفتاة الحمراء المخططة للموت الذي تريد، أنا أكشف لهما الحقيقة." "حقيقة قفاي"، نبرت ابنة النار. "ولكننا لن نفعل"، قال الأخوان المشوهان. "من الأحسن ألا تفعلا"، عدت عن قولي بينا مرافقتي تنفجر ضاحكة، وتقول "لماذا لا تكون مهرجًا، معك لا شيء غير الفرح." "لا فرح هناك أبدًا والكل يقول فرح هناك"، علق السياميان. "نتظاهر بذلك"، اعترفت الفتاة الحمراء عابسة. تَرَكْتَهُمَا، وهي تسحبني من يدي ككلبها، فلم أعو، ولم ألعق. "لم يفهما، ولكنهما سيفهمان"، قالت ساحرة فرنسا. "هل تريدينني أن أفهمهما على طريقتي"، سألتُ واغتباطي يصل إلى حد متعة الجماع. "إذا اضطررنا إلى ذلك، تركتك تفعل"، قالت ابنة إبليس.
قطعنا أنا وفتاة البراكين المقبرة إلى جهة أشعلت فيها نارًا، وما هي سوى عدة دقائق حتى برز من اللهب رجل أرمد الشعر متغضن الوجه، ركضت الفتاة الحمراء إليه، وعانقته بشوق، والرجل ينظر إليّ، وبيده يداعب نهديها وإليتيها. خاطبته الفتاة الحمراء بيا أبي، وخاطبها الرجل ذو الحفر والرماد بيا ابنتي. سألها إذا ما كنتُ عشيقها الأخير، فقالت إنني لست بعد عشيقها. "إياك أن تجعلي من النار مسكنه، يا ابنتي"، قال الأب. "النار مسكنك أنت ولا أحد غيرك، يا أبي"، قالت الابنة. "تعالي، يا ابنتي"، قال الأب. جذبها من ذراعها، وهي تنظر إليّ راجية إياي بعينيها ألا أبالي. دخل معها النار، وضاجعها. بعد قليل، خرجت الفتاة الحمراء وحدها، وهي تتوهج بالشر والشرر، وأنا أشتهيها كجهنم. أردت أخذها كما أخذها أبوها، فأوقفتني، وراحت ترقص مع النار في الهدم والدمار. جذبتني إليها، ورحنا نرقص في قلب الثَّوَران. كانت المثنى ذا التأثير الضار الذي اخترعوه لتقننين السُّخط وتوجيه الاختيار، اختيار هلاك النفس. كانت الدعاية تباشيرَ للكارثة القادمة، جوني هاليدي على كل لوحات رصيف المترو، وبعد ذلك على نصف هذه اللوحات، وبعد بعد ذلك على لوحتين، واليوم على لوحة. الشركات الكبرى لا مال لديها، تفضل اللوحات الصغيرة أو اللا دعاية. كانت السياسة نعلاً لأمريكا (يقولون حلفاء) ككل سياسات البلدان الأوروبية، بلدان غنية ومتطورة على قولها، وفي الواقع دمى متحركة. الثقافة أكثر، أما الاقتصاد فليس أقل، الإفلاس يطرق الأبواب. كانت المشهد الدولي الذي لا تريد أمريكا أن تحل فيه أي مشكل لتفرّق وتواصل الثروات طريقها إلى فرجها. كانت الفيلة التي نسيت بسرعة، وهي في الحكم، كيف كانت الأوضاع أسوأ بكثير. كانت الدينامية التي لن تتأخر عن القدوم والتي ستكنس كل شيء، بما في ذلك غبار الشعر الرمادي. وكانت ساقي غريتا غاربو، وكانت ثديي ماريلين مونرو، وكانت شفتي أنجيلينا جولي. كانت مصاصي الدماء، كنغ كونغ، هّلْكْ. كانت جيري لويس، جيمس دين، جورج كلوني. كانت هوليود باريس، هوليود شوينغ غَم. كانت بريجيت باردو، بناطيلها اللصوقة. سَجَدَتْ للنار، فدفعتُ يدي بين فخذيها، وقرصتها قرص العقرب للعقرب. أجفلها ذلك إجفال الحيوان من الحيوان، قليلاً، ثم راحت تتلوى وتبتهل وتتعبد، وأنا أواصل قرصها، إلى أن نضح ماؤها بين أصابعي. رفعتُ أصابعي إلى أنفي، وشممتُ رائحة ممتعة لفسق باريس وتقواها. "لنذهب إلى مسكني، اقترحت الفتاة الحمراء، هناك لن توجد ملائكة من حولنا." "وهل بقي من الملائكة شيء؟" سألتها. "بقي." "ماذا؟" "وَدْفُ أبي". عادت تسحبني ككلبها المسعور إلى قصر مبني من القطارات القديمة، وأنا أعوي، وأنط، وأعض. أرضَعَتْ ولدًا كان لها في التاسعة عشرة، وصرفته، ثم اشتعلت جنسًا وجهنم في حضني وهمجية وشيطانية وقحبنية تتحول بنا وتحولنا تحول الكودات لدى بارت. لم أكن لأقدر عليها، كان لها ثدي همجي بالفعل، ورِدف شيطاني بالفعل، وفرج قحبي بالفعل، كلها تأمرني فأطيع. الثدي في فمي، وأنا أكاد أقطعه بأسناني، والرِّدف في فخذي، وأنا أكاد أمزقه بمخالبي، والفرج في حلقي، وأنا أكاد أفجره بفرجي. كل فرنسا كانت تضاجع معي، أنا تارة فيها، وهي تارة فيّ. كل علب الليل، كل المسارح، كل الحانات. كلها كانت تضاجع معي، أنا تارة فيها، وهي تارة فيّ. تضربني على عضوي، كي أنتقم من مهبلها، فأشبعه ضربًا بعضوي وعضًا، تعضني من ثديي، كي أنتقم من ثديها، فأحيله مِزَقًا بأنيابي وأشلاءً، تجرحني من إليتيّ، فأدقها بين إليتيها وأشنقها. بقيتُ أضاجعها طوال تسعة وتسعين ألف عام رقميّ، هكذا خُيل لي. في الصباح، قالت إنها سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فالعلوي المعلق على أكف الغيم معروف معرفة الكل لإطباقاته، أما السفلي كالسفلة سرسري ابن كلب للاكتشاف حالاً.
عدنا أدراجنا والنار التي أشعلتها ساحرة فرنسا تتأجج دون انقطاع، والجذع الذي عليه رؤوس مئات الطيور الغريبة يغرق في الدم، والسفينة التي سقطت تغوص بنصفها بين القضبان. كانت هناك بعض الطيور الغريبة الأخرى التي جمدت من الخوف، وكأنها صُنعت من شمع، وكان الوقت منتشرًا هنا وهناك انتشار خطوط السكك الحديدية الصدئة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة لتستقبلنا سماء محطة الشمال مقلوبة. كان العالم كله مقلوبًا، لكنه كان العالم. دفعتني حمراء مدينة النور إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي توجز أفكارها: "سندخل في استيهامٍ يتلو استيهامًا، فالحضارات هي هذه، استيهامات، تتنوع الاستيهامات وتتبدل تنوع الحضارات وتبدلها." رأيت في الطابق الأول السفلي طيورًا إفريقية ملونة: شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... عملاقة، تتسلى بنقر أربابها من البشر، أمام المستودع على اليمين، وكأن ذلك شرط إيداعها في أقفاص إلى حين استردادها. "ممن؟" سألتُ. "مني"، أجابت الفتاة الحمراء، وهي تداعب بيدها عنق أبي قُرَيْن. "قبلاتك، أنا لن أنساها"، أوجزتُ كلامي. جاءت ببغاء، واحتضنت الفتاة الحمراء، وكذلك فعلت دجاجة سندية بدت عاشقة لها، ففجرت غيرتي. "جسدك، أنا لن أنساه." كل هذا لم يكن غريبًا والحال تلك. "فرجك، أنا لن أنساه." على اليسار، رأيت عددًا من رجال الفضاء أمام شبابيك الصرف، كائنات أشبه بسكان المريخ، ومن الناحية الثانية للشبابيك كان الصرافون، في ثياب ملاحي الكون. "نارك، هدمك، أنقاضك، أنا لن أنساها." ذكرتني الفتاة الحمراء أن عملتنا لا تشمل سكان الفضاء، لهذا أبقوا على هذه المكاتب مفتوحة بعد أن اقتلعوا آلات الصرف، فمحطة الشمال العليا تستقبل اليوم الكثير من سكان الكواكب الأخرى. "تأوهاتك، صرخاتك، هذياناتك، أنا لن أنساها." كان كل هذا هذيانات مريضة، صرخات مختنقة، تأوهات قتيلة لقتلى الروح. "أصدقاؤك الطيور لا ينقرون إلا البشر كما أرى"، قلت للفتاة الحمراء. "لم يتعود أصدقائي الطيور بعد على لحم هؤلاء"، علقت الفتاة الحمراء، وهي تشير إلى رجال الفضاء. رجال فضاء قفاي! حديقة حيوانات المريخ! مِنطقة حيادية! "رؤاك، سراباتك، خيالاتك القحبة، أنا لن أنساها." كنا قد وصلنا إلى نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها فيلة وردية على أشكال الأرقام. لم أبد للفتاة الحمراء دهشتي، وكل الكائنات الرقمية المنتشرة اليوم في محطة الشمال. "أما تحت، فدهشتك ستكون أكبر من كبيرة"، قالت النار الحمراء، وهي تتقدم من خزانة حديدية فتحتها بمفتاح كان تحت ممسحة الأرجل على بابٍ في داخلها أدخلتني منه أولاً كي تعيد غلق الخزانة من ورائها. "رسوماتك المتحركة، إطباقاتك المفترضة، أقمارك الغارقة في حمم المعرفة الرقمية، لن أنساها." كانت دهشتي بالفعل أكبر من كبيرة، فالفيلة الوردية الضخمة الثقيلة الوزن ترتفع عن الأرض محلقة، وصهاريج البترول الضخمة ترتفع عن الأرض محلقة، وبواخر الرحلات البحرية ترتفع عن الأرض محلقة، والأغرب من كل هذا ما رأيته من تماسيح عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وكلاب عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وديوك عملاقة، وأرانب عملاقة، وفئران عملاقة، وسحالي عملاقة، وصراصير عملاقة، ونمل عملاق، و... و... و... كلها ترتفع عن الأرض محلقة كأنها بالونات منفوخة، ومتروكة هناك بين السماء والسماء. "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها. كطفل يضاجع، كقرنفل يقاوم الأرق بالاستمناء، كثعبان مقطوع القضيب، قضيب بقي منتصبًا." من الناحية الأخرى، وجدنا ناطحات سحاب ترتفع عن الأرض محلقة، وجبال جليد ترتفع عن الأرض محلقة، وجزرًا بأكملها ترتفع عن الأرض محلقة، و... و... و... "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها." هذا وألقينا نظرة عاجلة على قطوف العنب أو البلح العملاقة المحلقة، وحبات الأِجّاص، والبصل، والباذنجان، واللوبياء، إلى آخره... إلى آخره... إلى آخره... "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها." طرق تحايلية للعالم الرقمي. تفاجأنا بأقزام عمالقة، كلهم مافيا، يترعون شراب الرمان كما يترعون الماء. أقزام عمالقة. كبنك له أجمل ثديين، كوزارة لها أجمل إليتين، كسفارة لها أجمل ساقين. وكذلك، تفاجأنا بنساء عملاقات، كلهن دميمات، يبترن كل أقاقيا من أجسادهن يردن تبديلها. نساء عملاقات. كأمة تحترق، كبلد يُباد، كقارة تغرق في الخراء. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة الحمراء، دهشتنا الأكثر، كون الراهبات الرقميات يسعين إلى تطهير كل مومسات باريس كي يجعلن منهن بناتٍ للرب صالحات. كانت الصورة الرقمية التي ستكون، فليس أي شيء من هذا حقيقيًا. راهبات رقميات. ككلب يحاول اختراق المرآة، كلص يحاول اختراق الدولار، كرئيس يحاول اختراق ما بين فخذي عهدة ثانية. كانت المومسات عندهن بالآلاف، من كل الأجناس، وكانت فضيلة الفضائل بالنسبة لهن هذا التعدد العرقي والثقافي، وهدفهن التوصل إلى إنشاء سوربون جديدة، سوربون عملاقة في رؤيتها المتعددة وفلسفتها المتغربة. "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها."
أشارت الفتاة الحمراء إلى كبار رجال الأعمال والوزراء، "رجال الجهالة والبهيمية ووزراء الصَّبَّار وكره الأجانب"، قالت ساحرة فرنسا، وهي تتلظى كالجمر، وأنا أتلظى كالقواد: "أحبك نارًا، أعبدك بركانًا، أموت فيك هدمًا وأنقاضًا." "يعملون كل ما في وسعهم لإفشال مشروع الراهبات الديني الثقافي الإنساني الجمهوري الراقي، وإبقاء الباب بين فخذي النساء مفتوحًا." "لن أتسلط على ميولي، سأتسلط على الحكم، لن أسلّم أسراري لأحد، سأسلّم برغباتي، لن أتسامح في أي شيء، سأتسامح لي فيما لا أتسامح." كانت الراهبة الزائفة فريستهم، ربما لا، فهي قد أخذتهم كلهم بين فخذيها كما لو كانوا شخصًا واحدًا، ابنة التسلط على الحكم على طريقتها، كاللبؤة الحبلى، والأقاقيا الحبلى، والغابة العذراء. رحنا أنا والفتاة الحمراء نلاعب الفيلة الوردية المحلقة في الأجواء ونلعب بها ونحن نضربها كالبالونات والفيلة تطلق صيحات الجذل. "هُراء، كل هذا هُراء"، أبديتُ، وأنا أفكر في حديقة النبات. "اخترق المرآة"، طلبت حمراء باريس. "ولكني كلبك"، بررتُ. "تعال معي إذن، أمرت، وهي تبتسم، اختراق المرايا، أنا أعرف كيف." سحبتني، وأنا كالذليل أتبعها، وذهبنا مع عشرات غيرنا نصعد على سطوح ناطحات السحاب لنرى كل العالم حتى نيويورك حتى نيودلهي حتى بيكين حتى مكسيكو حتى هافانا حتى هونولولو. هونولولو. صبايا هونولولو. صبيان هونولولو. رقص هونولولو. يزلق العالم على خاصرة. يغرق في البحر. يغتال الشبق. جربنا بعد ذلك حظنا مع سباق صهاريج البترول، فانفجر أحدها، لكن شفاطات عملاقة شفطت كل شيء، والعقل، والروح، وأفكار سارتر الأَنَسِيَّة. كانت مرآتها صغيرة بقدر قرص عباد الشمس، لكنها كبيرة فيما تحتوي عليه، غريبة بما تحتوي عليه. شفاطات عملاقة. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها الأزلية، الأزل، كلسات ديكارت، وذهبت بي إلى مِصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. شفاطات عملاقة في قرص عباد الشمس. عند خروجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الغيلان، آكلي اللحم الآدميّ. في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. مرآة صغيرة بقدر قرص عباد الشمس فيها من الأحلام ما لا يعد ولا يحصى. حجر سُمّاقي. اجتمع بعضهم ضدي لست أدري لماذا، ربما لحلاوة لحمي، فأصلتهم الفتاة الحمراء بنار من جهنم، وعلمت بهم الأقاقيا الصفراء. كانت الفكرة السامية كما تفهمها، وكانت النفس السامية كما أفهمها. كانوا يتعانقون عناق الأوابد عندما لا يجدون لحمًا آدميًا يأكلونه، "أصبحنا أسياد أنفسنا"، قالوا، وهم بالمناسبة أقاموا للفتاة الحمراء حفلاً طنانًا تعاطوا فيه كل أنواع المخدرات والكحول وقُبَلِ الجنيات في الأوديسا. كانت الكيفية التي تسير بها. سِرْ! عند آخر الليل، أحضروا بعض الحيوانات العملاقة، والتهموا صورها الافتراضية، ثم هدأوا، رأيتهم ينامون عينًا مفتوحة وعينًا مغلقة. سير الحكاية كان، وسير الوقت.
سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب كلبها وأنا أنط وأنط وأنط متشبثًا بها إلى المِصعد، وصعدت بي إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين. كانت شعوب لا أصل لها ولا فصل تنهض من سباتها الطويل، تقوم من العدم، من ظلام الظلام، لا ماض لها ولا تاريخ، تنام مع الظن، وتنام مع التيه، لا أمل لها ولا مشروع، أملها غير الأمل، ومشروعها الهدم، تهدم كل شيء، الأسوار والظلال وقبور الشمس، وفي ظنها السيطرة على البحار. بهمجية كانت تهدم كل شيء، ولكن أيضًا بجمالية بودلير وهيغل وماركيز. بهمجية. وبجوع الغيلان إلى اللحم الرقميّ. إلى الحرية. إلى الضوء. بهمجية النيل ووحشية الفرات ودجلة. بوحشية الطفولة الرقمية والطفولة الوحشية وتسلط الرجولة فيهما. تسلط الجنس والجهالة، المال والعبادة، الماء والبطاطا، الجوّال والحجاب، الحاسوب والباذنجان. المحشي. شارَكَتْهُم مليكة النار في الهدم والتدمير، وأبدًا في البناء والتعمير. قالت عن التعمير ليس من مهماتها، وأنا مثلها قلت عن التعمير ليس من مهماتي. باكورة النار كانت، وبَكْرَة الحث والتحريض كنتُ. كانت مِجمرةً للعطور وجَمَرات نار لِجَلْدِ كلِّ ما هو غير شيطاني، وكنت كأسًا للثَّمَل على مناظر الهدم والدَّك والتدمير والتغيير والتقهير والتعهير والتحمير والتبرير، التبرير، التبرير، التبرير، كثير التبرير، كنت أشعر بأسعد لحظة في حياتي، كدُعْسُوقة مضيئة في حديقة البيت الأبيض، مع سيماء البلاهة.




القسم السادس

لم تتساءل الصغيرة دوروتيه لماذا تشعل أمها عين فرن الغاز، وتتركها هكذا، ولم يقلقها ذلك، والأمر يتكرر كل يوم. كانت تنضح بقبلة على خدها، وتفكر أن هذا يسعدها. ربما لأني أعيش على هامش المجتمع، قالت الأم ذات يوم ما تفكر بصوت عال، فلم تفهم الصغيرة دوروتيه.
- ماذا تقولين، ماما؟
- أنا هي التي أشْعَلَتِ النار.
- أعرف، ماما.
- الشمس قوية.
- إنه الصيف، ماما.
- حريق، يا دوروتيه، هل تشمين رائحة الدخان؟
- أنا لا أشم، ماما.
- اسمعي، رجال المطافئ.
- أنا لا أسمع، ماما.
- رجال المطافئ، يا دين الرب!
- رجال المطافئ، ماما.
- ربما كان هناك بعض المحترقين.
- بعض المحترقين، ماما؟
- لا بأس، يا دوروتيه، لا بأس، يا حبيبتي! العبي، يا حبيبتي!
وعندما كانت الأم لا تجد ما تقول، تتوجه بالكلام إلى ابنتها:
- النار، هذا من أجل قهوتي.
- من أجل قهوتك، ماما؟
- قهوتي.
- ساخنة، ماما.
- ساخنة.
- أنا لا أحب القهوة، ماما.
- أنت تحبين الشوكولاطة بالحليب.
- أنا أحب الشوكولاطة بالحليب، ماما.
- تريدين أن أسخن لك طاسًا؟
- لا.
- لماذا؟
- هكذا.
- كما تريدين.
- أنا أحب النار، ماما.
- تريدين أن أشعل لك المدفأة؟
- لا.
- لماذا؟
- هكذا.
- كما تريدين.
- أنا أحب لونها، ماما.
- لون النار؟
- أنا أحب لونها.
- تحبين لونها.
- أنا أحب لون النار، ماما.
- تحبين لون النار.
- أنا أحب طعمها.
- تحبين طعم النار.
- أنا أحب لهبها.
- تحبين لهب النار.
- أنا أحب النار، مثلك، ماما.
- سأغلي قهوتي.
- اغلي.
لكنها لا تتحرك من مكانها، فتصعد الصغيرة دوروتيه على كرسي، وتتناول صندوق القهوة.
- خذي، ماما.
- أوه! شكرًا، يا حبيبتي!
كانت تشعل عينًا ثانية، وتتأمل النار.
- سخني لي طاس شوكولاطة بالحليب، ماما.
- حالاً، يا حبيبتي!
وتشعل الأم عينًا ثالثة.

* * *

لم تعرف الفتاة الحمراء إلى أين تذهب في عالم محطة بوبيني شرقَ باريس، عالم من الحجارة والرمل كله مهدم، الباصات، الترامويهات، قطارات المترو، ولم تجد ما تفعل سوى إشعال النار. رأت في النار جسدها، وفي النار عقلها، وأنهت التناقض ما بينهما. بكل بساطة، دونما حاجة بها إلى كينونة فوق الوجود المادي مفارقة له. بشحطة عود كبريت. الطبيعة والعقل من النار نفسها. ابتسمت على انهيار النظريات، كل النظريات منذ أرسطو إلى هيدغر مرورًا بهيغل. النار فلسفة؟ ليس بالضبط هذا. الهدم. الهدم الخلاق. على صورةِ الهدمِ خالقُهُ. خالقُ الهدم. هذا الخالق المبتَكَر، المبتَكِر. جوهرُهُ. كل معاركه السابقة لا شيء، كل معاركه القديمة ليست سوى غربال لنفسها، فالضرورة غربال الأفعال، والحتمية ابنة الطبيعة. يكفي أن يكون شرطها. لهذا كان الكائن شرطًا لفعل، لا الفعل شرطًا لكائن.
أَبْصَرَت الصور ثانية: كيف تم الهدم، همجية السين، وحشية المارن، بربرية الرون. من أجمل الصور كانت. هل هناك أجمل من جواد يصهل غضبًا، ومن ليث يزأر يأسًا، ومن ثعبان ينفث احتقانًا؟ يكون الجواد بالغضب، والليث باليأس، والثعبان بالاحتقان. يلتقي الصهيل بالغضب، والزئير باليأس، والفحيح بالاحتقان. تلتقي الهمجية بجسدها، والوحشية بكِيانها، والبربرية بفضائها. تلتقي النار بالشَّعر الأحمر، والحُلم بالساحة الحمراء، والأمل بالشروق الدموي. الشروق الدموي هو هذا، قالت الفتاة الحمراء لنفسها، معنى الكينونة، حقيقتها، بين ثدييّ، على بطني، بين فخذيّ، لأني الشرط.
- ما أسرع ما يمضي الوقت! همس الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر في أذن الفتاة الحمراء، تفتحين عينيك، النهار، تغمضين عينيك، الليل.
- كما تأكل النار الهشيم، كانت أمي تقول، أكدت ابنة النار، كانت أمي تشعل النار ولا تطفئها.
- الوقت كالنار يحترق بسرعة، اليوم كالبارحة. الكينونة نار، والوقت نار، كلاهما واحد، كلاهما الخراب.
- أحب اللون الأزرق للنار. أمي لونها الأسود.
- أنا الأخضر.
- لهذا كانت أمي تشعل النار ولا تطفئها.
- لأن لونها أسود.
- لأن لديها مشروعًا حريقيًا دائمًا لا يُنجز، فدفعتني إلى تنفيذ كل ما يخطر وما لا يخطر ببال من أفعال نارية.
- يهوى الناس الاستبداد، لأن لونيه أزرقُ وأخضرُ.
- أسود وأسود.
- ضد الاستبداد.
- للاستبداد، فما أن ينتهي الواحد حتى يبدأ الآخر. أمي لم تتوقف يومًا عن إشعال النار، هكذا كانت ماما. الحق أن هناك استبدادات من كل نوع، أمي لم تكن تعرف، وهي تنهل بالتبادل من بعضها. كانت أمي تشعل النار، وتترك الباقي عليّ، فأتصرف على هواي. تتغير الاستبدادات والتسميات تبقى واحدة، على عكس ما يتوهم البعض. الوظيفة مدى الحياة استبداد كاستبداد بن علي، ماما لم تكن تحب هذا الشخص أبدًا، وكانت تقضي عطلتها كل عام على شواطئ جربة، لأنها كانت تحب تونس، أَخْذُ الباص كل يوم، أَكْلُ الخراء كل مساء والنظر إلى أخبار الساعة الثامنة. وليس هذا فقط، الديمقراطية استبداد كاستبداد الهاتف الجوّال. ماما كانت تشعل النار ولا تطفئها، كانت ديمقراطية، لا تطفئها، ليس تنساها، تعطي فآخذ، كانت ديمقراطية، آخذ ولا أعطي، كنت استبدادية.
- هناك استبداد واستبداد، الاستبداد الحلو والاستبداد المر، طعمهما على اللسان ليس متشابهًا.
- كلاهما على اللسان خراء، المر والحلو.
- خراء وخراء.
- خراء وخراء.
- هاتِ ما عندك.
- كانت ماما تشعل النار ولا تطفئها، كانت استبدادية بطبعها دون أن تعلم ككل واحد فينا، يهدم كل واحد فينا، يتهدم، لا ليبني، لا لينبني، ليهدم، ليتهدم. متعة ما بعدها متعة. أطفئي النار، يا أمي، كنت أقول لها، فتنبر، لا! اتركيها. كانت متعتها.
- متعة بربرية.
- متعة، فقط متعة.
- هاتِ لي خدك!
- لهذا نعتاد الاستبداد، نتشبث به بمخالبنا، نعضه بأسناننا، نبدله فقط إذا ما اضطررنا إلى ذلك، بالبحر، نبدله بالبحر، بجربة، فندعم بنقودنا النظام، الاستبداد.
- الحرية إذن لماذا؟
- ليبقى الاستبداد.
- هاتِ !
- أرض الهدم إذن هي التغيير من استبداد إلى استبداد تحت معنى ألا يتغير شيء، لا شيء ينزع عن الوجوه أقاقياها، وجوه شائخة، حتى الشابة منها شائخة. أمي لم تكن شابة يومًا، ولدتني عجوزًا، وبقيت عجوزًا إلى أن ماتت حرقًا. كانت نارًا أشعلتها، ولأول مرة في حياتها نسيتها.
- هاتوا!
- من هنا يأتي معنى الزمان، الخراء إذا شئت، من استبداد إلى استبداد، من هنا يأتي معنى الوجود، الشخاخ إذا شئت، من الاستبداد إلى الاستبداد، الباقي فذلكات حسابية، وحمرنات فلسفية، ماما لم تفهم هذا، لم تشأ فهم هذا، كانت لا ترى ما في النار من صور شيطانية جعلت منها صوري، على طريقتي.
- آتوا!
- القضيب تحت صورة الإنسان إذن لا يتوقف على كونه قضيبًا، يتوقف على كونه مستبدًا، يكون شرطًا للفعل، ثم يغدو شرطًا لشرطه، بكل قواه القوية، فلا شيء أقوى، اضطرابات الأرض، هذه المخرأة العظمى، من صنعه، لغاية واحدة: تبديل الاستبداد بالاستبداد، الفرج بالفرج. إن يتوقفْ يتعبْ أو يمللْ، تدفعه الأصابع التي بلا خواتم. آه! أجمل شيء في الوجود أصابع الأقاقيا. إنها حدائقنا في القرن الحادي والعشرين.
- أصابع المخابرات وجدائل رأس المال، أيها القضيب! هل تسمحي لي بدعوتك هكذا، سيدتي القضيب؟
- جدائل رأس المال حياتاتنا، عقولنا، أجسادنا، أزماننا، كِياناتنا، حبالنا التي نشنق أنفسنا بها، نيراننا التي نحرق تواريخنا فيها، جيوشنا التي لنا من أجل هزائمنا، أين مكان الفلسفة في محفظة سمينة؟ أين نار العقل في موقد ذهبيّ؟ أين أمواج الموضوعية في محيطات الكاك 40؟ يا لهم من قراصنة عُمْي العينين الفلاسفة! أينهم تحت أبراج المال في هونغ كونغ؟ بين نيران المدافع في مالي أو في أفريقيا المركزية؟ فوق بدلات سموكنغ الطائرت الخاصة؟ انتهت الفلسفة، وبقي الفلاسفة. هناك مكان لهم في صفوف مطاعم القلب!
وراحت تصرخ:
- ماما! سأشعل النار في كل مكان لتهدأ روحك، سأكون ابنة وفية، لن أبيع روحي، وسأشتري كل شيء، بلا شيء. هل تسمعينني، يا ماما؟
انبثق الأخوان السياميان من رمل الوقت، كحجرين مهدمين. بدت على وجهيهما الشيخوخة على الرغم من شبابهما، وانعكس عن محياهما التاريخ القديم. كانا صحنًا للوقت في حركته، وفي أثره، وعاءً لبركان أودى بالحياة بعد سبات طويل.
- أين الباحث عنا؟ قال السياميان للفتاة الحمراء والرجل الأرمد الشعر المتغضن التعابير. كان أحدهم بانتظارنا، فأين هو؟
- لا أحد ينتظر أحدًا، أجابت الفتاة الحمراء، وديعةُ الخُلُقِ.
- أنفقنا وقتنا إذن باطلاً.
- وحضوركما بعد كل ما جرى لا فائدة منه، قال الرجل الذي أسال أودية من الحبر.
- كل هذا الهدم لا فائدة منه، قال المِسْخان الأشياءَ بدونِ مواربة.
- الهدم قدر الأشياء، همس الرجل الحكيم.
- لن نعود من حيث جئنا.
- الوقت لا يعود إلى الوراء.
- لن نرقص مع كائنات الرمل.
- الكائنات لا تتقن سوى ما تفعل.
- لن نعيد حدث الهدم.
- لكل حدث وقته.
- تعالا إلى ذراعيّ، رجت الفتاة الحمراء السياميين متوردة الخدين.
قبّلت الأول، وقبّلت الثاني. للأول أورثت الحزن، وللثاني الضَّيْق.
- هذه القبلة كل المكان، قال السيامي الأول.
- هذه القبلة كل الزمان، قال السيامي الثاني.
- شخصان متماثلا التكوين، ورّى الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر.
- هكذا كنا منذ الولادة، قال الأخوان المشوهان، لا يرقى إلينا الشك.
- حقيقة كينونتنا.
حضر خادم القرصان دون القرصان، وهو يربط عنقه بحبل، ويحمل متاع القرصان في حقائب عديدة.
- وراء الأكمة ما وراءها، بدأ الخادم القول.
ثم:
- هل رأى أحدكم سيد البحار؟
- هل بحثت في النار؟ تورطت الفتاة الحمراء في السؤال.
- بحثت، ولم أجده.
- هل بحثت في الدمار؟
- بحثت ولم أجده.
- هل بحثت في اللُّجّ؟
- أي لُجّ؟ الرمل؟ إذا كان الرمل لُجًا بحثت ولم أجده.
- ستجده إذن في الشجاعة، ألقت الفتاة الحمراء دون أن تكون واثقة.
- بحثت في الشجاعة ولم أجده.
- ستجده إذن في الجبن.
- بحثت في الجبن ولم أجده.
- ستجده إذن في المَلاحة، إذا ما بقيت هناك مَلاحة.
- بحثت في المَلاحة ولم أجده.
- ستجده إذن في الدمامة.
- بحثت في الدمامة ولم أجده.
تراخت قدم الخادم، وتساقطت أحماله.
- هذا مصير كل عدو لوقته، حكم الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه حانقًا على الحياة.
- وماذا سأفعل؟ انحنى الخادم أمام الرجل الحكيم في احترام والدموع تترقرق من عينيه.
- لا تنتظر، وامض إلى حيث كان سيدك يريد الذهاب، فلربما وجدته قبل أن يغدو وقته له عدوًا.
جاء البشر، وعادوا يهدمون ما هدموا، وكل واحد بدا جزءًا من كل، كانوا المستبد على أنفسهم.
- حقًا! لا أمل هنا في الوقوع على سيد البحار، قال خادم القرصان، وهو يتأكله الحقد، قبل أن يغادر المكان دون الحقائب، والنار تقوده بعيدًا عن النار.
أثناء ذلك، حضر القرصان، من الاتجاه الذي ذهب منه خادمه.
- هذه النار لا تقود إلى شيء، قال القرصان بمثابة التحية.
- كالماء في هذه البلاد، ككل شيء، أجاب الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر إثباتًا لرأيه.
- إذا كنتَ تبحث عن خادمك، فقد ذهب من الطريق التي جئت منها، أبلغت الفتاة الحمراء.
- لم أره، تردد القرصان، وهو يضرب قبضة السوط في يده، وأنا على كل حال لم أبحث عنه، أتركه يجيء.
- ما أكذبه!
- لقد سمعتُ نُعابًا منذ قليل، فقلت لنفسي لقد مرّ من هنا، ابن القحبة!
- حقائبك هناك، أشار السياميان، وذهبا لإحضارها بقدم غير ثابتة.
- كم هذا السوط جائع، ألقى القرصان ثابط الهمة، وهو يواصل ضرب قبضة السوط في يده.
- لدينا بعض البطاطا المسلوقة، اقترحت الفتاة الثدياء بلهجة ثخينة.
- لعالم البر أسياد جبابرة سياطهم لا تعد ولا تحصى، وهي لا تجوع أبدًا، أوضح سيد البحار، وهو يعض شفته السفلى، فيبدو ثَرِمًا، أسياطهم هي الأكوان ببشرها وآلهتها، من سوط الضريبة إلى سوط المخرأة مرورًا بسوط برامج المزبلة في التلفزيون السَّقَط، لهذا الناس أرانب، كلهم أرانب، لا حاجة بهم إلى تمرد يهدم ولا شيء يبني.
- ها هي حقائبك، ثغثغ التوأمان المِسْخان، وهما يلقيانها أرضًا بحركة عنيفة، فتنفتح، ويبين ما فيها من سياط.
راح القرصان بهما لسعًا وركلاً، وبغضبٍ يسب ويلعن.
- اتركهما، يا دين الرب! صاحت الفتاة الحمراء، وهي تحاول مسك يده، إلى أن توقف عن ضربهما لاهثًا.
- هذا لا شيء غير المقبلات، كلم القرصان سوطه، ضمان على حسن نيتي.
ثم كلم السياميين الجريحين:
- انهضا، وليأخذ كل منكما سوطًا، ستكونان لي عونين. هيا، كونا بمقام الكد!
أثلج صدرهما، فنهضا، واختار كل منهما سوطًا بينما الأمل يشع من عينيهما.
- لأجل تسعير النار فقط لا غير، قال القرصان لابنة النار، وهو يلمس شعرها، ليثير الشكوك أكثر مما يثير الشهوات، ولأنني أحب اللهو والتسلية.
- حرية الضمير حريتك.
- راحة الضمير.
كشياطين الحرب، أخذ التوأمان السياميان يسوط أحدهما الآخر، هذا يقول إنه يحب القرصان والقرصان سيده، وذاك يقول إنه يكره القرصان والقرصان سيده. تعاركا باليدين والقدمين، وهما يتراشقان بالشتائم: أيها القذر! أيها الخنزير! وألقيا بنفسهما على الأرض، وكأنهما حيوان غريب بعيدُ الهَوْء، بينما القرصان يضحك عليهما حتى سَكْبِ الدمع.
- أكيدًا! العالم هنا غير العالم، ألقى القرصان كمن يلقي خطابًا يهز المشاعر، هنا السوط غير السوط، والقبضة غير القبضة.
- هنا السوط ليس سوط الستيك فريت، قال الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر هازئًا، هنا السوط ليس سوط الجائزة غونكور.
- الجائزة غونكور! استخف القرصان، ما دخل الجائزة غونكور في كل هذا؟
- في لا شيء، همهم الرجل الحكيم المستحوذة عليه همومه، أنا صاحب مسرح، أقول أول كلمة حرة تجيء على لساني. مأفون أنا، مغفل، لهذا أنا صاحب مسرح. ابن شرموطة! اثنتان وثلاثون مسرحية أنا، لم يخرجها أحد، اثنان وثلاثون سوطًا أجلد بها نفسي. هل ترى؟ هناك السوط المجوِّع وهناك السوط المجوَّع، هناك السوط المُستلِب وهناك السوط المُستَلَب. في نهاية المطاف كلها واحدة كإرادات الكائنات، كالخراء واحدة، فهل هناك خراء ثري وخراء فقير؟ هل هناك خراء صيني وآخر سويدي؟ والخراء يمكن أن يكون في الرأس بدلاً من الدماغ كما هو الحال في رؤوس النقاد عندنا الذين يتعاملون مع الأدب كما يتعاملون مع كلابهم. في الواقع، هناك أدوات نقدية، بإرادة الأدب تعمل لا بإرادة الناقد، فلم تعد هناك نظرية نقدية، كل كتابة تحمل في أحشائها نظريتها الخرائية، وهناك أدوات فنية، لا يمتلكها كل ناقد، فيتخبط في وحل التاريخية، كل كتابة تنطق بما تؤرخ ولا تؤرخ لما تنطق. كما أن تجاهل الأديب من طرف النقاد كتقطيع جسده بأمواسهم، هم يعتقدون أنهم يقتلونه، ولا يرون كيف يفجرون مع دمه الأقاقيا الحمراء والأيائل. لكني لا ألوم أحدًا. هم أيضًا ضحايا السوط. هل تعرف أيُّهُ؟
- مَنْ صَنَّفَ فَقَدْ اِسْتَهْدَفَ.
- سوط الدعاية، يا دين الرب!
- حميت نفسك من ثرثرة البرامج الأدبية والحركات الشيطانية للأيدي.
- يا للهول! تريد أن تبتلع البرشامة ولا يكون بمقدورك، كما لو كنت تأكل وتشعر بحاجتك إلى التغوط، كما لو كنت تضاجع وتخرأ، كما لو كنت تناضل وتشخ على الإنسانية.
- جِدْ مكانك في هذا الخراء.
- لأجد مكاني في هذا الخراء، يجب تبديل الذهنية، لا، تبديلها لا يكفي، يجب نسفها، الذهنية. الذهنية، أجنحة فرس أفكارنا التي تضاجعنا ونضاجعها، ونحن في المترو، ونحن في المخرآت، ونحن في المباول، ونحن في السوبرماركتات. يجب تفجيرها.
- اطلب من نابليون الصغير ذلك، عنوانه يعرفه الجميع.
- سأطلب ذلك من ماخور يعشق مرتادوه الشعر وحلمات النساء ويتعاملون مع الكلمات تعاملي مع السياسة بعقلانية.
- اتركه لشأنه، ماخورك، طلبت الفتاة الحمراء، وهي تكشف ثدييها وساقيها، ليس هذا شأنه.
- اتركيني أنت لشأني، يا ماخور الخراء! نبر الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه بابنة النار، ألسنا في قلب الدمار؟ ألسنا في خراء النار؟ الدمار كالنار حريتنا في هذا السقوط، فلنترك كل ما في أنفسنا يتساقط وإيانا تساقط الخراء من ثقوبنا، إنها حريتنا الوحيدة، الكائنات الذين هم نحن دون كينونة، إنه سوطنا الوحيد، سوط الخراء.
- رائحة الخراء شديدة من هذه الناحية، جاش النَّفَسُ في رئة القرصان، وهو يغلق أنفه بقبضة سوطه، ويهتف بالأخوين السياميين: كُفّا عن التقاتل، احملا الحقائب، واتبعاني!
- حملتُ كل الحقائب الفارغة أنا، باح الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه بحبه لنفسه، وهو يفتح بنطاله قابضًا على عضوه، لأملأها بما لا أستطيع حمله، ملأتها بالكتب التي لم أقرأها، بالملابس التي لم ألبسها، بالأطعمة التي لم آكلها، بالمرايا التي لم أر نفسي فيها، باللوحات التي لم أرسمها، بالمسرحيات التي لم أكتبها. ملأتها بكل ما لا أريد، بكل ما لا أعرف، بكل ما لا أطيق، وظلت حقائبي دومًا فارغة. لهذا كتبت مسرحياتي كي أملأ حقائبي، وأشعلت النيران، وهدمت الأسوار، وصرخت في الشوارع، وناديت على الطيور، وهتفت بالشياطين. لم يكن لي إخوة، فقلت للشياطين كوني إخوتي. غدت الشياطين إخوتي، وأنجزت الكتابة. اثنان وثلاثون كتابًا. لم تعد هناك مواضيع أكتب عنها، لم يعد المجتمع ما أفكر فيه. اكتشفت بعد كل هذا التعب وهذا الجهد أنني لم أفكر كثيرًا في عضوي، لم أغنّجه، لم أشبعه، لم أعش من أجله، وأن نسيانه كان العيش المنسيّ. آه! يا لسخرية الأقدار أن يعيش المرء لقضية كما عشت لقضية الكتابة ولا يعيش لعضوه. القضيب هو القضية! الحياة! الكون! القضيب هو سيد الكائنات، معليها، مدنيها! الجبار! القهار! المعجز، الإعجاز! دونه الدون، وعُليه العُلا! انهارت المدن بإرادته، واحترقت البحار، وزالت الحضارات! لم يقدّره الحكام ولا الرأسماليون ولا الفلاسفة! لم تحتفل به الأفخاذ السوداء والبيضاء والحمراء والسمراء والصفراء كما يجدر الاحتفال به! لم تغنِّهِ الأوبراهات، لم تُشِرْ إليه الإشارات، لم ترقص له الأدغال! لو أحسنْتُ استعمالَهُ لصنعتُ شعوبًا أكثر بسالة، ولكتبتُ كتبًا أكثر نجاحًا. أحسن الكتب لأجود الشعوب. لم أحسن استعماله، فتخلى عني، لهذا لم أجد دورًا أمثله في مسرحياتي. دور المنيك لا دور النائك! الدور الذي يمثله كل البشر في الواقع، في الهدم، في اللهب! دور كل يوم حُرمت منه، دور كل ما له صامت ولا ناطق! الآن ها هو يبكي عليّ، خسرني بعد أن خسرته، ولو كانت أمي لم تزل بعد على قيد الحياة لما وفرت عليّ هي الأخرى دمعها.
- ولكنك تركت الله، فتركك، وأفشل كل مشاريعك.
- أفشلت كل مشاريعه أنا، حطمت كل أبوابه أنا، أعدته إلى مكانه الطبيعي أنا، مكان لا طبيعي، أوهام يستقوون بها، فالحق بالوجود للمستقوي لا للقوي، بعد أن يحمل المرء عناءين، عناء الدنيا وعناء الآخرة. لهذا دومًا ما كنت ضد الدين لا ضد الأديان، فالأديان مسألة المجتمع، والدين مسألة الطبيعة. وبعد كل شيء، خراء كل هذا، كل هذا بؤس الإنسان. أنا الغاطس في خراي لا بؤس لي، آكل مع أبطالي الكرواسانات الساخنة كل صباح، وأشرب الشوكولاطة بالحليب.
- أنت خراء بورجوازي إذن.
- ثوري، خراء ثوري، خراء ثوري يذكّر بخراءات أخرى ثورية، وهي لا تعد ولا تحصى. العرب كخراءات ثورية أشجع وأروع وأكثر تفانٍ من الفلسطينيين الذين هم أيضًا خراءات ثورية، لهذا استبداد أولئك أفضل بكثير من استعباد هؤلاء. تضحياتهم طوال قرن لم تبلغ من القوة ما بلغته تضحيات المصريين في شهر أو العراقيين في أسبوع أو السوريين في يوم بغض النظر عن همجية المتدينين أو ورعهم. يحبون بلادهم بالكلام، وبالفعل يحبها غيرهم، لهذا كانوا كلهم شعراء، لا يقرأون سوى قصائدهم، وكالدمامل يفقعونها بأظافرهم. أما عن القراء فحدث، جهل مطبق، العالِم وغير العالِم. هنا يشترون الكتاب ولا يقرأون، هناك لا يشترون الكتاب ولا يقرأون. جحش تركي كل واحد. الحمد لله! خراءات ثورية، خراءات شعرية، خراءات فكرية، خراءات طهوية، خراءات عَرَضِيَّة، خراءات عَرْضِيَّة، خراءات طولية، خراءات عرصية، خراءات، خراءات، خراءات الحياة.
- أنا معجبة بك عندما تقارن بين الخراء الجزائري والخراء الفرنسي وتنحاز إلى الأول، الباقي أقل، لا أحب كثيرًا، اعترفت الفتاة الحمراء. هذا لا يمنع أن تكون كاتبًا جيدًا.
- أن تكون خراء شيء، وأن تخرأ شيء آخر، والاستثناءات ليست كثيرة. للخراء الجزائري رائحة زكية تملأ الفضاء في قصر الشعب منذ ثلاث عهدات، وهي ها هنا لعهدة رابعة، وربما خامسة، فبعض الموتى المحظوظين من الجزائريين يبقون أحياء، وإذا ما رضي الجزائريون عن مرتع خِصْب بإرادة اللاإرادة التي هي إرادتهم، إرادة الخراء. هل يوجد خراء كهذا في التاريخ؟ هم أسياد التاريخ من هذه الناحية، يضفي على خرائهم لطفُهُم سمة خاصة تجعلهم ليس فقط أسياد التاريخ بل وأسياد البشرية.
- والخراء الفرنسي؟
- خلافًا للخراء الجزائري، الخراء الفرنسي يَنْتُنُ برائحة كريهة جدًا، الرائحة الخبيثة في كل مكان، غير أن الرائحة الخبيثة رائحة كل جمالية، كل نحتية، كل تراجيدية، كل كوميدية، إنها رائحة الخلق والحياة، فماذا ننتظر لتدمير كل شيء، ليس فقط محطة بوبيني، ماذا ننتظر لتفجير كل شيء، ماذا ننتظر لحرق كل شيء، ماذا ننتظر، ماذا ننتظر، ماذا ننتظر؟ بدلاً من أن نفطس، أن نهلك، أن نزول، أن نأكل خراءنا، أن نشرب شخاخنا، وكتحلاية أن نبلع الوعود. ماذا ننتظر، ماذا ننتظر، ماذا ننتظر؟ اليومَ الذي نغسل فيه الخراء الوردي كالخراء البنفسجي، اليومَ الذي نكنس فيه الوجوه الدميمة كالوجوه الجميلة، اليومَ الذي ننزل فيه إلى الشوارع، كل فئات التسول الحديث، متقاعدو الستمائة يورو الأوائل. وبعد ذلك، البدء من جديد لبناء استبداد الحُلم، العبقرية، الجمال، الذكاء، الكبرياء، طفولة الغد، الجادات الكبرى. الفاشية تترصد، أمامنا، وراءنا، حولنا. خذي الطريق المحيطيّ، وسترين.
- بفضل الخراء أنت كاتب جيد.
- في عالم كما وصفته لك، يصبح المرء كاتبًا جيدًا أو رديئًا ليس بفضل الخراء الجزائري أو الخراء الفرنسي، ليس بفضل ما يكتب، وإنما بالعلاقة بما يبيع، مليون نسخة أنت أفضل كاتب في عصرك، مائة ألف ثلث أفضل أو ربع أفضل، ألف صفر، تكتب بقدمك، لغتك البسيطة معقدة، صورك الصافية مُعَكَّرة، الطبيعة والتراجيديا كالبرق والرعد لديك هذا صحيح، ولكن...
- أَعْبُدُ المقاطع الإباحية.
- تتماهى مع شخصياتك، تقوم معك وتقعد، توقظك خلال نومك في أي وقت لتكتب قبل أن تنسى.
- أًقْرَأُ مسرحياتك في نصف ساعة، فأنا لا أقرأ سوى المقاطع الإباحية التي أعبدها.
- تنفق بصرك، صحتك، عمرك.
- أعبدها.
- تنقطع عن العالم.
- في الواقع أعبد كل ما تكتب دون أن أقرأ كل ما تكتب.
- العزلة لعنة اللعنات لما تكون غير منتجة، وفي الحالة المضادة خيّرة من ناحية، ومُرَّة من ناحية، عندما تفكر في عجزك عن تأكيد ملكاتك وفي الوقت البعيد جدًا الذي مضى، فتتكلم مع نفسك، تشعر بنفسك مذنبًا، تقول لماذا، تدرك أنك أضعت حياتك، عند ذلك تؤنب نفسك، تؤنب العالم.
- خلال عشر سنوات، سيعترف الكل بك أحسن كاتب لكل الأزمان.
- أسوأ كاتب لكل العصور.
- أقل سوءًا من غيرك.
- أكثر خراءً من الخراء الذي أنا فيه! عزلة منتجة قلتُ؟ خيّرة قلتُ؟ الدمار هو العزلة، الغبار، الانهيار، النار التي تلتهمك من داخلك ومن خارجك ومن كلك، من كل وجودك، وجود لا يطاق، هو العدم، ابن شرموطة! تسأل عنك الجراذين ولا أحد يسأل، تتآخى وإياها، وتضاجع نفسك معها! تواجه على طريقتك العزلة، فتسقط في الوضاعة. العالم وضاعة، وكل ما أنتجت، كل ما خرأت أناشيد للإنسانية!
سقط من السماء الزرقاء دُوريّ أحمر الأرياش، بجناح محطم، وجناح لا يقوى على حمله. تعلق بالنار، وما لبث أن زلق بمخالبه. تعلق بالنار من جديد، وما لبث أن زلق مرة أخرى بمخالبه، ومن جديد تعلق، ومرة أخرى زلق. تهزهز إليه قلب الفتاة الحمراء، ولم تشأ له الاعتراف بهزيمته. وضعته على كفها، هزيل الوجه، هزمته النار شر هزيمة. فَرَّ الدُّوريّ الأحمر من بين أصابع الفتاة الحمراء، وراح ينقر النار. هزت هذه كتفيها، وتركته ترك الماء لهازجة الماء. اهتشت للرماد، وانتشت انتشاء نار تأكل الهشيم. وكطائر هش العِنان، حلق الدُّوريّ الناريّ بجناحه المحطم وجناحه الضنيّ، فوق رأس الفتاة الحمراء، فرأت كيف أضناه الغم والهم. كان عاشقًا لحلمتيها! نبتت في قلب الدمار شجرة كرز ما أن كشفت ربة النار صدرها، وتفتحت الأثداء ما أن نقر الدُّوريّ الأحمر الكرز منهما. لم يكن الإذعان، كان العصيان. المناقير. النار. القبلات الحرام. قطار من النساء المسلسلات بالشبق والبيرة. بسقوط الأمطار. بالذهب. لماذا لم يفتح لي الباب؟ لماذا لم يجعلني أدخل؟ لماذا تخلى عن اشتهائه لي؟ سأقرع الجرس ثانية. هل يخشى الاحتراق بالورد؟ الغرق في العطر؟ الاختناق في الحرير؟ سأقرع الجرس ثالثة. أنا لن أحطم الباب، سأحطم العالم. الثورة في الجسد. الثورة في العقل. الثورة في قلم الحمرة. تَمَرُّد الفيديو، تَهَجُّم الهاتف النقال، تَحَدِّي الحاسوب. كل التكنولوجيا المُخضعة أخضعها. في أنترنت حريق. صورة افتراضية لحبي. حبي المحترق المحرق. عشاقي يلتهمون ثديي المتعذر لمسه، بطني، فرجي. لك أهبه والعواصف. تمردت الرياح والأغاني. أنا الرياح. أنا الأغاني. أنا الليالي التي أحمرها أصفر كالأقاقيا.

* * *

في شارع سِلس غير بعد عن مونبارناس، كان ضوء أحمر يرسل أشعته من مصباح على عمود ينحني، وهو على وشك السقوط. تحته، توهج شعر دوروتيه توهج اللهب، وكل دوروتيه تلهّبت، لهذا كانت على عجلة من تنفيذ ما جاءا من أجله، هي والمتواطئ معها، بأقصى سرعة.
- ماذا تنتظر، يا دين الرب؟ نبرت بحنق.
- وإذا ما كان أحد في الداخل؟ تردد المتواطئ.
- ألم يقولوا إنهم أخلوها؟
- شركة التأمين لا يهمها لا بقليل ولا بكثير أن يخلوها أو لا يخلوها.
- ونحن أيضًا، يا دين الرب!
- ليس أنا.
- أنا بلى، أنا بلى، يا دين الرب!
- انتظريني.
تسلل داخل العِمارة، بينا دوروتيه تشتعل بنور المصباح وبرغبتها في تنفيذ ما أُريد منها بأقصى سرعة. نظرت إلى أقصى الشارع الضيق، فلم يكن أحد هناك. كان الليل ركامًا على حِنطة.
- العِمارة لا أحد فيها، ألقى المتواطئ قبل أن يصل إليها.
- لنشعل فيها النار، نبرت دوروتيه.
- يجب أن يبدو الأمر متعمدًا لا لانفجار الغاز بسبب النار أو غيره.
- عِمارة على وشك التهدم وتتكلم عن غاز!
- هناك غاز.
- وماذا يهم؟
- سيتفجر الغاز، ولن يعرفوا سببه.
- سيعرفون، يا دين الرب!
- حادث إجرامي، يجب أن يمضي الأمر على أنه تخريب، كيلا تدفع شركة التأمين سنتيمًا واحدًا.
- كيف سنتصرف؟
فتح حقيبة كان يحملها طوال الوقت، وأخرج منها قنبلة موقوتة.
- لا، ليس هذا، يا دين الرب!
- إنها الوسيلة الوحيدة.
- وهل يعلمون في شركة الخراء؟
- لا.
- ماذا إذن؟
- قالوا أن نتدبر أمرنا.
- أن نتدبر أمرنا، ليس بقنبلة موقوتة، يا دين الرب!
- إنها الوسيلة الوحيدة.
- وأنا التي أحضرت أعواد الكبريت.
فتحت علبة كبريت كبيرة، وأفرغتها تحت قدمها.
- كانت في سعة من عيشها، أمي.
- ما الذي جاء بأمك هنا، يا ماخور الخراء؟
- هكذا.
- لماذا تفعلين هذا الخراء إذن؟
- قلت "كانت"، يا دين الرب!
- وأنا أيضًا كان أبي معلم كل المواخير في باريس!
- أنا أكذب، فلا تصدقني.
- لماذا لم تقولي لي من قبل؟
- وكانت تشعل عين الغاز، وتتركها هكذا.
- أهلاً وسهلاً بالكذب!
- بماذا أقسم لك؟
- لندخل، يجب أن ننهي الشغل.
- أي شارع هو؟
- أنت تمزحين!
- أنا لا أمزح.
- سِلس، يا ماخور الخراء!
- رجال المطافئ!
- وماذا أيضًا!
- هل تسمع رجال المطافئ؟
- كفى!
- أنت لا تسمع رجال المطافئ؟
- قلت كفى!
جذب المتواطئ دوروتيه، واخترق معها العمارة إلى مكان بدأ يربط فيه القنبلة الموقوتة، فوضعت دوروتيه في فمها سيجارة.
- هل فقدت عقلك؟
- ليس لدي كبريت.
- كنت أظن.
- قفاي!
- الأفضل!
- أحب النار.
- وأنا قفاك.
- لون النار.
- كفى!
- طعمها.
- كفى، يا ماخور الخراء!
- لهبها.
- لهب قفاي!
- وإذا ما أحرقت فمك؟
- ...
- وإذا ما أحرقت ثديك؟
- ...
- وإذا ما أحرقت سرتك؟
- ...
- وإذا ما أحرقت حمامتك؟
- ...
- وبقول آخر زُبّك؟
- ...
- وإذا ما أحرقتك كلك؟
- ...
وهو يُعِدُّ القنبلة الموقوته مقرفصًا، خلعت دوروتيه كنزتها في ظهره، وجاءته بثدييها الطويلين الركينين. تدلت بهما فوق رأسه، ورفعته من وجهه، ليقع على أجمل قصائد بودلير وأكثر الأبيات شبقًا ومجونية. همس من الصدمة، صدمته الوجودية: "يا ماخور الخراء!"، وجمد بعينيه على قطفي العنب المتدليين، لا يدري ما يفعل. قرّبت حلمة الثدي الأول من شفتيه، وجعلتها تمسهما مسًا خفيفًا، ثم حلمة ثديها الثاني، فقفز من مكانه ليلقيها أرضًا، والثدي الأول في فمه، فالثاني، وليتدحرج بها، وهي في ثغره بركانًا لا تعرفة فرنسا إلا في مضاجع الملوك والرأسماليين. الآن عليها هي أن تلتقم الثدي الأول، فالثاني، وأن تزلق بشفتيها على بطنه حتى فرجه، وأن تُخرج فرجه من بنطاله، فرجٌ بطول نصف العصا، وأن تأخذه حنونةً حنانَ كل الأمهات في الدنيا بفمها، وتروح به لعقًا ومصًا وملاطفةً. كانت قنبلتها الموقوتة التي أخذت بالدق، فنقلت عضوه من فمها إلى فرجها، والدق يزداد ارتفاعًا، يزداد ارتفاعًا. أراد أن يقلبها، فرفضت. ارتفاعًا، ارتفاعًا. صاح: "يا ماخور الخراء!"، فصفعته. ارتفاعًا، ارتفاعًا. كان لا بد أن يتم التدمير أولاً، وعلى أكمل وجه: باريس في الليل، علبها، كباريهاتها، أزقة المني. ارتفاعًا، ارتفاعًا. بدأت هي أولاً بالتفجر، وهي تصرخ، ثم تفجر هو، وهو بدوره يصرخ. صرخ كل شارع سِلس، وسُمع الصراخ حتى أعلى طابق من برج مونبارناس.
وهما في الخارج، تناولت دوروتيه عود كبريت من الأعواد التي ألقتها أرضًا، وأشعلته.




القسم السابع

في محطة الشمال، لم يكن هناك وقت للضياع، وكل شخص هناك لسبب، وأهم الأسباب القدوم أو الإقلاع. كانت القطارات لا تتوقف عن الدوران في كلا الاتجاهين، والركاب يمارسون ما غدا طقسًا لديهم ألا وهو النزول من هذا القطار أو ذاك والصعود في هذا القطار أو ذاك، وكانوا على عجل دائم، شيء طبيعي أن يكونوا على عجل دائم والمكان محطة، أخيرة لبعضهم، وما قبل أخيرة لبعضهم. كانوا كلهم يتشابهون، في شكلهم، في مشيتهم، في نظرتهم، في حركتهم، في فعلهم، فعل مرتهن بسحب الحقيبة، بحملها، في ذمهم، في ذمتهم، في ذِمامهم، وكانوا كلهم لا يبالون ببعضهم البعض، ودافع ذلك كان المؤقت الذي يسيّرهم، كانوا في محطة الشمال لبعض الوقت، كانوا هناك مؤقتًا، وما كانت محطة الشمال سوى موقف للقطارات وللحياة بانتظار التحرك والتصرف والعبور إلى "أشغالنا". كل شيء كان يبدأ في محطة الشمال، لم يكن من الضروري أن نعرف ذلك، لكننا كنا نعيش ذلك دون أن نعرف، يكفي أن ننظر إلى الناس في حركتهم وسلوكهم، كان لكل منهم مشروع يبدأ هناك أو ينتهي، مشروع يمس الجوهر، جوهر الذات كجوهر الحياة، لهذا كان كل وجودنا يتوقف على حركة نقوم بها في محطة الشمال أو إشارة، على قرار نقطعه، على علاقة نقيمها أو ننهيها، على رأي نقره، كانت محطة الشمال فضاء كل مصائرنا، لهذا عزمتُ على المساهمة في الدفاع عن هذه المصائر، بتواضع شيطاني، وبالقدر الذي أستطيع عليه، أن أُشبع حاجات الناس، أن أجيب بشكل من الأشكال على ما ينتظرونه مني، ليس كلهم، بعضهم، فقط بعضهم، من يقع عليهم اختياري، فالأمر لن يكون بدافع الصدفة، لأن الصدفة لا قدر لها، ولأني أرمي إلى عقلنة ما يدعى بالعبث في هذا العالم، إلى إثبات أن العبث من صنع يدينا، هناك مفارقات، لكن المفارقات ليست العبث، فلم أكن شديد التشبث بالأصول.
ابتسمتُ لامرأة، لصورتها المتلاشية، امرأة في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ولا تعرف كيف تتدبر أمر نقلها. اقتربت منها، لم يكن يبدو عليها أنها تفاجأت باقترابي منها. "لا حقائب لديّ"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. "لا بعير أركب ذنبه"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. "لا عمل أغرق فيه حتى ذقني"، قلت لها. "أرى ذلك"، قالت لي. كانت حقائبها من الثقل بحيث صَعُبَ عليّ تحريكها، فالتفت من حولي لأقع على عازف غيتار شاب قوي البنية جالس على جدار. شُحْرور ناريّ. كان يعزف ويغني دون أن ينظر إلى أحد، كان يغمض عينيه، ويعزف، ويغني. كان يرد على حجة أو على هجوم، ويشعر بجسده يرتخي. قلت "للناس في ما يعشقون مذاهب"، وناديته، فتوقف عن العزف والغناء ناظرًا باتجاهي. أشرت إليه بالمجيء، فجاء. دون غيتار. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه واسعاً، ثم أقل كبرًا، بعد أن سحبت الأولى، ثم أقل كبرًا، ثم أقل كبرًا: كان قد وقع في الفخ. "احمل هذا إلى التاكسي، قلت للمغني. إلى التاكسي، أليس كذلك؟" سألتُ المرأة. "نعم، إلى التاكسي"، أجابت المرأة. "لن أرفع عيني عن غيتارك"، قلت للشاب. نظر إلى غيتاره، ونظر إلى الورقة النقدية، ودون تردد وضع الورقة النقدية في جيبه، وحمل الحقائب. تركته يبتعد مع المرأة، ووجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين. كانت الطفلة شبه غائبة عن الوعي، "بسبب القطار، قالت الأم، ابنتي لا تحتمل السفر في القطار." أخذت أبحث في جيبي عن قطعة سكر لم أذبها في قهوتي، وأنا في مطعم القطار، وكأن الأم فهمت. مالت برشاقة طبيعية، إشارة الرضى. أخرجت قطعة السكر، وأنا أقول ها هي. قبل أن تتناولها الأم، مزقتُ غلافها، كانت القطعة قطعتين، أعطيتها واحدة، ولكلب كان يمضي أعطيت الأخرى. شكرتني الأم، واختفت. كنت سعيدًا لأنني قدمت ما كنت أستطيع عليه من عون. مع رِعشة لَذة. كإبرة الراعي. وبينما كنت أتقدم مع القادمين، تعثرت بالكلب الذي أطعمته منذ قليل قطعة السكر ميتًا. جن جنوني، وأنا أبحث عن الأم وابنتها، كانتا قد اختفيتا تمامًا. أرغيت وأزبدت، ووقعت على المرأة صاحبة الحقائب التي أوصيت بها الشُّحْرور الناريّ. "ذاب عازف الغيتار كالملح في الخراء"، قالت لي، وهي تنشج. عدت بسرعة إلى المكان الذي ترك العازف فيه غيتاره، فلم يكن هناك غيتاره. وأنا أدور برأسي، وعيناي تقدحان شررًا، لفت انتباهي إليهما رجل وامرأة شديدا التجهم، كما لو كانا رفًا من الأسماك، ففهمت أنهما في وضع على وشك التفجر. التقطت أحد الملاكمين، وطلبت منه أن يقول للمرأة كلمات تسليها، إذ لديها مشكل، وهي ستكون لطيفة معه، وغمزته، فانفجر الملاكم ضاحكًا. كان عليّ رفع الجثة بأي ثمن. ذهب إليها بعضلاته المفتولة، وأخذ يرقّصها لها، فابتسمت، وبعد عدة خطوات ذهب عنها تجهمها. سحب الملاكم حقيبتيها عنها، وتمكن بعضلاته وحديثة أن ينسيها شجنها. اندمجت معه، وتعلقت بذراعه، ونسيت رجلها والعالم. لم يتابع رجلها شعوذة الأحاسيس حتى النهاية، بسبب مجموعة صاخبة من الشبان والشابات أخفت المشهد عنه. أخذتْ بعضُها برقابِ بعضِها. وهو على مقربة من شابين، أسود وأبيض، الأبيض أشبه بالأسود من الماء بالماء، يلعبان الشطرنج في حضرة الملوك، أخرج مسدسًا من جيبه، وضعه في رأسه، وأطلق، فسقط برأسه على رقعة الشطرنج، في الوقت الذي قال فيه أحد الشابين "الشاه مات!" شَغْرَبِيَّة؟ ليس تمامًا. تعثرتُ بأذيال الخيبة، وأنا أسقط على راهبة حبلى جاءها المخاض، أو هذا ما ظننته لما رأيتها على الأرض جاثمةً وسط القادمين، وهي تصرخ، وتضغط بطنها بين ذراعيها. لم أكن طبيبًا ولا ممرضًا، ولم أكن أفهم في أشياء النساء تلك، الولادة ليست في مركز اهتماماتي، الولادة عبث الحياة، وعلى الخصوص عندما تأتي في الوقت غير المناسب والمكان غير المناسب. ركبني الشيطان، كان عليّ أن أفعل شيئًا من أجلها، إذا ما تعقدت الأمور فقدت وليدها أو فقدها العالم هي وولديها. بشر أقل هذا شيء حسن، قلت لنفسي، لكنني رأيتني أحملها، وأركض بها، فهي حبلى، وهي راهبة، وهي على وشك الولادة. "أنا امرأة دين تريد أن تكون امرأة جنسية، تلعثمت المرأة، وها هي النتيجة!" "امرأة دين؟ أعدت دَهِشًا، أليسه ثوب التنكر؟" "وكل هؤلاء، ماذا يرتدون؟ تهكمت الراهبة، ثوب المسيح؟" وضعتها على مقعد، وذهبت أركض في طلب الإسعاف الذي لم أجده. بعد قليل، عدت مع منظفة المراحيض، قالت إنها لا تعرف شيئًا عن التوليد، وبين لا تعرف ولا تعرف يجب ارتكاب أخف الضررين. لكنني لم أجد الراهبة الحبلى، ووجدت نجيمة سينما تبكي، وَطُنٌّ من الكحل يسيل من عينيها. امرأة جنسية تريد أن تكون امرأة دين. ظننتها تبكي لبلاء، كانت تبكي، وتحدث نفسها قائلة: "بعد أن تركتني لن أغادر محطة الشمال، اليوم وصلت، ومنذ اليوم سأبقى، سأعيش هنا، سأموت هنا، سأجعل من كل العشاق الراحلين عشاقي، سأبكي مع كل المخدوعات، سأحب كل مراقبي التذاكر، سأنام مع كل سائقي القطارات، سأجعل من كؤوس القهوة الكرتون التي يرميها المسافرون فراشي ووسادتي، سأحلم بخطوط السكك الحديدية، سأغني مع الساعات، سأرقص مع الإشارات، سألوّح بيدي للقطارات، سأطرد الحمام لئلا أكنس من ورائه، سأحمل الحقائب لئلا يبدل الراحلون رأيهم ويعودون أدراجهم قرب حبيباتهم اللواتي كانوا يزمعون على تركهن، سأراسل كل العاشقات التعيسات مثلي وأحكي لهن عنك كي يبكينني، آه يا حبي الغادر، يا حبي المغادر، يا حب السكة الحديدية..." أردتُ بها رأفة، فجمعتها بين ذراعيّ ودًا وتحنانًا، فإذا بي أسمع أحدهم يصرخ بعصبية: "اقطع..."
"لماذا تجعل ماما تبكي، يا حبيبي؟" شهقت الأم، وهي تتشاغل عن الضجر. رمى صبي سمين جدًا الحقيبة الصغيرة جدًا التي يحملها على الأرض، وراح يضم أمه، وهو يبكي. "لا تبكي، يا ماما"، رجا الصبي، وهو يركبه الحياء. "لا تبك، أنت، يا حبيبي"، قالت الأم. "أنا أبكي لأنك تبكين، يا ماما"، قال الصبي. "أنا أبكي لأنك تبكي، يا حبيبي"، قالت الأم. "توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، يا حبيبي." "أتوقف عن البكاء إذا توقفتِ عن البكاء، يا ماما." "أتوقف عن البكاء إذا توقفتَ عن البكاء أنتَ، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء أنت أولاً، يا ماما." "توقف عن البكاء أنت أولاً، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء أنت أولاً، فأتوقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." "توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، توقفي عن البكاء، يا ماما." "توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، توقف عن البكاء، يا حبيبي." اقتربتُ منهما كي أقدم يد العون، العون الذي أقدر عليه، فانفجر كلاهما يقهقه منشغل البال.
كان الكل ينتظر الكل، والكل يودع الكل، في محطة الشمال، فلا يمكنك التمييز بين الواحد والآخر، إلا إذا كان الأمر متعلقًا بكبار الكرادلة الذين استقبلوا الراهبة الحبلى بثيابهم الكهنوتية، على طريقة فيلليني، استشفافًا لنوايا أنفسهم، باحترام وإكبار كبيرين، وهم يحيطون بها من كل جانب، وهم يمدون أياديهم لتطبع عليها القبلات المهيجة، وهم يجعلون من قصصٍ تحوي العجب العجاب أنفسهم. أما إذا كنت لا تعرف من تنتظر، فالأمر يمكن أن يصل إلى حد الكارثة، إلى الإشفاء بك على حافة اليأس. شيء لا يدخل في المعقول أن يرفع وكيل أحد الفنادق لوحة كتب عليها اسم النزيل المجهول في وجهك، بشيء من وقاحة لا تحتملها، فتعزم على تركه ليشق عباب البحر وحده. الجهل مهنته، وفوق هذا الوقاحة طريقته إلى المعرفة. حقًا! إن الإنسان كائن غير عاقل. كرر الأمر مع غيري، والكل يُعرض عنه. لاحظت أحدهم يخبئ نفسه على طرف اختباءَ شقيقة النُّعمان، كان يتابع وكيل الفندق بعينيه، ولا يجرؤ على المجيء إليه. حيرني أمره، وأنا لحيرتي، شق عليّ ألا أقول له. اقتربت من وكيل الفندق، وأشرت إلى المشكوك في أمره. ذاك الرجل هناك هو نزيلك، همست في أذنه. لم يفه وكيل الفندق بكلمة، عجل الذهاب إلى حيث أشرت، وبعد جملتين وثلاث إيماءات باتجاهي، عاد مع النزيل. لم أبق طبعًا في مكاني، رأيتهما يتجهان نحو باب الخروج، ويتوقفان على بعد عشرة أمتار من رجال شرطة كانوا يوقفون كل شخص يشتبهون فيه، ويفتشونه. حمّل النزيلُ وكيلَ الفندقِ ما كان يحمل، محفظة مستطيلة، وطلب منه أن ينتظره في الخارج ريثما يذهب إلى بيت الخراء. رأيته، وهو يخفي نفسه من وراء عمود، ويراقب ما سيفعله رجال الشرطة بوكيل الفندق، هل سيتركونه يمضي في سبيله؟ هنا كل المشكلة. فتحوا الحقيبة، كانت مليئة بالمكعبات البيضاء. أنا لا أتقن ضرب الرمل. ما لفت انتباهي وصول أحد الشبان، وهو يركض، ويلهث، ويتدافع في طلب الرصيف الذي غادره كل القادمين، ويترامى في أحضان الأقاقيا. تجدر الإشارة إلى أنه كان كمن يشاور ضميره. رفع قبعته السوداء الحريرية عن رأسه، وشدها إلى صدره حزينًا، تلفّت ببذلته السوداء المخططة من حوله عله يقع على المرء الذي جاء لاستقباله. عاد يلقي نظرة ثابتة على الرصيف الخالي، وبقي هكذا دون حراك، وكأنه جمد كحجر المرو. كما يشاء.
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت لا يتوقف عن الكلام، هذا القطار وذاك، وهذا الموظف وذاك، والسيد فلان والسيدة فلانة، والإقلاع القادم والإقلاع ما بعد القادم، والوصول القادم والوصول ما بعد القادم، ويُرجى من المسافرين ويُرجى من غير المسافرين، وممنوع التدخين وممنوع غير التدخين: ممنوع القعود في الممرات للحيلولة دون عرقلة نقل الحقائب، ممنوع التجمهر أمام الأرصفة لترك المسافرين يمضون إلى قطاراتهم، ممنوع الانتظار طويًلا في مكان واحد لترويض القدمين على المشي، ممنوع ترنيق النوم في العينين، ممنوع الرَّهْو في السير – كما لو كنا أحصنة، ممنوع... ممنوع... ممنوع... كل شيء لا يُذكر، كل شيء عديم الأهمية، فهل سيمنعون التقبيل؟ قُبَل الوداع على الخصوص؟ القُبَل الحزينة؟ قُبَل الأقاقيا، هذا ما كنت أتمنى على الرغم من خطر التشيئة. القُبل الشيطانية نعم، القُبل الحزينة لا. كان فتى وفتاة يقبل أحدهما الآخر من حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وطبيب أسنان لم يكن بعيدًا، وحوض لصغار أسماك القرش التي مات والداهما، وأحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم بالكيلو: نصف هذا الكتاب أيضًا، ليس كافيًا، عشرون صفحة أخرى، صفحتان، هذا كثير، صفحة، نصف صفحة. في كل مرة كان طبيب الأسنان يريد أن يخلع سنًا يخطئ ويخلع أخرى، وفي كل مرة كانت أسماك القرش الصغيرة تريد أن تقوم بقفزة تتردد وتكسر أعناقها في قعر الحوض، فتكركر بنات الفرح، غير عارفة للحزن على الموتى، سلالتها باقية ما بقيت الحياة، لا شيطان تحتاج إليه ولا قبعة يضعون فيها البحر ولا إله. بدأ الفتى والفتاة يبكيان، فتقدمتُ منهما، وطلبتُ إليهما أن يسألاني أي شيء يجعلهما سعيدين. زين للفتى الشيطان، فنهض، وسدد ضربة إلى بطني. لف خصر الفتاة بذراعه، وغادرا المحطة. هذا جزاء الإحسان، كما يقال. ابن المومس! بعد قليل، عادت الفتاة بصحبة فتاتين أخريين، وكل منهن تسحب حقيبة. أخذن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ويشرن إلى الناحية التي ذهب الفتى منها غير مأسوف عليه، ويقهقهن، فنصبتُ للهوى الأنثوي المثلي تمثالاً. عُدن يقبلن بعضهن من ثغورهن فرحًا، ثم ما لبثن أن ذهبن، واختفين بين ذراعي جنازة مهيبة للقرشين الأبوين.
لم يكن كل ذلك لعبًا، كان كل ذلك كاللعب. أخذ أحد لاعبي الرُّغبي يلعب وحده، وهو يركض بكرته من هنا إلى هناك. لم يكن أحد يلعب معه، كان يطلب من المنتظرين لقطار قادم أو المنتظرين لقطار مغادر أن يلعبوا معه، ولم يكن أحد يلعب معه. كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، وكان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، وفي كل مرة، كان يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها. جاء بعض العمال، وفتحوا مصرفًا بين الحقائب. نزلوا في المصرف، وتركوه مفتوحًا. ذهبت، وأغلقته. كان لاعب الرُّغبي يلقي بجسده وكرته فوق الحقائب التي تنتظر نقلها، هكذا كان يفعل، كان يركض بكرته من أقصى المحطة إلى أقصاها، ثم يلقي بجسده وكرته على الحقائب التي تنتظر نقلها. سقط في المصرف، وأنا بين مصدق ومكذب، فقد أغلقته بيديّ هاتين. جاء رجال المطافئ، ورفعوه على نقالة، كان الدم يسيل من كل وجهه، وكان لا يتحرك. بعدما أنهى المكلف بنقل الحقائب نقلها إلى عرباته المتشابكة على شكل سلسلة، وقع على كرة الرُّغبي، قلّبها، وابتسم لها، ثم ضربها بقدمه، فطارت تحت سماء محطة الشيطان، ولم تسقط. تحير الشاب، وانتهى به الأمر إلى هز كتفيه، وسياقه للعربات. وهو يمر بشيخ هرم، رأى الكرة تحت إبطه. "وجدتها هناك، قال الشيخ الهرم، مجرد مصادفة، ليست لك؟ إذن سأقدمها لحفيدي." كان أول الصاعدين إلى القطار.
هناك أول من يصعد وهناك آخر من يصعد، هذا القول لأفلاطون. لفت انتباهي إليه مُقعد على ركبتيه حقيبة كرتون ينتظر، اقتربت منه، وسألته إذا كان ينتظر أحدًا، فقال إنه لا ينتظر أحدًا. سألته "من أحضرك؟" أشار إلى شاب يرتكز على حافة المِصعد الآلي. "جان، أجابني، ذاك الشاب الذي يقف هناك." "سأناديه"، اقترحت. "لا تنادِهِ، أجاب، إذا ناديته ما تركني أسافر." أدهشني منطقه، كان في محطة الشمال لأجل السفر، وجان من يُعنى بذلك. "سيغادر قطارك؟"، قَلِقْتُ. "سيغادر"، أكد. "متى؟" "لا أعرف." "والوجهة؟" "لا أعرف." "سأنادي جان." "أرجوك، لا تنادِهِ، لن يتركني أسافر." "أين تذكرتك؟" "مع جان، أو، ربما، كنت على خطأ..." بحث في جيوبه، فوقع على تذكرته. "ها هي"، قال. فحصتها، وعرفت الوقت والوجهة. "قطارك سيغادر بعد قليل، سأدفعك حتى الرصيف." دفعته، وهو لا يفوه بكلمة، ثم أقفل عينيه، وأغفى. أوقفته قرب القاطرة الخلفية، وذهبت أبحث عن العربة التي سيركبها بين العربات. التفتُ إليه، فوجدته يغفو دومًا. واصلت البحث، وعدت ألتفت إليه، فلم أجده. دفعني الخوف على الرجل إلى الركض، فوجدت جمعًا من الركاب والموظفين. كانت عربة المُقعد قد زلقت خلال نومه، وسقطت به من الرصيف المقابل في الوقت الذي وصل فيه أحد القطارات. لم يتصرف على هواه!
حقًا، لا حظ للناس معي، ومع ذلك، كان عليّ أن أفعل شيئًا للمسافر الذي لم يشتر تذكرة سفره بينما قطاره كان على وشك الرحيل. لنبرته العدائية، المتعالية، رفض له كل من كان قبله حق الأولوية، فالصرامة لا تقبلها إلا الصرامة. تمكنت على طريقتي من تأخير ساعة الرحلة، كان تصرفًا بغير عِوَض. "لقد تأخر موعد إقلاع قطارك"، طمأنه موظف شباك التذاكر، فتنفس الرجل الصعداء. لفّ على كعبه اختيالاً، وهو يلوح بتذكرته في وجوه الجميع، كالمنتقم، وكأنه يقول لهم يا أوباش الخراء، إن الأقدار معي. لكن الأقدار لم تكن معه، لم تكن مع أحد، كانت الأقدار مع الأقدار. لتأخر قطاره القسري، حصل اصطدام مروع بين قطاره والقطار الذي يليه. وهو صغير، لم يكن صعب المراس.
وعلى مقربة ليست بعيدة من الخفيّ، من المجهول، كان شاب أحمر الشعر يشد شعره ضد ماكينة تبديل النقود بعصبية. "ابتلعت الماكينة نقودي مقابل لا شيء"، كان يجمجم. أراد الاستعانة بشرطيين كانا يمران من هناك، لكنهما عبّرا عن عجزهما. "أنتما في خدمتي"، نبر. "خدمتك على قفانا، نبرا، هذا أصغر همومنا!" هو أيضًا كان قطاره على وشك الرحيل، وفي الشانزلزيه كانت الشمس. جاء أحد المتسولين غير الفاهمين في شئون ماكينات تبديل النقود، حاول ما حاول، ودومًا دون فائدة. في الحي اللاتيني كانت امرأة. ضرب الشاب ماكينة تبديل النقود بقدمه، وذهب غاضبًا. في قصر المؤتمرات كان أزنافور. "حقيبتك"، صحت من ورائه. لم يلتفت. عجلت الذهاب بالحقيبة إليه. "حقيبتك، نسيت حقيبتك"، قلت للشاب. "ليست حقيبتي، قال الشاب، لم تكن معي حقيبة." تركني حائرًا، وبعد عدة لحظات من التردد، فتحت الحقيبة. كانت ملأى بالنقود. عدت أبحث عن الشاب بعينيّ دون أن أجده، ولما يئست، إذا بإصبع تدق على كتفي. التفتُّ، كان الشاب. أخذ مني الحقيبة، وذهب. بعد عدة لحظات، دوت ثلاث طلقات. في بيغال كانت نورسة تختال على بساط أحمر.
هكذا يذهب البائسون بِشَرْبَةِ ماء دون أن يدروا أن الحظوظ شيء يُلمس، ربما كانت شيئًا لا يُدْرَك لكنها تظل شيئًا يُلمس. كالجدران. رفعت رأسي مع عدد ممن رفعوا رؤوسهم إلى الجنة تحت أقدام الأمهات، الأمهات؟ يا للعار والشنار! إعلان عملاق لفتاة يطير فستانها كاشفًا عن ساقيها المجنونتين فسقًا ودلالاً، الفاسقات والمدللات؟ يا للمجد والعلياء! كانت كل الأمم تتعلق بساقيها، كل المدن، كل الحضارات، كانت ساقاها يوم البعث، تعيد للموتى الحياة وتميت الأحياء، تنزلهم إلى الحضيض الأسفل وتعليهم في آن إلى القمم الشماء. الإعلان لم يكن مهمًا، كان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على تدمير الجدران، وإهانة الدمامة. كان الإعلان على مستوى واحد مع لوحة القطارات. إنجليزيات. إنجليزيات عذراوات كن ينتظرن تحتها، اليوروستار حتمًا، رأيتهن يصعدن إلى "الكون ستار"، إلى أعلى مرتبات الجمال، إلى جانب فتاة الإعلان الساحرة. كشفن عن سيقانهن، وتحولن إلى ربات للفسق والدلال. كنت أضحك من أعماق قلبي، من أعماق كِياني، وكنت أصهل، وكأني حصان أبيض يعدو على شاطئ لبحر لا نهاية له. غدا العالم كله مرتعًا، باريس ولندن ونيويورك وميامي وهافانا ومكسيكو ومكة ودمشق وبغداد والقدس، أضاف دلال سيقانهن إلى القدس ما كان ينقصها من قدسية، وفسق سيقانهن ما كان ينقصها من عفة. كان ذلك كمن يصقل أسلحة دماغه.
عندما هدأت المعاصي فيّ، ساقتني قدماي إلى نصف هرم مرفوع على رأسه، وعلى عتبته رجل تنبثق من صدره أصابع ميتافيزيقية مسببة له عظيم الألم. سألته الأمر، فأبدى لي عظيم يأسه. "لم أنجز بناء قبري، قال الرجل، وألمي بسبب السرطان الذي لدي في رئتي يسبب لي عظيم الألم والعذاب، فلا أنا قادر على إكمال البناء ولا أنا قادر على احتمال الألم." كان عليّ أن أعينه، أن أكمل البناء عنه أو أن أقتله. إذا ما أكملت البناء عنه لن أضع حدًا لعذابه، وإذا ما قتلته لن أكمل بناء القبر الذي ينشد دفن نفسه فيه. "أَكْمِلْ بناء قبرك خير لك مما أنت فيه"، قلت للرجل. "ولكن كيف؟ صاح الرجل، وعذاب جهنم الذي أنا فيه؟" "تدبر أمرك"، رميت كلماتي قبل أن أتركه. وهل للطائر الكاسر لجناحه أن يتدبر أمره؟ يتدبر. وهل للسمك السامل لعينه أن يتدبر أمره؟ يتدبر. وهل للنرجس الحارق لهيئته أن يتدبر أمره؟ يتدبر.
وبينما كنت أفكر في قسوتي اللامصدقة، الصليبية الشكل، الجهادية المحتوى، البعثية، دونما سرور طبعًا، ودونما تمييز الصالح عن الطالح، سمعت شابًا أسمر البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إنه لا يعرف، وأبدى أسفه. "اذهب إلى مكتب الاستعلامات"، أضاف. لم يذهب الشاب الأسمر إلى مكتب الاستعلامات، وأخذ يسأل المسافرين. اعتذر الكل، فجعل الشاب الأسمر قدمه تمضي بكل الأرصفة دون أن يقع على قطاره. لم يكن قطاره موجودًا، فلم تكن وجهة سفره معلومة. أخيرًا في مكتب الاستعلامات، قالوا له بين كل القطارت المقلعة لا يوجد قطارك، ولا وجهة سفرك، حتمًا أخطأت المحطة، هل هي محطة الشمال؟ حتى عندما نخطئ محطتنا تكون المحطة محطة الشمال، انصهار الشعوب فيها، وأنهار دموع الصفصاف المستحي فيها، وذكريات قطوف موز أريحا فيها.
تفاجأت بإحدى الفتيات السمراوات، وهي تسحب الشاب الأسمر من ذراعه، وتجري به إلى رصيف وهميّ. رصيف شيطاني من أرصفتي. من حظك أن القطار لم يقلع بعد، قالت الفتاة السمراء. شكرها الشاب الأسمر، وهو يدفع حقيبته من باب عربة القطار الوهميّ. بدأ القطار الوهميّ يتحرك، فقفز الشاب في العربة، وبعد قليل خرج بوسطه من أقرب نافذة، وراح يلوح بيده للفتاة السمراء إلى أن اختفى القطار الوهميّ تمامًا. جاءتني الفتاة السمراء، وشكرتني شكر من صنتُ عِرضه. ابتسمت لي، وقبلتني قبلة من حفظتُ مقامه. "لو لم يسافر لأضاع حظه"، قالت الفتاة السمراء. "ولكنه سيضيع حظه"، قلتُ. "لن ينجح في مسابقته؟" "لن ينجح." "إذن لماذا؟" "لأرضيك." "لترضيني؟" "شرط أول." "ماذا تشترط عليّ؟" "هناك من ينتظرنا في مقبرة القطارات." "هيا بنا." وسحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب حقيبتها، وكل الصيد في جوف الفراء. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، رأيت فيه ممرضة بدينة، ترتدي ملابس ضيقة تكشف عن فخذيها السمينتين وثدييها السخيين. وكانت هناك بعض مكاتب مفتوحة فيها الكثير من الأحذية النسائية الجديدة أكعاب بعضها تتجاوز المتر. كانت الفتاة السمراء تنظر إلى حيث أنظر، ولا تعلق، تسحبني، تسحبني، وأنا أتبع من ورائها إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكك حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. "مصير الإنسان يبدأ هنا"، عَلَّقَتْ. "أنت تفضلين قضاء الصيف في الجبل"، عَلَّقْتُ. جاء من وسط مدينة الموتى الحديديين قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة سوداء، وبحبل يوجه خادمه المربوط من عنقه الرابط بوزرة بيضاء خصره، وهو يقول "يمينًا، يسارًا، حذار، انظر أين تضع قدمك، كدت تضرب بالقاطرة، إياك والسكة الحديدية، قدمك ستنحرف، قدمك، قدمك، قدمك..." كما لو كان يرى، وعندما يخطئ الخادم أو لا يستجيب كان يضربه بالسوط، فتنتثر الشمس في جبال الألب.
سألت الفتاة السمراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فأجاب القرصان أنه منذ فقدانه لبصره لا إلى مكان محدد، إنه يكتفي بشم طريقه، وهو يراها هكذا، بشمها، لهذا يقود خادمه ولا يقوده خادمه. "أليس كذلك، يا إنسانية؟" لم يجب الخادم، فضربه بالسوط، وأعاد السؤال: "أليس كذلك، يا إنسانية؟" لم ينتظر من خادمه جوابًا، فضربه بالسوط من جديد لينهار الخادم، ويأخذ بالبكاء والعويل. تقدمت الفتاة السمراء من الخادم، وأخذت تفكه، والقرصان الأعمى يرفع عن جفنه المغلق العُصابة السوداء، ويتظاهر بالنظر إلى ما تفعل. "لن تحرريه مني، أيتها الإنسانية"، صاح القرصان. "بلى، أجابت ساحرة إسبانيا، الإنسانية غاضبة لما تجد نفسها في الدرك الأسفل، وهي لهذا تُنشد الحرية." وما أن أنهت فك الخادم حتى دفعته تحت نظرات الرضى نظراتي، "انْطَلِقْ، صاحت الفتاة السمراء، أنت حر الآن." أخذ الخادم يعدو، والقرصان يبكي، ويقول "يا لها من إنسانية ظالمة، تتركني وحدي، وأنا الضرير." "هذا ما كنت تريدني أن أفعل"، قالت لي ابنة مدريد. "تمامًا"، أكدت. ونحن على وشك تركه، أنا والفتاة السمراء، سمعنا خطوات متباعدة من ورائنا، عندما التفتنا رأينا الخادم، وهو يميل برأسه، ويحاول إخفاء حقيقة أمره مع القرصان، عدم قدرته على التخلي عنه، عدم قدرته على التخلص منه، عدم قدرته على التخلص مما اعتاد عليه، شيء جميل اسمه الاستبداد. عقد الحبل حول عنقه، والقرصان يصهل، وهو في منتهى السعادة. "تعالي أقبلك، أيتها الإنسانية"، هتف القرصان، وهو يذرف دموع الفرح. أخذ يلثم الواحد الآخر من فمه، وما أن صرنا على بعد عشرة أمتار عنهما حتى عادت تصلنا لعنات القرصان، وصرخاته، وضربات سوطه على طريق العميان. كانت الحبال في كل مكان، القصيرة والطويلة، النحيلة والثخينة، تناولت الفتاة السمراء أمتنها، وألقت عليّ نظرات الامتنان، وكل مكان يَضج بالنور الباهر.
رأينا، أنا والفتاة السمراء، توأمين سياميين برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، وهما يزرعان شجرة يافعة محل أخرى كانا قد اقتلعاها من جذورها. رمت الفتاة السمراء الحبل المتين إليهما، فقالا لم تعد لهما فائدة منه الآن، عليهما انتظار أن تكبر الشجرة اليافعة، ليشنقا نفسيهما. شكراها، ورجواها أن تعود إلى أخذه. لم تنتظر الفتاة السمراء مني أن أنفجر ضاحكًا، فسألني المشوهان لماذا أضحك. قلت لأني قادر على عونهما دونما حاجة إلى كل هذه التعقيدات، يكفي أن يقررا ذلك. "اعتدنا الانتظار"، قالا. "أنتما تضحكانني، غضبت الفتاة السمراء، ذريعتكم ذريعة من يضاجع الهواء عندما يعجز عن مناداة بنت. هل أقرضكما ساقيّ لتحلا مسألتكما؟" "المضاجعة آخر ما نفكر فيه"، قالا. "ولكنكما لم تفهما شيئًا، يا دين الرب!" "المضحك في المشكلة أنهما لا يُضحكان"، قلت. أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. عادت سمراء مدريد إلى أخذ الحبل، وبعد عدة خطوات، رمته كجثة الثعبان، وهي تلعن غاضبة: سأرسل إلى هذين اللاطموحين ثعبانًا حقيقيًا يريح الإنسانية منهما. عملتُ على تهدئتها على طريقتي، وذلك برفع ذراعيها، ولعق إبطيها. وما أن أحست بلساني شمسًا تلسع، ومدريدَ تنهار، حتى صرخت من اللذة، وحشرت جسدها بين فخذيّ. تحركت بين فخذيّ حركة الثعابين، وهي تداوم على الصراخ، وأنا أداوم على لعق هذا الإبط، ثم ذاك، وأنا أعض الثعبان من فمه، وأدفعه إلى الفحيح. كان كل جسدها يدخل فيّ، وكانت بين فخذيّ تنتفض على دفعات، وهي تتلوي، فأحس نبض فرجها، اندفاعه، رغبته في القفز إليّ، لأقفز فيه. كان كله يتجمع فوقي، وأنا لشدة انتصابي، ضاعفت من لعق إبطيها، من عض كل الإسبانيات، مع إحساس بالفتك بفروجهن. أعطتني عنقها، فملأته بالقبلات، وأعطتني نهدها، فقتلته بالعضات، وعادت تعطيني إبطها هذا، وإبطها ذاك، وهي ترفع ذراعيها إلى أعلى، تلتقط السماء.
قطعنا، أنا والفتاة السمراء، خطوط السكك الحديدية إلى عربة معلقة لا أدري كيف، عربة سوداء اللون، في الليل لا تُرى، وفي النهار لا شيء يُرى غيرها. ونحن نقف، أنا والسمراء الإسبانية، تحت نافذتها، انبجس دفق من البول، وانحنى رجل برأس أرمد الشعر ووجه متغضن لينظر إلينا، ونحن نحاول أن نتفادى الرحمة الصفراء بينما هو يقهقه، ويواصل التبول. نفض نفسه لما انتهى عدة مرات، ورفع بنطاله. "كنتم في المبولة دون أن أعلم، يا خراء الخراء!" قال الرجل، وعاد يقهقه. "لا شيء، أضاف الرجل، لا شيء غير بعض البول. المسألة ليست البول وإنما البنطال، عندما يسقط البنطال، ويكشف عن ساقين دميمتين كساقيّ، هذا ما يستفز المشاهد، وأنا كما تعلمان مع الاستفزاز. الاستفزاز شرطه الفاجع لا الفاجع شرطه الاستفزاز. وربما هذا أيضًا. هذا وهذا. لست أدري. ربما لسبب آخر. أجهله. هناك الكثير من الأشياء التي أجهلها. لا أعرف لماذا. هل لأنني أجهل أنه سيُكتب لها الخلود؟ هذا ما سيعرفه فيما بعد كل من هزأ بي. الخلود. هل الخلود هام إلى هذه الدرجة؟ الخلود شيء ثانوي. كقهوة الصباح كل يوم. شيء ثانوي. أهم من الخلود فعل يتطلب تحقيقه. فعل ضروري. ضروري ولا فائدة منه. هذه الحياة قحبة. المسرح لأنها قحبة، الكتب، الخراءات. الموت مسألة غيري. مسألة منايك الخراء. موليير وجويس وبورخيس. سنُنزل اليوم العربة. أرجو ألا تبدلا رأيكما، سنحطمها لو يلزم، فقد سئمت البقاء كل الوقت معلقًا. عليّ أن أنزل أولاً. ولكن كيف أنزل؟ إذا أنزلنا العربة وأنا فيها وتحطمت العربة سأتحطم معها. عدم جوابكما يشير إلى أنكما بدلتما رأيكما. سأتحطم معها إذا لم أنزل أولاً. ولكن كيف أنزل أولاً؟ هل تنزل العربة أولاً أم أنا؟ أنا أم العربة؟ إذا تحطمت العربة وأنا فيها تحطمت معها. ولو قلت لكما أنزلا العربة وأنا فيها وما يحصل يحصل سيكون ذلك بمثابة انتحار، بينما أنا لا أريد الانتحار. أنا ضد الانتحار. لهذا سيعيش التوأمان السياميان إلى الأبد دون أن يمكنهما الانتحار. لأني ضد الانتحار. سينتظران. إنها الطريقة الوحيدة ليحتملا شرطهما. سينتظران. لأنني ضد الانتحار. سينتظران وسيقطعان حياتهما دون أن يعلما أنهما يقطعان حياتهما لكنهما سيقطعان حياتهما. الانتحار بعد ذلك ليس مهمًا. الانتظار يعطيهما القوة على قطع حياتهما. هذا هو المهم، قطع حياتنا. مهما كانت. قطع حياتنا. حياتنا القحبة. هكذا نصنع إراداتنا. بالانتظار. إراداتنا المرتهنة. إرادات ليست إرادات. إرادات. فقط إرادات. إرادات الانتظار. الانتظار يصبح قوة العيش، جوهر الأشياء، الوجود، الزمان. الانتظار إلى الأبد، هذا هو الخلود. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. هذه هي الأبدية. يصبح للوقت معنى. معنى اللامعنى. هذا لا يهم. ما يهم أن يصبح للوقت معنى. أي معنى. أي لامعنى. إلى الأبد. الانتظار. الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. ثم تنتهي الحياة. دون أن نشعر. الانتظار إلى الأبد. تنتهي الحياة مع شعور أنها لم تنته. هذه هي الحياة. الحياة شعور بعدم الانتهاء بعد أن تنتهي. شيء ما كالموت الذي يداوم على التنفس الحياة. شيء ما كالجناح الميت الذي يداوم على الطيران. جناح ميت الانتظار الحي. شيء ما كالعالم المعلق ونحن فيه. كيف ننزل؟ وهل ننزل؟ ولماذا ننزل؟ الانتظار إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد. لماذا ننزل ولن يزول الانتظار؟ خطوط السكك الحديدية هي الانتظار. خطوط تمتد. تمتد إلى ما لانهاية. خطوط تمتد. تمتد. تمتد. خطوط تمتد إلى ما لا نهاية كالانتطار. خطوط دون نهاية. قدر جبار. كالموج. خطوط كالموج. كالبحر. تحيا ما بينها البشر. كالأسماك. تحيا. تموت. خطوط. خطوط تمتد. إلى ما لا نهاية. سمك. خراء. البشر سمك. خطوط السكك الحديدية أمي. الخرائية. خطوط. أمي. حديد. الحديد أبي. أبي خط خراء. أمي خطوط سكك الحياة. هذه الحياة القحبة. أنا قاطرة. قطار. قواد. أبي. أبي قواد. قواد. ابن قواد. أنا. قطار انتظر ولم يعلم كيف غدا قوادًا. كيف ننزل ونحن بانتظارنا مصير لا نريده؟ نصنعه بأيدينا ولا نريده. لأننا خراءات. كلنا. خراءات خرائية. لا شيء غير خراءات. لا الله ولا الشيطان. التخلي. العزلة. في عربة معلقة. لكل واحد منا عربته المعلقة. المسئولية. مسئولية الخراء. قواد. كأبي. كجدي. كابني. مصير نريده. قدر القطارات. ذهاب وعودة. مونوتونية. تَكرارية. كم مرة نقول نأكل في اليوم، نكدح، نخرأ، نشخ، ننكح، خاصة ننكح؟ عودة وذهاب وذهاب وعودة وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب وذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. ذهاب. هل ننزل إذن إلى المونوتونية؟ إلى أكل الروح؟ من الداخل. إلى أكل الروح من الداخل؟ مونوتونية. انتظار إلى ما لا نهاية. من الداخل. أكل الروح. أكل الروح من الداخل. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. قتل الروح. قتل الروح. قتل الروح. مونوتونية. انتظار. إلى الأبد. إلى الأبد. إلى الأبد..."
اختفى الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه وهو يكرر "إلى الأبد، إلى الأبد، إلى الأبد..."، فأخذت أشتم وألعن: "لماذا أنا هنا إذن في هذا البلد الماخور؟ كان عليّ أن أُنزل العربة، كان علينا، أنا وسمراء إسبانيا، أن نُنزلها، كنا هنا من أجل إنزالها، فلا شيء يجب أن يكون أعلى من عربتنا. عليّ أن أحزم أمتعتي وأذهب. لكن لا أمتعة لي. هو أمتعته الكلمات الرمادية وأنا أمتعتي الأفعال الفائتة. امرؤ في غاية النباهة والذوق مثله. ها هو عنفه الأعمى! أنا ضد العنف الأعمى. قتل الجسد بالكلمات أو بالطلقات. ضد الإرهاب الثوري. من كل نوع. ضد أسنان البحر والبر والخراء. الخراء الثوري. لست أدري. تكلم عن كل شيء ما عدا الخراء الثوري. ذاك الذي تمضغه الأفواه وتقذفه الأقفية، فيلطخ الوجوه، يلطخ الكِيانات. ليس ذنبي إذا ما تلطخت كِياناتكم بخراءاتكم، فهي جزء من جوهركم. مصيركم المكتوب ومصيركم المصنوع. توقف عن تهشيم الآذان. لهذا أنا هنا في هذا البلد الماخور، لتقديم يد العون، فالناس على عجلة من أمرها. أليس كذلك، يا قحبة الخراء؟ انظري إلى طوابيرهم أمام صناديق السوبرماركتات. لأجل خرائهم الثوري. خراؤهم الخرائي. ما أعلم. وإذا بالصدفة أراد أحدهم عدم الانتظار، فحرمان فمه من المضغ، والأنكى حرمان قفاه من القذف. هذا هو أهم انتظار، انتظار كل يوم، الحياة. هذه الحياة القحبة ليست قحبة قحبة. الطوابير أمام صناديق السوبرماركتيات، الطوابير أمام شبابيك وكالات البطالة، الطوابير أمام مكاتب الضمان الاجتماعي، الطوابير أمام مواخير الوعود اللانهائية. كوعود الشياطين والآلهة وعود ملوك عصرنا للبشر. وعود قحبة. والأسوأ أن لا أحد أحسن من أحد. الأسوأ أنتِ، وأبدًا أنا. لهذا أنا هنا في هذا البلد الماخور. أنا البنوك الرقمية. بمعنى الإفلاس الحقيقي. يخرأ الورد في الحدائق، يشخ النحل في الأقداح، تضرط العصافير في الأفواه. كل هذه صور للإفلاس الحقيقي. للا تناهي. لأبدية الزمن. أبدية الإفلاس. أبدية الاستمناء. الرقمي. بدأتُ المللَ من كل هذا، إلا أنني هنا. على التأكيد أنني هنا، ولكن ليس إلى ما لا نهاية. والحال هذه، هذا لن يُغني عنكم شيئًا.
سحبني النار الأسمر من يدي كما يسحب حقيبته كالسر المغلق الذي لا يعرفه أحد غيرنا إلى حيث تسكن غير بعيد، عربة معلقة. وأنا أفكر حائرًا في أمر الصعود، وضعت ابنة الشمس سلمًا، وطلعت. وهي في منتصفه، التفتت إليّ، "أرأيت؟ قالت، يكفي أن تمتلك سلمًا." كان الأمر في غاية البساطة. كان السلم. لم يكن الجدار، كان السلم. لم يكن الحبل، كان السلم. لم يكن المنقار، كانت الحلمة. حبة الكرز، قَضْمُهَا قَضْمُ اللهب. أرتني صورًا لابنها الميت، لم يكن جميلاً مثلها، كان ميتًا. حتى ولو كان جميلاً كان دميمًا. كان ميتًا. ثم تعرت، وعرتني. أجلستني على سريرها في طرف، وجَلَسَتْ في طرف، وفرشت صور ابنها الميت ما بيننا. كان الموت ما بيننا، فتطول أيادينا لتذهب إلى الحياة، الحياة القحبة بأتم معنى الكلمة. أداعب حلمتها، وتداعب حلمتي، أذهب بأصابعي إلى لسانها، وتذهب بأصابعها إلى لساني، أريق أصابعي على بطنها، وتريق أصابعها على بطني، أزلق بيدي إلى فرجها، وتزلق بيدها إلى فرجي. هنا نبقى طويلاً، أترك أصابعي ما طاب لها أن تفعل، شُعرتها، مشفرها، كل داخل مهبلها، أداعب الشفتين كثيرًا، طويلاً، أترك أصابعي تغرق فيها، تخترقها، تذوب، فكل شيء يذوب عشقًا وشوقًا واشتهاء، الأصابع تذوب، والجسد يذوب، والكِيان يذوب، العالم، الكون، الكواكب، كل شيء. وهي بأصابعها تُذيب بينا تأخذ عضوي بين أصابعها، صلبًا كالحديد، ناعمًا كالحرير، تأخذه، وتأخذه، تدلله تارة، وتغضب عليه تارة، برقة تأخذه، وبعنف تأخذه، بحقد، بشوفينية، بفاشية، تأخذه، تأخذه، تأخذه كثيرًا، طويلاً، طويلاً، طويلاً، بقينا هكذا صامتيْن حتى هبوط الليل، فلم نعهر الماس، ولم نغتصب القلقاس.
عدنا، أنا والفتاة السمراء، أدراجنا والمقبرة تتوهج بالأضواء، التقينا بالرجل الأرمد الشعر والوجه المتغضن، وعلى عينه عُصابة القرصان السوداء، حيانا تحية الغرباء قبل أن يعطينا ظهره، ويتجاوزنا إلى الشجرة اليافعة للتوأمين السياميين التي اقتلعها. جاءت طيور غريبة من الجهة التي ذهب منها، ووقفت على جثة أحد القطارات، وهي تتابعنا بنظراتها المُسَمَّرة، ونحن نسير على سور مقبرة القطارات القصير، دون أن تتحرك. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات، كانت الحياة، حياة اسمها الحياة العابرة. دفعتني ساحرة إسبانيا إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تقول: "تبعًا لهذا النزول المجدي، سندخل عالم الكذب الصادق والكذب الكاذب." واجهني صف من الإفريقيين السود الأثرياء، وهم يحملون إفريقيين آخرين مدقعين في أقفاص يتركونها في المستودع. "يضحون بضحية، همست الفتاة السمراء، طريقة من طرقهم الأسطورية. البربرية." كان الإفريقيون الأثرياء يزينون صدورهم بقلادات ضخمة من الذهب، وأصابعهم بخواتم ضخمة من الذهب، وآذانهم بأقراط ضخمة من الذهب، وكانوا يرتدون أفخم الثياب، وأغلى الأحذية. "الإرهاب المضاد كل هذا الذهب"، أضافت ساحرة إسبانيا. على اليسار، رأيت كيف يبدل الإفريقيون الأثرياء قطع الماس والذهب بقليل اليوروهات من أمام شبابيك صرف كان الصرافون فيها كلهم صرافات بنات شقراوات، وكلهن يرتدين ثيابًا براقة كثياب الراقصات المصريات، ولم يكن بينهن رجل واحد. "الثورة المضادة"، علقتُ. "إلقاء الرعب في القلوب"، عَلَّقَتْ. واصلنا السير، أنا والفتاة السمراء، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها قرود أخذت أشكال الأرقام. "ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال، قالت مرافقتي، عالم المجانين الرقميين والملعونين التكنولوجيين." لم تبتسم للعدم، كان العدم يبتسم لها. تقدمت من خزانة حديدية مهملة، وفتحتها بمفتاح أخرجته من جيبي، وإذا بباب في داخلها أدى بنا إلى عالم هو بالفعل سفلي، عالم من القرود الرقمية. "كل هذا شيء مضاد للتخثر، مضاد للتجعدات، مضاد للتشنج، مضاد للحَبَل، مضاد للإنسانية المضادة"، ألقيت دفعة واحدة. كان القرود يملأون الدنيا، ويحكمون العالم. كانت حضارة القرود، حضارة الوحشية، فحضارة القرود تظل وحشية على الرغم من كونها حضارة. وحشية رقمية، لقرود رقمية. أدغال رقمية، لهذا كانت الأدغال الرقمية حدائق غناء. عقول رقمية، لهذا كانت العقول الرقمية مصانع وجامعات. عضلات رقمية، لهذا كانت العضلات الرقمية ملاعب ومسارح. "وكل هذا مضاد للسُّم، مضاد للصدأ، مضاد للسرطان، مضاد للضباب، مضاد للفساد، مضاد للعُثّ، مضاد للكُزاز، مضاد للزنجية المضادة"، ألقت الفتاة السمراء دفعة واحدة. أخذنا ننتقل من مكان إلى مكان انتقال المعجب الحاسد لا الشاكر لفضل الآخر عليه، الحاسد والحاقد. الاستعمار الرقمي يبعث على هذا الشعور المومسي! وما أن اعتدنا على الأجواء حتى أخذنا نكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي الذي يجدر دعوته بالعلوي، لِنَقُلْ العالي لمحطة الشمال والجنوب والشرق والغرب، ما هو معلوم بالضرورة. ثلاثة أماكن تتراوح بين الضروريات والكماليات أسرتني، المكان الأول للمافيا، حيث كان زعماؤها يستقبلون رجال العلم، ويغدقون عليهم الأموال الطائلة في سبيل تحقيق أعظم الإنجازات. باحثون وأمخاخ وعظماء يخضع الكون لهم خضوع الطبيعة لابن سينا فيما مضى. "الاضطراب العقلي يؤدي إلى الاضطراب الثوري"، علقتُ. "لأن هذا الخراء الأسمر من ورائه فرويد؟" سخرت الفتاة السمراء. "لماذا لا تُقَبِّليني، يا حبيبتي، أحسن لك؟" "لديكَ، يا حبيبي ما لا يُضارَع!" "ستحسدكِ كل السيقان في بيغال!" "بيغال حرية السيقان إذا كنت لا تدري، لا تُحسد، تكون، دونما حاجة إلى أي فرويد!" "تكون، تكون." "تعال إلى المكان الثاني!" للتجميل، حيث كان يدخل كل ذي عاهة ويخرج دونها. رأيت الأحدب يدخل بظهر أحدب ويخرج بظهر مستقيم كعرق البنفسج، الأحول يدخل بعين حولاء ويخرج بعين حوراء كعيون اليمنيات، الأصلع يدخل برأس أصلع ويخرج بحرير أسود أو أبيض أو أحمر أو أسمر أو أصفر أو أروع كحرير الشام. "هنا تنتهي دكتاتورية الحزبين، وتحل محلها الاضطرابات الاجتماعية"، قلتُ. "الاضطرابات العصبية، قالت، أتفق هنا مع فرويد، وشاربي البيرة في مقاهي ساحة الجمهورية." "فرويد، فرويد." "تعال إلى المكان الثالث!" للحب، المومسات فيه ذات رسالة إلهية للبعض وشيطانية للبعض الآخر، يُرِدن تثوير الرهبنة الأنثوية على طريقتهن، طريقة معاصرة ترضي كل الرغبات المقموعة، وتؤسس لعبادةٍ الجسدُ فيها يحل محل الروح. أعطين الراهبة الحبلى لهن مثالاً، ورفعنها إلى درجة القداسة. "سيضرمن الفِتنة"، قلتُ. "سيضرمن القلوب"، قالت. "بما أن الراهبة ليست راهبة"، أضفتُ. "بما أن الأقاقيا ليست أقاقيا"، أضافت.
أشارت الفتاة السمراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء، وهم يقومون بعملية تضليل كما هي عادتهم. "هل تحبني؟" "أحبكِ، كساق في بيغال، أعظم حب." "أخشى على المومسات والراهبات استغلالهن من طرف هؤلاء الوحوش"، قالت الفتاة السمراء كمن تقول عن أخواتها. "اتركيهم يجدون ضالتهم ومبتغاهم، فترتاح الجمهورية منهم قليلاً. الجمهورية، ساقك الأخرى التي أحبها أعظم حب." "لم يكونوا يسعون وراء المتعة الهادفة للتحرر، كانوا يريدون المتعة الهادفة للتعبيد، أبناء المومس!" "أبناء زحل، يجدر القول، الحكمة ضالة الموزعين الآليين للكبابيد." دخلنا حقل سباق للقرود الرقمية، فراهنتُ على هذا القرد الرقمي أو ذاك، وكذلك فعلت الفتاة السمراء، وربحنا نحن الاثنين. "هذا لأنك تحبني"، قالت. "هذا لأنكِ حظي"، قلتُ. ضممتها إلى قلبي، وأضفت: "ليس هذا كل العالم السفلي لمحطة الشمال؟" سحبتني الفتاة السمراء من يدي كما تسحب "شيتسوها"، "تعال"، قالت لي، وهي تعطيني ضمانًا بقبلة على فمي.
أنزلتني السمراء الإيبيرية في مِصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف المتدينين المتزمتين، خليط من أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. كانوا كلهم يشبهون بعضهم بلحاهم وثيابهم، بطقوسهم وصلواتهم، بأدعيتهم ونظراتهم إلى العالم، نظرات من ليس في رأسه شيء اللهم إلا الله، لا الله كما يُرى، وإنما كما هم يريدون أن يروه. لهذا لم يكن الله ليغضب منهم أبدًا على ما يفعلون من فراولة إنسانية، فالله الذي لهم ليس الله، كان الله الذي لهم هم، فكيف سيغضبون إذن هم أنفسهم من فراولتهم على أنفسهم. "الشمس ذهبية، كانوا كلهم يقولون، القمر فضيّ، الأرض سوداء، وأحيانًا بيضاء، وأحيانًا حمراء، وأحيانًا سمراء، وأحيانًا صفراء، كما يشاء الله." لم أكلم أحدًا منهم، كانوا يتكلمون كلهم خطابًا واحدًا بثلاث لغات يفهمونه، وكأنه يقال بلغة واحدة، لكنهم والحق لم يكونوا واحدًا. رأيت بينهم ملائكة يكذبون وشياطين يكذبون، ورأيت بينهم أطفال يكذبون وقطاع طرق يكذبون، ورأيت بينهم أنبياء يكذبون وجلادو أغشية مهابل يكذبون، ورأيت بينهم غزلان تكذب وذئاب تقول الصدق، ورأيت بينهم قططًا تكذب وكلابًا تكذب، ورأيت بينهم فراشات تكذب وضباعًا تكذب، ورأيت بينهم أثداء تعض وقضبان تتراخى، ورأيت بينهم خدودًا تخدش وأقدامًا تقف ولا تسير، تقف ولا تسير، تقف ولا تقعد، ورأيت بينهم بطونًا تهتف وأكفالاً تجاهد، ورأيت بينهم آياتٍ كتبوها دون أن يعرفوا الكتابة وأحاديث تلوها دون أن يعرفوا التلاوة، ورأيت بينهم مُدْرَجاتٍ ليست المدرجات ومزامير ليست المزامير، ورأيت بينهم أناجيل ليست الأناجيل وصلبان ليست الصلبان. تفاجأتُ بالفتاة السمراء وهي تصيح بهم لتبيعهم الرمان وهم لا يردون عليها ولا يقلقهم ما الرمان. "إنهم لا يسمعون شيئًا آخر غير صلواتهم، شيئًا أقرب إلى هذيان الاضطهاد"، قالت لي الفتاة السمراء، وهي تسحبني من يدي كما تسحب حقيبتها التي شاءتها لي، التي ملأتها بي، التي تضع فيها كل صلواتها وصلواتي، إلى المِصعد ثانية، لنصعد إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين، الطابق الذي لم يكن طابقًا. كان الطابق سورًا يبدأ من الصين وينتهي في القدس القديمة، من ثدي إمبراطوري إلى قدم كنعانيّ. شغل بالي رجل وامرأة في شبه الظل، كل واحد في ناحية من ناحيتي السور، كانا يتحادثان دون أن يسمع أحدهما الآخر، كان الحوار يدور حول العفة والشرف والصمود، الكرز والفراولة والعنب. الأسمر. كان الرجل يشكو، ويقول لولا السور لكان إلى جانبها، لأحبها أكثر، للبى كل طلباتها، لصنع لها طفلاً... ومع مرور الدقائق والثواني أخذتُ أميز في الظل الخفيف بطن المرأة المنتفخ، كانت حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت تعرف أنه لا يعرف أنها حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت توافق رجلها على كل ما يقوله، وتتمنى كل ما يتمناه، وكانت تبكي بِصَمْت، كانت حُبلى، وكانت تبكي بِصَمْت...




القسم الثامن

وقفت الصغيرة كارمن تحت جدار الحديقة، فبانت جِد قصيرة، لكنها ابتسمت، وتقدمت بيديها الاثنتين المليئة كل أصابعهما بالخواتم عازمةً على التسلق دون أن تعرف كيف. وجدت شقًا لإحدى يديها، ولم تجد الثاني، ثم وجدت الثاني، وعندما أرادت الصعود بجسدها فهمت أن عليها أن تجد شقين لقدميها، فيكون اندفاعها. وجدت شقين لقدميها، ولم تجد شقين ليديها، فاحتارت، وقضت نصف نهارها دون أن تتمكن من تسلق الجدار.
- لا فائدة من ذلك، قال صوت ناعم من النافذة.
- لا، أكدت الصغيرة كارمن.
- كم مرة حاولتِ؟
- كثيرًا.
- ماذا تنتظرين؟
- سأحاول أيضًا.
- ستُضيعين وقتك سدى.
- لا.
- ستكسرين أصابعك.
- لا.
- سأحملك.
- لا.
- هذا أسهل لك.
- لا أريد.
- لا تَلِحِّي إذن.
عادت الصغيرة كارمن إلى المحاولة، قدمها، يدها، هذا الشق، ذاك الشق، ولا فائدة بالفعل من ذلك.
- كارمن!
- نعم.
- لماذا؟
- هكذا.
- تسلطي على ميولك.
- لا أريد.
- اطلعي على شجرة أحسن لك.
- لا أريد.
- إذن اتركيني أحملك.
- لا أريد.
- راسك يابس زي الحجر!
ومن جديد، القدم، اليد، هذا الشق، ذاك الشق.
- تريدين الوقوف عليه؟
- لا.
- تريدين الاستلقاء عليه؟
- لا.
- تريدين النزول من الناحية الأخرى؟
- لا.
- إذن لماذا؟
- هكذا.
في اليوم التالي، عادت الصغيرة كارمن تحاول التغلب على العقبات، وبالطبع دون أن تنجح، إلا أنها تفاجأت بذراعين قويتين تحملانها، وترفعانها حتى حافة الجدار.
- ماما، أنا لا أريد! ماما، أنزليني في الحال! ماما...
وتنفجر البُنَيَّةُ باكية.
- لا تبكي، يا حبيبتي!
- أنا لا أريد، أنا لا أريد!
- فعلت هذا من أجلك، يا حبيبتي!
- أنا لا أريد، أنا لا أريد، أنا لا أريد!
تهجم على أمها ضاربة، وأمها تعتذر لها. في النهاية، تضم أمها بكل قواها، وكأنها تسعى إلى الدخول في بطنها.
- كفى، يا حبيبتي! كفى، يا قملتي! كفى... كفى...

* * *

في فيليت، في المسلخ القديم، مدينة العلوم حاليًا، تحت جدار، كانت الفتاة السمراء تبادل القُبل مع العديد من الفتيات السمراوات، وكأنها طريقتها في التسلق، تسلق شرطه هنا النزول إلى أعماق الجحيم. كن يقهقهن، ويقرعن أقداحهن، وكن يشربن من أقداح بعضهن، ويسقين غيرهن من الرجال. كن يلقين بأجسادهن على أجسادهم، وبأجسادهن على أجسادهن. لم تكن الشهوة، كان الاشتهاء، ولم تكن المتعة، كان الاستمتاع. كل هذه اللاكينونة كانت الكينونة، كل هذه اللاأخلاقية كانت الأخلاقية. العدمية لم تكن موت الله، فلم يكن يوجد شيء على الإطلاق، لا الله، ولا عباد الله. لم يكن الكون موجودًا. ليس ببعيد عن الجدار، كانت المعابد تبصق الناس كالأشياء، بعد أن غدا الناس مواضيع للعبادة، والعبادة إشارة، فأشياء العدمية لا أشياء، لتتلقفهم العاهرات التي كانت الفتاة السمراء واحدة منهن. كان كل شيء يقوم في عدمه، في عدميته، وكان كل شيء يخبئ نفسه من وراء نفسه، لا الفكرة يمكنها الامساك به، ولا شمس البِغاء. لم يكن نسيان الكينونة، كان تذكرها بأتم معنى الكلمة، لينبني العبث، وتصبح للعبث قامة الكائن. الكائن عبثًا. الكينونة عبثًا. العبث عبثًا. العدمية هي هذه: العبث عبثًا. عند ذاك، ينطبق المكان على الزمان، فيضاجع الجدار التاريخ، ويسيل المني من شقوقه. كانت هذه هي إرادة القوة في أحسن صورها: العدمية. تحرر الفرد من جانبي الجدار من كل سلطة، الكائن يكون في الكينونة.
التقط الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر شفتي الفتاة السمراء بشفتيه، وراح يرفع فستانها، لينزرع بين فخذيها. أهملته قليلاً ريثما تمسح المني السائل منها، وهي تهمهم مرتابة في أمرها:
- تمهل ريثما أتنظف.
- هذه القذارة هي نحن، الأمر لا يهم، عندي ما هو أعجب، سارع الرجل الحكيم إلى القول، وهو يلقيها أرضًا، ويربض عليها كمن يربض على فريسته.
- تنين هو العالم! لهذا أبي ذهب، لتدجينه. لم يكن فقط الطموح، انظر الطموح إلى أين يؤدي. ولم يكن فقط التحرر، انظر التحرر إلى أين يصل. بكيت كثيرًا عندما ذهب، في حضن أمي، وأنا أضرب أمي، وأمي تبكي معي.
- نوافير المني! سنغرق فيها بعد أن تتحول إلى بحار، ولن ينقذنا أحد، لن ينقذنا الجدار، لن تنقذنا الدموع، لن تنقذنا ضحكات الآلهة.
- ضحكات الآلهة الآدمية لا، الآلهة الإلهية نعم. لكني لن أقبل شيئًا منها، لأني حتى وأنا في وضعي الوضيع أنا الأفضل. دائمًا ما كان أبي يردد في أذني أنتِ الأفضل، أنت الأذكى، أنت الأشيطن! أحبني كثيرًا، وكره أمي كثيرًا. لم تكن أمي تعرف ما الطموح، التنين، مدريد، مدن الشمس، بحار البرنز، كرز السلطة، لهذا صار وزيرًا. تجرؤية!
- عدمية!
- عدمية العدمية! هكذا كنت أرى الجدار في حديقتنا، عدمية العدمية، ولما أصبح بعد كبيرة. أردت أن أعلو بقامتي فأكون الأفضل كما كان يقول لي أبي. هو أجج اللهيب في فم التنين، وأنا جعلته ينتصب. أنوثتي شيء مستحيل!
- لهذا القضبان نهمة لا تشبع، من قذفها المحيطات، من هزها الزلازل!
- على التمادي، كل شيء ميتافيزيقيا، تنين أبي، فرجي، جداري، الأزقة في حي باربِس.
- كملايين الأخطبوطات نحن، نغوص في بعضنا، ما بقي فينا نبض.
- الأخطبوطات الكائنات.
- كملايين الحيوانات المعجونة اللاباحثة عن أي تفسير لوجودها، عن أي تبرير، الأمر جد بسيط، كل هذه العدمية حقيقية، والباقي كله ترف، ترف في ترف، الباقي كله كلام، كلام في كلام.
- كملايين الحيوانات المذبوحة، فلا تنس أننا في مسلخ قديم.
- أرستقراطية اللحم لحمك.
- إلعقه، عضه، قطّعه.
لعقه، وعضه، وقطّعه، وهو لا يصل إلى التقاط أنفاسه.
- أي لحم تريد، يا سيدي؟ عجل، ثور، خروف، عنز، خنزير؟ وأية قطعة تَلَذّ لأسنانك؟ كتف، ضلع، فخذ، قفا؟
- قفا! قفا، يا دين الرب!
- قفا حلال أم حرام؟
- حرام! حرام، يا دين الرب!
- انظر أي قفا هناك.
كان له نَفْثُ الشيطان، وهو لم يزل يربض عليها، فرأى التوأمين السياميين، وهما يضاجعان أختين سياميتين.
- هذه هي ميتافيزيقيا نيتشه.
- الأصيلة.
أبعده القرصان، وأخذ مكانه بين فخذي الفتاة السمراء.
- وهذه ما هي؟ سأل القرصان وهو يرفع بيضاته الثقيلة في كفه، أيضًا أصيلة كميتافيزيقيا ماخور الخراء!
أخذ يمارس ممارسة من عَنَتْ به الأمور دون أن يتوقف عن الكلام:
- أرض الشيطان هذه أين تقع؟ بقدر ثقب عاهرة هي، ولكنها تتسع للملايين من التائهين الذين أنا واحد منهم. يا حظ من يسكنها، فهي مركز الكون. كل مكان للمضاجعة مركز للكون، شيء مقدس. يا حظ من يقطعها، فهي عقل الشيطان. كل فكرة للفسق محرك للعبقرية، شيء مدنس. يا حظ من يولد فيها، فهي قضيب وفرج. كل نكاح للغير أو للمِثل صانع لسدوم جديدة، شيء معجز.
- ألم تنته بعد، طلبت الفتاة السمراء بجفاف.
- لم أبدأ بعد، يا دين الرب!
- أسرع إذن.
- لِمَ العجلة؟ على اللذة أن تكون لذائذ، وعلى الشهوة أن تكون أضعافًا مضاعفة على أرض هي أرض كما يجب أن تكون الأرض.
- حياتك الرحيل، أيها القرصان، فافعل، وارحل!
- الحق أني وصلت. أنا في مكانٍ الرحيلُ فيه دائم دون أن يكون الرحيل. لهذا...
- لن تتحرك مثل غيرك من مكانك الطبيعي.
- الطبيعي شيء كبير، اللاطبيعي، وهذا هو أمتع ما في الأمر، الباقي حقيبة يحملها خادمي على ظهره، اضْطَّرَمَ، وهو يشير إلى رجل يختفي تحت عدد من الحقائب الثقيلة.
دفعته الفتاة السمراء بعيدًا عنها، وذهبت إلى الخادم.
- هو أيضًا يجب أن يعيش العدمية كما نعيش، ضللت الفتاة السمراء نفسها، وهي ترميه فوقها، وتجعله يغوص فيها.
- أين سوطي، يا دودة الأرض؟ صاح القرصان بخادمه غاضبًا.
- ها هو، يا سيدي.
كان يحشوه فيها: كان السوط عِنْدِيَّتَهُ.
- أيها العديم، أيها اللعين، أيها الأخرق!
- لا تغضب، يا سيدي. لمن هم مثلي، هذا هو نعيمهم، وكل واحد يغلقه على طريقته.
- يفتحه.
- يسده، فنعيمهم ثُغرة.
- ثُغرة قفا.
- ثُغرة ذاكرة.
- دعه يفعل، يا خراء! صاحت الفتاة السمراء بصوتها الثاقب، وهي تضرب وترفس.
- أخيرًا تحصل على ملذتها، همهم الرجل المتغضن الوجه بالمكان المغبر الشعر بالزمان رافضًا حق القرصان في رفض الملذات، وهو ينسب إلى الخادم جميع المزايا، كل هؤلاء الفحول ولم يرضها أي واحد. أخيرًا تتسلق جدارها.
- لها فرج وثني هذه المرأة، ابتعد القرصان عن واجبه.
- أصيل.
- أليس كذلك، يا دودة الأرض؟
- نعم، يا سيدي.
- واجب الأداء.
- لا، يا سيدي.
- الوسائل الواجبُ اتخاذُهَا.
- نعم، يا سيدي.
- التعديلات الواجبُ إدخالُهَا عليه.
- لا، يا سيدي.
- الموديلات الموجودة للنساء.
- نعم، يا سيدي.
- الموجود بذاته.
- لا، يا سيدي.
- الموجود لذاته.
- نعم، يا سيدي.
- إيجازَا للكلام، الوجود والبطاطا.
ضرب القرصان برميلاً بقدمه، فسقط منه من الطِرْحِ العشرات، المئات، الآلاف. أخذ بعضها ينط كالضفادع، ويتسلق ساق رجل البحر، فيحاول سحقها بقدمه، ويصرخ قرفًا واشمئزازًا.
- ها هي نهاية الميتافيزيقيا، أوضح الرجل الحكيم.
- نهاية ميتافيزيقيا قفاي! نبر القرصان غيرُ ضاربٍ عنهُ جِرْوَته، وهو يواصل قتل ما-قبل الكائنات، إلى أن قضى عليها جميعًا.
- كينونة ما-قبل الكائن، الكينونة قبل أن تكبر وتتحول وتغدو حيوانات ذبيحة في مدينة العلوم.
- قابلتُ مثلك في البحر من لا يتعبهم التفكير، حيتان لا أصل لها هي الأصل لكل شيء.
- لن تكتمل المسرحة في رأسي، لهذا.
- اكتملت المسرحة في رأسك دون أن تعلم، يكفي أن تنظر من حولك، لا شيء ناقص، كل شيء ناجز على أكمل وجه.
- عينك ليست عين الفيلسوف.
- عين القرصان، خراء! العين التي ترى كل شيء حتى السمك الذي لم يولد في أعماق البحر، لا شيء يضيع عنها، فمجالها كل الأزرق، كل الميت الحي. هذا هو عدمها، العدم الحي، وهذه هي عدميتها، العدمية الحية، العدمية البطاطا.
- يا ليت كان الفلاسفة قراصنة، هذى الرجل الحكيم، وهو يبتسم.
- بديهيات ليست بديهيات.
- العكس هو ما حدث.
- بل العكس هو الصحيح.
ثم صاح القرصان بخادمه متبدل المزاج:
- اعتكفتَ كثيرًا على صلاتك، يا دودة الأرض!
خرج الخادم من الفتاة السمراء، وحليبه يسيل منها.
- ما أسرع ما يمضي الوقت! حق للخادم إبداء رأيه، كان فعلي الوحيد الذي يدل على شعور تأملي، الإحساس بالإحساس.
- أنت وقح على التأكيد. الإحساس بالبطاطا.
- كمن يُفشي أسرارًا لا يعرفها أحد غيره.
- أنت لا أسرار لك، ولن تكون لك أسرار أبدًا، وفعلك الوحيد الذي يدل على شعور خرائي هو رد فعلك، هذا هو الإحساس بالخراء تاعك.
أعطاه ظهره ليسوطه، فساطه، وهو يوبخه بعنف:
- ليس هذا، يا دين الرب! ليس هذا، يا ماخور الخراء!
إذا بخليط من فلاسفة ونازيين ينبثقون من مسلخ الزمان، وبهراواهم يهوون على رؤوس العاهرات وزبائنهن من حشاشين وكرادلة وجهاديين.
- هذه آخر فكرة لي، ألقى الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر دون الهرب من مسئولياته، وسارع إلى حماية الفتاة السمراء بذراعيه. لم تعد تحمينا سوى أذرعنا بعد أن انتهت كل الأفكار!
- يبدو أنها ليست فرنسا، نهق القرصان على ما تمكن من رؤيته.
- فرنسا الجميلة أم فرنسا الخراء؟ هَرَجَ الرجل الحكيم.
- هناك فرنسا جميلة وفرنسا خراء؟
- هناك.
- لم أكن أعلم.
- هذه فرنسا الجميلة.
- البرهان على ذلك يكمن فيما يكمن.
- ليس هذا مهمًا.
- وفرنسا الخراء؟
- في الرؤوس.
- في الفروج.
- في العقول.
- في الأمر ما له وما عليه.
- كما أقول لك.
- لستَ على خطأ كبير.
- منذ قليل، أفرغت آخر فكرة من رأسي.
- وأنا من فرجي.
علت وجه الرجل الحكيم ابتسامة، وهو ينجو بالفتاة السمراء، بينما علت وجه القرصان السآمة.
- تعال إلى فرنسا الجميلة، يا دودة الأرض! هَرَّجَ القرصان بالتوجه إلى خادمه.
- أنت فيها، صاح الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر بحُمَيّا قبل أن يختفي والفتاة السمراء.
- طوال الوقت كنت أعتقد أنها فيّ، يا قحبة الخراء! ليس في رأسي، فيّ.
- لا تعكر صفو مزاجك، يا سيد البحار، استرضاه خادمه.
- في النهاية، الفرنسيون على كافة عناصرهم، أبناء مومس، أنا أولهم.
- هذا شغل العائلة الذي لكم، وأنا لا دخل لي.
- لا دخل لك!
- أحب فرنسا، أحب الفرنسيين، إلا أن الفرنسيين غير جديرين بفرنسا، بلد عظيم لشعب ضئيل. الشِّقاق ينهبهم، فهم ألف نَزْعَة ونَزْعَة، ألف رأي ورأي، ألف قبلة مختطفة وقبلة مختطفة، ولو لم تكن فرنسا، لانتهوا منذ قرون. أنت تعرف ما أفكر في هذا البلد الذي أنا مستعد للموت من أجله، ومع ذلك، احتقرتني فرنسا، أحيانًا، وغالبًا ما أهملتني.
- ليس وحدك.
- ليست المرة الأخيرة.
- شيء لا يدخل في المعقول فالإنسان كائن غير عاقل، من أنت وما تفعل وإلى مَ؟ كم من مرة وأنا في قلب البحر كنت أقول لنفسي هذه آخر مرة، إنها مسألة كل كائن عاقل والإنسان كائن غير عاقل. تصور أن كل هذه البشاعة فرنسا الجميلة! من غير المعقول أن تكون هذه فرنسا الجميلة، ومع ذلك هذه فرنسا الجميلة، الكينونة، الكون، الحياة. فقدان العقل هو هذا، هكذا هم المجانين المضيعون لأرواحهم، ونحن كلنا مجانين. نحب فرنسا القحبة هذه إلى حد الجنون، ولا نعرف أننا في الأصل مجانين لأجل أن نحبها. ابلع البحر، كانت أمي تقول لي كلما طلبتها شيئًا لا تريد أن تعطينيه. ابلع البحر! بلعت البحر وما فيه، ولم يعوضني ذلك عما رفضت أمي إعطائي إياه، واحد بِغ ماك فضلت أن تأكله، هذه هي فرنسا، لا الجميلة ولا الخراء، فرنسا، فقط فرنسا، واحد بِغ ماك، قبلة على ردف امرأة لن تنالها.
حضر السياميان مرعوبين، وهما يحملان فأسين، وراحا بالجدار دقًا، والعجول تهرب تحت دقاتهما، والثيران، والخرفان، والأعنز، والخنازير.
- وتوأمان سياميان، رطن الخادم غير ساخر.
- ماذا تفعلان، أيها المأفونان؟ احتار سيد البحر غير راض.
- نهدم المذاهب، أجاب المِسْخان، وهما يواصلان دق الجدار.
- إذا مُتُّ ظمآنَ فلا نزلَ القَطْر، جمجم القرصان بحقد متأصِّل.
- هذا ما نصحتنا إياه الفتاتان السياميتان اللتان ضاجعناهما، تأفف المشوهان، ونحن نقذف فرنسا دون أن نريح جسدنا.
- هذا لأن نكاحكما لم يكن الخلاق.
- ما هو النكاح الخلاق في رأيك؟ قل لنا لو كنت ناكحَ حق.
- النكاح الخلاق؟ سأقول لكما ما النكاح الخلاق. النكاح الخلاق هو أن يتركك المرء تنكح غيرك وهو ينكحك وكل العالم معه، النكاح الخلاق هو أن يجعلك المرء تنكح نفسك وهو ينكحك وكل العالم معك، النكاح الخلاق هو أن يوهمك المرء بالنكاح، بالنكاح الخلاق الخلاق، بالنكاح الخلاق الخلاق الخلاق، نكاحك لنفسك وله ولكل العالم، هذا هو النكاح الخلاق.
- النكاح الخلاق إنه لَمَظِنَّة للخير.
- الخير وكل بحر الشر هذا الذي نغرق فيه؟
- فقط القدرة، القدرة على ذلك.
- قدرة قفاي، لا!
- الكائن هو قدرته.
- وهذا هو قدرته، أشار القرصان إلى عضوه.
- أحيانًا أريد الذهاب يمينًا وأخي شمالاً، كشف السيامي الأول، وهو يحاول دومًا هدم الجدار، فلا أقدر على ذلك ولا يقدر على ذلك، فيأخذ كل واحد منا الشد من طرفه، ويتمنى كل واحد منا لو أن هناك فأسًا تقطعنا، وتحررنا مما نحن فيه.
- أحيانًا أريد التمدد في فراشي وأخي يريد مشاهدة مسلسله الخرائي، كشف السيامي الثاني، وهو يحاول دومًا هدم الجدار، فلا أقدر على ذلك ولا يقدر على ذلك، فيأخذ كل واحد منا بضرب الآخر، ويتمنى كل واحد منا لو أن هناك قنبلة تفجرنا، وتنقذنا مما نحن فيه.
- الأماني هي الدين الظاهر، اشمأز القرصان.
- ستهدم هذه الفأس كل ما له صلة بالواقع وما ليس له، تشامخ التوأمان السياميان.
- مظاهر الحياة، تدخل الخادم، أَذَلَّهَا.
- دودة الأرض هذا، اللا قادر على شيء، اللا نافع لشيء، علق القرصان، ها هو يحاول أن يُظهر كفاءته.
- أن يُظهر ذكاءه، صحح السياميان.
- ذكاء قفاه، طن سيد البحر.
- ونحن في الحمام، عاد السيامي الأول إلى القول، صغارًا كانت لحظة أخذ الحمام من أروع اللحظات، الغطس في الماء، الرغوة، الجسد اللماع، النسيان لكل شيء، الزمان الذي لا تنتظر فيه أحد، الزمان الذي لا ينتهي، أو هكذا تظن، وأنت في قلب متعة الحمام، الزمان الذي لا أحد ينتظرك فيه، الشعور بأن الزمان مُلكك دون أن تشعر بذلك، يسري الزمان في عروقك كما تسري الدماء وفي عروق الأشياء، فالعالم وأنت واحد، أنت العالم، الكائن أنت، والكينونة أنت، لحظة لا تلتقطها كل الفلسفات، وقد انتهت الفلسفات، إلى أن كبرنا، وأخذنا نصنع على طريقتنا فلسفتنا.
- اكتشفنا جسدنا، تابع السيامي الثاني، هذا الجسد الميتافيزيقي الذي لنا، بطن واحد وصدران وأربع أذرع وأربع سيقان. في البداية، تفاجأنا بصورتنا، صورة إلهية صورتنا، واعتززنا بصورتنا. وشيئًا فشيئًا، تحولت صورتنا إلى كابوس حقيقي لنا، كلما زلقت يد من أيادينا الأربع هنا وهناك، وتفجرت بين أصابعنا الحياة برمتها وليس مظاهر الحياة. قلنا فلتكن لعبتنا كبارًا، وإذا بها لعنتنا، إلى الأبد لعنتنا. ومع ذلك، لم يكن هذا رأي أمنا.
تفجرت الديدان من أجساد النساء، من مهابلهن، من سُرّاتهن، من أفواههن، من كينوناتهن. "هذا ما نحن فيه من تطور يرفعنا إلى قمم الجبال، تلعثمت الفتاة السمراء، دون تأدية غرضنا." ديدان، ديدان، ديدان. محيط من الديدان. ديدان سمراء. تزحف، تتسلق، تدغدغ، توشوش، تدخل في صميم الأشياء، تغدو الأشياء، فتزحف الأشياء مثلها، تتسلق، تدغدغ، توشوش. شارع الشانزلزيه. ديدان. قوس النصر. ديدان. برج إيفل. ديدان. الحي اللاتيني. ديدان. مقهى آراغون. ديدان. باربِس. ديدان. مجزرة الجزائر. ديدان. بيغال. ديدان. كنيسة القديسة ماري. ديدان. فوبورغ سانت هونوريه. عاصمة الديدان. طريت الجدران، وماعت الظلال. كل باريس طريت. كل الظلال ماعت. انسكبت في نهر السين، لم تكفِ الديدان والجدران طعامًا. عظم حجم الديدان، فغدت لها قامات الحيوانات البائدة: ديناصورات وتنينات وحنفاوات. تعض. تمص. تلعق. تقضم. ديدان كما في الخيالات. انتشرت في الأساطير، والتهمت أروع الشخصيات. صارت شخصيات الأساطير الديدان. عوليس وهرقل وأخيل. موسى. علي بابا. الجنون. الجنون الدوريّ بالأحرى بعد أن غدت الديدان جنونها، وهي جنون العالم. التكنولوجيا من جنون إلى جنون، الوقت الذي تأخذ فيه نَفَسَها. التكنولوجيا لا المذاهب. المَكون. يتوقف الكائن (الإنسان) على المَكون (التكنولوجيا) في علاقة بطاطية إيجابية للتكنولوجيا وسلبية للطماطم. الديدان. الكُمون. البَرْء. لم تستطع عاهرات الجدار إعادتها فيها. كان جمعها يعني الإنهاء على العالم. الإبقاء على القرف. لون الرماد. لون الحب وكنزة الحياة. طعمها يثير القرف، اشمئزاز النفس. على اللسان طعمها خراء. كطعم ساندويتشات محطة الشمال. بالجامبون والزبدة. كطعم القهوة. كطعم القبلة. خراء مبهر. ديداني. مومسي. فيلمي. في السينما فيلم خرائي كوفئ بسيزار لمن يريد مضاعفة القرف. القرف. القرف من كل شيء، من كل شيء، حتى من أجمل امرأة، حتى من أجمل رجل، حتى من أجمل بنك. القرف من القرف، فلا شيء غير القرف. الوجود قرف، والعدم قرف. المال قرف، والجاه قرف. ماري-أنطوانيت قرف. جوزيفين قرف. بريجيت باردو قرف. افعلي شيئًا باسم القرف من أجل... ألا ينتهي القرف.

* * *

بدأت كارمن موظفة صغيرة على الرغم من شهادة الماجستير التي لها في الاقتصاد، لكن ذلك لم يعطل طموحها، وعلى العكس زادها طموحًا على طموح. جعلت لنفسها شعارًا: الغاية تبرر الوسيلة، ورسمت لها طريقًا: أعلى المناصب. عندما دعاها معلمها إلى العشاء، لم تتردد لحظة واحدة. وعندما أراد النوم معها، لم تقل لا. بعد أشهر قليلة، قدمها معلمها إلى معلم أكبر منه. بعد العشاء، والغرام، وجدت نفسها رئيسة لعشرة من المحللين. طالت قائمة علاقاتها وامتدت إلى عدة بلدان في أوروبا وآسيا، وراحت في رحلات عمل تكللت كلها بالنجاح. كان ذلك من وراء عروض البنوك الهامة جدًا للعمل معها، كشريكة هذه المرة. كأميرة مال. كفستان شانِل. لمّا تختم البورصة نهارها في صعود، لمّا تضاعف البنوك أرباحها، لمّا يبتسم الرأسماليون لبعضهم، ولمّا تُهرق الشمبانيا، ويُلتهم الكافيار، وتنشق التنورات حتى الخاصرة كاشفة عن أجمل السيقان في العالم.
- الأزمة كبيرة، قالت كارمن لأعضاء مجلس الإدارة في اجتماع عاجل، وهي ترفع يدين مليئة أصابعهما بالخواتم، وفي فمها سيجار كبير، لكنها في رأيي ليست كبيرة إلى درجة تلامس فيها حدود الكارثة.
- آنسة كارمن، أوضحي من فضلك، رجاها الرئيس المدير العام.
- سأطلق نفسي على سجيتها، قالت، وهي تنقل السيجار بين إصبعين.
- كالحربِ من عقالها.
- كالعِنان للأهواء.
- نعم على الإطلاق.
- لينطلق اقتصاد البلد.
- هذا ما نسعى إليه كلنا.
- ونحن معه.
- شيء طبيعي.
- الأزمة تكون بالفعل كبيرة عندما نعجز عن دفع صك بألف يورو لأحد زبائننا، ونحن اليوم قادرون على دفع ألف مليار يورو لليونان.
- صحيح ما تقولين، ولكن دينًا على دين.
- فلنعمل على استمرار ذلك، يا سيدي الرئيس المدير العام، وما أسهل ذلك، كما تعلم. نظام الدين على الدين، هو الحل.
- ليس إلى الأبد، احتج أحد الغيورين منها.
- إلى الأبد.
- ليس إلى أبد الأبد.
- عندما يضخ الكونغرس بنوك أمريكا بالمليارات ويعرقل الخطة الصحية لمواطنيه نعم إلى أبد الأبد، عندما يجد الرئيس الفرنسي المليارات لبنوكه ولا يجدها لتبريد الأرض نعم إلى أبد الأبد، عندما لا ينام الاتحاد الأوروبي الليل وهو يفكر في كيف يردم البراكين المالية في إسبانيا بلدي الأصلي وغير إسبانيا ولا يُبدي أية أهمية لانهيارات بلدان الربيع العربي نعم إلى أبد الأبد.
ضجت القاعة بصيحات الإعجاب.
- لكن علينا الحذر كل الحذر من دسائس السياسيين من كل لون القادمين إلى حضن الجمهورية التي يتغطون بها جميعًا ليخفوا الحضن الآخر، المشتهى، الحضن الساعين إليه على الأربع، كما يجري في الغاب، حضن السلطة، ولا يترددون لحظة واحدة عن اللجوء إلى شتى الوسائل، بتعصبية تفوق بكثير التعصبية الدينية، وكل هذا باسم الفرنسيين، الفرنسيين، الفرنسيين، والفرنسيون آخر من يعلم، وآخر من يخولهم حق التكلم باسمهم. الفرنسيون شغلنا نحن، إذا سقطنا سقطوا معنا، بينما نحن سنبذل حياتنا كيلا نسقط.
ومن جديد، ضجت القاعة بصيحات الإعجاب، ولم يتردد بعضهم عن التصفيق، وبعد ذلك كلهم، تصفيقًا حارًا متواصلاً. أسكتتهم بحركة ملحة من سيجارها، وعندما خيم الصمت، ترددت فيما تقول:
- الحقيقة، أود قول، هناك شيء، أريد أن أقول لكم... وأنا صغيرة، كان في حديقتنا جدار، ثلاث أو أربع مرات أطول مني، بالنسبة لي على حافته كانت السماء، قبة الكون. لم تفهم أمي لماذا أحاول تسلق الجدار دون أن أطلب عونًا من أحد، وهي آخر من أطلب عونها، لأنها أمي التي كانت تدللني أكثر من أي أم أخرى ربما، ولأنها لم تكن ترى ما أراه، قبة الكون، عليك أن تصعد إلى قبة الطبيعة وحدك، شرط ألا تزلق قدمك! كانت تعتقد أنني أريد النزول من الناحية الأخرى للجدار، بينما كانت السماء تغمزني بعينها، وتتحداني. قبة الكون! ولما تكون فوق، أنت لا تسمح لنفسك بالنزول، وإلا كان السقوط في أعماق المحيط. ماتت أمي وهي حائرة في أمرها...
في المساء، دعاها الرئيس المدير العام إلى العشاء، ولم تقدم جسدها في المساء ذاته. أرادت أن تناور كما تناور في البورصة لتضمن الدَّيْن القادم. وكان للرجل المالي القوي ما رغب بشرط أن يقدمها لوزير الاقتصاد. لن تحلم الديناصورات بجسد كهذا في أحضانها، وعقل كهذا في رؤوسها، وقامة كهذه تغطي كل الدائرة السادسة عشرة. سأكون في قدمك خاتمًا من الذهب في الليل وعلى صدرك عقدًا من الماس في النهار. سأرضي كل محرومي باريس بفعل الجنس معك وأشبع مِعَدَهم بقبلاتك. سأضع حدًا للبطالة على ثدييك وأقلب مجرى الأسعار على إليتيك. هذه هي سلطتي. هذه هي كفاءتي. هذه هي حريتي. نهر السين. برج إيفل. قوس النصر. الحب النقود. السعادة البورصة. الحُلم قصر الإليزيه. أخذ أصابع قدميها، وراح يمصها واحدةً واحدةً، لِيَرْضَخَ للعبقرية، ويكفيَ الحسد. ذابت كلها، وهي تقرص حلمتيها، وتتأوه في النعيم، وهي تقرص مِشْفَريها، وتتخبط في الجحيم. أخذت رأسه بين فخذيها، وجعلته يغدق عليها وابلاً من لعابه، وبلسانه يزيل المعاصي التي ارتكبها ملوك الطوائف فيها، وبلسانه يهدم غرناطة من جديد، وقرطبة، وأشبيلية، وبلسانه يبني لإيزابيل الكاثوليكية مدريد جديدة، كلها كراخانات. رفعته على ثديها الأيسر ليذل كل اليسار، ثم على ثديها الأيمن ليذل كل اليمين، ورفضت لفرجه الدخول فيها، تركته كالذليل يطرق باب فرجها، وكلما طرق طرقة زلق، وكلما طرق طرقة زلق، وكلما طرق طرقة زلق، فانقض بفرجه على فمها، وأدخله حتى منبته، كاد يخنقها، لكنها كانت لذته القصوى، أن يخنقها، خرج ودخل، خرج ودخل، خرج ودخل، ودلقه بين ثدييها، وراح حكًا حتى احتك بالكواكب والنجوم، كان على وشك أن يدمر روما، فقلبته، وامتطته، كحصان أسمر امتطته، وراحت في صعود وهبوط، وهي تصرخ من بالغ اللذة، إلى أن تفجرا معًا وخزائن البنوك، في فرنسا، في سويسرا، في قطر، في هونغ كونغ. وعلى يخته، لم يستطع ملك البحرين افتكاك قبلة واحدة من شفتيها، فراح حراسه بها ضربًا. كانت مطربة الشبيبة من المحيط إلى الخليج، رمز الجنس، شعار الثورة، المسحوقة، الشيعية الأجمل التي يحلبون بين فخذيها نفط المملكة.
في اليوم الذي قررت فيه سمراء مدريد النوم مع الوزير، وجدته قتيلاً في الشِّقَّة الفخمة التي اكتراها خصيصًا لها في فندق الهيلتون.




القسم التاسع

في محطة الشمال، لم يكن أخذ القطار مجرد أخذ القطار، ولم يكن النزول منه مجرد النزول منه، كان المرء في محطة الشمال يقوم بفعل يتجاوز الفعل الخاص، يجاور الأفعال الأخرى، يدور حولها، يملأها أو يمتلئ بها، ويكون فيها خدشًا كخدش المخلب أو يحفر فيها عميقًا عمق البراكين في أعماق البحار، ليسيطر على الكون، ليغزو العالم. وكان المرء في محطة الشمال بفعله اللايذكر يستطيع أن يهدم الجبال، ويسقط العروش، ويغير مجرى الأنهار. كل تواريخ البشر صُنعت في محطة الشمال، كل قصص الشياطين، كل رسائل الأنبياء. كل المعاهدات وُقعت في محطة الشمال، كل الدساتير كُتبت، كل القوانين سُنت. كل الأحلام تحققت في محطة الشمال، كل الكوابيس، كل الأوهام الجميلة منها والمهلكة. كل النيران اشتعلت في محطة الشمال، كل القلوب، كل النفوس السَّنِيَّة منها والدَّنِيَّة. كل الحُرُمات انتُهكت، كل العذراوات افتُضت، كل الرغبات اغتيلت، ونهضت بعد أن سقطت في الأقاقيا والموت، لتتحقق أو من جديدٍ لتُغتال. لم تكن محطة الشمال حركة التاريخ، كانت التاريخ، التاريخ بكل ما فيه، التاريخ بأسوده وأبيضه، التاريخ بأحمره وأسمره، التاريخ بأصفره وأصفره، التاريخ بفضته وذهبه، التاريخ برماده وغباره ووحله وصخره وقيئه وقيحه وبرقه ورعده وزلزاله وبركانه، حامض بركانه، وشمسه وقمره، ونهاره وليله، بل ولياليه. كانت محطة الشمال التاريخ، وأنا كنت فيها لئلا يعيق أحدهم حركة التاريخ. وعندما رأيت نابليون على رأس كوكبة من الفرسان يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف، لأن امرأة مَعْراء الناصية في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى تعيق تقدم الإمبراطور، كان عليّ أن أفعل شيئًا. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون، وهتلر على رأس وحدة من الدبابات المصفحة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف من وراء نابليون. كان الزمن يجري بسرعة في محطة الشمال، السنون بثوان، القرون بدقائق، والحال هذه، لم تمهلني حركة التاريخ أكثر مما أمهلتني لأُبْعِدَ المرأة بحقائبها وأشيائها وظلالها، وأعيد للتاريخ حركة التاريخ. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون وهتلر، وأسد على رأس موكب من السيارات الليموزينية يتقدم في محطة الشمال. توقف التاريخ بعد أسد، وكان عليّ أن أتصرف بسرعة. وأنا ألتفت من حولي، وقعت على عازف غيتار شاب، يغني بصوت شُحْرور النار الذي له. توقف عن العزف والغناء، وأخذ يتابع بنظره ما سأفعل. بدا منحرف المزاج، علامة موسيقية مُحرّفة. أشرت إليه بالمجيء بسرعة، فجاء بأقصى سرعة يقدر عليها. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه واسعاً، ثم ثانية أقل كبرًا بعد أن سحبت الأولى، ثم ثالثة أقل أقل كبرًا بعد أن سحبت الثانية. أشرت إلى المرأة، ففهم أن عليه من أجل فتح الطريق أمام التاريخ في محطة الشمال التخلص منها. رماها هي وأغراضها في عربة، ودفعها ليلقي بها في المُحرقة. عندئذ، تحرك العظماء الثلاثة، وواصل التاريخ حركته.
ومن التاريخ إلى تواريخنا ذهبتُ، فلكلنا التاريخ في محطة الشمال، ولكل منا تاريخه. وجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين، والطفلة شبه غائبة عن الوعي. "ابنتي لا تحتمل السفر في القطار"، قالت الأم. كانت تكذب. كان السبب الأم. أم لا تطيق الحيوية الطفلية. ابنتها كانت عفريتة من العفاريت الصغار، وهي، الأم، ذات طبيعة حَسَّاسية، طبيعة وهابية، طبيعة ترهبنية. كلما أرادت ابنتها اللعب والتحرك في كل الاتجاهات كانت تضربها. ضُربت البنت إذن حتى أغمي عليها، فخلصتُها إياها. كان علي أن أحررها. خلصتُها إياها على الرغم من صراخها واحتجاجها الذي لم يثر اهتمام القادمين، وجعلتُ الصغيرة تجري كما يشاء لها التاريخ بين أقدامهم. "انتظري، لا تبتعدي، تعالي إلى ذراعي ماما، انتظري، انتظري، رددت الأم، يا دين الكلب!" وهي لا تستطيع اللحاق بابنتها. كانت كل الحكايات تركض معها، كل الهدايا، كل الفساتين. بعد قليل، لم أعد أراها، لم أعد أسمع صوتها. ترادفيًا، لفت انتباهي رجل وامرأة شديدا التجهم إليهما، كلاهما على خطأ، قلت لنفسي، الشر والشر، العقرب والعقرب، السيف والثدي. إذا أنهى أحد الشابين، الأول أسود والثاني أبيض، لونان هما في الباطن واحد وفي الظاهر اثنان، لعبة الشطرنج بين أيدي الملوك، تغلب الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، التاريخ لا يمزح. كيلا يتغلب أحدهما على الآخر، كان على الشابين أن يربحا كلاهما، فما العمل كي يربح كلاهما؟ إذن لتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى أو لتتوقف. في تلك اللحظة، قَلَبَتْ مجموعة صاخبة من الشبان والشابات رقعة الشطرنج بأقدامها، فخسر الاثنان. هذا أسهل أن يخسر الخصمان. نظرتُ إلى الرجل والمرأة، لم يكن لا الواحد ولا الآخر هناك. جرفتهما حركة التاريخ. بحثت عنهما بعينيّ إلى أن وقعت عليهما، لم يكونا معًا، كان كل منهما في ناحية من نواحي محطة الشمال. في العزلة اللاعزلة، بين المناقير الأفواه. من أمامي، بدت لي ماري أنطوانيت، وهي تخلع حرائرها، ومن ورائي، وصلتني صرخات راهبة حبلى تضرب بقبضتها بطنها تريد الإجهاض، فأمسكت بها، "سأعاونك، قلت لها، ولكن لماذا تريدين التخلص من الجنين؟ لأنك راهبة؟" "بالطبع لا، أجابت الراهبة الحبلى، لأني امرأة." "ظننت لأنه اختار قدره، الجنين، قلت، ولأن ذلك غَضَبٌ منك عليه بعد أن اختار مصيره الذي يريده هو لا الذي تريدينه أنت." "سأحكي لك حكايته، هذا الجنين المومس، قالت الراهبة، حكاية أبدًا لم يسمع بها التاريخ، فهي لا شأن لها ككل حكاياتنا." "احكي"، قلت. "قبل أن أرتدي هذا الثوب، كنت حُبلى، إلى اليوم لست أدري ممن، زوج أمي؟ جارنا؟ سائق التاكسي الذي حملني ذات مرة على الساعة الثالثة والنصف صباحًا؟ جزارنا؟ موزع بريدنا؟ بائع الورد؟ كنت حُبلى، فأصرت أمي رئيسة الدير على الإجهاض، إجهاض كانت ترفضه للعاديات اللواتي يرتكبن هذا الخطأ الصغير. أيدتها كل أخواتي، ولم تقف واحدة إلى جانبي. تخلى الدير عني، فقلت أذهب إلى الحانة. رفض كل من أعرف ومن لا أعرف أن يكون أبًا للطفل، تخلت الحانة عني، فقررت عند ذلك الاحتفاظ به." "ولماذا إذن تريدين إسقاطه؟" سألت دَهِشًا. "لأني أضعت الفرصة"، أجابت دَهِشَةً من دهشتي. "فرصة ماذا؟" نرفزتُ. "ألا أكون حُبلى!" نَرْفَزَتْ لنرفزتي. وبعد عدة ثوان: "بعد ذلك، مرة ثانية، سأضيع الفرصة، هكذا هي حياتي، جملة من الفرص الضائعة."
رأيت نجيمة سينمائية تتقدم مع القادمين بخطوات عازمة، رأيت ساقيها البيضاوين في بنطال لصوق ممزق ألصقته بصبغ الأظافر، رأيت صدرها الناهد من تحت صدارة قطنية تكمشت وتقلصت، رأيت حذاءها الزهري الأهوج المثقوب، رأيت حقيبتها البلاستيكية العدمية المرقعة، رأيت حياتها المهترئة المبتدَعة المبتدِعة، رأيت بطنها المترهل على حواف أقداح الشمبانيا، رأيت وركيها اللذين انتحر عليهما فان غوغ، كل النساء الخرافيات رأيت مع اهتزاز ردفيها، رأيت ظهرها المُعطى لأبواب الكباريهات، لأبواب البيوت المغلقة، لأبواب بيوت الله، رأيت ظلها ظل كل النساء العاريات في أحضان حقول الموز، رأيت الجمال يذرف الدمع في سوق الأربعاء، والجنس يشعل النار في ملعب فرنسا، والبنك يتقيأ المال في الطاحونة الحمراء. كانت تتقدم بخطوات عازمة، كجملة من الفرص الضائعة، وهي تمد إصبعها إلى هذا أو ذاك ثم تشير إلى نفسها، كمن تريد القول لمعجبين افتراضيين، ها أنا ذا، كانت تتقدم بخطوات عازمة على هامش التاريخ، على هامش التاريخ كانت تتقدم، ها أنا ذا، ها أنا ذا، والتاريخ ينظر إليها باحترام، ها أنا ذا، ها أنا ذا، ها أنا ذا، هامشٌ دونها لن يكون للتاريخ، لن يكون التاريخ.
وفي الهامش غالبًا ما يمضي الفاجع دون أن نشعر به، كلعبة يمضي، يمضي الفاجع كلعبة، ومعه استحالة السلب والإيجاب في وقت واحد، لتغدو أعمارنا ساحة مفتوحة على كل شيء، على كل شيء: "لماذا لم تأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي؟" سألت الأم مع مزيج من الخراء والدم المتخثرين. كانت الأم بصحبة ابنها السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، السمين بسمن الفيل. فتحت حقيبتها أول ما وجدت مقعدًا، حقيبة ملأى بالساندويتشات، وجعلت ابنها يأكل. "ستأكل كل هذا، يا حبيبي"، قالت الأم وكأنها تسلم مدينة للنهب. "سآكل كل هذا، يا ماما"، قال الابن وهو يسلم أمره لله. "ستأكل كل هذا، كل هذا، يا حبيبي"، قالت الأم. "سآكل كل هذا، كل هذا، يا ماما"، قال الابن. "ستأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي." "سآكل كما يوجب الأكل، يا ماما." "ستأكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا حبيبي." "سآكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا ماما." "ستأكل إلى أن تشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تصرخ من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أصرخ من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما." بدأ الابن يغتصّ. "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن.. عاد الابن يغتصّ، إلى أن أموت، يغتصّ، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، يغتصّ، يغتصّ..." حملته أمه، فوقعت به على الأرض، وأخذت تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." رفعته، فوقعت على جانبها الأيمن، وهو فوقها، وهي تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." رفعته، فوقعت على جانبها الأيسر، وهو فوقها، وهي تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." عرفت فجأة أنه مات بالفعل، فدفعته بعيدًا، وهي تقف دفعة واحدة على قدميها، وتصرخ بهستيرية.
في محطة الشمال، لم يكن الاستقبال سهلاً كما يبدو، لم يكن كل المنتظرين لغيرهم فرحين بلقائهم، كان منهم الفَرِح، وكان منهم التَّعِس، وكان منهم لا الفَرِح ولا التَّعِس، كانوا وجوهًا للتاريخ، فللتاريخ أقاقيانا. من المنتظرين الفرحين، رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يستقبلون الراهبة الحبلى المرتدية لثياب البابا كالربة على درب التبانة، كانت تتقدم، والرهبان يقبلون يديها، وبعضهم قدميها، ويرمون بأجسادهم على الأرض من أمامها رمي روما على الصليب لتطأها، لتفتحها، لتدخل فيها بكل جسدها، لتأخذ مكانًا بين أمعائها، في أمعائها، في خراها، والمسيح يضحك عليهم كمن يقول لا أجد شيئًا أشتهيه. ومن المنتظرين التعسين، رأيت شابًا في بدلة سوداء مخططة يغطي رأسه بقبعة سوداء حريرية، وهو عابس عبوس شيخ أضاع حياته، مرت به أجمل الفتيات وأجمل الفتيان، وهو دومًا عابس، دومًا يرصد القادم التالي، دومًا يرصد الوهم، دومًا يرصد العناء، الممكن المستحيل، أن تكون لبرج إيفل قدمان صغيرتان، لقوس النصر جناحان قويان، لبيغال فرجٌ حنون، فيطارد الأمل اليائس. ومن المنتظرين لا الفرحين ولا التعسين كان بعض نزلاء الفنادق المجهولين، وقطاع الطرق، ونجوم ما بعد الظهيرة. رأيت أحدهم يبحث عن وكيل فندقه، كل وكلاء الفنادق كانوا هناك، وكانوا يرفعون لوحات كتبوا عليها أسماء نزلائهم. لما رآني النزيل المجهول أنظر إليه، جاءني يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه، فأجبت بالنفي. رسم الرجل ابتسامة طفيفة على شفتيه، وقال آه! سألته عن اسم الفندق، كان لا يعرف. عن الدائرة التي فيها الفندق، كان لا يعرف. إذا ما كان يعرف أحدًا يمكن الاتصال به، كان لا يعرف. رسمت ابتسامة طفيفة على شفتيّ، وقلت آه! تركني، وراح يقرأ الأسماء على اللوحات المرفوعة، الشيء الذي فعله أكثر من مرة. قام بدورة، ثم عاد، وعاد يسألني إذا ما كنت وكيل فندقه. أعطيته ظهري، وتركته يلغ في أقاقيا محنته، لأضيق عليه الخناق، فيجد مكانه بين من لا مكان له على بطن تاريخ ضامه حقه.
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت جزءًا من أوركسترا صخب عام لم يكن صخب المعارك ولا صخب البورصات، لا يلبث المرء أن يعتاده. أما ما لا يعتاده المرء أبدًا، فهو صمت مكبر الصوت المفاجئ، الصمت الذي يطول، والذي يغدو مقلقًا لأنه يطول على غير العادة، ولأن المحطة تتحول إلى مقبرة فرعونية، صمت يصل إلى حد القداسة، صمت مرهب، ثقيل، يشعر المرء بضغطه على صدره وكل عمره وكل كِيانه، صمت يلبس المرء، يلبس الكون، يلبس التاريخ. عند ذلك، كان المرء يبحث عن البديل المُرغِب، بديل الصخب في هذا الصمت المُرهِب، فلا يجد من بديل، كل شيء يضغط عليه الصمتُ بثقله الطام، فيأخذ المرء بالتحايل على وضع اضطر إليه اضطرارًا، بالتمثل، لأجل الاحتمال، احتمال الصمت المطبق وثقل الصمت الطام، بالاستيعاب، استيعاب ما لا يُستوعب واحتمال ما لا يُحتمل، أن يطلب المرء فنجان قهوة لا يشربه، أو يشتري جريدة لا يقرأها، أن ينظر إلى امرأة ويغمزها، هكذا، يغمزها، كل هذه احتمالات لاحتمال الصمت المفاجئ والطويل لمحطة حمص الفرنسية. صمت التاريخ. وما تم أمام عينيّ يمس في الصميم، فتى وفتاة كانا يجلسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا أمامهما، كان يبدو عليهما أنهما يتحابان، وبدافع الصمت المُرهِب لمحطة الشمال، دفع أحدهما الآخر عنه بعيدًا، وهما يقلبان الطاولة، وذهب كل منهما إلى باب من أبواب المحطة. أسعدني الأمر كثيرًا، كان في المشهد انفعالية تراجيدية أدت إلى الحسم الأرسطوطالي، القطع في اللحظة المناسبة، والانتصار للّحظة الفاجعة، للعاطفة المدمرة. بعد صمت التاريخ، الصمت التاريخي. حتى طبيب الأسنان الذي كان يقيم عيادته غير بعيد من هناك كان يقاوم الصمت على طريقته، فيقلع بأسنانه الذئبية فك المريض، حتى أحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم لمن لا يشتريها كان يتحدى الصمت بتلاوة كتبه بصوت عال، حتى القروش الصغيرة في حوضها كانت تنشج وتعلي العويل على سمكة أكلتها. مقاومة الاستعمار الشخصي، مقاومة قوة الصمت بقوة الصمت، الصمت التاريخي بالصمت الفردي. وقفت فتاتان مترددتان على باب المحطة، وصرحُ الصمت يحول دون دخولهما، بكيتا، وقبّلتا بعضهما من الثغر قُبُلاً عديدة، ثم سحبت كل منهما حقيبتها، وعادتا من حيث جاءتا، إلى نقطة معلومة في أرشيفات الكره والحب، الحرب والسلم، الكبابيد وأقلام الحُمرة.
وفي الصمت المهيمن الصمت المُرهِب الصمت المُهلِك، مر رجال المطافئ من أمامي، وهم يحملون على نقالتهم كرة رغبي. كانوا شديدي الحزن، أكثر حزنًا من رف من الكتب الصفراء، وكان بعض الموجودين في محطة الشمال شديدي التأثر، أكثر تأثرًا من لف من الأعلام المنكسة، وليخفف ناقل الحقائب قليلاً من ثقل الجو، أخذ يقود عرباته بعيدًا عن الممر المخصص لذلك، أخذ يقودها بيننا، نحن الحزانى، لتكون للتاريخ لحظات حزنه وأبدًا لحظات فرحه، كيلا يتوقف عن إطلاق النفير المتواصل منذ نابليون، منذ الحرب العالمية الثانية، منذ تدمير حمص وحلب وباقي مدن الأحلام، منذ التشذيب الأخير لأشجار الكستناء في حدائق التويلري. "ابْتَسِمْ!" صاح ناقل الحقائب، وهو يمضي إلى جانب شيخ عجوز كان يجلس على حقيبته ويبكي.
لفت انتباهي إليه شاب جاء عنيفًا، وبشكل فظ أراد أن يأخذ مكانه على عجلة التاريخ، مكان مُقعد في عربة. "ادفع"، قال للمُقعد، وهو يقذف حقيبته أرضًا. حمل المُقعد الحقيبة بيد، وبيد أخذ يدفع العربة، وهو يعرج، ويتقدم بصعوبة. "لا يسافر قطاري الآن، يا جان"، قال المُقعد. "ادفع قلت لك، ادفع"، أمر الشاب. دفع المُقعد. "أقوى، أقوى"، ردد الشاب، والمُقعد يدفع، والشاب يقلد بذراعيه عبور الطائرة، وبلسانه صوتها، "ووو... وووووو..." غير مبال بالناس، والناس يبتعدون، ويخلون المكان للعربة. "ادفع، ادفع، ووو... وووووو... ادفع." سقطت الحقيبة من يد المُقعد، فتوقف ليأتي بها، والشاب يداوم على القول "ادفع، عجل، عجل، ووو... وووووو..." إلى أن وجدا نفسيهما قرب قطار سيأخذه المُقعد. فحص الشاب لوحة الذهاب. "لم يبق سوى بضع دقائق لا كما قلتَ، أيها العجوز المغناج"، صاح الشاب بالمُقعد بعنف، ونهض جاذبًا من يده الحقيبة، ثم ذهب يجري. تسلق القطار، وما لبث القطار أن قام، والمُقعد يقف في مكانه ساكنًا ساكتًا غير مدرك لما يجري. "طاووس، همهم المُقعد، هناك."
هذا هو، أن لا ندرك ما يجري من أحداث، أو أن ندرك ما ندرك بقوة الأشياء. لم يكن هناك أحد من المسافرين على شبابيك بيع التذاكر بعد أن أخذوا يشترونها على إنترنت، رأيت الموظفين، وهم يتسلون ما بينهم، كانوا يتمازحون، يأكلون، يعلكون، يركضون من وراء أنفسهم ليمسك الرجال بأكفال النساء. كانت تلك مرحلة قبل مرحلة، مرحلة بعد مرحلة، من تاريخهم، تاريخهم الشخصي، تاريخهم الشخصي جدًا، من حياتهم، فحياتهم شمعة تحترق على مراحل بعد أن اشتعلت في بكين، أمواج تذوب على الشاطئ بالتتالي بعد أن جاءت من أعماق المحيط، هكذا يموت المرء لتموت الطبيعة في جزء منها، إلى أن تموت، وينتهي التاريخ، إلى الأبد، ليبدأ تاريخ الأقاقيا من جديد. وكذلك كان الأمر مع ماكينات تبديل النقود، كانت هذه الماكينات تعاني من حدة البطالة بسبب الأزمة، الأزمة المالية، الأزمة الحياتية، أزمة الكائنات، أزمة الكون، أزماته، أقاقياته الحمراء، حُمَيْراءاته، رماناته، العقيق، الأناشيد. في حمص. في شنغهاي. في باريس. لم يعد رجال الشرطة يمرون من أمامها، لم يعد ما يستوجب الحراسة، اطمأن التاريخ على أمنه، ولم تعد له حاجة إلى حرس شخصي. جاء أحد المتسولين العابرين سبيلهم، وفتح إحداها، أدخل يده فيها، ولم يفعل سوى مسح الغبار.
غبار. التاريخ غبار. رأس المال غبار. البشر غبار. حتى الصور الجميلة. الصور غبار. رفعت رأسًا مفعمًا بالغبار صوب إعلان كبير كجدار لفتاة يطير فستانها وشعرها في زوبعة من الغبار، وفي غبار الصمت السائد، لم يشدني شعرها، لم تثرني ساقاها. كانت لها ساقان من غبار، والاستثمار الذي يدعو إليه البنك صاحب الإعلان خلال أزمة كهذه يبدو نكتة سمجة، نكتة من غبار. أنزلت عينيّ لأقع على مجموعة من الإنجليزيات اللواتي بَدَوْنَ ساذجات إلى حد الإهانة، إلى حد الغبار. كان النمش لا يزحف على وجوههن البيضاء زحف النمل المدغدغ للذات وللكِيان، كان النمل يموت على خدودهن، ويتساقط على حلماتهن الصغيرة، فلا يعضها، يتساقط كالغبار.
لم تغادر خيالي صورة النمل الميت المتساقط على الحلمات الصغيرة كالغبار، كانت في الأمر مأساة. سيكوباتية. تجنبت الغوص في متاهات فرويدية، ومشيت صوب هرم رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، ككل الأهرامات. هرم من حجر لا من غبار. وأنا أتأمله بعين الإعجاب، جاءني من داخله صوت: الرحمة، الرحمة... أدخلت رأسي، فإذا برجل عاري الصدر يجثم عليه عُقاب دموي، وبمخالبه يحاول انتزاع قلبه دون أن ينجح. الرحمة، الرحمة... ظننت أنه يرمي إلى التخلص من العُقاب الدموي. إنه سرطاني الذي لا يريد القضاء عليّ، أوضح الرجل، سرطان رئتي. وعاد يطلب: الرحمة، الرحمة... بسطت كفي، وخنقته.
كان عليّ أن أفعل ذلك، ولأول مرة في حياتي شعرت بالارتياح. كنت خارج التاريخ، خارج الوقت، خارج كل إرادة غير إرادتي، خارج الغبار. كانت إرادتي مجرمة، لكني كنت أشعر بالارتياح. كل الأقاقيا المسفوحة في أوسترليتز كانت إرادتي، لكني كنت أشعر بالارتياح، بالإصغاء، بالإصغاء إلى نفسي، بالإصغاء إلى غيري. أصغيت إلى فتى أصفر البشرة، وهو يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إن القطار قد أقلع. ابتسم الفتى الأصفر، وقال إنه سيأخذ قطارًا آخر، فلم يفهم المراقب، تركه، وتابع طريقه. "إلى نفس الوجهة، ليس هناك قطار آخر"، قالت فتاة صفراء للفتى الأصفر. واصل الفتى الأصفر الابتسام، "الوجهة لا تهمني"، قال. فكرت الفتاة الصفراء قليلاً ثم انفجرت ضاحكة، وراحت تنحني للفتى الأصفر، والفتى الأصفر ينحني لها، وهما يبالغان في الانحناء، فيبين المسدس المعقود بزنار تحت صِدارتهما. "الجزائر، تدخلت قائلاً للفتى الأصفر، أفضل وجهة لك الجزائر، أو المغرب، أو تونس، مخرآت بحق." "مخرآت أو غيره، هذا البلد أو غيره"، رد ابن الصين ضاحكًا. "إذن الجزائر"، اخترتُ عنه. "ولكن... لا قطار للجزائر في محطة الشمال"، قالت الفتاة الصفراء. أخرجت محفظتي: "سأدفع له تاكسي إلى أورلي." نقلتُ بين إصبعين ورقة نقدية ذات مائة يورو، وقدمتها لساحرة الصين. "أركبيه، طلبت إليها، وسأبقى بانتظارك." مدت يدها لتأخذ المائة يورو، فسحبت يدي، واخترت ورقة نقدية ذات خمسين يورو، فأخرى ذات عشرين، فأخيرة ذات عشرة، لكنها اختطفت ذات الخمسين، واختفت مع الفتى الأصفر بين جذوع الناس.
بعد قليل، جاءتني ابنة بكين، وهي تبتسم، وتنحني بإجلال كونفوشيوسي، وتضع ورقتين نقديتين بعشرة يوروهات الواحدة في يدي موضحةً: "جعلته يأخذ الحافلة." ابتسمتُ لتواطئها، وأرحتُ المال في محفظتي. "الوجهة، لا تهمه، قالت الفتاة الصفراء، ما يهمه هو المكان أيًا كان." "كانت الوجهة لا تهمه"، صححتُ. "قدرت على التدخل اليوم، علقت الفتاة الصفراء، ولن تقدر على التدخل غدًا، فالتنين الأصفر سيلتهم العالم برمته. هذا قدر كل حضارة منبثقة، كل الحضارات التي انبثقت عبر التاريخ كان هذا قدرها." "صحيح ما تقولين، قلتُ، لكن حضارتنا لا قدر لها، كانت فوق كل الحضارات وستكون." فكرت الفتاة الصفراء قليلاً، ثم انفجرت ضاحكة. انحنت لي، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبة ملأى بالأفكار والمشاريع. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، كل الشرطة فيه من الصُّفر، وكانت هناك بعض المكاتب المفتوحة، في واحد فتاة هندية ترتدي الساري، وفي ثان فتاة برازيلية ترتدي البكيني، وفي ثالث فتاة سعودية ترتدي الحجاب. كانت الفتاة الصفراء تحيي كل واحدة منهن بلغتها، وكل واحدة منهن تجيبها باللغة الصينية، ما أن أدرن لها ظهورهن حتى رفعت مسدسها، وأردتهن قتيلات. "لم تسألني لماذا؟" قالت. "أعرف، قلتُ، ليذكرك الناس." ضحكنا نحن الاثنان غير عابئين، وعادت ساحرة الصين تسحبني، وأنا أتبع من ورائها، أو أسحبها، وهي تتبع من ورائي، إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكك حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. انبثق من وسطها حصان أسود يركبه قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة سوداء، ويحمل بيده سوطًا، وبحبلٍ يعقدُ ظهره بظهر خادم بوزرة بيضاء كان يتدلى برأسه المهتز مع مشية الحصان نائمًا، ومن فترة إلى أخرى كان القرصان يضرب الهواء بسوطه دون أن يفوه بكلمة واحدة. سَأَلَتِ الفتاةُ الصفراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فلم يجب لا الواحد ولا الآخر، مما جعلني أنبر: "أجيبا، إلى أين أنتما ذاهبان هكذا، يا دين الرب!" شرح القرصان أنه أعمى، وأن هذا المربوط على ظهره خادمه، وهما بعد أن لفا الدنيا بحثًا عن الإنسانية دون أن يجداها، تركا أمرهما للحصان يقودهما إلى حيث يشاء، لم يعد يشغل بالهما شيء، وكل بالهما يشغله الحصان، هيمن الحصان على روحهما، وصار الإرادة، القوة، القدر الإلهي. "الإنسانية، هي هذه المرأة"، قلت. "هراء! قال، هذه عاهرة من عاهرات مقهى التجارة." "ولكني الإنسانية"، احتجت صفراء بكين. "ما لونك أيتها الإنسانية؟" سأل القرصان. "أصفر"، أجابت مرافقتي. "إذا كانت الإنسانية صفراء كشُعرة أمي المُحنّاة، فأنا لا أريدها، رمى رجل البحر، أريد الروح الشرير، ولا أريدها." "وإذا ما قلت لك إن الروح الشرير لا يريدك، فماذا تقول؟" رميتُ. "على قفاي، هذا ما أقول." "لا تكن ثقيل الروح!" "واحد لا روح فيه مثلي..." رفع عن عينه الميتة العُصابة السوداء، وتظاهر بالنظر إلى كل الأرجاء، ثم طبطب على عنق الحيوان ليتابع بهما التجوال على هواه. سار الحصان قليلاً، فضرب القرصان الهواء بسوطه، والخادم دائمًا لا يتحرك، ويهتز مع حركة الحصان. "لا يفكر إلا في النوم، قال القرصان، فهو لم ينم منذ أكثر من مائة وتسعة وتسعين عام. مائة وتسعة وتسعون عام شيء كثير، كثير جدًا، كثير جدًا جدًا، كثير جدًا جدًا جدًا"، علق القرصان، وكأنه يعتذر لنا، قبل أن يبتعد.
رأينا، أنا وساحرة الصين في سيارة فيراري صفراء، توأمين سياميين برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، وهما في أبهى الحلل. "لم أحضر الحبل، اعتذرت الفتاة الصفراء قبل أن تشير إليّ، أنسانيه إياه هذه المرة"، فقهقه التوأمان السياميان، وابنة بكين تغمزني، وبابتسامتها تسحرني، وبجسدها تميل عليّ. "هذا ما نرى، ولا مُشاحّة"، قال المشوهان. "تُضرم لي القلب"، اعترفتُ. "يُضعضعني كجيش"، اعترفتْ. "لا يضاهيكما أحد"، اعترف السياميان. "من ناحية، أضاف المِسْخان، ومن ناحية أخرى، أنتما تهضماننا حقنا." "لا تفوها بهفوات"، وبختهما ساحرة الصين. "هذا لأنهما على وتيرة واحدة، هما، ونحن، نحن على وتيرة واحدة"، حاولتُ أن أبرر. "الآن وأنتما لديكما الفيراري، أنتما لن تتوقفا عن محاولات الانتحار"، أنذرتهما الفتاة الصفراء. "من الجنون ألا ينتحرا"، أيدتها. أوضحا أن الانتحار ليس المشكلة وإنما الانتظار. الحبل ليس المشكلة وإنما الشجرة. شجرة الانتحار كما قالا. شجرة الانتظار. انتظار من سيعينهم على الانتحار. خرجا من السيارة الأسطورية، وراحا يسقيان شجرة يافعة. "انتظار أن تكبر هذه الشجرة التي سنتعلق عليها بعنقينا أمر لا يطاق"، قال التوأمان السياميان. الفيراري لهذا السبب، لتزجية الوقت، لأنهما سينتظران على أي حال، وهما سينتظران، سينتظران إلى الأبد لو يلزم. "الانتظار على قفاي!" ألقت الفتاة الصفراء، وهي تأخذ يدي، وتفرشها تحت كنزتها على بطنها، وهي تجعل أصابعي تمتلئ بسرتها، وهي تلف بأصابعي الصين منطقة منطقة، ومدينة مدينة، ومرفأ مرفأ، وهي تتركها تلامس جذري نهديها، وهي تهبط بها مرة ثانية على سرتها، وهي تسقطها في شلالات خاصرتيها، وهي تصعد بها إلى حلمتيها، وهي تهبط بها مرة ثالثة على سرتها، وهي تداوم على الهبوط بها تحت بطنها، وهي ترميها على أكف الحشائش، ومنها إلى شقها، وهي ترتعش من عمق اللذة، فتعود بها إلى سرتها، فنهديها، تضغطها قويًا على نهديها، وهي ترفعها إلى ثغرها، وتلعقها، واحدة واحدة، ولا تطيق أكثر، فتلقيها بين فخذيها، وتدخلها في دنياها لتكتشف الدنيا، وهي ترفعها من جديد إلى ثغرها، وهي تطلقها لتأخذني من ثغري، لتجعل من جسدها ثورتي، فتنهار الصين الوطنية من جديد، وينهار مالرو من جديد على حواف بطنها.
ما أن قطعنا، أنا وساحرة الصين، خطوط السكك الحديدية حتى وجدنا نفسينا في عربة معلقة بين أرض وسماء. نظرنا من النافذة، فرأينا رجلاً أرمد الشعر بوجه تملأه الغضون يجلس على كرسي يُطوى، ويكتب على حاسوب من وراء طاولة تُطوى. رفع رأسه إلينا، وابتسم. كان يكتب، ويتحقق في الوقت ذاته كل ما يكتب. كتب أننا، أنا والفتاة الصفراء، في عربة معلقة، لهذا كنا في عربة معلقة. ابتسم بخبث، وكتب أننا نُقَبِّلُ بعضنا، أنا والفتاة الصفراء، فقبلنا بعضنا. شطب بسرعة ما كتب، فابتعدنا عن بعضنا بسرعة، أنا والفتاة الصفراء، وكتب أنني رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وحاولت تمزيق بنطالها القصير، فصفعتني بقوة أوقفتني عند حدي، وكل هذا وقع كما كتب، وهو يضحك مرددًا: "قحبة! قحبة!" رجوته ألا يكون قاسيًا معنا، لأننا متفقان على كل شيء، لكنه كان يريد أن يتسلى. "تسلى كبالغ لا كطفل"، قلت له. "نعم كبالغ، أيدتني الفتاة الصفراء، وفي المرة القادمة اتركه يمزق بنطالي القصير، ويمزقني، الحياة معركة." ضحك الرجل ذو الشعر الأرمد والوجه المتغضن، وكتب لتلتقمه من رجولته، ففعلت الشيطانة العنبرية، لكنه بسرعة شطب ما كتب، فقطع عليها رغبتها وعليَ. "إنساني جدًا"، همهم الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه. كتب لتُلقمه ثديها، ففعلت الفتاة، وبسرعة شطب ما كتب، وهو يهمهم "إنساني جدًا، إنساني جدًا." كتب ليأخذها من ظهرها، ففعلتُ، وهو ينظر إلينا هذه المرة بنفس كارهة للدنيا، ويهمهم "إنساني جدًا، إنساني جدًا، إنساني جدًا." أغمض عينيه، ثم فتحهما، وعاد ينظر إلينا باشمئزاز. نفخ : "الحياة ماخور! ليذهبا عني إلى الجحيم"، كتب، وعندما رآنا على وشك الدخول في الجحيم، والاحتراق كالملعونين، شطب ما كتبه بسرعة، وأنقذنا. "التاريخ ماخور!" لم تعد تضحكه حالتنا، بدا عليه الضجر منا لا من الكتابة، كانت الكتابة كل حياته. "التاريخ كالحياة ماخور!" جعلنا نغادر المكان، وراح يفكر في مسرحيته القادمة.
أخذتني ابنة بكين إلى قطار مهجور حولته إلى صالون خيالي من صالونات الصين القديمة بهرني كل شيء فيه يمثل الإمبراطورية، الأسرّة الستائر اللوحات الدواشك السجاجيد الصواني الأعواد القَصعات السيوف القناديل الفراشات الساعات الرملية الطائرات الورقية التنينات التنينات التنينات التنينات التنينات، التنينات التي تبتسم وتفتح فمها وتكاد تنطق. قالت إنها ستُرضع طفلها، وبعد ذلك ستُعنى بي. نادت عليه، وهي تكشف عن ثديها، فجاء شيخ صيني عجوز عمره يربو عن التسعة والتسعين عامًا. وضع نفسه في حضنها، وتناول بفمه حلمتها، وراح يرضع، ويرضع، ويرضع، دون توقف. مللتُ، فطلبَتِ الفتاة الصفراء بعض الوقت. مَسَحَتْ خد طفلها الشائخ المليء بالعقد والدرنات بكفها الحنون الناعمة، "لهذا السبب شاخ طفلي، أوضحت الفتاة الصفراء، لأنه لا يتوقف عن الرضاعة." لم تتخلص الفتاة الصفراء من طفلها الشيخ إلا بعد أن غفت عيناه، وكأن تسعة أيام بلياليها مضت منذ لحظة وصولنا. جاءتني الفتاة الصفراء بثديها الآخر، "لن أطلب منك أن تدفع مقابل هذا شيئًا بعد أن أعييتك انتظارًا"، قالت لي ساحرة الصين. أبعدتها عني بلطف، ورفعت إصبعًا كارهة نحو باب الخروج، فاستلت مسدسها، وراحت تطلق النار بين قدميّ، وأنا أراها حصانًا أصفر يصهل ويشب ويرفس، إلى أن أرغمتني على أخذها من ثديها، فأخذتها من ثديها أخذ المجنون بالأثداء، الملعون بالحلمات، المهووس بحكايات الفسق والعربدة في المدينة المحرمة. رفعتها فوق قضيبي، فداخت، وصاحت خشيةَ السقوط. جلسنا على حافة السرير، وهي على ركبتيّ، وكلي فيها. أحسست بعضوي يصل إلى أحشائها، وهي تريدني أن أُصعده حتى حلقها. كانت تدفعني، وأنا فيها، وتنتفض، تريدني أن أصعد حتى حلقها، وتنتفض، وتمزق بأظافرها ظهري. "اصعد، يا دين ماو!" كانت تصرخ، وتنتفض، وتمزق، وأنا أصعد من فرجها إلى حلقها، أحاول، على الأقل، أحاول، "اصعد، يا دين ماو!" وتقوم، وتقعد، وتصرخ، وتنتفض، وتمزق، "اصعد! اصعد!" فجأة، نهضت كالتنين، والتقمتني بفمها، وهي تريدني أن أغطس في حلقها، في جوفها، أن أصل فرجها، وأن أخترقها لا كما المألوف، من فمها إلى فرجها، فانفجارات الأجساد والحصون. حصان أبيض وحصان أصفر كانا يتصارعان في حلبة حب جبار وروح جبار وسلطة جبارة. التاريخ كما يجب أن يكون. نهضنا بعد أن أشبعتها أكل ما لم تأكل أبدًا، مدنًا بأكلمها، وبحارًا، وشعوبًا من السوجا. "سأذكرك إلى الأبد"، قالت لي شاكرة.
عدنا أدراجنا قاطعين مقبرة للقطارات لا حياة فيها، لم يكن فيها لا طير ولا بشر ولا نمل ولا أرز كانتوني للكائنات الثلاثة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات كما يجدر بالصخب أن يستقبلنا والناس والقطارات في محطة القيامة والأقاقيا، كانت هذه هي الحياة القحبية على أكمل وجه، بتاريخها القحبي، وكل الأوهام القحبية للبط المبرنق والنقانق. دفعتني الفتاة الصفراء إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تقول: "كما يقول أجدادنا، الحياة كابوس طويل نعيشه فاتحي الأعين مغمضي الأجفان، الوهمي فيه أحد كتبه، فهناك الكتاب الوهمي، وهناك الكتاب الواقعي، وهناك الكتاب الرمزي، وهناك الكتاب الشعري، وهناك الكتاب الفلسفي، وهناك الكتاب الحِكَمي، وهناك الكتاب الديني، وهناك الكتاب الميثي، وهناك الكتاب التاريخي، وهناك الكتاب الاجتماعي، وهناك، وهناك، وهناك، وكلها كتب كابوس طويل مرعب، حتى ذلك الذي يحبه الأطفال، وينامون على قراءة مقطع منه." واجهني صف من الفرنسيين، وهم يحملون لوحات جوارب مثقوبة ورافعات نهدين مقطعة وأوراق كلينيكس مستعملة ثمنها بالملايين بسبب الأزمة. "هل تحب الثلج الأبيض؟" سألتني ساحرة الصين. "الثلج الأبيض؟" أجبت على السؤال بسؤال. "كل هؤلاء لا يحبون الثلج الأبيض." "أحب الثلج الأبيض"، قلت، وأنا ألمس شعرها الأصفر. ابتسمت لي، وأشارت إلى اليسار، فرأيت كيف يبدل أجانب الناس سلال اليوروات بقليل من نقودهم على شبابيكِ صرفٍ الصرافون فيها ما بين صراف وصرافة يرتدون كلهم ثيابًا براقة كثياب المحتفلين بموتهم. "وهؤلاء؟ لا يحبون الثلج الأبيض؟" سألتُ ابنةَ بكين. "لا يحبون الثلج الأبيض، أكدت الفتاة الصفراء التي ما لبثت أن أفضت: أنا مثلك أحب الثلج الأبيض." واصلنا السير، أنا ومرافقتي، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها تنينات أخذت أشكال الأرقام. وبِدونِ تردد، تقدمت الفتاة الصفراء من خزانة حديدية كانت هناك فتحتها بمفتاح أخرجته من بين فخذيها، وإذا بباب في داخلها لم تغلقه من ورائها اجتزناه إلى عالم أصفر من بشر وحيوان وأشياء، حتى التنينات الرقمية فيه كانت صفراء. لم تكن التشاينا تاون، كانت كل الحضارة الصينية هناك. كانت الصين. كانت الدراجات. كانت القبعات. كانت الفساتين المشقوقة على طول الساقين. كانت الأعلام الحمراء. كان ماو. كان الإمبراطور الحديث. كل صيني كان إمبراطورًا حديثًا. كانت الفطيرة الإمبراطورية. كان الشعر الكستنائي. الشعر الطويل. الشعر الجميل. الشعر الأخرق. كان الكشح الأصفر. كان السحر الأصفر. كان الموت الأصفر. الأصفر. الأصفر. الأخضر. كان الموت الأخضر. أخذت أنتقل من مكان إلى مكان، وبقوة الأشياء غدوت أصفر. غدوت أخضر. لم ينقصني سوى التحدث بالصينية. كانت تلك مهمة الفتاة الصفراء مرافقتي. جعلتني أكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي، المافيا فيه صفراء لا ترحم، والجميل فيه أصفر لا يرحم حتى ولو كان أسود أو أبيض أو أحمر أو أسمر، حتى ولو كان مكانًا لعبادة كونفوشيوس رأس المال، والجميل هو مكان للجنس في نفس الوقت، لا يميز المرء فيه الصالح عن الطالح، القمر عن الشمس، ساحة تياننمن عن ساحة النجمة. هذا هو عالم التنين الأصفر، ألا تميز فيه شيئًا. أيًا كان.
أشارت النار الصفراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء أمام باب كونفوشيوس، "ها هم عملاؤنا الجدد، قالت الفتاة الصفراء بشيء من ترف الكلام بعد أن تصفحت الوجوه، فالتنين أصفر عندنا، ورقمي عندكم، واحد في نهاية المطاف، يرى بعيون الحاسوبات، يتكلم، يأمر، يحاسب، يعاقب، وككل مستعمِر لمستعمَر يأخذ ويعطي، الكثير يأخذ، القليل يعطي، لكنه يكفي لافتداء الأسرى الرأسماليين." كان كل منهم هناك ليقذف بجسده وبلده بين ذراعي مومس صفراء. لم يكن ذلك بالطبع سوى استعارة، المومس الصفراء كانت في الواقع تلك الراهبة الحبلى القادمة من الجناح الفرنسي في المدينة المحرمة. "قف لهم احترامًا"، سمعت ساحرة الصين تقول ساخرة. "أبدًا، همهمت، لن أقف أبدًا لسياسي من يمينك أو سياسي من يسارك، فالواحد ليس أحسن من الآخر، قمر الواحد أوسخ من شمس الآخر، لهذا سياسي اليوم غير قابل للاحترام، لا يتردد عن استعمال كل الوسائل للاحتفاظ بالباذنجان بين مخالبه، أطول مدة ممكنة." فتحت المومسات الصفراوات أفخاذهن، فرأيت البحر، الصراع، فالبحر صراع، فقط الصراع، الصراع دون كُنية. حتى الصراع كلمة منفوخة في عصرنا، الأقاقيا، فكلُّ واحدٍ أقاقيا، صغيرة أو كبيرة، العامل أقاقيا والمعلم أقاقيا ورأس المال هو هذا وذاك، رأس المال هو البنوك والمواخير والبارات والمراكز التجارية وحاملات رباط الجورب واللحم الحلال والسَّلَطَة المبرقشة. مسؤولية زمننا الملقاة على عاتق الكل هي أنسنة الأقاقيا التي لا بد لها أن تمضي بحركة إكساب المعايير الحية مظهر الموت يساهم فيها المعلم والعامل وملايين الكلاب المدللة من شتى الأجناس. ذهبنا لنشاهد صراع الرز مع الرز، رز أبيض ورز أسمر ورز أحمر ورز أسود ورز أصفر، هكذا كانت تُدعى فرق المصارعين. انتصر في هذا الصراع الرز الأصفر. غضبتُ وغضبت الفتاة الصفراء، ولتراضيني، قالت لي: "ليس هذا كل شيء في العالم السفلي لمحطة الشمال." سحبتني من يدي كما تسحب تنينها الغالي على قلبها، "تعال"، قالت لي، ففتحت فمي كي أقذف اللهب الأصفر لهب التاريخ الأصفر دون أن أقدر على ذلك. "ستقدر على ذلك عندما يستصلح مسدسي الأخلاق، النقد، الكراخانات"، ألقت جميلة الصين.
نزلنا في مِصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف التماثيل الصينية المطعونة بعشرات السيوف المرشوقة بعشرات الأسهم المبقورة بعشرات الرماح. "هؤلاء هم أجدادنا"، قالت الفتاة الصفراء. كان متحف الأجداد الصفر. "كما أراهم في أشكالهم، قلتُ، هم لا يختلفون كثيرًا عن الأحفاد الصفر اليوم." "ربما من ناحية واحدة، ردت مرافقتي، عشق المال، وعشق الهيمنة. صُفر اليوم لا يهمهم إذا ما سيكون العالم معهم، أضافت الفتاة الصفراء، ولكن أن يكونوا هم أسياد العالم كما كان الذين من قبلهم، وهم لن يقدروا على ذلك إلا إذا صاروا بدون قدر مثلكم، وصرتُ مثلكَ قدري الشخصي." أفرغت رصاص مسدسها في صدور التماثيل، وقبل خروجنا من المتحف، بَصَقَتْ عليها، فأثارت استغرابي. "هذا لأنني شيوعية"، أودعت الفتاة الصفراء.
في الطابق الوسط، طابق بين وبين، الطابق الذي تمنيت أن أجد فيه قدري الشخصي، وجدت حصانًا أبيض ينتظر وصولي. حصانًا كان الفكرة المتسلطة، السلطة الروحية، السلطة المطلقة. أذهلني جماله. درت به، ودار بي. احتضنته، واحتضنني. قهقهت بين يديه، وقهقه بين يديّ. "امتطِهِ"، أخطرتني الفتاة الصفراء، وهي تبكي، وتنحني. امتطيته، فسار بي. داومت الفتاة الصفراء على البكاء والانحناء مودعتني. كانت تودع التاريخ، نابليون، الأقاقيا: جسمًا يُلقي ظله، فعلاً يقترح كلامه، حاضرًا يرى مستقبله. دخل الحصان المِصعد، وأنا دومًا على ظهره. ارتفع المِصعد، ثم توقف.




القسم العاشر

أسمت الصغيرة فِن لعبتها ذات الوجه الصيني والشعر الأصفر ماو تسي تونغ: ماو تسي تونغ تعالي نلعب، ماو تسي تونغ تعالي نأخذ حمامًا، ماو تسي تونغ تعالي ننام. أسمتها كذلك لشعرها الأشقر المنسدل، فتلوت أمها من شدة الضحك.
- هذا لأن ماو تسي تونغ كان له شعر أشقر! سخرت الأم.
- كان له شعر أشقر، تجيب الصغيرة فِن، وهي تمشط شعر لعبتها.
- وهل تعرفين أنت من هو ماو تسي تونغ.
- أعرف.
- فِن تعرف من هو ماو، تصيح الأم بزوجها الذي يكتب ويكتب بين أكداس مكدسة من المخطوطات، وهي تتشنج من شدة الضحك، وهو يتشنج من شدة الضحك.
- ماو تسي تونغ!
وتطبع فِن قبلة كبيرة على فم لعبتها.
- وكيف تعرفين؟
- ماو تسي تونغ، يا شمسنا، يا حُلمنا الذهبيّ... غَنَّت الصغيرة فِن.
- آآآآآآآآآه! قالتها الأم طنانة متلولية متلولبة، ومن جديد تشنجت من شدة الضحك.
- ابنتك من الذكاء بحيث لما تكبر ستصبح عضوًا في اللجنة المركزية، صاح زوج الأم من مكانه طَرِبًا.
- رئيسة اللجنة المركزية، وتشنجت من شدة الضحك.
- أي ماخور، وتشنج من شدة الضحك.
- اللجنة المركزية ليست ماخورًا! احتجت الأم.
- وهل هناك أفضل؟ احتج الزوج.
- هناك.
- ماذا؟
- قفاي! وتشنجت من شدة الضحك.
- أجمل قفا! وتشنج من شدة الضحك.
- الشمس صفراء كشعر لعبتها، فسرت الأم، وهي وزوجها يقهقهان، ذهبية.
- ماو تسي تونغ، اكتبي!
احتارت الأم، وتوقف زوج الأم عن الكتابة.
- اكتبي! اكتبي!
- أنا أكتب كل القصص التي كانت ممنوعة إبان الثورة الثقافية، وفِن، ابنتك...
وانفجر الرجل ضاحكًا.
- فِن لم تزل بعد صغيرة، قالت الأم بقلق، أفي مثل هذه السن بدأت تكتب أفكار الموتى؟
- اكتبي! اكتبي!
- ولكنها لا تكتب أفكار الموتى، اعترض زوج الأم، الموتى يكتبون أفكارها.
- لعبتها موتى! تفاقم قلق الأم.
- اكتبي! اكتبي!
- لعبتها ماو تسي تونغ.
- هذا ما يعرفه الكل، ألقت الأم حَرِدة.
- وهل هو حي ماو تسي تونغ، أيتها الغبية؟
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه! نطقتها الأم مديدة طنانة متلولية متلولبة أكثر من المرة السابقة، وتشنجت من شدة الضحك أضعاف ما تشنجت منذ قليل.
- نعم، هكذا، اكتبي! اكتبي!
- نعم، هكذا كيف؟ تساءلت الأم.
- فِن، تعالي! أمر زوج الأم.
جاءت البنت الصغيرة، فوضعها على ركبتيه، وعلق قلمًا بين أصابع اللعبة.
- اذهبي الآن! أمر الرجل زوجته.
- هل أشتري شيئًا آخر غير ما طلبت.
- لا أجد شيئًا أشتهيه.
- شاور عقلك.
- شاورته.
- حتى ولا عقد من اللآلئ البلاستيك.
- بلى، بلى! عقد من اللآلئ البلاستيك لهذا العنق الجميل، وطبع قبلة قوية مديدة على رقبة فِن جعلتها تتشنج من شدة الضحك.

* * *

في تشاينا تاون، كان الثلج الأصفر في كل مكان، وكانت الفتاة الصفراء عارية تمام العراء إلا من حزام مسدسها، المسدس بيدها، وهي تقف في أقصى الشارع الخالي من كل قدم. شيء لا يمكن تصوره، ومع ذلك لم يكن العالم التصوريّ. وفي قلب شارع بيلفيل، قرب أعواد نار تضطرمُ لهبًا أصفر، جلس الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر من وراء طاولة، وهو يلتف بمعطفه. كان ينظر إلى الفتاة الصفراء، ويكتب مستوحيًا مما تفعل وما تقول. كل هذا واقعي لا يدع مجالاً لأي شك، كل هذا طبيعي لا يدفع إلى الهيم في الوِدْيان.
أخذت الفتاة الصفراء تسدد مسدسها إلى النوافذ المغلقة، وتتظاهر بإطلاق النار عليها، فكتب الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه: اتركوا النوافذ مغلقة، فالبرد في الخارج شديد، والخطر كبير، إلا إذا كنتم تريدون التضحية بأنفسكم. اجلسوا قرب مدافئكم، مارسوا القراءة أو الهوى، تسلقوا سلالم الروح أو الجسد، فللجسد سلالم كالروح إلى العبث الممكن للأشياء.
أخذت الفتاة الصفراء ترقص في دوائر، بعد أن علقت مسدسها على حزامها، فكتب الرجل الحكيم: يلمع الذهب الأصفر كلما نثرته القدم الصغيرة، ومن انعكاساته تُولد القصائد التي ستلطخها الملائكة ببولها، فما أبشع الأبيات التي لا تقال بأفواه الشياطين. كدمار الورود الصفر ترقص دون أن يكون الدمار، كأحلام الأباطرة الصغار تغنج قبل أن يغدوا أباطرةً كبارًا، كعزيمة ماو المُهْرَقة على بطن لم يجتحه خلال الثورة تفسق بِحِكَم.
أخذت الفتاة الصفراء تغني بصوت طِفليّ، وهي ترفع ثدييها بيديها طائرين لا يرغبان في التحليق، فكتب رجل المسرح: هذان هما ولداي اللذان لم أنجبهما، ولداي اللذان سأقتلني لهما افتداءً، لأجل أن أكون تراجيدياي.
فجأة، حط سرب من الطيور الصفر بعيون أربع، وبمخالب الثديين راحت الطيور تكتب مع الرجل الحكيم، وبعيونها تتقصى أسرار الكينونة وسرائر الكائن. فرشت الفتاة الصفراء جسدها، وتركت الريشة تصنع منه ما تخلق، والمناقير تسارُّها في أذنها ألغاز الكون بوصفه نظامًا متناغمًا من المظاهر.
- هيه! ماذا تفعلون هناك؟ صاح القرصان أول ما اخترق شارع بيلفيل والشيطان ينفخ في أنفه.
- كما ترى، ننفث أقلامنا على الجسد، أجاب الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر دون أن يتوقف عن الكتابة على جسد الجميلة الصينية.
- حتى هذه الطيور الغريبة تكتب؟
قفز القرصان، وطردها، فحومت للمفاجأة، وهي تزعق، ثم غابت في الأجواء.
- أنتَ لا تعرف كيف تكتسب سرًا، نبرت الفتاة الصفراء دون أن تجد منفذًا لغضبها، بينما أسراري كثيرة، لا تعد ولا تحصى، أسرار امرأة ولدت كبيرة، فتكلمت مع الأشياء والأشياء كلمتها، كان ذلك في البداية، وبعد ذلك تكلمت الأشياء بلسانها، وفعلت الأشياء بيدها الأشياء، وعانقت العالم بجسدها.
- الحقيقة أنني لم أعد أنفذ إلى أطواء النفس، اعترف رجل البحار، وهو يصفع الثلج الأصفر بسوطه. ينفذ قدمي إلى أعماق الثلج، فلا ينطق الثلج بلسانه أو يفعل بيده، فلقدمي يد لا يراها إلا الأسماك.
- إليكَ ينفذ صدى الخارج، قالت الفتاة الصفراء في غير ضَرَم، فلا تصغي إلى ما يُقال! أنت كأمي لا تُصغي، وإذا ما صغت فإلى ما يدغدغ الأنانية في نفسها والغباء.
- رويدًا، يا حقول السوجا، رويدًا!
- لا تحمل همًا، أيها القرصان، تدخل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه، الأشياء تتكلم بلسانها.
- وهذا القضيب، هل يتكلم بلسانها؟
- افعلي ما تفعل ماو تسي تونغ، يا فن، قالت الفتاة الصفراء.
- ماو تسي تونغ! احتار رجل البحر.
- لعبتها، أوضح رجل المسرح.
- ضعي أصابعك على شفتيّ، انزلي بأصابعك على صدري، على بطني، تحت بطني، امسكيني، نعم، هكذا، امسكيني، أكثر، أكثر، بوسيني، أيضًا، أيضًا، الحسيني، أوه! فِن، كل حرير الصين ليس بنعومة حريرك، مصيني، أوه! أوه!
- هذا ما تكتب؟ توجه رجل البحر بالسؤال إلى رجل المسرح، كباقي الذين يكتبون اليوم من خزعبلات؟
- هذه الفتاة هي كتابتي.
- هل تسخر بي؟
- هي كتابتي وكتابي.
- المجانين كُثر في هذه الأيام، أخزاهما القرصان، وأعطاهما ظهره، فلحقت به الفتاة الصفراء، والرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه يُخرج حاسوبًا صغيرًا من جيب معطفه، ويكتب عليه.
- أعرف أنك لم تعد تطيق البحار، ألقت الفتاة الصفراء بخشونة في وجه القرصان بينما يواصل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الكتابة، لكنك لا ترفض أن تتسلى.
- أتسلى! مع من؟ معك؟ كما تتسلى ماو تسي تونغ؟
- اتركها تذهب، طلبت أمي من زوجها، فِن لم تزل بعد صغيرة. فِن ليست صغيرة، عارض زوج أمي، فِن تعرف كل شيء.
- هل هذا ما تكتب؟ صاح القرصان بالمسرحيّ.
- هذا ما أكتب، أكد رجل المسرح، دون أن يرفع رأسه عن حاسوبه.
- آخر بِدعة لهذا الزمان ابن المومس! همهم القرصان وبوادر الغضب تبدر منه. وماذا أيضًا؟
- لا شيء عنك، فأم الكتابة لم توح لي بعد بشيء عنك.
- يريد تغيير مهنته، فيصبح خمارًا، أفشت الفتاة الصفراء، ليتسلى.
- صحيح ما تقولين، أكد رجل البحر دَهِشًا.
- كل هذا صار في المسرحية، ابتسم المسرحيّ.
- كيف عرفتِ، يا ابنة ماو؟ طن القرصان مكتئبًا.
- عرفت كما تعرف، كركرت فِن.
- كما نعرف كلنا في عصر كل شيء نعرفه ونحن نبقى جالسين في أماكننا، يا قحبة الخراء!
- اليوم ليس الأمس. اليوم نتسلى بأشياء أخرى، ماوتسيتات تونغ أخرى، رقمية، شيطانية دومًا، ولكنها رقمية.
- أمس كنت أقطع البحار بحثًا عن حدث، واليوم تجيء الأحداث كلها إليّ مباشرة، تلفزيون وإنترنت وتلفون جوال ولست أدري ماذا، فيشيخ الذين هم مثلي في رؤوسهم ويتعبون، المعارك في رؤوسهم والمحن والكوارث، كل الأحداث ليست سارة كما تعلمين، ونحن نعجز عن فعل أي شيء. انتهت عزلة الفرد، وبدأ عجزه، العجز اليوم مرض العصر، يا ماخور الخراء!
- لهذا تريد تغيير مهنتك كزوج أمي من قبلك، زوج أمي غدا قوادًا.
- عندما نعجز عن تغيير العالم نسعى إلى تغيير أنفسنا ونحن نعلم مسبقًا بفشلنا، وأنا لهذا لن أكون خمارًا ناجحًا، حمّارًا ناجحًا ربما.
- كمن يسعى إلى حتفه. كان زوج أمي يقول لي أنا حتفه، فلم أكن أفهم. وعندما كانت تعطرني أمي كل مساء، بدأت أفهم. كان يموت على قدميّ. بعد ذلك، كان ينهض، وعند منتصف الليل، كنت أستيقظ على شجار حاد بينه وبين أمي. كانت أمي تبكي، فيهدئها زوجها على طريقته. كمن يسعى إلى حتفه.
- كمن يسعى إلى حتفه بظلفه.
- لكنك لن تكون معلمك، لا تقل "يا قحبة الخراء"، سيكون خادمك معلمك.
- أنت تخطئين تمامًا، يا قحبة الخراء!
وفي ذات اللحظة، حضر خادم القرصان، وهو يحمل حقائب كثيرة ألقاها أرضًا.
- ثلج أصفر كهذا لم أر في حياتي أبدًا، تنفس بجهد، وامرأة صفراء كهذه تساوي الدنيا وما فيها! ألا تشعرين بالبرد؟ ألا تريدين أن أدفئك؟
انحنى للفتاة الصفراء مبالغًا الانحناء، ثم لفها بذراعيه ليتسافد وإياها، وهي تتركه يفعل.
- أريد أن أتسلى!
- ماو تسي تونغ!
- وماذا عنه، هذا المغفل الصغير؟ ماذا كتبتَ عنه؟ سأل القرصان الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه ليسفه وجه خادمه، هل خادمي سيمتطيها قبلي؟ يا لعار الكتابة لو تحقق ذلك!
- لماذا لا تترك الأمور تسير على هواها؟
- القوارب لا تسير على هواها.
- الأمور ليست القوارب.
- طالما لم أصبح خمارًا سأبقى بحارًا، ولن تسير الأمور معي على هواها.
- ولأجل خادمك ستبيع كِلية من كليتيك، عادت الفتاة الصفراء إلى القول قبل أن تصيح مقلدة إياه: يا ماخور الخراء!
- أبيع كليتي لأجل هذا المغفل الصغير! لنذهب من هنا، أيها المغفل الصغير، قبل أن أبيعني كلي لحب عينيك!
- لم نرتح بعد، يا سيد البحار!
- سيد الخراء!
- لم نتسلَّ!
- تعال لتسليني، هكذا نتسلى.
- لم أُنْهِ بعد الكتابة، صاح رجل المسرح دون أن تتوقف أصابعه عن الضرب على الحاسوب.
- فلتتسلَّ أنت أيضًا.
- في التسلي تعبي! ألم تسمع، يا هذا، بشعاري: الكتابة دون عدم الكتابة، عدم عدم الاستيقاظ، عدم عدم اللعب!
- ولكننا لسنا كلنا كُتّابًا.
- مماحين، تدخل الخادم، كلنا.
- إذا كنت تحب الرجال، فهذا شأنك، يا ماخور الخراء! لكنك لا تحب الرجال.
- أحبكِ أنتِ، اهتدى الخادم بهدي كونفوشيوس، وهو يتوجه إلى الفتاة الصفراء، ويطبع على جسدها قُبُلاً لا تعد ولا تحصي، كل الرجال أبيعها لأجل قدمك، كل النساء أعهرها لأجل ثديك.
- ستكون معلم معلمك، اهتزت الجميلة الصينية، يا ماخور الخراء!
- أوه! معلم معلمي؟ هل تسمع، يا معلمي؟
- هل أقول لك ما حصل بعد ذلك؟ ما فعلته أمي بعد ذلك؟ كانت تخرجني من الفراش لأنام بينها وبين زوجها.
- لا تقولي، رجا الخادم شبه غائب، وهو يواصل تقبيل الفتاة الصفراء.
- قولي، بالله عليك أن تقولي، صاح رجل المسرح، وبعد ذلك، ماذا كان يفعلان زوج أمك وأمك؟ هلا أردت؟
- لنترك ذلك لإرادة الدراما، بسطت الفتاة الصفراء دون اهتمام به، فللدراما إرادة غير إرادتي، وإلا ما كان المسرح مسرحًا.
سحب القرصان خادمه من بين ذراعي الفتاة الصفراء كمن يقص هوامش كتاب.
- هلم بنا! أمر قبل أن يهمز همز الشيطان: تعال قبل النهاية فلا تكون نهاية، يا ماخور النهاية!
- لكل شيء نهاية، ولكن كيف، طنت القرنفلة الصفراء، جسدي الصغير لم يكن يعلم.
- نهاية الدمامة أو نهاية القداسة، طن ملك المسرح، هذه هي إرادة الدراما كما أفهم، نهاية لا نهاية لها.
- نهاية البطاطا، طن سيد البحر.
- لهذا دومًا ما كنتُ كاتبًا دميمًا حتى النهاية وكاتبًا دنيويًا حتى النهاية، فلا أنا جميل، ولا هو مقدس ما أكتب، ما أكتب يبقى مفتوحًا على العالم، المستبِد كالمستبَد له عندي مكانٌ ليست ضامِنَهُ المعرفة وإنما الجمال، فالمعرفة منه وفيه، وما يُحسب حسابه هو الجمال. بقدر ما أكرس القهر وألغي الذات وأقيل العقل بقدر ما أجمّل العِتْق وأؤكد الأنا وألوّث الفكر بخراي ليضطر القارئ إلى تنظيفه، هذا هو مكر الكتابة الذي لي، مكر الجسد، الطفلي، الجسد الطفلي له مكر الكتابة التي لي، طفلي هو، ولكنه يريد متعته، على الرغم من كل الرذالة التي يسقط فيها.
- ومكر البطاطا؟
- أن تجرع السُّم الزعاف، فتقتلك الكلمات. أليس كذلك، يا فِن؟
- القبلات، أجابت الفتاة الصفراء.
- إيديولوجيا الجسد، أضاف رجل المسرح.
- إيديولوجيا البطاطا، ألقى رجل البحر.
- وهناك من يتكلم عن نضالية وتقدمية و...
- خرائية.
- وهناك من يتكلم عن أرض وصمود و...
- حمص وفول.
- إيديولوجيا العناق، الاستبداد، سرير لنكاح الطفولة، النهاية.
- تعال قبل النهاية، أيها المغفل الصغير، قلتُ لكَ، صاح القرصان بخادمه، قبل فوات الأوان. آمرك بالمجيء!
- نحن فيها، يا سيد البحار، صاح الخادم بالقرصان.
- فيها ماذا؟
- النهاية.
- جرعنا السُّم الزعاف إذن.
- وقتلتنا القبلات.
جعله يحمل الحقائب، وراح به سوطًا حتى اختفيا في شارع بيلفيل.
حملت الفتاة الصفراء مسدسها، وتظاهرت بإطلاق النار في رأسها، وفي فمها، وفي قلبها، وفي بطنها، وفي فرجها، خمس طلقات وهمية أطلقت، فسالت من عيني الرجل المحفر الوجه المغبر الشعر الدموع، وهو لا يتوقف عن الكتابة.
- أنتِ أيضًا تريدين أن تقتلك الكلمات؟ لفظ رجل المسرح بصعوبةِ من يعجن الأحلام ويخبز الأماني، اقتليني معك، فلا يكون الأمر ظاهرة عارضة.
- ومن سيبقى للكتابة؟ غطت الفتاة الصفراء الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه بعريها، وهي تلعق دموعه بلسانها.
- لن تبقى الكتابة.
- ستبقى أنتَ.
- وما فائدة أن يبقى الكاتب دون كتابة؟
- إرادة الكتابة.
- إرادة الكتابة عليّ أن أكتب كما كنت "أكتبك" منذ قليل دون اسم مستعار هو الاسم الحقيقي لكل كاتب، بلزاك وهيغو وفلوبير هم بالصدفة هذا أو ذاك، وما يكتبون لا يحدد الكتابة بتحديد ولا يطبعها بطابع، أصولهم ومواضيعهم وشخصياتهم لا علاقة لها بما يكتبون، فكل كتابة هي كتابة ذاتها.
- إرادة الزمن.
- إرادة الزمن عليّ أن أكون كما "كنتك" منذ قليل دون هوية زائفة هي الهوية الحقيقية لكل كاتب، سوفوكل وشكسبير وبيكت هم بالصدفة هذا أو ذاك، وما يكتبون لا يؤرخ الكتابة بتاريخ ولا يربطها برابط، الأحداث والوقائع والتطورات لا علاقة لها بما يكتبون، فكل كتابة هي كتابة تاريخها.
- أنت سوفوكل.
- أنا هو أنا.
- أنت شكسبير.
- أنا هو أنا.
- أنت بيكيت.
- هو هو هو.
- والرواية؟
- الرواية هي الرواية والروايات.
- والقصيدة؟
- القصيدة هي القصيدة والقصائد.
- والمسرحية؟
- المسرحية هي المسرحية ومسرحيات القصر.
- لن أنتحر إذن لأجل أن تكون نفسي، فتغوص في نفسك، وتداوم على ملء المسارح بالمسرحيات. كل شخصياتك أنا، وأنا البطن الذي لا يلد، كل مواضيعك أنا، وأنا الصدر الذي لا يجد، كل الرموز أنا، وأنا الروض الذي لا يعد! أنا سراب الكاتب الحقيقي بكل ما فيه من خلق هو الكذب! أنا نعوظ الكلمات الأخلاقيّ بعد أن أغدو الكاتب والكاتب ساقًا من ساقيّ!
- ولماذا خمس طلقات؟ لماذا؟
- طلقة واحدة لا تكفي.
- لماذا؟
- إرادة الدراما.
- آه! يا إلهي. كيف أستطيع التوقف عن الكتابة لأنقذ ما يمكنني إنقاذه؟
- لن تتوقف ولن تنقذ.
- أنقذك على الأقل.
- بدأ الثلج الأصفر يندف.
- أحلى من الدم هل يوجد؟ الثلج الأصفر. أزكى من الموت هل يوجد؟ الثلج الأصفر.
- يندف.
- الثلج الأصفر.
- انظر من يرسل، الثلج الأصفر.
تقدم الأخوان السياميان، وهما يحاولان أن يلتقطا نَديفات الثلج الأصفر بفمهما، ويكركران خاليا البال.
- هذان سيموت الواحد في سبيل الآخر دون أن يعرف الواحد أو الآخر، خَلّت الفتاة الصفراء المسرحي يعتقد، فعاد يكتب بحمية وابتسامة عريضة تزين ثغره.
- هل هنا الصين؟ خمخم السياميان. نحن لا نرى غير الصينيين في بيلفيل، هذه الفتاة الصفراء، وهذا الكاتب الأصفر، وكل هذا الثلج القادم من شنغهاي.
- من أوسلو، سخرت الصينية الجميلة.
- لم نكن نعلم أنكم وصلتم هناك، قال التوأمان المِسْخان في خمول. منذ متى أنتم في أوسلو؟
- ليس كثيرًا، منذ أكبر هرجة في التاريخ.
- ونجحتم في تحويل ثلجها الأبيض إلى أصفر؟
- عدة أيام تكفينا نحن الصينيين لتحويل كل شيء حتى دم العالم إلى أصفر، ونحن لن نكون رحيمين بغيرنا كغيرنا، سنكون أسوأ الأسوأ. متى ستقطعان وسطيكما الأعليين، يا دين ماو! ألستما على عجلة من أمركما والموت على عجلة من أمره؟
- كائن جهنمي مثلنا أيامه معدودات، نحن نعلم هذا، يستطيع الطب أن ينقذ واحدًا منا، لكننا سنحتال على الطب. سنقطع وسطًا من وسطينا الأعليين من أجل واحد، ونصفًا من وسطنا الأسفل من أجل واحد، فلا يزعل الواحد، ولا يزعل الواحد.
- لا تسخرا بي، رجاء، اندفع الرجل الحكيم وراء خيالاته، قليل من الجد، فكتابتي جادة، درامية، ابنة كلب!
- الواقع، لا أريد الموت، همهم السياميّ الأول، وانفجر باكيًا.
- وأنا شرحه، همهم السياميّ الثاني، وانفجر باكيًا.
وضعت الجميلة الصينية خد كل منهما على ثدي، وهمست في أذن الاثنين:
- الموت جميل، أصفر، رملي، لا ديني، لهذا هو جميل، لِمَ الخوف من الموت إذن وهو جميل، أجمل من الحياة ابنة الكلب هذه؟
- الحقيقة التي لا يعرفها أحد هي أني بدأت بكتابة قصتنا، وأنا أود أن أنهيها، اعترف المِسْخ الأول.
- سينهيها عنك أبو الوجه القَرِفِ ذاك.
- الحقيقة التي لا يعرفها أحد هي أني بدأت بإنفاق ثروتنا، وأنا أود أن أبعثرها، اعترف المِسْخ الثاني.
- سينفقها عنك أبو الشعر الوسخ ذاك.
- وكيف سأعيش دونه؟ بكى السيامي الأول.
- وأنا شرحه، بكى السيامي الثاني.
وبعد قليل:
- أنا دِينُهُ، همهم المِسْخ الأول.
- أنا غيرُ دِينِهِ، همهم المِسْخ الثاني.
- تتساويان ولا تتساويان، همهم القرنفل الأصفر.
- أنا دَيْنُهُ، عاد المِسْخ الأول إلى الهمهمة.
- أنا غيرُ دَيْنِهِ، عاد المِسْخ الثاني إلى الهمهمة.
- كلاكما التنوع وغير التنوع، عاد القرنفل الأصفر إلى الهمهمة.
- أنا رغبتُهُ.
- أنا غير رغبتِهِ
- بدايتكما واحدة ونهايتكما ليسن واحدة.
- بدايتنا الشر، زفر المِسْخ الأول.
- ونهايتنا الشر، زفر المِسْخ الثاني.
- ما يبدأ بالشر ليس بالضرورة أن ينتهي بالشر، زفرت الفتاة الصفراء.
راحت تلعق دمع الواحد والثاني، قبل أن تصيح برجل المسرح:
- لا تكتب هذا.
- كتبته.
- اشطبه.
- ولكن...
- قلت لك اشطبه.
- وإرادة الدراما؟
- نِكْ أُمَّهَا!
كانت البلاكين والنوافذ والأسطح مليئة بعشرات، بمئات، بآلاف وجوه الصينيين، كانوا يشاهدون ما يجري في شارع بيلفيل كما لو كان خشبة مسرح، والثلج الأصفر لا يتوقف عن الندف: قبلات من بيكين تتطاير على أكف الفضاء قبل أن تَيْنَعَ على الخدود أو الشفاه. جاء سرب الطيور الصفر ذات العيون الأربع، وراح يرفرف كلماتٍ في سماء الزمان قبل أن تورق في الأقلام أو الحاسوبات. رفع الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر رأسه إليها، وابتسم، كان المشهد أعظم من كل دراما، كان دراما الإرادة. القبلات تَيْنَعُ وتغدو غير القبلات، والكلمات تورق وتغدو غير الكلمات. أعطت الفتاة الصفراء مسدسها للسياميين، وكل منهما يريده لنفسه، وطلبت من كاتب المسرح أن يغطيها بمعطفه، وهي تهمهم: "أشعر بالبرد، يا دين ماو!" لم يجدها ليدفئها. قضى كل العمر وحيدًا، لا أحد يدفئ جسده، لا شيء يدفء روحه. "أنا هنا، يا دين ماو!" ودومًا لم يجدها. كان يبحث عن نفسه في قلب وحدته. هل نضج تفاح الانتظار؟ هل تفتح ورد الوهم؟ هل مسحت الأصابع دموع أقاقيا الفشل؟ غارت الهزائم من انتصاراتها، فضاعفت فشله. "ما بك، يا دين ماو!" "لا شيء، أبحث عنك، ولا أجدك." "أنا هنا، يا دين ماو!" جعلته يلمسها، فقال: "هذه مسرحيتي الأخيرة التي لن أكتبها، فما الفائدة؟ كهذا الثلج الأصفر، كهذا الوهم الأصفر، كهذا الشيخ الأحمق. ما الفائدة؟ لا فائدة من ذلك. ستنبت الأشواك على جسدك، فاتركيه عاريًا، وإلا اختنقت الأشواك. اتركيك عارية، ليدفأ البرد. البرد شديد."

* * *

لم تقبل فِن، في البداية، عرض سيانغ، معلمها. تجارة السوجا على الرغم من ربحها الكبير لا تضاهي تجارة الجنس اللطيف. أقنعها: راتب كبير، وسيارة فيراري صفراء، وشقة فخمة في الدائرة السادسة عشرة.
- بيغال، لا أريد أن أسمع به، اشترطت ساحرة الصين.
- لن تسمعي به، وافق المعلم.
- حتى الكول جيرل لا أريد أن أسمع بها.
- لن تسمعي بها.
- سيتم كل شيء عبر إنترنت.
- كل شيء.
- ماذا كنت أريد أن أقول؟
- قولي.
- مشروبك الروحي من السوجا ليس بجودة مشروبك الروحي من الرز.
- ليس صحيحًا!
- صحيح.
- يا دين كونفوشيوس!
نهض نهوض البرابرة، وهو يشخر، وأتاها بقنينة. شربت من فمها، وجلست على ركبتيه، فعاد يشخر. من فم القنينة أسقته، ومن فمها لفمه، ومن فمه لفمها أسقتها، فجن جنونه. تركت كيمونوها يسقط، فبهره جمالها الوثني. أخرسه الجيش الأحمر، فطفا بين فخذيها جزيرة من الجزر المتنازع عليها مع اليابان. كان يريد الإرساء من الوراء، فمنعته فِن، "أنا لا أحتمل! أنا لا أحتمل!" رددت. أصر، فرفضت. "لك قفا مدوّخ، خسارة ألا تستغليه!" صاح. "أنا لا أريد!" "وهل أنتِ من يقرر؟" "أنا، أنا، أنا!" ضربها على صدغها بعنف، قلبها، ومزق بنطالها. دفع إصبعه البربرية فيها عدة مرات جعلها تصرخ من شدة الألم، جذب رِدفيها إليه، واخترقها، وفِن على عكس ما توقع لم تصرخ، وكلما تحرك، وهو فيها، كانت تند عنها تأوهات اللَّذة.
نشرت فِن على موقعها صور بناتها في عدة أوضاع ليست مبتذله، وكلهن يصبغن شعرهن باللون الأصفر كعلامة تميزهن، ورفعت الأسعار، فجذبت نخبة باريس.
- الأمور ماشية مليح، همس معلمها، وهما في الفراش، أحسن مما كنت أتوقع.
- ليس هذا لأنها تتعلق بالنكاح، أفهمته فِن.
- وبماذا في رأيك؟ قهقه سيانغ، بقفا كونفوشيوس؟
- بقفاي، خراء!
- ولكن...
- بعقلي، يا دين ماو! بتدبيري، بذكائي!
- أنا لن أخطئ ثانية، كل هذا بفضلك.
- الحمد لقفاي أنك تعترف!
- لكونفوشيوس، الحمد لكونفوشيوس!
- وإذا ما قلت لك إنني أُدخل يدي حتى الكوع في قفا كونفوشيوس!
- قولي لي ما الذي تريدينه، يا فِن.
- سنتقاسم الأرباح.
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآه!
- لا تقل آآآآآآآآآآآآآآآآآآه، كما كانت تقول الغبية أمي!
- آآآآآآآآآآآآآآآآآه!
- وإلا تركتك تخرأ وحدك.
- لن نتقاسم الخراء، صاح ببربرية تاركًا السرير.
- إذن سأتركك تخرأ وحدك.
- لن تتركيني أخرأ وحدي.
- سأتركك.
- لن تتركيني.
- سأتركك، وقفا ماو سأتركك.
- لن تتركيني، وإذا تركتني سترين. هل فهمتِ؟ إذا تركتني أريتك نجوم الليل في طيز النهار. إذا تركتني جعلتك مخرأة لبكين!
- لا تغضب.
- إذا تركتني...
- طيب، طيب.
- إذا تركتني...
- قلت طيب، لا تغضب، لنسوّ الأمر ما بيننا.
- لا أمر نسويه ما بيننا.
- تعال.
- لا.
- تعال.
- لا.
- تعال، خراء!
- لا.
- ماو تسي تونغ، يا شمسنا، يا حُلمنا الذهبيّ... غَنَّت فِن.
بعد محاولة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة وعاشرة، وبعد إغرائها إياه بِرِدفيها أكثر من مرة دون فائدة، تركته ابنة بكين وحده، واستقلت بموقع لها وببنات لها، بموهبة أقل ما يقال فيها إنها شاعرة. ولأنه لم يعرف كيف يتصرف، قلب كل شيء رأسًا على عقب. بعد الضرب والشتم، أرغم بناته على العمل في بيغال، لكنهن فررن واحدة تلو واحدة، ووجد نفسه يخرأ بالفعل وحده، فعزم على قتلها.




القسم الحادي عشر

عندما خرجتُ من المِصعد، إذا بي في الموقف العام لسيارات محطة الشمال. تهادى الحصان الأبيض بي، وأنا أمر بالمراحيض، وبالمخازن، وبدهاليز المترو إلى أن وصل إلى باب الخزانة المفتوح. دخلت بالحصان، وأنا أنظر. كانت شبابيك الصرافة عادية بصرافين عاديين كل واحد منهم لاه بشغله، وأمام مستودع المحطة كان بعض السياح الذين يودعون حقائبهم. صعدت بالحصان الدرج إلى وسط محطة الشمال، والحصان يتهادى بين أناس ألقوا عليّ نظرات سريعة، وعادوا إلى أشغالهم. كانت القطارات هي القطارات، والأرصفة هي الأرصفة، والآماد هي الآماد. وكان الحصان الأبيض الذي أركبه، وأسيّره، شيئًا غيرَ مجدٍ في هذا العالم. لم يعد الفكرة المتسلطة، لم يعد السلطة الروحية، لم يعد السلطة المطلقة. ذهبتُ به إلى مركز الشرطة، فلم يكونوا فرحين برؤيته.
- هذا ما ينقص، تهكم شرطي، وهو يسحب الحصان الأبيض. من أين جئت به؟
- من هناك، تلعثمت.
- من هناك! عاد الشرطي إلى التهكم، هذا ما لم نعتد عليه. إنه حصان نادر، على أي حال.
- سأتركك معه.
- نعم، هكذا، ستتركني معه.
إذا بأقواس نارية تفرقع في سماء مقبرة القطارات، أقواس ذهبية غير عادية، وانفجارات تصاحبها داقّةً هازّةً المكان.
- ها هم يعودون إلى لعبهم، هؤلاء الزعران الصغار! ألقى الشرطي بلا مبالاة قبل أن يصرفني: طيب، مع السلامة.
- مع السلامة، ترددت، وأنا أستغرب ما أرى وما أسمع.
لم أستطع اختراق مقبرة القطارات للمتاريس التي أقيمت فيها: من ناحية عدد كبير من القراصنة الصغار، أقول قراصنةً لأنهم يخبئون عينًا تحت عُصابة سوداء، ومن ناحية عدد كبير من الخدم الصغار، أقول خدمًا لأنهم يرتدون وزرة بيضاء، ومن الناحيتين تُرشق آلاف الصواريخ والقنابل الصغيرة جدًا الكبيرة الأثر جدًا كآخر مبتكرات النانوتكنولوجيا. شوّى اللهب وتعالى، ودوّى الضرب وتصادى. رأيت القتلى بالعشرات، أطفال في عمر الورد، وهم يتساقطون، كشخصياتٍ مِنْ ديزني لاند كانوا يتساقطون، وشاهدت الجثث بالمئات، أقاقيا بلون البحر، وهي تتطاير، كطيورٍ مِنَ الورقِ كانت تتطاير. كان المنظر جميلاً على الرغم من كل الهول، فهؤلاء الصغار لم يكونوا غير عاديين، كانوا هناك، في قلب معركة ضارية، يكفي أن يكونوا هناك. لم يعد اللامنطق عالمًا لمقبرة القطارات، غدت المقبرة أكثر عقلانية، كل ما كان فيها من غريب انتهى أو يكاد. وعندما سمعتهم يشتمون وهم يتخاطبون تخاطُبَ الكبار ويتنادون تناديَ المرؤوسين والرؤساء، خرجوا مما هو غير مسمى، واستردوا شخصياتهم.
- انتبه إلى المتسلل، ابن القحبة ذاك، أيها الجندي القرصان!
- تحت أمرك، يا قبطاني!
- وأنت، قُدْ إليتيك!
- اتركني أُقَبّل هذا الصاروخ، إنه هديتي لأمي.
- رقيب قرصان، ليس وقت الهدايا!
- أعرف، يا قبطاني.
- انتبه، قلت لك انتبه، جندي قرصان، نعم، هكذا يسعى أبناء القحبة إلى حتفهم! وماذا أيضًا، رقيب قرصان؟ أتركك تضاجع هذا الصاروخ!
- وعدتها بصاروخ، يا قبطاني.
- عدها بقفاي المرة القادمة!
- أردت فقط أن أفي...
- فلتخرس! قَبِّلْ هذا الخراء، ومنذ الآن فصاعدًا لن يَعِدَ واحدٌ منكم أحدًا، هل فهمتم، يا ماخور الخراء؟ لم يُقَبِّلْ صاروخه بعد! قَبِّلْهُ، يا دين القرد! اِهْدِهِ لأمك القحبة!
- أمي ليست قحبة، يا قبطاني!
- أمي أنا، أمي أنا! هل أنت سعيد الآن؟ ها هم يتسللون، يا قحبة الخراء! لا تجعل حياتنا تذهب هدرًا! قَبِّلْهُ، نعم، هل قَبَّلْتَهُ؟ الآن أطلق، قلت أطلق! ما هذا الخراء! هل هذا قرصان في فرقة القبطان جونو؟ كما لو كان لم يسمع بالقبطان جونو صاحب أثقل بيضات في فرنسا!
- في العالم، يا قبطاني، تدخل أحدهم.
- في العالم، في العالم... ضربة معلم، يا دين كل القرود! تعال أُقَبِّلُكَ!
- هذا لأنها كانت هديتي لأمي.
- تعال، تعال...
وفقع على خده قبلة مع الصياح الطنان للآخرين، صياح أنساهم لثوانٍ المصير ذاته الذي ينتظرهم.
- وماذا ستقول لي بعد كل هذه المضاجعة؟ تهكم الخادم الصغير الأول، وهو لا يتوقف عن إشعال الجحيم ألف ضعف ما هو عليه.
- أية مضاجعة؟ تحير الخادم الصغير الثاني، هذه التي نقوم بأسيادنا أم تلك التي يقوم أسيادنا بنا؟
- المضاجعة مضاجعة أيًا كانت، لا تتوقف عن الضرب، يا دين القرد! التي في قفانا والتي في قفا غيرنا وأيًا كانت الوسائل!
- دومًا ما كنتُ سريع الفهم.
- لا تتوقف عن الضرب أنت الآخر، يا دين القرد!
- معذرة! هذا كنشر الإيمان، تسهو أحيانًا، فتنسى.
- الخراء لا يُنسى.
- ها هم يتسللون، يا ماخور الخراء!
- رد بالك!
- لن يهدأ لي بال!
- أوصيك بها، قال الرجل الطيب للمعلم، وهو يعهد بابنته إليه.
- إلى ذاك القواد!
- اغتصبها في اليوم ذاته.
- بينما أنت تتفرج، يا قحبة الخراء!
- جاءتني تبكي، فقلت لها لا بأس.
- بِئْسَ المشكلة!
- بكينا نحن الاثنان.
- يا دين القرد!
- أخذتني بين ذراعيها، وقالت لي لا تبك، ليس ذنبك، وراحت تزرع وجهي قُبُلاً، وهي لا تتوقف عن البكاء.
- تُخفف عنها الحزن.
- وراحت تزرع عنقي قُبُلاً.
- تُخفف عنها الألم.
- وراحت تزرع صدري قُبُلاً.
- تُخفف عنها الصدمة.
- وراحت تزرع بطني...
- وبعد ذلك؟ لماذا سكتّ؟ قل، وبعد ذلك؟ أنت لا تقول. وبعد ذلك، يا دين القرد! وبعد ذلك، وبعد ذلك... يا إلهي! ترك نفسه يُقتل قبل أن ينهي ما بدأ من كلام! يا دين القرد! يا دين القرد!
دفعتُ باب خمارة محطة الشمال، ودخلتُ وسط عدد كبير من الأطفال العسكريين. كانوا يشربون ويدخنون ويحششون ويرقصون ويغنون، وبين الفينة والفينة، كانوا يذهبون مع العاهرات إلى حجرة بابها المفتوح يتدلى عليه ستار. أخذت مجلسًا إلى يمين رجل متغضن الوجه أرمد الشعر سقيم العين، خمس نساء إلى يساره. كن يتنادين بأسمائهن: عدن، أنيتا، دوروتيه، كارمن، فِن. عدن تمص الحشيش من مخروط، أنيتا تضع على صدرها صليبًا كبيرًا، دوروتيه تشرب فنجانًا كبيرًا من القهوة، تشعل القداحة وتطفئها، تشعلها وتطفئها، تشعلها وتطفئها، تشعلها وتطفئها، كارمن تملأ الخواتم أصابع يديها، فِن تصبغ شعرها باللون الأصفر. عندما كن يتوجهن بالكلام إلى الرجل المريض، كن يقلن باحترام كبير: "يا موسيو عمانويل، أنت أعظم رجل في الدنيا! يا موسيو عمانويل، ماذا سنفعل دونك؟ يا موسيو عمانويل، ماذا سنكون دونك؟ يا موسيو عمانويل، أنت كل أحلامنا! يا موسيو عمانويل، جُعِلْنا فداك!" جاء أحد الضباط الصغار، أسمر البشرة، ووضع في يد موسيو عمانويل حزمة من النقود قبل أن يتردد عند الباب ذي الستار، وينزل إلى المراحيض مع كارمن، والأخريات لا يبالين بما يفعل. كانت أجسادهن، وكانت حرية العساكر.
- خذ طلب الزبون هناك، يا شارل، أشار صاحب الخمارة إليّ، وهو منهمك في تلبية طلبات المشرب بهيئة منهكة، جِد منهكة.
- هناك أين، يا معلم كمال؟ فحص النادل شارل كل الخمارة بعينيه، وهو يضع يده في الجيب الأمامية لوزرته البيضاء، إلى أن وقع عليّ.
- هناك.
- حالاً، يا معلم كمال.
- حَرِّكْ إليتيك، يا دين الرب!
- حركت، يا معلم كمال.
- بسرعة أكثر.
- مع كل هؤلاء العساكر؟
- قلت لك بسرعة أكثر، يا دين الرب!
- طيب، طيب، يا معلم كمال.
وبين يديّ:
- ماذا يريد أن يشرب سيدي؟
- النبيذ الجزائري في هذه الحانة شيء خارق للعادة، اقترح الرجل السقيم في أذني، وهو يشعل سيجارة. سيدي براهيم معتق منذ الاستقلال.
- قنينة سيدي براهيم، تظاهرت بالاهتمام.
- لتر؟ نصف لتر؟
- لتر، يا شارل، أمر الرجل السقيم، وستكون دورتي.
- ولكن... تدخلتُ.
- أنا في خدمتك، يا موسيو عمانويل.
- أشكرك، قلت لموسيو عمانويل.
- لدي نقانق إكسترا خنزير حلال.
- صحن واحد.
- ونحن، يا موسيو عمانويل، تدلعت البنات.
- صحنان اثنان.
- أنا في خدمتك، يا موسيو عمانويل.
- هيا، افرنقع!
- في الحال، يا موسيو عمانويل.
- سيجارة؟
- لا أدخن، قلت، وأنا أسحب سيجارة.
وضع أحد الجنود الصغار السود حزمة من النقود في يد موسيو عمانويل، وذهب مع عدن، وهذه المرة انفجرت العاهرات الأخريات ضاحكات: كن بنات يومهن.
- بناتي يطلقن أعذب الضحكات! مهنتهن في زمننا أنظف مهنة، اقتنعن بذلك، وهن في السجن، يوم كنت معتقلاً معهن، وقبلن بالعمل لي في محطة الشمال، هن ليتسلين بأجسادهن، وأنا لأتسلى بروحي.
- تتقاطع المصائر لتكون.
- الكِيانات.
- الوجودات.
- الحياتات.
- تتقاطع... تتقاطع...
- تتضاجع...
- تتضاجع...
- أعطوا السِّنَّ حَظَّها مِنَ السِّنّ!
تضاعف الصخب أضعافًا مضاعفة والحركة والعربدة.
- عندما كنت طفلاً في عمر هؤلاء، أفشى الرجل السقيم، تركتني أمي في غرفة، وأطفأت الضوء. كان عليّ أن أنام، بينما يُقام عرس في الصالون، ضوضاؤه لا تسمح لأحدٍ بالكرى. بين الفينة والفينة، كانت الضوضاء تعلو مع فتح الباب، وتنخفض مع غلقه، فأرى خيال أحدهم أو إحداهن، لأن الداخل لم يشعل الضوء ظنًا منه أنني نائم. كان يفتح الخزانة، ويُخرج ثوبًا، يخلع ما عليه، ويرتديه محاولاً ألا يبدر عنه أقل جرس، ثم تعلو الضوضاء، وتنخفض. كنت أحزر ما يفعل الداخل، فأنا لا أراه، أرى حركاته، وأفكر في الظلام غير ما أفكر في الضوء.
- ها هو أطيب نقانق خنزير حلال لأطيب شخص ولأطيب بنات، صاح النادل شارل، وهو يضع الصحنين، وها هو أطيب نبيذ في الوجود، عاد النادل شارل إلى الصياح، وهو يعرض القنينة، ويفتحها، ويصب لنا.
- لم أكبر كثيرًا، تابع موسيو عمانويل...
- هذا للحمراء، قال جندي طفل أحمر، وهو يفتح يد الرجل السقيم، ويضع فيها حزمة من النقود.
- لأني أشبه حاضنتك، تفاصحت دوروتيه.
- كيف عرفتِ؟
- يا لسذاجتك!
لما فجأة:
- لترحل! صاحت عدن في وجه الزبون الذي كانت قد راحت معه، وللأخريات: يريدني أن أحبل به، هذا الأحمق!
- تحبلين منه.
- أحبل به.
- لم أكبر كثيرًا جدًا...
- بصحتك.
- كنت أدرك ما لا يُدْرَك، ما سيكون قبل أن يكون، ما سينتهي قبل أن يبدأ، لم يكن ذلك بدافع عبقريتي، كان ذلك بدافع حزري، أقول حزري لا حدسي، كما لو كنت دومًا في غرفة معتمة، فأرى ما لا أراه، وأعرف ما لا أعرف. وكنت أدفع مقابل ذلك من الألم الجسدي والنفسي ما لا يقدر بثمن، فمجنونة المدينة التي كنت أخشى أن تمزق بأظافرها وجهي، مزقت بأظافرها وجهي. لم أذهب إليها، جاءت إليّ. لست أدري كيف جاءت إليّ، وكيف مزقت بأظافرها وجهي. كان ذلك عبء اللحظة، وعبء الحالة، وعبء الحياة... هل تأخذ سيجارة أخرى؟
- لم أنه بعد هذه، قلت وأنا أسحقها.
- لكن الجسد المشنوق الذي توتر تحت بصري كان جسدي، إلى الأبد سيبقى متوترًا. جرى ذلك في الساحة العامة، كنت في التاسعة أو العاشرة، وإلى اليوم لم يزل الجسد الميت حيًا فيّ، وكأنه يقيم إلى الأبد تحت جلدي.
- إلى الأبد...
- خذ سيجارة.
- لا أريد، قلت وأنا آخذها.
- أيامي معدودة لسرطان رئوي.
- إلى أبد الدهر.
- أيامي المعدودة.
- لكل واحد أبده.
- ليس لكل واحد. هؤلاء الأطفال المنايك لا أبد لهم.
- في الخارج، هم يلعبون.
- أولئك ربما، فأنا لعبت بحياتي ثلاث مرات مثلهم طوال سبعين عامًا، ثلاث مرات في غرفة معتمة كبطنٍ حَبَلَ اثنتين وثلاثين مسرحية. مسرحياتي هُناي، وجودي الباقي من بعدي. لكنه لن يكون كغيره، دومًا ما كان وجودي لا كغيره، دون إخراج، كالعدم سيكون وجودي، لكنه سيكون.
- لذيد سيدي براهيم.
- بلذة الموت.
- كم من وقت يبقى لك؟
- ربما هذا المساء، ربما الآن.
- بشغف زائد.
- أنا جريمة لم توضح، أحتاج إلى محام يقاتل من أجلي ضد النسيان.
- أنا.
- ليس أنت.
قرع هاتفه المحمول، ففحص الرقم قائلاً:
- لا أدري من هو.
وبعد ذلك:
- آلو!
غطى السماعة بأصابعه، وهمس:
- مجلة الاكسبريس.
ثم لمحدثه:
- ثلاثة أسئلة؟
عاد يغطي السماعة بأصابعه، وهمس:
- عرفوا بموتي، لهذا. يريدون أن يعرفوا لماذا كل هذه المسرحيات؟
- لأنك لم تضع القدم في مسرح مرة واحدة في حياتك، قلت للرجل السقيم.
- لأنني لم أضع القدم في مسرح مرة واحدة في حياتي، أعاد لمحدثه.
- كأسماك القرش في غير محطة الشمال.
- يريدون أن يعرفوا لماذا كل هذه العزلة؟
- لأنك لا تكتب كأحد، لا تنتمي إلى أحد، لا تداهن أحدًا.
- لأنني لا أكتب كأحد، لا أنتمي إلى أحد، لا أداهن أحدًا.
- وأنت لهذا.
- وأنا لهذا ماذا؟
- أخفت حقيقتك صورتك.
- حقيقتي أخفت صورتي.
- البرهان مجلة الاكسبريس الآن، بفضل موتك لا بفضل كتابتك.
- يريدون أن يعرفوا أية نصيحة أترك للكتاب الشبان؟
- أن يتركوا الكتابة.
- لماذا؟
- كفانا ثرثرة.
- ولكن أيضًا.
- لأنهم لن يكملوا الناقص في الأدب.
- وهل هناك ناقص؟
- لا.
على حين غِرة، حضر المتقاتلون في مقبرة القطارات، وهم يترامون في أحضان بعضهم، فعرفنا أنهم تصالحوا، وأن الحرب ما بينهم توقفت، والواقع لم تتوقف الحرب طويلاً لدسائس الجيش، وإيقاعه الواحد في الآخر.
- اتركني أتصرف، قال الجنرال الصغير لملازمه الأول، وهما يقفان في زاوية.
- هل أضع لحيتي، يا جنرالي؟ سأل الملازم الأول الصغير.
- ستضعها عندما أعمل لك إشارة برأسي، ملازم أول.
- تحت أمرك، يا جنرالي!
ذهب الجنرال إلى الطاولة التي تجمع القبطان القرصان والرقيب القرصان والخادم بصحبة خادم آخر غير الذي استشهد، وطلب من القبطان القرصان أن يكلمه على حدة.
- أردت فقط أن أحذرك ممن تجالسهما، يا قبطاني، قال الجنرال، لدي معلومات بكون الواحد إرهابيًا كالآخر.
- الواحد والآخر كانا لي خادمين، يا جنرالي، قال القبطان القرصان.
- السلوك المُشين سيكون فيما بعد!
- الإرهابي تريد القول؟
- وهل هناك من سلوك مشين غير الإرهابي؟
- سأعرف كيف أتصرف.
- لا يكن دافعك رداءة الذوق، بل تَسَلُّمُ زِمامِ الحكم!
- لن يكون إلا الخير.
- الخير لنا جميعًا أن تتصرف بسرعة، ولا تترك لخادميك الوقت الكافي للاستسلامٌ للمعاصي، فكل ما يحيط بك سنا كاذب!
أشار الجنرال برأسه إلى ملازمه الأول، فوضع هذا لحية غطت معظم وجهه، وبطريقة ما صب قطرات من السم في قدح القرصان الرقيب الذي ما أن جرعه حتى سقط ميتًا. خف القبطان القرصان لمعرفة ما جرى، وعندما تأكد له موت مرؤوسه، استل مسدسه، وأردى الخادمين قتيلين. تقاتل الخدم والقراصنة من جديد، وغادر كل الخصوم الحانة، والكل يهدد الكل، وما لبث أن دخل صاحب لحية.
- هذا إرهابي حَقَّ بهذا الاسم، همس الملازم الأول في أذن الجنرال.
- اترك ذباب مراكش تجيئنا بمحض إرادتها، فتغنينا عن كل تبرير، همس الجنرال في أذن الملازم الأول.
- لا، صاح موسيو عمانويل في وجه الملتحي قاذفًا نقوده، لن تذهب معك أية واحدة من بناتي!
جمع هذا نقوده على مضض منه، واتجه إلى المشرب، وعيناه تقدحان شررًا، وطلب صحن نقانق خنزير حلال، وكوب بيرة دون كحول. دخل شاب ناداه الرجل السقيم "فرانسوا"، وهمس في أذني:
- لقد أنفق حضوره.
لم أفهم، فأوضح بكلمات سريعة:
- أصله سياميّ، قطعوا أخاه، وجعلوه وحيدًا.
- لا يستحق هذا.
- دومًا في مكانك؟ ألقى الشاب مرتبكًا، وقعد.
- أحضر كأسًا لفرانسوا، يا شارل.
- حالاً، يا سيد عمانويل.
- وهذه الغزالات ألا تفطس هنا؟
- تفطس.
- لن أذهب أبدًا مع واحدة من بينهن.
أحاطت البنات بصحن نقانقنا بعد أن أنهين صحنهن، ورحن يلتهمنه، وهن يتكركرن، ويغنجن، ويلعقن وجه الموسيو عمانويل. اختطفتُ آخر شريحة، والتهمتها، ووضعت حدًا لملحمة النقانق.
- كُسْ أم هالحياة! نفخ فرانسوا.
- تشتاق إليه، قال الرجل السقيم بلا تَحَيُّز.
- فَعَلَهَا فيّ، وتركهم يقطّعونه.
- لم يكن يعلم.
- كان يعلم، الخائن، كان يعلم.
- لم يكن يعلم.
- كان يعلم، الإرهابي، كان يعلم.
- لم يكن يعلم.
- فِعْلُهُ الإرهابي الذي ارتكبه بي هو هذا، يعلم أم لا يعلم، وهو كان يعلم، المجرم، كان يعلم.
- لم يكن يعلم.
- على طيزي!
- اختاروا عنه.
- لماذا هو؟ لماذا هو؟
- الفضاء الفيزيائي لا أهمية له.
- فضاء طيزي!
- تتمنى لو...
- يا ليتني كنت حطبًا، يا ليتني كنت حجرًا.
- ها هي الكأس، يا موسيو عمانويل، قال شارل عابسًا.
- ما بك؟
- لا شيء، معلم كمال ينتظر دومًا مانحًا.
- لكليته؟
- سأضطر في النهاية إلى إعطائه الأخرى.
- لا تكن فاقد العقل!
- كل هذا لذنبي، كما تعلم.
- ما رأيك في النبيذ الجزائري؟ سأل الرجل السقيم السيامي السابق بعد أن جرع هذا قدحًا.
- زي الخرا! قذف فرانسوا، وهو يعود إلى صب الأحمر في كأسه.
- كنت لما أسوطه بعنف لا أفكر في هذا، ألقى شارل المسئولية على عاتقه، كنت أفكر في البحر.
- لن تعطيه كليتك الثانية.
- أعتقد أنني سأعطيه. الأولى كانت الكنز الذي لم أجده في البحر، والثانية للمعلم كمال. هكذا لن يقول إن فرنسا أهملته.
- ستموت.
- سيحيا.
- لينتظر مانحًا.
- لن يجد.
- سيجد، خراء!
- لن يجد.
- سيجد، أقول لك سيجد.
- لن يجد.
لم يكن قلقه، كان قلق الآخر، لم يكن يأسه، كان يأس الآخر، لم تكن نهايته، كانت بداية الآخر.
- فليطلبها من قريب في الجزائر.
- كمال ليس كغيره من البكائين على الخراء، قطع كل شيء مع كل شيء، مع أمه، مع أبيه، مع أخواته، مع إخوته، مع قسنطينة، مع جيجل، مع وهران، مع تلمسان، مع كل مدن قحبة القحبة، أنا جزائره.
- إذا أردت أعطيته مكانك واحدة، اقترح السيامي السابق.
- أنت، اذهب إليك! طن شارل.
- أنا، لم يعد يهمني شيء. على أي حال، جربت كل شيء، السُّم، المنوم، الموسى... سأنجح في يوم ما.
- اهتم بالحانة أثناء غيابنا، أنا وكمال، هذا كل ما أطلب منك.
- أَهْتَمُّ بهؤلاء المماحين الصغار، أبناء الشرموطة، أبدًا!
قالها بحركة عنيفة من يده أصابت أحد العساكر الصغار في ذقنه، فنهض مرتبكًا. اعتذر، وبالغ في الاعتذار، وهو ينحني، وينحني، ويطلب العفو والمغفرة. كان مخرجه الوحيد أن يذهب مع واحدة من بنات الموسيو عمانويل، وهذا ما حصل عندما نادى عدن.
- أنت لا تريد أن أحبل بك؟
- تعالي فقط، يا دين الكلب!
- اذهبي معه، يا عدن، أمر الرجل المريض.
- كما تشاء، يا موسيو عمانويل.
- كلما ذهبت واحدة مع واحد أشعر بقرص في قلبي، فهن كبناتي، بينما هن، غدت عادتهن.
- من شبّ على خُلْقٍ شاب عليه، قلتُ.
- ليس إلى الأبد. كان الصيد لي كالمضاجعة لهن، فخبرت كل أنواعه، السنارة والبندقية، والنسور. آخر مرة كانت لي في نجد منذ تسعة وعشرين عامًا. أطلقتُ العاشقَ، وهذا اسم النسر، من فوق رابية من الرمل عالية تشرف على أكبر واحة هناك، أخضرها كان يلمع تحت أشعة الذهب كالزمرد، لا شيء يُرى بين انعكاساته، وبفضل نظره الثاقب، انقض العاشق بمخالبه على قُواع بريّ، وأحضره إلى وليمة أقمناها في قلب الصحراء. كل هذا وغير هذا انتهى دون رجعة. وعما قريب، سأنصرف إلى شأني.
أغمض عينيه، ووضع وجهه بين يديه، كان يبدو عليه الكَلال. رفع رأسه، وبذل ابتسامة خفيفة.
- سنحتفل بهذا، قال لي، ونهض.
نهضتُ معه، ونهضت البنات الأربع معه، وهو يسأل:
- أين عدن؟
- ذهبت مع فرانسوا، يا موسيو عمانويل، ذكّرته دوروتيه.
- مع من؟
- مع فرانسوا.
- ليذهب إلى الشيطان، فرانسوا، هذا الكافر بالنعمة!
دخلنا غرفة المضاجعة من ورائه، ورأينا عدن عارية في حضن السيامي السابق.
- ها هي عدن، يا موسيو عمانويل، قالت كارمن.
- تخلصي منه بسرعة، والحقي بنا، أمر الرجل السقيم عدن.
دلفنا جميعًا إلى سرير كبير من وراء ستارة، ألقى موسيو عمانويل بجسده عليه، فأحاطت الفتيات الأربع به، وهن يكركرن، ورحن يخلعن ثيابه، وهو مستسلم لهن استسلام الطفل لأمهاته.
- وهو، أشار إليّ، لا تَنْسِيَنَّهُ.
- لن ننساه، يا موسيو عمانويل، قالت دوروتيه.
وبالفعل، بعد أن جردن الرجل السقيم من كل ملابسه، أحطن بي، فاستسلمت لأصابعهن. جردنني من كل ثيابي، وجعلنني أقف حائرًا لا أدري ما أفعل.
- استلقِ إلى جانبي، طلب موسيو عمانويل إليّ.
وبسرعة البرق، خلعت البنات أرديتهن الخفيفة، وصعدن على السرير، وهن لا يتوقفن عن الكركرة. زرعن جسدي وجسد الرجل المريض قُبُلاً، والرجل المريض يتكلم لا إلى أحد:
- كان ذلك في نوجن، تركتُني أذهب إلى ناسيون ضد إرادتي. كان عليّ النزول في فنسن، محطة قبل ناسيون. لكنه كان المباشر. هذا القطار مباشر لناسيون، نبهنا الصوت الجهوري قبل إغلاق الأبواب، وأنا أسمعه، فلم أتحرك من مكاني. أين عدن؟ لا تعضيني قويًا، يا دوروتيه! في ناسيون، كان عليّ أن أُعِيدَ أَخْذَ قطار الرصيف المقابل. في لحظة الاستهلاك القصوى، لم يكن الأمر واضحًا. عُضيه هو، يا دوروتيه، لم أعد أحتمل أسنانك! قبل، كنت أحب هذا، اليوم، أنا لا أحتمل! فِن الوحيدة فيكن الناعمة معي، موعدنا القادم في بكين، يا فِن.
- ليس قريبًا جدًا، يا موسيو عمانويل، قالت فِن، وهي تقبله من ثديه.
- أعرف، ليس قريبًا جدًا موعدنا، لكني آخذه على أي حال. أين عدن؟ نادي على عدن، يا كارمن.
- عدن! نادت كارمن.
- تستحقين منصب وزيرة الثقافة، يا كارمن.
- ألم تعد تحبني، يا موسيو عمانويل؟
- لم أعد أحبك! أنت قلبي الصغير، يا حبيبتي! لا تجعليني ألهث كثيرًا، قلبي التعب لم يعد يحتمل! كان الرصيف مليئًا بالبشر، وبعد انتظار طال، طال كثيرًا، القطار الذي وصل كان مليئًا بالبشر، فكيف للبشر أن تركب مع البشر ولا مكان لأحدٍ من البشر؟ لحظة الاستهلاك القصوى. هل جاءت عدن؟
- عدن! نادت كارمن من جديد.
- لحظة الاستهلاك القصوى، الرصيف مليء بالبشر، والقطار التالي مليء بالبشر، لكنني تدبرت أمر الصعود فيه. كنا كالسردين، وكنا تعبين. لم نكن ننظر إلى بعضنا. كنا نفكر في الوصول. نادي على عدن، يا كارمن!
- عدن!
- ألم أقل لكَ إن دوروتيه تعض كما لا يعض أحد؟ لكني أنا لم أعد أحتمل. أنا أعتذر لكِ، يا أنيتا، هذا الصليب الكبير يمكنك خلعه، فيما بعد، لا تحتفظي به، اعتقدتُ أنها الهدية التي ستعجبك. ونحن في وسط الطريق إلى فنسن، توقف القطار، وأخبرنا السائق أن السبب حادث وقع. كنا كالسردين، وكانت هناك عربة طفل، وراكبٌ راحَ يصرخ، كفوا عن الدفع، ستسحقون الولد! هل جاءت عدن؟
- عدن!
- أُحِبُّ شاربك الصغير، يا دوروتيه!
- ولكن لا شارب لي، يا موسيو عمانويل.
- أين عدن؟
- عدن!
- كالسردين، كنا ننتظر أن يعود السير إلى السير، الفتاة التي كنت ألتصق بها أمامي بدأت تغمض عينيها، والفتاة التي كانت تلتصق بي ورائي أخذت تضغطني بِرِدفيها. كل هذا لأنني لم أغادر قطاري في نوجن. كنت أسمع الصوت الجهوري المحذرنا، وأرى الضوء المشير إلى ذهاب القطار مباشرة إلى ناسيون، ولا أتحرك من مكاني. ماذا تفعل عدن؟
- عدن!
- ها أنا ذا، يا موسيو عمانويل، قالت عدن، وترامت على جسد الرجل السقيم آخذةً إياه بين ذراعيها، بينما البنات الأربع يأخذنني بأفواههن.
- نعم، هكذا، خذيني كلي، يا عدن! آه! ما أحن عدن. كالسردين. بقينا هكذا ساعة أو يزيد، لأنه سُهِيَ عليّ، كنت أسمع الصوت الجهوري ملفتًا انتباه الركاب إلى أن القطار سيذهب مباشرة إلى ناسيون، وفي الوقت نفسه كنت لا أسمع، وكنت أرى الضوء المشير إلى ناسيون كمحطة قادمة، وفي الوقت نفسه كنت لا أرى. توقفي عن نفخ القِنَّب الهنديّ، يا عدن!
- سأتوقف. لأنك تطلبه مني، يا موسيو عمانويل!
- عديني.
- أعدك.
- غلطةُ سهو، وإذا بجملة من الهموم التي لم تكن تنتظرها، هموم لا تعد ولا تحصى. كل حياتي صُنِعَتْ تبعًا لغلطةِ سهو. اشعلي لي قليلاً من القِنَّب الهنديّ، يا عدن!
في اليوم التالي، عندما عدت إلى الخمارة، لم يكن الرجل السقيم هناك. قالت لي بنات الهوى إنه مات. كن يبكين، وأكثر من كانت تبكي عدن.
- أوصانا موسيو عمانويل ألا نبكي، شهقت الفتاة السوداء ومخطت وبصقت، لكن الأمر أكبر من طاقتنا، نحن نبكي الأب الذي كان. لم أعرف في حياتي أبي، مات أبي قبل مولدي، فكان الأب الذي اخترته، أب ولا كل الآباء، وهي حالنا جميعًا. أنيتا التي نزح أبوها إلى أمريكا بعد طلاقه من أمها، وكأنه مات بالنسبة لها، دوروتيه التي جعل ارتكاب المحارم من أبيها عنها غريبًا، كارمن التي هجر أبوها أمها ليتزوج السياسة ويغدو وزيرًا، فِن التي تزوجت أمها ممن تدعوه أباها، وفي الواقع كان زوج أمها وزوجها ولما تبلغ بعد سن السابعة.
- لا تهربن من الحياة، ألحَّ علينا، شهقت أنيتا ومخطت وبصقت، من يهرب من الحياة يهرب من الموت، وليكون الموت جميلاً على الحياة أن تكون جميلة.
- اعرفن كيف تفرضن أنفسكن، أكد لنا، شهقت دوروتيه ومخطت وبصقت، كيف تشعلن النار، كيف تطفئن الكواكب، ليس بالرماد يضاء القمر.
- كُنَّ جريئات، أَمَرَنَا، شهقت كارمن ومخطت وبصقت، لا تَظْلَلْنَ بعيدات عن مطامحكن، وإلا صعد أدنى الناس أعلى فأعلى، وأنتن تتفرجن، ولا تقطفن سوى ثمار الأسف.
- لا تعارضن الكل، زَجَرَنَا، شهقت فِن ومخطت وبصقت، ولا توافقن الكل، فالكل ليس فقط الأقاقيا، الكل بشر يتظاهرون بالتظاهر، فاقدروا على أن تَكُنَّ بشرًا، تظاهرن بالتظاهر، وافتككن مكانكن على خشبة المسرح.
جاء فرانسوا في رداء النادل، وأخبرني أن شارل في المستشفى مع كمال. سالت على خده دمعة:
- كانا سياميين دون أن يعلما، خراءُ اللهِ الوجودُ!
- ونحن؟ ماذا سنفعل دون أبينا؟ تعثرت عدن بأذيال الخيبة، وهي تذرف مر الدمع.
كان كافيًا أن تذرف إحدى الفتيات دمعة واحدة حتى يُغرقن العالم في الألم والملح.
- سأرى ما يمكنني فعله، قلت، وأنا أحزر سرهن.
- وأنا لا تنسني، سارع فرانسوا إلى القول.
- أحضر لنا قنينة سيدي براهيم.
- قنينتين، صححت كارمن، وهي تغضي حياء.
أنهينا القنينتين دون عناء، وطلبنا قنينتين أخريين، ثم أخريين، ثم أخريين، ثم أخريين. جرع فرانسوا بعض الأقداح معنا، وهو يبدو سعيدًا. لم يكن ثملاً، كان محبورًا. البنات كلهن كن ثملات، وكذلك أنا. كانت لنا رائحة كريهة واحدة، رائحة خبيثة طيبة، وكنا، أنا والبنات نترع النبيذ لا لننسى موسيو عمانويل، لننسى، فقط لننسى. إن ننسَ فلا ننسى أن ننسى! قبلتني عدن من فمي، وكذلك باقي البنات. فعلن ذلك ليذكرن، لا ليذكرنني، ليذكرن، فقط ليذكرن. إن يذكرن فلا يذكرن أن يذكرن!
- أريد أن أتخلص من رأسمالي العاطل، قالت عدن ناهضة.
من بيت الماء، سمعنا صرخاتها، فَذَهَبَتِ البناتُ وذهبتُ على نصف قدم لنرى. كانت عدن تتدحرج على الأرض من الألم، بنصفها السفلي العاري. "لا أستطيع!" كانت تردد. رفعتها البنات، وأعدنها إلى المرحاض، وكل واحدة بدورها تطلب:
- أعيني ولدك!
وكأنها تلد.
- أعيني ولدك! أعيني ولدك!
وهي تدفع من صميم القلب، دون أن تقدر على الخراء.
أَعْدَتِ الأخريات، فدخلت كل منهن مرحاضًا، ورحن يصرخن دون أن يكن جديرات بفعل ذلك. قلت هذا بسبب سيدي براهيم، وعندما بدأت البنات يتساقطن الواحدة تلو الأخرى أرضًا، أضعت صوابي. كل قواي لم تنفع، كل خيالاتي. رَفَعْتُهُنَّ واحدة واحدة إلى المرحاض مكررًا: أعيني ولدك! أعيني ولدك! بلا جدوى. مضت ساعة من الوقت أو يزيد، والبنات يولولن، وأنا عاجز تمامًا عن فعل أي شيء، إلى أن انخرسن فجأة، وبأنفاس متقطعة رحن يخرجن الخراء كتلاً كتلاً. التحرر، آه! ما أجمله. أجمل ما في الوجود! الانعتاق، قذف الخراء قذف الذات، الولادة، الخلق، مواجهة الخالق الذي هو الإنسان ابن المرحاض، مواجهة العالم. كتمت أنفاسي للرائحة العَطِنَة، رائحة زكية، مدغدغة. انفجرت البنات ضاحكات، وانفجرتُ ضاحكًا، وأنا في منتهى الغبطة. رأيتهن، وهن يمسحن عجيزاتهن بورق يتأملنه مليًا، يشممنه هنيًا، يذقنه مريًا.
رجعتُ إلى الحانة في لحظة الاستهلاك القصوى، وأنا أحمل سبعة حبال، أعطيت لكل فتاة حبلاً ولفرانسوا حبلاً، وبقي معي حبل.
- وهذا، لمن؟ سألني السيامي السابق، وهو ينظر إليّ بإعجاب.
- لكمال.
ساعدتُ الخمس بنات على صنع عقدة يضعن فيها رؤوسهن، وهن يتكلمن وحدهن:
- سأصمد للإغراء.
- سأصمد أمام المتاعب والعراقيل.
- سأصمد في الشدائد.
- سأصمد في وجه الأقاقيا.
- سأصمد أمام الهجمات.
قال فرانسوا إن قصارى ما كان ينبغي له أن يفعل هو أن يهب منزله لمطاعم القلب وأمواله لمعهد باستور، الشيء الذي تم، وما بقي سيارته الفيراري. نشر إعلانًا على إنترنت، وإلى حد الآن لم يتصل به أحد.
- ولماذا تبيعها، فيراريك؟ قلتُ.
- هكذا، قال.
إذا بهاتفه المحمول يقرع.
- آلو! الفيراري؟ كم؟ اشتريتها بمائة وخمسين ألف يورو، أبيعها بمائة، وهي لم تزل جديدة.
- ماذا؟
- لك أتركها بتسعين.
- ماذا؟
- طيب. ثمانين.
- ماذا؟
- آه! يا إلهي، بخمسة وسبعين، أتركها لك بنصف ثمنها، وهي كلمتي الأخيرة.
- ماذا؟
كان المتحدث يغرق في ضوضاء محطة الشمال، وهو لا يسمع أرقام فرانسوا.
- سأنزل حتى سبعين، وهي كلمتي الأخيرة.
- ماذا؟
- لنحتفظ بهدوئنا، لنحتفظ بهدوئنا! خمسون، وهي كلمتي الأخيرة.
- ماذا؟
- يا دين الرب! يا دين دين الرب! يا دين دين دين الرب!
- ماذا؟
- تريدها مجانًا أم ماذا؟
- ماذا؟
- ثلاثون، هل يرضيك؟
- ماذا؟
- آه! يا إلهي. أنقذني من هذه الكارثة، يا إلهي!
- ماذا؟
- عشرة.
- ماذا؟
- اسخر من نفسك!
وضرب هاتفه المحمول في الأرض محطمًا إياه ألف حطام، وفي نفس اللحظة دخل الحانة أحد متسولي محطة الشمال، فوضع السيامي السابق مفاتيح السيارة في يده.
- هذه مفاتيح الفيراري الصفراء المصفوفة على الرصيف، إنها لك.
داخ المتسول، وسقط على الأرض، فهبت البنات ناهضات ليرفعنه، وهو يفتح عينيه، ويرى أطراف أثداء وسيقان جعلته يبتسم مذهولاً مهمهمًا:
- الملائكة! الملائكة!
نهضتُ، وأنا أقول:
- سأذهب إلى المستشفى.
ارتبكت البيات، وارتبك فرانسوا.
- ينطوي الزمنُ، بررتُ.
- سيكون المشهد مرعبًا، تلعثمت عدن.
- أنا أرتعش لَذَّةً الآنَ، ألقى فرانسوا.
- افعلوا بسرعة، أمرتُ، العجلة ليست من الشيطان!
- وبعد ذلك، ستعود، خاف فرانسوا.
- اعتمد عليّ، هتفتُ مغتصًا، اعتمدن عليّ.

* * *

في محطة الشمال، جلست على مقعد لأرتاح، لأفكر، لأستذكر، فتذكرت ما جعلني أضع إصبعين في الجيب الصغيرة لسترتي، وأُخرج قُصاصة، قرأت ما كُتب عليها، وألقيتها، وبعد القصاصة قصاصة، وبعد القصاصة قصاصة، وبعد القصاصة قصاصة، وأنا أقرأ ما كُتب عليها، وألقيها، حتى لم يعد هناك شيء ألقيه. ألقيت من حولي نظرة مرتاحة، وزينت ثغري بابتسامتي إياها، الشيطانية. فجأةً، دسست يدي في جيبي اليمنى، وأخرجتها مليئة بالقصاصات. رحت كالثائر أُفرغها وهي لا تفرغ حتى تمكنت من ذلك. نظرت إلى الورق تحت قدميّ وعلى المقعد، وبعد نظرة الاستغراب كانت ابتسامة الامتعاض. مضت بضع ثوان لتزلق يدي في جيبي اليسرى، وكانت المفاجأة أنها مليئة بالقصاصات. تخلصت منها بسرعة، ولما لم أرتح بعد، زلقتُ بيدي في جيبي الداخلية اليسرى فاليمنى، وأنا ألقي عشرات، مئات، آلاف القصاصات، بحركة جنونية غاضبة. قمت لأهرب مما فعلت، فالمكان امتلأ بالقصاصات، والكنّاس لن يسعده ذلك. لكني توقفت، وأنا أدفع يديّ الاثنتين في جيبي بنطالي، وأخرجهما بتردد العَزوف مليئتين بالقصاصات. أفرغتهما بسرعة على مرأى الكنّاس، وهو يقترب من بعيد، وتخبأت من وراء الحقائب الأربع التي كانت دومًا في مكانها. وقف الكنّاس وسط الزوبعة التي أحدثتُها حائرًا، ماذا سيفعل بكل هذا؟ وهل سيكفي كل هذا صُندوقه؟ حك رأسه، وبيد الفضول رفع قصاصة، وقرأ المكتوب عليها: السيد فانون، 25 شارع بيلفيّ، باريس 16. زم الكنّاس شفتيه، ورفع قصاصة ثانية: الآنسة غالان، 13 شارع سان ميشيل، باريس 6. قطّب الكنّاس، ورفع قصاصة ثالثة: السيدة كازانوفا الابنة، 7 شارع الجنرال لوكلير، شامبيني 94. رفع الكنّاس قصاصتين، الأولى باسم: السيد بارو، البرج الكبير، باريس 15، والثانية باسم السيدة بن صابر، العنوان مشطوب. رفع الكنّاس عددًا من القصاصات، ولم ير عليها شيئًا آخر غير العناوين. كمش عشرات القصاصات. عناوين. عشرات أخرى. عناوين، ليس غير العناوين. أصابه الهوس، فراح يرفعها، وينثرها حتى أصابه التعب. أتاها بمكنسته، وبصعوبة كبيرة، تمكن من حشوها في صندوقه. جره ثقيلاً، وبعد مسافة مترين أو ثلاثة، سقطت قصاصة. رفعها، وقرأ: السيد رئيس الجمهورية، قصر الإليزيه. هز رأسه بلا اكتراث، ورماها في صُندوق القُمامة.
وبينما أنا أنظر إلى الكنّاس، وهو يبتعد، شعرت بيد صغيرة تشدني من سترتي، وسمعت صوتًا ناعمًا:
- قطعة صغيرة، من فضلك.
أدرت رأسي من حولي، فلم أقع على أحد، لكنني ما لبثت أن رأيت الصبي القصير القامة، وأنا أنظر إلى قدميّ.
- قطعة صغيرة، جِد صغيرة...
أخرجت من جيبي حفنة من قطع النقد الكبيرة، وأخذت أبحث تحت عيني الصبي الطامعتين عن قطعة صغيرة إلى أن وجدت واحدة، ثم واحدة أخرى أصغر، وقدمتها له. عبس الصبي، بعد أن سال لعابه على منظر قطع النقد الكبيرة، وراح يحدق باستهجان فيما أعطيته.
- قُلْتَ جِد صغيرة...
- أشكرك، يا سيد غودو.
دس القطعة النقدية في جيبه.
- كل شيء بمقابل، قال الصبي، من المليون الذي تربحه إيبل كل ثانية إلى قطعتك الصغيرة، جِد الصغيرة، يا سيد غودو.
- كنتُ أريد أن أعطيك قطعة أخرى كبيرة، جِد كبيرة، وبما أن الأمر معك هو هكذا، فليكن ما ترغب فيه.
- دومًا ما تلوم أمي واقع أني لست حصيفًا.
- حاصل ذكاء أمك جدير بالثناء.
- هذه الحقائب لك؟
- لي، قلت بسرعة.
حاول الصبي حملها، فلم يستطع.
- سأطلب عون أحدهم.
راح ينظر هنا وهناك.
- إنه أخي، قال الصبي. أخي أكبر مني وأقوى.
وضع إصبعين في فمه، وصفر، فجاء صبي يشبه الآخر، وكأنه توأمه، لكنه أقصر قامة. عندما وصل حياني:
- طاب نهارك، يا سيد غودو.
أشار إلى الحقائب الأربع، وسأل:
- هذا كل ما هنالك؟
- هذا كل ما هنالك، أجاب أخوه.
وهو يهم بحملها، أوقفته:
- انتظر.
أخرجت كل ما في جيبي من قطع نقدية، وانتقيت قطعة صغيرة، فمد يده ليأخذها، لكني وقعت على قطعة أصغر أعطيته إياها، وأنا أرسم بسمة مناكفة على شفتيّ، والأخوان بسمة ليست راضية. حمل الصبي الأكبر الأقصر الحقائب الأربع، فلم أعد أراه لكبر حجمها. تعثر، فسقطت الواحدة تلو الأخرى، وانفتحت كلها. كانت الحبال فيها بالعشرات، بالمئات، بالآلاف. أعدنا إغلاقها، وتساعدنا على حملها.
سأل الصبي الأصغر الأطول:
- وأي قطار قطارك، يا سيد غودو؟
قلت:
- أي قطار كان.
ضحك الصبي، وأعاد:
- أي قطار كان.
- أي قطار كان، قلت من جديد.
- أي قطار كان، يا سيد غودو؟
- أي قطار كان.
همهم الصبي:
- أي قطار كان.
وتوجه بالكلام إلى أخيه الكبير:
- هل سمعت ما قاله السيد غودو؟
- سمعت.
- أي قطار كان.
- السيد غودو لا يتغير، قال الأخ الكبير.
هز الصبي رأسه:
- السيد غودو لا يتغير... السيد غودو لن يتغير أبدًا...



* الكتابة الأولى صيف 2010
* الكتابة الثانية يوم الخميس 2012.02.02
* الكتابة الثالثة يوم الاثنين 2014.03.17








أعمال أفنان القاسم

المجموعات القصصية

1) الأعشاش المهدومة 1969
2) الذئاب والزيتون 1974
3) الاغتراب 1976
4) حلمحقيقي 1981
5) كتب وأسفار 1988
6) الخيول حزينة دومًا 1995

الأعمال الروائية

7) الكناري 1967
8) القمر الهاتك 1969
9) اسكندر الجفناوي 1970
10) العجوز 1971
11) النقيض 1972
12) الباشا 1973
13) الشوارع 1974
14) المسار 1975
15) العصافير لا تموت من الجليد 1978
16) مدام حرب 1979
17) تراجيديات 1987
18) موسى وجولييت 1990
19) أربعون يومًا بانتظار الرئيس 1991
20) لؤلؤة الاسكندرية 1993
21) شارع الغاردنز 1994
22) باريس 1994
23) مدام ميرابيل 1995
24) الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون 1995
25) أبو بكر الآشي 1996
26) ماري تذهب إلى حي بيلفيل 1999
27) بيروت تل أبيب 2000
28) بستان الشلالات 2001
29) فندق شارون 2003
30) عساكر 2003
31) وصول غودو 2010
32) الشيخ والحاسوب 2011
33) تراجيديا النعامة 2011
34) ستوكهولم 2012
35) شيطان طرابلس 2012
36) زرافة دمشق 2012
37) البحث عن أبولين دوفيل 2012
38) قصر رغدان 2012
39) الصلاة السادسة 2012
40) مدينة الشيطان 2012
41) هنا العالم 2012
42) هاملت 2014

الأعمال المسرحية النثرية

43) مأساة الثريا 1976
44) سقوط جوبتر 1977
45) ابنة روما 1978

الأعمال الشعرية

46) أنفاس (مجموعة قصائد أولى – ثلاثة أجزاء) 1966
47) العاصيات (مسرحية شعرية) 1967
48) المواطئ المحرمة (مسرحية شعرية) 1968
49) فلسطين الشر (مسرحية شعرية) 2001
50) الأخرق (مسرحية شعرية) 2002
51) غرافيتي (مجموعة قصائد فرنسية) 2009
52) غرب (ملحمة فرنسية) 2010
53) البرابرة (مجموعة قصائد أخيرة) 2008 – 2010

الدراسات

54) البنية الروائية لمصير الشعب الفلسطيني عند غسان كنفاني 1975
55) البطل السلبي في القصة العربية المعاصرة عبد الرحمن مجيد الربيعي نموذجًا (جزءان) 1983
56) موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح 1984
57) البنية الشعرية والبنية الملحمية عند محمود درويش 1984
58) بنيوية خاضعة لنصوص أدبية 1985 – 1995
59) دفاعًا عن الشعب الفلسطيني 2004
60) خطتي للسلام 2004
61) شعراء الانحطاط الجميل 2007 – 2008
62) نحو مؤتمر بال فلسطيني وحوارات مع أفنان القاسم 2009
63) حوارات بالقوة أو بالفعل 2007 – 2010
64) الله وليس القرآن 2008 - 2012
65) نافذة على الحدث 2008 - 2012



[email protected]




تحاول هذه الرواية أن تعيد ابتكار ما اختطه صموئيل بيكيت عبر مسرحيته "بانتظار غودو" تبعًا لتأويلين طبيعي وما وراء طبيعي، لكنها تحاول أيضًا توسيع حقول الصراع الإنساني، مع النفس، مع الغير، مع الواقعي، مع اللاواقعي، مع الخارقي، مع الرقمي، مع الذاكرة، مع فكرة الانتظار، الانتظار تحت كافة وجوهه، انتظار مُعِينٍ أكثرَ منه منقذًا أو متفرجًا، لكن أفعال هذا الشخص "المنتظر" عندما تحل محل ما على البشر أن يفعلوا هم أنفسهم لم تكن في صالحهم، لتأخذ مجانية الوصول قوتها، فيعيد العبث إنتاج نفسه على مسرح الحياة، ويعطي للحياة قيمتها.

أهم ما في هذه الرواية-الحدث المكان الذي تدور فيه وقائعها: محطة الشمال في قلب باريس، محطة هي بالأحرى "مغارة علي بابا"، كل شيء فيها، وكل شيء ليس فيها محتمل، حتى الأشياء الأكثر هذيانًا والمشاهد الأكثر استلابًا.

ماذا كان صموئيل بيكيت سيقول عن رواية أفنان القاسم "وصول غودو" بعد انتظار دام أكثر من ستين عامًا؟




* أفنان القاسم من مواليد يافا 1944 عائلته من برقة قضاء نابلس له أكثر من ستين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ومسرحية ومجموعة شعرية ودراسة أدبية أو سياسية تم نشر معظمها في عواصم العالم العربي وتُرجم منها اثنان وثلاثون كتابًا إلى الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والروسية والعبرية، دكتور دولة ودكتور حلقة ثالثة من جامعة السوربون ودكتور فخري من جامعة برلين، أستاذ متقاعد عمل سابقًا في جامعة السوربون ومعهد العلوم السياسية في باريس والمدرسة المركزية الفرنسية وجامعة مراكش وجامعة الزيتونة في عمان والجامعة الأردنية، تُدرّس بعض أعماله في إفريقيا السوداء وفي الكيبيك وفي إسبانيا وفي فرنسا...