وصول غودو القسم العاشر نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4386 - 2014 / 3 / 7 - 11:51
المحور: الادب والفن     



أسمت الصغيرة فِن لعبتها ذات الوجه الصيني والشعر الأصفر ماو تسي تونغ: ماو تسي تونغ تعالي نلعب، ماو تسي تونغ تعالي نأخذ حمامًا، ماو تسي تونغ تعالي ننام. أسمتها كذلك لشعرها الأشقر المنسدل، فتلوت أمها من شدة الضحك.
- هذا لأن ماو تسي تونغ كان له شعر أشقر! سخرت الأم.
- كان له شعر أشقر، تجيب الصغيرة فِن، وهي تمشط شعر لعبتها.
- وهل تعرفين أنت من هو ماو تسي تونغ.
- أعرف.
- فِن تعرف من هو ماو، تصيح الأم بالأب الذي يكتب ويكتب بين أكداس مكدسة من المخطوطات، وهي تتشنج من شدة الضحك، وهو يتشنج من شدة الضحك.
- ماو تسي تونغ!
وتطبع فِن قبلة كبيرة على فم لعبتها.
- وكيف تعرفين؟
- ماو تسي تونغ، يا شمسنا، يا حُلمنا الذهبيّ... غَنَّت الصغيرة فِن.
- آآآآآآآآآه! قالتها الأم مديدة طنانة متلولية متلولبة، ومن جديد تشنجت من شدة الضحك.
- ابنتك من الذكاء بحيث لما تكبر ستصبح عضوًا في اللجنة المركزية، صاح الأب من مكانه طَرِبًا.
- رئيسة اللجنة المركزية، وتشنجت من شدة الضحك.
- أي ماخور، وتشنج من شدة الضحك.
- اللجنة المركزية ليست ماخورًا! احتجت الأم.
- وهل هناك أفضل؟ احتج الأب.
- هناك.
- ماذا؟
- قفاي! وتشنجت من شدة الضحك.
- أجمل قفا! وتشنج من شدة الضحك.
- الشمس صفراء كشعر لعبتها، فسرت الأم، وهي والأب يقهقهان، ذهبية.
- ماو تسي تونغ، اكتبي!
احتارت الأم، وتوقف الأب عن الكتابة.
- اكتبي! اكتبي!
- أنا أكتب كل القصص التي كانت ممنوعة إبان الثورة الثقافية، وفِن، ابنتك...
وانفجر الأب ضاحكًا.
- فِن لم تزل بعد صغيرة، قالت الأم بقلق، أفي مثل هذا السن بدأت تكتب أفكار الموتى؟
- اكتبي! اكتبي!
- ولكنها لا تكتب أفكار الموتى، اعترض الأب، الموتى يكتبون أفكارها.
- لعبتها موتى! تفاقم قلق الأم.
- اكتبي! اكتبي!
- لعبتها ماو تسي تونغ.
- هذا ما يعرفه الكل، ألقت الأم حَرِدة.
- وهل هو حي ماو تسي تونغ، أيتها الغبية؟
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه! قالتها الأم مديدة طنانة متلولية متلولبة أكثر من المرة السابقة، وتشنجت من شدة الضحك أضعاف ما تشنجت منذ قليل.
- نعم، هكذا، اكتبي! اكتبي!
- نعم، هكذا كيف؟ تساءلت الأم.
- فِن، تعالي! أمر الأب.
جاءت البنت الصغيرة، فوضعها على ركبتيه، وعلق قلمًا بين أصابع اللعبة.
- اذهبي الآن! أمر الرجل زوجته.
- هل أشتري شيئًا آخر غير ما طلبت.
- لا أجد شيئًا أشتهيه.
- شاور عقلك.
- شاورته.
- حتى ولا عقد من اللآلئ البلاستيك.
- بلى، بلى! عقد من اللآلئ البلاستيك لهذا العنق الجميل، وطبع قبلة قوية مديدة على رقبة فِن جعلتها تتشنج من شدة الضحك.

* * *

في تشاينا تاون، كان الثلج الأصفر في كل مكان، وكانت الفتاة الصفراء عارية تمام العراء إلا من حزام مسدسها، المسدس بيدها، وهي تقف في أقصى الشارع الخالي من كل قدم. شيء لا يمكن تصوره، ومع ذلك لم يكن العالم التصوريّ. وفي قلب شارع بيلفيل، قرب أعواد نار تضطرمُ لهبًا أصفر، جلس الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر من وراء طاولة، وهو يلتف بمعطفه. كان ينظر إلى الفتاة الصفراء، ويكتب مستوحيًا مما تفعل وما تقول. كل هذا واقعي لا يدع مجالاً لأي شك، كل هذا طبيعي لا يدفع إلى الهيم في الوِدْيان.
أخذت الفتاة الصفراء تسدد مسدسها إلى النوافذ المغلقة، وتتظاهر بإطلاق النار عليها، فكتب الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه: اتركوا النوافذ مغلقة، فالبرد في الخارج شديد، والخطر كبير، إلا إذا كنتم تريدون التضحية بأنفسكم. اجلسوا قرب مدافئكم، مارسوا القراءة أو الهوى، تسلقوا سلالم الروح أو الجسد، فللجسد سلالم كالروح إلى العبث الممكن للأشياء.
أخذت الفتاة الصفراء ترقص في دوائر، بعد أن أعادت مسدسها إلى حزامها، فكتب الرجل الحكيم: يلمع الذهب الأصفر كلما نثرته القدم الصغيرة، ومن انعكاساته تُولد القصائد التي ستلطخها الملائكة ببولها، فما أبشع الأبيات التي لا تقال بأفواه الشياطين. كدمار الورود الصفر ترقص دون أن يكون الدمار، كأحلام الأباطرة الصغار تغنج قبل أن يغدوا أباطرةً كبارًا، كعزيمة ماو المُهْرَقة على بطن لم يجتحه خلال الثورة تفسق بِحِكَم.
أخذت الفتاة الصفراء تغني بصوت طِفليّ، وهي ترفع ثدييها بيديها طائرين لا يرغبان في التحليق، فكتب رجل المسرح: هذان هما ولداي اللذان لم أنجبهما، ولداي اللذان سأقتلني لهما افتداءً، لأجل أن أكون تراجيدياي.
فجأة، حط سرب من الطيور الصفر بعيون أربع، وبمخالب الثديين راحت الطيور تكتب مع الرجل الحكيم، وبعيونها تتقصى أسرار الكينونة وسرائر الكائن. فرشت الفتاة الصفراء جسدها، وتركت الريشة تصنع منه ما تخلق، والمناقير تسارُّها في أذنها ألغاز الكون بوصفه نظامًا متناغمًا من المظاهر.
- هيه! ماذا تفعلون هناك؟ صاح القرصان أول ما اخترق شارع بيلفيل والشيطان ينفخ في أنفه.
- كما ترى، ننفث أقلامنا على الجسد، أجاب الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر دون أن يتوقف عن الكتابة على جسد الجميلة الصينية.
- حتى هذه الطيور الغريبة تكتب؟
قفز القرصان، وطردها، فحومت للمفاجأة، وهي تزعق، ثم غابت في الأجواء.
- أنت لا تعرف كيف تكتسب سرًا، نبرت الفتاة الصفراء دون أن تجد منفذًا لغضبها.
- الحقيقة أنني لم أعد أنفذ إلى أطواء النفس، اعترف رجل البحار، وهو يصفع الثلج الأصفر بسوطه.
- إليكَ ينفذ صدى الخارج، قالت الفتاة الصفراء في غير ضَرَم.
- وماذا تكتب؟ توجه رجل البحر بالسؤال إلى رجل المسرح، كباقي الذين يكتبون اليوم من خزعبلات؟
- هذه الفتاة هي كتابتي.
- هل تسخر بي؟
- هي كتابتي وكتابي.
- المجانين كُثر في هذه الأيام، أخزاهما القرصان، وأعطاهما ظهره، فلحقت به الفتاة الصفراء، والرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه يُخرج حاسوبًا صغيرًا من جيب معطفه، ويكتب عليه.
- أعرف أنك لم تعد تطيق البحار، ألقت الفتاة الصفراء بخشونة بينما يواصل الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه الكتابة.
- هل هذا ما تكتب؟ صاح القرصان بالمسرحيّ.
- هذا ما أكتب، أكد رجل المسرح، دون أن يرفع رأسه عن حاسوبه.
- آخر بِدعة لهذا الزمان ابن المومس! همهم القرصان وبوادر الغضب تبدر منه. وماذا أيضًا؟
- لا شيء عنك، فأم الكتابة لم توح لي بعد بشيء عنك.
- يريد تغيير مهنته، فيصبح خمارًا، أفشت الفتاة الصفراء.
- صحيح ما تقولين، دُهِشَ رجل البحر.
- كل هذا صار في المسرحية، ابتسم المسرحيّ.
- كيف عرفتِ، يا ابنة الجن؟ طن القرصان مكتئبًا.
- عرفت كما تعرف، كركرت الفتاة الصفراء.
- كما نعرف كلنا في عصر كل شيء نعرفه ونحن نجلس في أماكننا.
- اليوم ليس الأمس.
- أمس كنت أقطع البحار بحثًا عن حدث، واليوم تجيء الأحداث كلها إليّ مباشرة، تلفزيون وإنترنت وتلفون جوال ولست أدري ماذا، فيشيخ الذين هم مثلي في رؤوسهم ويتعبون، المعارك في رؤوسهم والمحن والكوارث، كل الأحداث ليست سارة كما تعلمين، ونحن نعجز عن فعل أي شيء. انتهت عزلة الفرد، وبدأ عجزه، العجز اليوم مرض العصر.
- لهذا تريد تغيير مهنتك.
- عندما نعجز عن تغيير العالم نسعى إلى تغيير أنفسنا ونحن نعلم مسبقًا بفشلنا.
- كمن يسعى إلى حتفه.
- كمن يسعى إلى حتفه بظلفه.
- لكنك لن تكون معلمك، سيكون خادمك معلمك.
- أنت تخطئين تمامًا.
وفي ذات اللحظة، حضر خادم القرصان، وهو يحمل حقائب كثيرة ألقاها أرضًا.
- ثلج أصفر كهذا لم أر في حياتي أبدًا، تنفس بجهد، وامرأة صفراء كهذه تساوي الدنيا وما فيها! ألا تشعرين بالبرد؟ ألا تريدين أن أدفئك؟
انحنى للفتاة الصفراء مبالغًا الانحناء، ثم لفها بذراعيه ليتسافد وإياها، وهي تتركه يفعل.
- وماذا عنه، هذا المغفل الصغير؟ ماذا كتبتَ عنه؟ سأل القرصان الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه ليسفه وجه خادمه، هل خادمي سيمتطيها قبلي؟ يا لعار الكتابة لو تحقق ذلك.
- لماذا لا تترك الأمور تسير على هواها؟
- القوارب لا تسير على هواها.
- الأمور ليست القوارب.
- طالما لم أصبح خمارًا سأبقى بحارًا، ولن تسير الأمور معي على هواها.
- ولأجل خادمك ستبيع كِلية من كليتيك، عادت الفتاة الصفراء إلى القول.
- أبيع كليتي لأجل هذا المغفل الصغير! لنذهب من هنا، أيها المغفل الصغير، قبل أن أبيعني كلي لحب عينيك!
- لم نرتح بعد، يا سيد البحار!
- تعال لتريحني، هكذا نرتاح.
- لم أُنْهِ بعد الكتابة، صاح رجل المسرح دون أن تتوقف أصابعه عن الضرب على الحاسوب.
- لترتاحَ أنت أيضًا.
- راحتي تعبي! ألم تسمع، يا هذا، بشعاري: الكتابة دون عدم الكتابة، عدم النوم!
- ولكننا لسنا كلنا كُتّابًا.
- مماحين، تدخل الخادم، كلنا.
- إذا كنت تحب الرجال، فهذا شأنك، لكنك لا تحب الرجال.
- أحبكِ أنتِ، اهتدى الخادم بهدي كونفوشيوس، وهو يتوجه إلى الفتاة الصفراء، ويطبع على جسدها قُبُلاً لا تعد ولا تحصي، كل الرجال أبيعها لأجل قدمك، كل النساء أعهرها لأجل ثديك.
- ستكون معلم معلمك، اهتزت الجميلة الصينية.
- أوه! معلم معلمي؟ هل تسمع، يا معلمي؟
- هل أقول لك ما سيحصل بعد ذلك؟
- لا تقولي، رجا الخادم شبه غائب، وهو يواصل تقبيل الفتاة الصفراء.
- قولي، بالله عليك أن تقولي، صاح رجل المسرح.
- لنترك ذلك لإرادة الدراما، بسطت الفتاة الصفراء دون اهتمام به، فللدراما إرادة غير إرادتي، وإلا ما كان المسرح مسرحًا.
سحب القرصان خادمه من بين ذراعي الفتاة الصفراء كمن يقص هوامش كتاب.
- هلم بنا! أمر قبل أن يهمز همز الشيطان: تعال قبل النهاية فلا تكون نهاية.
- لكل شيء نهاية، ولكن كيف، طنت القرنفلة الصفراء.
- نهاية الدمامة أو نهاية القداسة، طن ملك المسرح، هذه هي إرادة الدراما كما أفهم، نهاية لا نهاية لها.
- نهاية البطاطا، طن سيد البحر.
- لهذا دومًا ما كنتُ كاتبًا دميمًا حتى النهاية وكاتبًا دنيويًا حتى النهاية، فلا أنا جميل، ولا هو مقدس ما أكتب، فما أكتب يبقى مفتوحًا على العالم، المستبِد كالمستبَد به له عندي مكانٌ ليست ضامِنَهُ المعرفة وإنما الجمال. بقدر ما أكرس القهر وألغي الذات وأقيل العقل بقدر ما أجمّل العِتْق وأؤكد الأنا وألوث الفكر بخراي ليضطر القارئ إلى تنظيفه، هذا هو مكر الكتابة الذي لي.
- ومكر البطاطا؟
- أن تجرع السُّم الزعاف، فتقتلك الكلمات.
- إيديولوجيا الاستبداد.
- إيديولوجيا البطاطا.
- هناك من يتكلم عن نضالية وتقدمية و...
- خرائية.
- هناك من يتكلم عن أرض وصمود و...
- حمص وفول.
- تعال قبل النهاية، أيها المغفل الصغير، قلت لك، صاح القرصان بخادمه، قبل أن يفوت الأوان. آمرك بالمجيء!
- نحن فيها، يا سيد البحر، صاح الخادم بالقرصان.
- فيها ماذا؟
- النهاية.
- جرعنا السُّم الزعاف إذن.
- وقتلتنا الكلمات.
جعله يحمل الحقائب، وراح به سوطًا حتى اختفيا في شارع بيلفيل.
حملت الفتاة الصفراء مسدسها، وتظاهرت بإطلاق النار في رأسها، وفي فمها، وفي قلبها، وفي بطنها، وفي فرجها، خمس طلقات وهمية أطلقت، فسالت من عيني الرجل المحفر الوجه المغبر الشعر الدموع، وهو لا يتوقف عن الكتابة.
- أنتِ أيضًا تريدين أن تقتلك الكلمات؟ لفظ رجل المسرح بصعوبةِ من يعجن الأحلام ويخبز الأماني، اقتليني معك، فلا يكون الأمر ظاهرة عارضة.
- ومن سيبقى للكتابة؟ غطت الفتاة الصفراء الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه بعريها، وهي تلعق دموعه بلسانها.
- لن تبقى الكتابة.
- ستبقى أنتَ.
- وما فائدة أن يبقى الكاتب دون كتابة؟
- إرادة الكتابة.
- إرادة الكتابة عليّ أن أكتب كما كنت "أكتبك" منذ قليل دون اسم مستعار هو الاسم الحقيقي لكل كاتب، بلزاك وهيغو وفلوبير هم بالصدفة هذا أو ذاك، وما يكتبون لا يحدد الكتابة بتحديد ولا يطبعها بطابع، أصولهم ومواضيعهم وشخصياتهم لا علاقة لها بما يكتبون، فكل كتابة هي كتابة ذاتها.
- إرادة الزمن.
- إرادة الزمن عليّ أن أكون كما "كنتك" منذ قليل دون هوية زائفة هي الهوية الحقيقية لكل كاتب، سوفوكل وشكسبير وبيكت هم بالصدفة هذا أو ذاك، وما يكتبون لا يؤرخ الكتابة بتاريخ ولا يربطها برابط، الأحداث والوقائع والتطورات لا علاقة لها بما يكتبون، فكل كتابة هي كتابة تاريخها.
- أنت سوفوكل.
- أنا هو أنا.
- أنت شكسبير.
- أنا هو أنا.
- أنت بيكيت.
- هو هو هو.
- والرواية؟
- الرواية هي الرواية والروايات.
- والقصيدة؟
- القصيدة هي القصيدة والقصائد.
- والمسرحية؟
- المسرحية هي المسرحية والمسرحيات.
- لن أنتحر إذن لأجل أن تكون نفسي، فتغوص في نفسك، وتداوم على ملء المسارح بالمسرحيات. كل شخصياتك أنا، وأنا البطن الذي لا يلد، كل مواضيعك أنا، وأنا الصدر الذي لا يجد، كل الرموز أنا، وأنا الروض الذي لا يعد! أنا سراب الكاتب الحقيقي بكل ما فيه من خلق هو الكذب! أنا نعوظ الكلمات الأخلاقيّ بعد أن أغدو الكاتب والكاتب ساقًا من ساقيّ!
- ولماذا خمس طلقات؟ لماذا؟
- طلقة واحدة لا تكفي.
- لماذا؟
- إرادة الدراما.
- آه! يا إلهي. كيف أستطيع التوقف عن الكتابة لأنقذ ما يمكنني إنقاذه؟
- لن تتوقف ولن تنقذ.
- أنقذك على الأقل.
- بدأ الثلج الأصفر يندف.
- أحلى من الدم هل يوجد؟ الثلج الأصفر. أزكى من الموت هل يوجد؟ الثلج الأصفر.
- يندف.
- الثلج الأصفر.
- انظر من يرسل، الثلج الأصفر.
تقدم الأخوان السياميان، وهما يحاولان أن يلتقطا نَديفات الثلج الأصفر بفمهما، ويكركران خاليا البال.
- هذان سيموت الواحد في سبيل الآخر دون أن يعرف الواحد أو الآخر، خَلّت الفتاة الصفراء المسرحي يعتقد، فعاد يكتب بحمية وابتسامة عريضة تزين ثغره.
- هل هنا الصين؟ خمخم السياميان. نحن لا نرى غير الصينيين في بيلفيل، هذه الفتاة الصفراء، وهذا الكاتب الأصفر، وكل هذا الثلج القادم من شنغهاي.
- من أوسلو، سخرت الصينية الجميلة.
- لم نكن نعلم أنكم وصلتم هناك، قال التوأمان المِسْخان في خمول. منذ متى أنتم في أوسلو؟
- ليس كثيرًا، منذ أكبر هرجة في التاريخ.
- ونجحتم في تحويل ثلجها الأبيض إلى أصفر؟
- عدة أيام تكفينا نحن الصينيين لتحويل كل شيء حتى دم العالم إلى أصفر، ونحن لن نكون رحيمين بغيرنا كغيرنا، سنكون أسوأ الأسوأ. متى ستقطعان وسطيكما الأعليين، يا دين ماو! ألستما على عجلة من أمركما والموت على عجلة من أمره؟
- كائن جهنمي مثلنا أيامه معدودات، نحن نعلم هذا، يستطيع الطب أن ينقذ واحدًا منا، لكننا سنحتال على الطب. سنقطع وسطًا من وسطينا الأعليين من أجل واحد، ونصفًا من وسطنا الأسفل من أجل واحد، فلا يزعل الواحد، ولا يزعل الواحد.
- لا تسخرا بي، رجاء، اندفع الرجل الحكيم وراء خيالاته، قليل من الجد، فكتابتي جادة، درامية، ابنة كلب!
- الواقع، لا أريد الموت، همهم السياميّ الأول، وانفجر باكيًا.
- وأنا شرحه، همهم السياميّ الثاني، وانفجر باكيًا.
وضعت الجميلة الصينية خد كل منهما على ثدي، وهمست في أذن الاثنين:
- الموت جميل، أصفر، رملي، لا ديني، لهذا هو جميل، لِمَ الخوف من الموت إذن وهو جميل، أجمل من الحياة ابنة الكلب هذه؟
- الحقيقة التي لا يعرفها أحد هي أني بدأت بكتابة قصتنا، وأنا أود أن أنهيها، اعترف المِسْخ الأول.
- سينهيها عنك أبو الوجه القَرِفِ ذاك.
- الحقيقة التي لا يعرفها أحد هي أني بدأت بإنفاق ثروتنا، وأنا أود أن أبعثرها، اعترف المِسْخ الثاني.
- سينفقها عنك أبو الشعر الوسخ ذاك.
- وكيف سأعيش دونه؟ بكى السيامي الأول.
- وأنا شرحه، بكى السيامي الثاني.
وبعد قليل:
- أنا دِينُهُ، همهم المِسْخ الأول.
- أنا دَيْنُهُ، همهم المِسْخ الثاني.
- تتساويان ولا تتساويان، همهم القرنفل الأصفر.
- أنا رغبتُهُ، عاد المِسْخ الأول إلى الهمهمة.
- أنا غيرُ رغبتِهِ، عاد المِسْخ الثاني إلى الهمهمة.
- كلاكما التنوع وغير التنوع، عاد القرنفل الأصفر إلى الهمهمة.
- بدايتنا الشر، زفر المِسْخ الأول.
- ونهايتنا الشر، زفر المِسْخ الثاني.
- ما يبدأ بالشر ليس بالضرورة أن ينتهي بالشر، زفرت الفتاة الصفراء.
راحت تلعق دمع الواحد والثاني، قبل أن تصيح برجل المسرح:
- لا تكتب هذا.
- كتبته.
- اشطبه.
- ولكن...
- قلت لك اشطبه.
- وإرادة الدراما؟
- نِكْ أُمَّهَا!
كانت البلاكين والنوافذ والأسطح مليئة بعشرات، بمئات، بآلاف وجوه الصينيين، كانوا يشاهدون ما يجري في شارع بيلفيل كما لو كان خشبة مسرح، والثلج الأصفر لا يتوقف عن الندف: قبلات من بيكين تتطاير على أكف الفضاء قبل أن تَيْنَعَ على الخدود أو الشفاه. جاء سرب الطيور الصفر ذات العيون الأربع، وراح يرفرف كلماتٍ في سماء الزمان قبل أن تورق في الأقلام أو الحاسوبات. رفع الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر رأسه إليها، وابتسم، كان المشهد أعظم من كل دراما، كان دراما الإرادة. القبلات تَيْنَعُ وتغدو غير القبلات، والكلمات تورق وتغدو غير الكلمات. أعطت الفتاة الصفراء مسدسها للسياميين، وكل منهما يريده لنفسه، وطلبت من كاتب المسرح أن يغطيها بمعطفه، وهي تهمهم: "أشعر بالبرد، يا دين ماو!" لم يجدها ليدفئها. قضى كل العمر وحيدًا، لا أحد يدفئ جسده، لا شيء يدفء روحه. "أنا هنا، يا دين ماو!" ودومًا لم يجدها. كان يبحث عن نفسه في قلب وحدته. هل نضج تفاح الانتظار؟ هل تفتح ورد الوهم؟ هل مسحت الأصابع دموع أقاقيا الفشل؟ غارت الهزائم من انتصاراتها، فضاعفت فشله. "ما بك، يا دين ماو!" "لا شيء، أبحث عنك، ولا أجدك." "أنا هنا، يا دين ماو!" جعلته يلمسها، فقال: "هذه مسرحيتي الأخيرة التي لن أكتبها، فما الفائدة؟ كهذا الثلج الأصفر، كهذا الوهم الأصفر، كهذا الشيخ الأحمق. ما الفائدة؟ لا فائدة من ذلك. ستنبت الأشواك على جسدك، فاتركيه عاريًا، وإلا اختنقت الأشواك. اتركيك عارية، ليدفأ البرد. البرد شديد."

* * *

لم تقبل فِن، في البداية، عرض سيانغ، معلمها. تجارة السوجا على الرغم من ربحها الكبير لا تضاهي تجارة الجنس اللطيف. أقنعها: راتب كبير، وسيارة فيراري صفراء، وشقة فخمة في الدائرة السادسة عشرة.
- بيغال، لا أريد أن أسمع به، اشترطت ساحرة الصين.
- لن تسمعي به، وافق المعلم.
- حتى الكول جيرل لا أريد أن أسمع بها.
- لن تسمعي بها.
- سيتم كل شيء عبر إنترنت.
- كل شيء.
- ماذا كنت أريد أن أقول؟
- ماذا؟
- مشروبك الروحي من السوجا ليس بجودة مشروبك الروحي من الرز.
- ليس صحيحًا!
- صحيح.
- يا دين كونفوشيوس!
نهض نهوض البرابرة، وهو يشخر، وأتاها بقنينة. شربت من فمها، وجلست على ركبتيه، فعاد يشخر. أسقته من فم القنينة، ومن فمها لفمه، ومن فمه لفمها أسقتها، فجن جنونه. تركت كيمونوها يسقط، فبهره جمالها الوثني. أخرسه الجيش الأحمر، فطفا بين فخذيها جزيرة من الجزر المتنازع عليها مع اليابان.
نشرت فِن على موقعها صور بناتها في عدة أوضاع ليست مبتذله، وكلهن يصبغن شعرهن باللون الأصفر كعلامة تميزهن، ورفعت الأسعار، فجذبت نخبة باريس.
- الأمور ماشية مليح، همس معلمها، وهما في الفراش، أحسن مما كنت أتوقع.
- ليس هذا لأنها تتعلق بالنكاح، أفهمته فِن.
- وبماذا في رأيك؟ قهقه سيانغ، بقفا كونفوشيوس؟
- بقفاي، خراء!
- ولكن...
- بعقلي، يا دين ماو! بتدبيري، بذكائي!
- أنا لن أخطئ ثانية، كل هذا بفضلك.
- الحمد لقفاي أنك تعترف!
- لكونفوشيوس، الحمد لكونفوشيوس!
- وإذا ما قلت لك إنني أُدخل يدي حتى الكوع في قفا كونفوشيوس!
- قولي لي ما الذي تريدينه، يا فِن.
- سنتقاسم الأرباح.
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآه!
- لا تقل آآآآآآآآآآآآآآآآآآه، كما كانت تقول الغبية أمي!
- آآآآآآآآآآآآآآآآآه!
- وإلا تركتك تخرأ وحدك.
- لن نتقاسم الخراء، صاح ببربرية تاركًا السرير.
- إذن سأتركك تخرأ وحدك.
- لن تتركيني أخرأ وحدي.
- سأتركك.
- لن تتركيني.
- سأتركك، وقفا ماو سأتركك.
- لن تتركيني، وإذا تركتني سترين. هل فهمتِ؟ إذا تركتني أريتك نجوم الليل في طيز النهار. إذا تركتني جعلتك مخرأة لبكين!
- لا تغضب.
- إذا تركتني...
- طيب، طيب.
- إذا تركتني...
- قلت طيب، لا تغضب، لنسوّ الأمر ما بيننا.
- لا أمر نسويه ما بيننا.
- تعال.
- لا.
- تعال.
- لا.
- تعال، خراء!
- لا.
- ماو تسي تونغ، يا شمسنا، يا حُلمنا الذهبيّ... غَنَّت فِن.
بعد محاولة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة وسادسة وسابعة وثامنة وتاسعة وعاشرة، تركته ابنة بكين وحده، واستقلت بموقع لها وببنات لها، بموهبة أقل ما يقال فيها إنها شاعرة. ولأنه لم يعرف كيف يتصرف، قلب كل شيء رأسًا على عقب. بعد الضرب والشتم، أرغم بناته على العمل في بيغال، لكنهن فررن واحدة تلو واحدة، ووجد نفسه يخرأ بالفعل وحده، فعزم على قتلها.


* يتبع القسم الحادي عشر والأخير