وصول غودو القسم التاسع نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4385 - 2014 / 3 / 6 - 09:53
المحور: الارشيف الماركسي     

في محطة الشمال، لم يكن أخذ القطار مجرد أخذ القطار، ولم يكن النزول منه مجرد النزول منه، كان المرء في محطة الشمال يقوم بفعل يتجاوز الفعل الخاص، يجاور الأفعال الأخرى، يدور حولها، يملأها أو يمتلئ بها، ويكون فيها خدشًا كخدش المخلب أو يحفر فيها عميقًا عمق البراكين في أعماق البحار، ليسيطر على الكون، ليغزو العالم. وكان المرء في محطة الشمال بفعله اللايذكر يستطيع أن يهدم الجبال، ويسقط العروش، ويغير مجرى الأنهار. كل تواريخ البشر صُنعت في محطة الشمال، كل قصص الشياطين، كل رسائل الأنبياء. كل المعاهدات وُقعت في محطة الشمال، كل الدساتير كُتبت، كل القوانين سُنت. كل الأحلام تحققت في محطة الشمال، كل الكوابيس، كل الأوهام الجميلة منها والمهلكة. كل النيران اشتعلت في محطة الشمال، كل القلوب، كل النفوس السَّنِيَّة منها والدَّنِيَّة. كل الحُرُمات انتُهكت، كل العذراوات افتُضت، كل الرغبات اغتيلت، ونهضت بعد أن سقطت في الأقاقيا والموت، لتتحقق أو من جديدٍ لتُغتال. لم تكن محطة الشمال حركة التاريخ، كانت التاريخ، التاريخ بكل ما فيه، التاريخ بأسوده وأبيضه، التاريخ بأحمره وأسمره، التاريخ بأصفره وأصفره، التاريخ بفضته وذهبه، التاريخ برماده وغباره ووحله وصخره وقيئه وقيحه وبرقه ورعده وزلزاله وبركانه، حامض بركانه، وشمسه وقمره، ونهاره وليله، بل ولياليه. كانت محطة الشمال التاريخ، وأنا كنت فيها لئلا يعيق أحدهم حركة التاريخ. وعندما رأيت نابليون على رأس كوكبة من الفرسان يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف، لأن امرأة مَعْراء الناصية في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى تعيق تقدم الإمبراطور، كان عليّ أن أفعل شيئًا. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون، وهتلر على رأس وحدة من الدبابات المصفحة يتقدم في محطة الشمال، ويتوقف من وراء نابليون. كان الزمن يجري بسرعة في محطة الشمال، السنون بثوان، القرون بدقائق، والحال هذه، لم تمهلني حركة التاريخ أكثر مما أمهلتني لأُبْعِدَ المرأة بحقائبها وأشيائها وظلالها، وأعيد للتاريخ حركة التاريخ. لم تكن حركة التاريخ لتنتظر أكثر مما انتظرت من وراء نابليون وهتلر، وأسد على رأس موكب من السيارات الليموزينية يتقدم في محطة الشمال. توقف التاريخ بعد أسد، وكان عليّ أن أتصرف بسرعة. وأنا ألتفت من حولي، وقعت على عازف غيتار شاب، يغني بصوت شُحْرور النار الذي له. توقف عن العزف والغناء، وأخذ يتابع بنظره ما سأفعل. بدا منحرف المزاج، علامة موسيقية مُحرّفة. أشرت إليه بالمجيء بسرعة، فجاء بأقصى سرعة يقدر عليها. وضعت في يده ورقة نقد كبيرة، ففتح عليها عينيه واسعاً، ثم ثانية أقل كبرًا بعد أن سحبت الأولى، ثم ثالثة أقل أقل كبرًا بعد أن سحبت الثانية. أشرت إلى المرأة، ففهم أن عليه من أجل فتح الطريق أمام التاريخ في محطة الشمال التخلص منها. رماها هي وأغراضها في عربة، ودفعها ليلقي بها في المُحرقة. عندئذ، تحرك العظماء الثلاثة، وواصل التاريخ حركته.
ومن التاريخ إلى تواريخنا ذهبتُ، فلكلنا التاريخ في محطة الشمال، ولكل منا تاريخه. وجدتني وجهًا لوجه مع أم بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين، والطفلة شبه غائبة عن الوعي. "ابنتي لا تحتمل السفر في القطار"، قالت الأم. كانت تكذب. كان السبب الأم. أم لا تطيق الحيوية الطفلية. ابنتها كانت عفريتة من العفاريت الصغار، وهي، الأم، ذات طبيعة حَسَّاسية، طبيعة وهابية، طبيعة ترهبنية. كلما أرادت ابنتها اللعب والتحرك في كل الاتجاهات كانت تضربها. ضُربت البنت إذن حتى أغمي عليها، فخلصتُها إياها. كان علي أن أحررها. خلصتُها إياها على الرغم من صراخها واحتجاجها الذي لم يثر اهتمام القادمين، وجعلتُ الصغيرة تجري كما يشاء لها التاريخ بين أقدامهم. "انتظري، لا تبتعدي، تعالي إلى ذراعي ماما، انتظري، انتظري، رددت الأم، يا دين الكلب!" وهي لا تستطيع اللحاق بابنتها. كانت كل الحكايات تركض معها، كل الهدايا، كل الفساتين. بعد قليل، لم أعد أراها، لم أعد أسمع صوتها. ترادفيًا، لفت انتباهي رجل وامرأة شديدا التجهم إليهما، كلاهما على خطأ، قلت لنفسي، الشر والشر، العقرب والعقرب، السيف والثدي. إذا أنهى أحد الشابين، الأول أسود والثاني أبيض، لونان هما في الباطن واحد وفي الظاهر اثنان، لعبة الشطرنج بين أيدي الملوك، تغلب الرجل على المرأة أو المرأة على الرجل، التاريخ لا يمزح. كيلا يتغلب أحدهما على الآخر، كان على الشابين أن يربحا كلاهما، فما العمل كي يربح كلاهما؟ إذن لتستمر اللعبة إلى أجل غير مسمى أو لتتوقف. في تلك اللحظة، قَلَبَتْ مجموعة صاخبة من الشبان والشابات رقعة الشطرنج بأقدامها، فخسر الاثنان. هذا أسهل أن يخسر الخصمان. نظرتُ إلى الرجل والمرأة، لم يكن لا الواحد ولا الآخر هناك. جرفتهما حركة التاريخ. بحثت عنهما بعينيّ إلى أن وقعت عليهما، لم يكونا معًا، كان كل منهما في ناحية من نواحي محطة الشمال. في العزلة اللاعزلة، بين المناقير الأفواه. من أمامي، بدت لي ماري أنطوانيت، وهي تخلع حرائرها، ومن ورائي، وصلتني صرخات راهبة حبلى تضرب بقبضتها بطنها تريد الإجهاض، فأمسكت بها، "سأعاونك، قلت لها، ولكن لماذا تريدين التخلص من الجنين؟ لأنك راهبة؟" "بالطبع لا، أجابت الراهبة الحبلى، لأني امرأة." "ظننت لأنه اختار قدره، الجنين، قلت، ولأن ذلك غَضَبٌ منك عليه بعد أن اختار مصيره الذي يريده هو لا الذي تريدينه أنت." "سأحكي لك حكايته، هذا الجنين المومس، قالت الراهبة، حكاية أبدًا لم يسمع بها التاريخ، فهي لا شأن لها ككل حكاياتنا." "احكي"، قلت. "قبل أن أرتدي هذا الثوب، كنت حُبلى، إلى اليوم لست أدري ممن، زوج أمي؟ جارنا؟ سائق التاكسي الذي حملني ذات مرة على الساعة الثالثة والنصف صباحًا؟ جزارنا؟ موزع بريدنا؟ بائع الورد؟ كنت حُبلى، فأصرت أمي رئيسة الدير على الإجهاض، إجهاض كانت ترفضه للعاديات اللواتي يرتكبن هذا الخطأ الصغير. أيدتها كل أخواتي، ولم تقف واحدة إلى جانبي. تخلى الدير عني، فقلت أذهب إلى الحانة. رفض كل من أعرف ومن لا أعرف أن يكون أبًا للطفل، تخلت الحانة عني، فقررت عند ذلك الاحتفاظ به." "ولماذا إذن تريدين إسقاطه؟" سألت دَهِشًا. "لأني أضعت الفرصة"، أجابت دَهِشَةً من دهشتي. "فرصة ماذا؟" نرفزتُ. "ألا أكون حُبلى!" نَرْفَزَتْ لنرفزتي. وبعد عدة ثوان: "بعد ذلك، مرة ثانية، سأضيع الفرصة، هكذا هي حياتي، جملة من الفرص الضائعة."
رأيت نجيمة سينمائية تتقدم مع القادمين بخطوات عازمة، رأيت ساقيها البيضاوين في بنطال لصوق ممزق ألصقته بصبغ الأظافر، رأيت صدرها الناهد من تحت صدارة قطنية تكمشت وتقلصت، رأيت حذاءها الزهري الأهوج المثقوب، رأيت حقيبتها البلاستيكية العدمية المرقعة، رأيت حياتها المهترئة المبتدَعة المبتدِعة، رأيت بطنها المترهل على حواف أقداح الشمبانيا، رأيت وركيها اللذين انتحر عليهما فان غوغ، كل النساء الخرافيات رأيت مع اهتزاز ردفيها، رأيت ظهرها المُعطى لأبواب الكباريهات، لأبواب البيوت المغلقة، لأبواب بيوت الله، رأيت ظلها ظل كل النساء العاريات في أحضان حقول الموز، رأيت الجمال يذرف الدمع في سوق الأربعاء، والجنس يشعل النار في ملعب فرنسا، والبنك يتقيأ المال في الطاحونة الحمراء. كانت تتقدم بخطوات عازمة، كجملة من الفرص الضائعة، وهي تمد إصبعها إلى هذا أو ذاك ثم تشير إلى نفسها، كمن تريد القول لمعجبين افتراضيين، ها أنا ذا، كانت تتقدم بخطوات عازمة على هامش التاريخ، على هامش التاريخ كانت تتقدم، ها أنا ذا، ها أنا ذا، والتاريخ ينظر إليها باحترام، ها أنا ذا، ها أنا ذا، ها أنا ذا، هامشٌ دونها لن يكون للتاريخ، لن يكون التاريخ.
وفي الهامش غالبًا ما يمضي الفاجع دون أن نشعر به، كلعبة يمضي، يمضي الفاجع كلعبة، ومعه استحالة السلب والإيجاب في وقت واحد، لتغدو أعمارنا ساحة مفتوحة على كل شيء، على كل شيء: "لماذا لم تأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي؟" سألت الأم مع مزيج من الخراء والدم المتخثرين. كانت الأم بصحبة ابنها السمين جدًا، السمين جدًا جدًا، السمين بسمن الفيل. فتحت حقيبتها أول ما وجدت مقعدًا، حقيبة ملأى بالساندويتشات، وجعلت ابنها يأكل. "ستأكل كل هذا، يا حبيبي"، قالت الأم وكأنها تسلم مدينة للنهب. "سآكل كل هذا، يا ماما"، قال الابن وهو يسلم أمره لله. "ستأكل كل هذا، كل هذا، يا حبيبي"، قالت الأم. "سآكل كل هذا، كل هذا، يا ماما"، قال الابن. "ستأكل كما يوجب الأكل، يا حبيبي." "سآكل كما يوجب الأكل، يا ماما." "ستأكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا حبيبي." "سآكل كل هذا، كل هذا، كل هذا، يا ماما." "ستأكل إلى أن تشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تصرخ من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أصرخ من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما." "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن أموت أموت أموت أموت من الشبع، يا ماما." بدأ الابن يغتصّ. "ستأكل إلى أن تموت تموت تموت تموت تموت من الشبع، يا حبيبي." "سآكل إلى أن.. عاد الابن يغتصّ، إلى أن أموت، يغتصّ، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، أموت، أموت، أموت، أموت، أموت، يغتصّ، يغتصّ، يغتصّ..." حملته أمه، فوقعت به على الأرض، وأخذت تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." رفعته، فوقعت على جانبها الأيمن، وهو فوقها، وهي تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." رفعته، فوقعت على جانبها الأيسر، وهو فوقها، وهي تقهقه. "أنت تضحكني، يا حبيبي." عرفت فجأة أنه مات بالفعل، فدفعته بعيدًا، وهي تقف دفعة واحدة على قدميها، وتصرخ بهستيرية.
في محطة الشمال، لم يكن الاستقبال سهلاً كما يبدو، لم يكن كل المنتظرين لغيرهم فرحين بلقائهم، كان منهم الفَرِح، وكان منهم التَّعِس، وكان منهم لا الفَرِح ولا التَّعِس، كانوا وجوهًا للتاريخ، فللتاريخ أقاقيانا. من المنتظرين الفرحين، رأيت مجموعة من الرهبان، وهم يستقبلون الراهبة الحبلى المرتدية لثياب البابا كالربة على درب التبانة، كانت تتقدم، والرهبان يقبلون يديها، وبعضهم قدميها، ويرمون بأجسادهم على الأرض من أمامها رمي روما على الصليب لتطأها، لتفتحها، لتدخل فيها بكل جسدها، لتأخذ مكانًا بين أمعائها، في أمعائها، في خراها، والمسيح يضحك عليهم كمن يقول لا أجد شيئًا أشتهيه. ومن المنتظرين التعسين، رأيت شابًا في بدلة سوداء مخططة يغطي رأسه بقبعة سوداء حريرية، وهو عابس عبوس شيخ أضاع حياته، مرت به أجمل الفتيات وأجمل الفتيان، وهو دومًا عابس، دومًا يرصد القادم التالي، دومًا يرصد الوهم، دومًا يرصد العناء، الممكن المستحيل، أن تكون لبرج إيفل قدمان صغيرتان، لقوس النصر جناحان قويان، لبيغال فرجٌ حنون، فيطارد الأمل اليائس. ومن المنتظرين لا الفرحين ولا التعسين كان بعض نزلاء الفنادق المجهولين، وقطاع الطرق، ونجوم ما بعد الظهيرة. رأيت أحدهم يبحث عن وكيل فندقه، كل وكلاء الفنادق كانوا هناك، وكانوا يرفعون لوحات كتبوا عليها أسماء نزلائهم. لما رآني النزيل المجهول أنظر إليه، جاءني يسأل إذا ما كنت وكيل فندقه، فأجبت بالنفي. رسم الرجل ابتسامة طفيفة على شفتيه، وقال آه! سألته عن اسم الفندق، كان لا يعرف. عن الدائرة التي فيها الفندق، كان لا يعرف. إذا ما كان يعرف أحدًا يمكن الاتصال به، كان لا يعرف. رسمت ابتسامة طفيفة على شفتيّ، وقلت آه! تركني، وراح يقرأ الأسماء على اللوحات المرفوعة، الشيء الذي فعله أكثر من مرة. قام بدورة، ثم عاد، وعاد يسألني إذا ما كنت وكيل فندقه. أعطيته ظهري، وتركته يلغ في أقاقيا محنته، لأضيق عليه الخناق، فيجد مكانه بين من لا مكان له على بطن تاريخ ضامه حقه.
في محطة الشمال، كان مكبر الصوت جزءًا من أوركسترا صخب عام لم يكن صخب المعارك ولا صخب البورصات، لا يلبث المرء أن يعتاده. أما ما لا يعتاده المرء أبدًا، فهو صمت مكبر الصوت المفاجئ، الصمت الذي يطول، والذي يغدو مقلقًا لأنه يطول على غير العادة، ولأن المحطة تتحول إلى مقبرة فرعونية، صمت يصل إلى حد القداسة، صمت مرهب، ثقيل، يشعر المرء بضغطه على صدره وكل عمره وكل كِيانه، صمت يلبس المرء، يلبس الكون، يلبس التاريخ. عند ذلك، كان المرء يبحث عن البديل المُرغِب، بديل الصخب في هذا الصمت المُرهِب، فلا يجد من بديل، كل شيء يضغط عليه الصمتُ بثقله الطام، فيأخذ المرء بالتحايل على وضع اضطر إليه اضطرارًا، بالتمثل، لأجل الاحتمال، احتمال الصمت المطبق وثقل الصمت الطام، بالاستيعاب، استيعاب ما لا يُستوعب واحتمال ما لا يُحتمل، أن يطلب المرء فنجان قهوة لا يشربه، أو يشتري جريدة لا يقرأها، أن ينظر إلى امرأة ويغمزها، هكذا، يغمزها، كل هذه احتمالات لاحتمال الصمت المفاجئ والطويل لمحطة حمص الفرنسية. صمت التاريخ. وما تم أمام عينيّ يمس في الصميم، فتى وفتاة كانا يجلسان حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا أمامهما، كان يبدو عليهما أنهما يتحابان، وبدافع الصمت المُرهِب لمحطة الشمال، دفع أحدهما الآخر عنه بعيدًا، وهما يقلبان الطاولة، وذهب كل منهما إلى باب من أبواب المحطة. أسعدني الأمر كثيرًا، كان في المشهد انفعالية تراجيدية أدت إلى الحسم الأرسطوطالي، القطع في اللحظة المناسبة، والانتصار للّحظة الفاجعة، للعاطفة المدمرة. بعد صمت التاريخ، الصمت التاريخي. حتى طبيب الأسنان الذي كان يقيم عيادته غير بعيد من هناك كان يقاوم الصمت على طريقته، فيقلع بأسنانه الذئبية فك المريض، حتى أحد الكتاب الذين يبيعون كتبهم لمن لا يشتريها كان يتحدى الصمت بتلاوة كتبه بصوت عال، حتى القروش الصغيرة في حوضها كانت تنشج وتعلي العويل على سمكة أكلتها. مقاومة الاستعمار الشخصي، مقاومة قوة الصمت بقوة الصمت، الصمت التاريخي بالصمت الفردي. وقفت فتاتان مترددتان على باب المحطة، وصرحُ الصمت يحول دون دخولهما، بكيتا، وقبّلتا بعضهما من الثغر قُبُلاً عديدة، ثم سحبت كل منهما حقيبتها، وعادتا من حيث جاءتا، إلى نقطة معلومة في أرشيفات الكره والحب، الحرب والسلم، الكبابيد وأقلام الحُمرة.
وفي الصمت المهيمن الصمت المُرهِب الصمت المُهلِك، مر رجال المطافئ من أمامي، وهم يحملون على نقالتهم كرة رغبي. كانوا شديدي الحزن، أكثر حزنًا من رف من الكتب الصفراء، وكان بعض الموجودين في محطة الشمال شديدي التأثر، أكثر تأثرًا من لف من الأعلام المنكسة، وليخفف ناقل الحقائب قليلاً من ثقل الجو، أخذ يقود عرباته بعيدًا عن الممر المخصص لذلك، أخذ يقودها بيننا، نحن الحزانى، لتكون للتاريخ لحظات حزنه وأبدًا لحظات فرحه، كيلا يتوقف عن إطلاق النفير المتواصل منذ نابليون، منذ الحرب العالمية الثانية، منذ تدمير حمص وحلب وباقي مدن الأحلام، منذ التشذيب الأخير لأشجار الكستناء في حدائق التويلري. "ابْتَسِمْ!" صاح ناقل الحقائب، وهو يمضي إلى جانب شيخ عجوز كان يجلس على حقيبته ويبكي.
لفت انتباهي إليه شاب جاء عنيفًا، وبشكل فظ أراد أن يأخذ مكانه على عجلة التاريخ، مكان مُقعد في عربة. "ادفع"، قال للمُقعد، وهو يقذف حقيبته أرضًا. حمل المُقعد الحقيبة بيد، وبيد أخذ يدفع العربة، وهو يعرج، ويتقدم بصعوبة. "لا يسافر قطاري الآن، يا جان"، قال المُقعد. "ادفع قلت لك، ادفع"، أمر الشاب. دفع المُقعد. "أقوى، أقوى"، ردد الشاب، والمُقعد يدفع، والشاب يقلد بذراعيه عبور الطائرة، وبلسانه صوتها، "ووو... وووووو..." غير مبال بالناس، والناس يبتعدون، ويخلون المكان للعربة. "ادفع، ادفع، ووو... وووووو... ادفع." سقطت الحقيبة من يد المُقعد، فتوقف ليأتي بها، والشاب يداوم على القول "ادفع، عجل، عجل، ووو... وووووو..." إلى أن وجدا نفسيهما قرب قطار سيأخذه المُقعد. فحص الشاب لوحة الذهاب. "لم يبق سوى بضع دقائق لا كما قلتَ، أيها العجوز المغناج"، صاح الشاب بالمُقعد بعنف، ونهض جاذبًا من يده الحقيبة، ثم ذهب يجري. تسلق القطار، وما لبث القطار أن قام، والمُقعد يقف في مكانه ساكنًا ساكتًا غير مدرك لما يجري. "طاووس، همهم المُقعد، هناك."
هذا هو، أن لا ندرك ما يجري من أحداث، أو أن ندرك ما ندرك بقوة الأشياء. لم يكن هناك أحد من المسافرين على شبابيك بيع التذاكر بعد أن أخذوا يشترونها على إنترنت، رأيت الموظفين، وهم يتسلون ما بينهم، كانوا يتمازحون، يأكلون، يعلكون، يركضون من وراء أنفسهم ليمسك الرجال بأكفال النساء. كانت تلك مرحلة قبل مرحلة، مرحلة بعد مرحلة، من تاريخهم، تاريخهم الشخصي، تاريخهم الشخصي جدًا، من حياتهم، فحياتهم شمعة تحترق على مراحل بعد أن اشتعلت في بكين، أمواج تذوب على الشاطئ بالتتالي بعد أن جاءت من أعماق المحيط، هكذا يموت المرء لتموت الطبيعة في جزء منها، إلى أن تموت، وينتهي التاريخ، إلى الأبد، ليبدأ تاريخ الأقاقيا من جديد. وكذلك كان الأمر مع ماكينات تبديل النقود، كانت هذه الماكينات تعاني من حدة البطالة بسبب الأزمة، الأزمة المالية، الأزمة الحياتية، أزمة الكائنات، أزمة الكون، أزماته، أقاقياته الحمراء، حُمَيْراءاته، رماناته، العقيق، الأناشيد. في حمص. في شنغهاي. في باريس. لم يعد رجال الشرطة يمرون من أمامها، لم يعد ما يستوجب الحراسة، اطمأن التاريخ على أمنه، ولم تعد له حاجة إلى حرس شخصي. جاء أحد المتسولين العابرين سبيلهم، وفتح إحداها، أدخل يده فيها، ولم يفعل سوى مسح الغبار.
غبار. التاريخ غبار. رأس المال غبار. البشر غبار. حتى الصور الجميلة. الصور غبار. رفعت رأسًا مفعمًا بالغبار صوب إعلان كبير كجدار لفتاة يطير فستانها وشعرها في زوبعة من الغبار، وفي غبار الصمت السائد، لم يشدني شعرها، لم تثرني ساقاها. كانت لها ساقان من غبار، والاستثمار الذي يدعو إليه البنك صاحب الإعلان خلال أزمة كهذه يبدو نكتة سمجة، نكتة من غبار. أنزلت عينيّ لأقع على مجموعة من الإنجليزيات اللواتي بَدَوْنَ ساذجات إلى حد الإهانة، إلى حد الغبار. كان النمش لا يزحف على وجوههن البيضاء زحف النمل المدغدغ للذات وللكِيان، كان النمل يموت على خدودهن، ويتساقط على حلماتهن الصغيرة، فلا يعضها، يتساقط كالغبار.
لم تغادر خيالي صورة النمل الميت المتساقط على الحلمات الصغيرة كالغبار، كانت في الأمر مأساة. سيكوباتية. تجنبت الغوص في متاهات فرويدية، ومشيت صوب هرم رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، ككل الأهرامات. هرم من حجر لا من غبار. وأنا أتأمله بعين الإعجاب، جاءني من داخله صوت: الرحمة، الرحمة... أدخلت رأسي، فإذا برجل عاري الصدر يجثم عليه عُقاب دموي، وبمخالبه يحاول انتزاع قلبه دون أن ينجح. الرحمة، الرحمة... ظننت أنه يرمي إلى التخلص من العُقاب الدموي. إنه سرطاني الذي لا يريد القضاء عليّ، أوضح الرجل، سرطان رئتي. وعاد يطلب: الرحمة، الرحمة... بسطت كفي، وخنقته.
كان عليّ أن أفعل ذلك، ولأول مرة في حياتي شعرت بالارتياح. كنت خارج التاريخ، خارج الوقت، خارج كل إرادة غير إرادتي، خارج الغبار. كانت إرادتي مجرمة، لكني كنت أشعر بالارتياح. كل الأقاقيا المسفوحة في أوسترليتز كانت إرادتي، لكني كنت أشعر بالارتياح، بالإصغاء، بالإصغاء إلى نفسي، بالإصغاء إلى غيري. أصغيت إلى فتى أصفر البشرة، وهو يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فقال المراقب إن القطار قد أقلع. ابتسم الفتى الأصفر، وقال إنه سيأخذ قطارًا آخر، فلم يفهم المراقب، تركه، وتابع طريقه. "إلى نفس الوجهة، ليس هناك قطار آخر"، قالت فتاة صفراء للفتى الأصفر. واصل الفتى الأصفر الابتسام، "الوجهة لا تهمني"، قال. فكرت الفتاة الصفراء قليلاً ثم انفجرت ضاحكة، وراحت تنحني للفتى الأصفر، والفتى الأصفر ينحني لها، وهما يبالغان في الانحناء، فيبين المسدس المعقود بزنار تحت صِدارتهما. "الجزائر، تدخلت قائلاً للفتى الأصفر، أفضل وجهة لك الجزائر، أو المغرب، أو تونس، مخرآت بحق." "مخرآت أو غيره، هذا البلد أو غيره"، رد ابن الصين ضاحكًا. "إذن الجزائر، اخترت عنه." "ولكن... لا قطار للجزائر في محطة الشمال"، قالت الفتاة الصفراء. أخرجت محفظتي: "سأدفع له تاكسي إلى أورلي." نقلت بين إصبعين ورقة نقدية ذات مائة يورو، وقدمتها لساحرة الصين. "أركبيه، طلبت إليها، وسأبقى بانتظارك." مدت يدها لتأخذ المائة يورو، فسحبت يدي، واخترت ورقة نقدية ذات خمسين يورو، فأخرى ذات عشرين، فأخيرة ذات عشرة، لكنها اختطفت ذات الخمسين، واختفت مع الفتى الأصفر بين جذوع الناس.
بعد قليل، جاءتني ابنة بكين، وهي تبتسم، وتنحني بإجلال كونفوشيوسي، وتضع ورقتين نقديتين بعشرة يوروهات الواحدة في يدي موضحةً: "جعلته يأخذ الحافلة." ابتسمتُ لتواطئها، وأرحتُ المال في محفظتي. "الوجهة، لا تهمه، قالت الفتاة الصفراء، ما يهمه هو المكان أيًا كان." "كانت الوجهة لا تهمه"، صححتُ. "قدرت على التدخل اليوم، علقت الفتاة الصفراء، ولن تقدر على التدخل غدًا، فالتنين الأصفر سيلتهم العالم برمته. هذا قدر كل حضارة منبثقة، كل الحضارات التي انبثقت عبر التاريخ كان هذا قدرها." "صحيح ما تقولين، قلتُ، لكن حضارتنا لا قدر لها، كانت فوق كل الحضارات وستكون." فكرت الفتاة الصفراء قليلاً، ثم انفجرت ضاحكة. انحنت لي، وسحبتني من يدي كما تسحب حقيبة ملأى بالأفكار والمشاريع. ذهبت بي حتى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة، ومنه إلى منفذ جانبي من وراء كل القطارات. كان هناك مركز للشرطة، كل الشرطة فيه من الصُّفر، وكانت هناك بعض المكاتب المفتوحة، في واحد فتاة هندية ترتدي الساري، وفي ثان فتاة برازيلية ترتدي البكيني، وفي ثالث فتاة سعودية ترتدي الحجاب. كانت الفتاة الصفراء تحيي كل واحدة منهن بلغتها، وكل واحدة منهن تجيبها باللغة الصينية، ما أن أدرن لها ظهورهن حتى رفعت مسدسها، وأردتهن قتيلات. "لم تسألني لماذا؟" قالت. "أعرف، قلتُ، ليذكرك الناس." ضحكنا نحن الاثنان غير عابئين، وعادت ساحرة الصين تسحبني، وأنا أتبع من ورائها، أو أسحبها، وهي تتبع من ورائي، إلى أن دخلنا منطقة كلها خطوط سكك حديدية، وهنا وهناك قطارات قديمة محطمة أو مهجورة، كانت مقبرة القطارات. انبثق من وسطها حصان أسود يركبه قرصان أعمى يضع على عينه عُصابة سوداء، ويحمل بيده سوطًا، وبحبلٍ يعقدُ ظهره بظهر خادم بوزرة بيضاء كان يتدلى برأسه المهتز مع مشية الحصان نائمًا، ومن فترة إلى أخرى كان القرصان يضرب الهواء بسوطه دون أن يفوه بكلمة واحدة. سَأَلَتِ الفتاةُ الصفراء إلى أين هما ذاهبان هكذا، فلم يجب لا الواحد ولا الآخر، مما جعلني أنبر: "أجيبا، إلى أين أنتما ذاهبان هكذا، يا دين الرب!" شرح القرصان أنه أعمى، وأن هذا المربوط على ظهره خادمه، وهما بعد أن لفا الدنيا بحثًا عن الإنسانية دون أن يجداها، تركا أمرهما للحصان يقودهما إلى حيث يشاء، لم يعد يشغل بالهما شيء، وكل بالهما يشغله الحصان، هيمن الحصان على روحهما، وصار الإرادة، القوة، القدر الإلهي. "الإنسانية، هي هذه المرأة"، قلت. "هراء! قال، هذه عاهرة من عاهرات مقهى التجارة." "ولكني الإنسانية"، احتجت صفراء بكين. "ما لونك أيتها الإنسانية؟" سأل القرصان. "أصفر"، أجابت مرافقتي. "إذا كانت الإنسانية صفراء كشُعرة أمي المُحنّاة، فأنا لا أريدها، رمى رجل البحر، أريد الروح الشرير، ولا أريدها." "وإذا ما قلت لك إن الروح الشرير لا يريدك، فماذا تقول؟" رميتُ. "على قفاي، هذا ما أقول." "لا تكن ثقيل الروح!" "واحد لا روح فيه مثلي..." رفع عن عينه الميتة العُصابة السوداء، وتظاهر بالنظر إلى كل الأرجاء، ثم طبطب على عنق الحيوان ليتابع بهما التجوال على هواه. سار الحصان قليلاً، فضرب القرصان الهواء بسوطه، والخادم دائمًا لا يتحرك، ويهتز مع حركة الحصان. "لا يفكر إلا في النوم، قال القرصان، فهو لم ينم منذ أكثر من مائة وتسعة وتسعين عام. مائة وتسعة وتسعون عام شيء كثير، كثير جدًا، كثير جدًا جدًا، كثير جدًا جدًا جدًا"، علق القرصان، وكأنه يعتذر لنا، قبل أن يبتعد.
رأينا، أنا وساحرة الصين في سيارة فيراري صفراء، توأمين سياميين برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، وهما في أبهى الحلل. "لم أحضر الحبل، اعتذرت الفتاة الصفراء قبل أن تشير إليّ، أنسانيه إياه هذه المرة"، فقهقه التوأمان السياميان، وابنة بكين تغمزني، وبابتسامتها تسحرني، وبجسدها تميل عليّ. "هذا ما نرى، ولا مُشاحّة"، قال المشوهان. "تُضرم لي القلب"، اعترفتُ. "يُضعضعني كجيش"، اعترفتْ. "لا يضاهيكما أحد"، اعترف السياميان. "من ناحية، أضاف المِسْخان، ومن ناحية أخرى، أنتما تهضماننا حقنا." "لا تفوها بهفوات"، وبختهما ساحرة الصين. "هذا لأنهما على وتيرة واحدة، هما، ونحن، نحن على وتيرة واحدة"، حاولتُ أن أبرر. "الآن وأنتما لديكما الفيراري، أنتما لن تتوقفا عن محاولات الانتحار"، أنذرتهما الفتاة الصفراء. "من الجنون ألا ينتحرا"، أيدتها. أوضحا أن الانتحار ليس المشكلة وإنما الانتظار. الحبل ليس المشكلة وإنما الشجرة. شجرة الانتحار كما قالا. شجرة الانتظار. انتظار من سيعينهم على الانتحار. خرجا من السيارة الأسطورية، وراحا يسقيان شجرة يافعة. "انتظار أن تكبر هذه الشجرة التي سنتعلق عليها بعنقينا أمر لا يطاق"، قال التوأمان السياميان. الفيراري لهذا السبب، لتزجية الوقت، لأنهما سينتظران على أي حال، وهما سينتظران، سينتظران إلى الأبد لو يلزم.
ما أن قطعنا، أنا وساحرة الصين، خطوط السكك الحديدية حتى وجدنا نفسينا في عربة معلقة بين أرض وسماء. نظرنا من النافذة، فرأينا رجلاً أرمد الشعر بوجه تملأه الغضون يجلس على كرسي يُطوى، ويكتب على حاسوب من وراء طاولة تُطوى. رفع رأسه إلينا، وابتسم. كان يكتب، ويتحقق في الوقت ذاته كل ما يكتب. كتب أننا، أنا والفتاة الصفراء، في عربة معلقة، لهذا كنا في عربة معلقة. ابتسم بخبث، وكتب أننا نُقَبِّلُ بعضنا، أنا والفتاة الصفراء، فقبلنا بعضنا. شطب بسرعة ما كتب، فابتعدنا عن بعضنا بسرعة، أنا والفتاة الصفراء، وكتب أنني رفعت ثوبها حتى خاصرتيها، وحاولت تمزيق بنطالها القصير، فصفعتني بقوة أوقفتني عند حدي، وكل هذا وقع كما كتب، وهو يضحك مرددًا: "قحبة! قحبة!" رجوته ألا يكون قاسيًا معنا، لأننا متفقان على كل شيء، لكنه كان يريد أن يتسلى. "تسلى كبالغ لا كطفل"، قلت له. "نعم كبالغ، أيدتني الفتاة الصفراء، وفي المرة القادمة اتركه يمزق بنطالي القصير، ويمزقني، الحياة معركة." ضحك الرجل ذو الشعر الأرمد والوجه المتغضن، وكتب لتلتقمه من رجولته، ففعلت الشيطانة العنبرية، لكنه بسرعة شطب ما كتب، فقطع عليها رغبتها وعليَ. "إنساني جدًا"، همهم الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه. كتب لتُلقمه ثديها، ففعلت الفتاة، وبسرعة شطب ما كتب، وهو يهمهم "إنساني جدًا، إنساني جدًا." كتب ليأخذها من ظهرها، ففعلتُ، وهو ينظر إلينا هذه المرة بنفس كارهة للدنيا، ويهمهم "إنساني جدًا، إنساني جدًا، إنساني جدًا." أغمض عينيه، ثم فتحهما، وعاد ينظر إلينا باشمئزاز. نفخ : "الحياة ماخور! ليذهبا عني إلى الجحيم"، كتب، وعندما رآنا على وشك الدخول في الجحيم، والاحتراق كالملعونين، شطب ما كتبه بسرعة، وأنقذنا. "التاريخ ماخور!" لم تعد تضحكه حالتنا، بدا عليه الضجر منا لا من الكتابة، كانت الكتابة كل حياته. "التاريخ كالحياة ماخور!" جعلنا نغادر المكان، وراح يفكر في مسرحيته القادمة.
أخذتني ابنة بكين إلى قطار مهجور حولته إلى صالون خيالي من صالونات الصين القديمة بهرني كل شيء فيه يمثل الإمبراطورية، الأسرّة الستائر اللوحات الدواشك السجاجيد الصواني الأعواد القَصعات السيوف القناديل الفراشات الساعات الرملية الطائرات الورقية التنينات التنينات التنينات التنينات التنينات، التنينات التي تبتسم وتفتح فمها وتكاد تنطق. قالت إنها ستُرضع طفلها، وبعد ذلك ستُعنى بي. نادت عليه، وهي تكشف عن ثديها، فجاء شيخ صيني عجوز عمره يربو عن التسعة والتسعين عامًا. وضع نفسه في حضنها، وتناول بفمه حلمتها، وراح يرضع، ويرضع، ويرضع، دون توقف. مللتُ، فطلبَتِ الفتاة الصفراء بعض الوقت. مَسَحَتْ خد طفلها الشائخ المليء بالعقد والدرنات بكفها الحنون الناعمة، "لهذا السبب شاخ طفلي، أوضحت الفتاة الصفراء، لأنه لا يتوقف عن الرضاعة." لم تتخلص الفتاة الصفراء من طفلها الشيخ إلا بعد أن غفت عيناه، وكأن تسعة أيام بلياليها مضت منذ لحظة وصولنا. جاءتني الفتاة الصفراء بثديها الآخر، "لن أطلب منك أن تدفع مقابل هذا شيئًا بعد أن أعييتك انتظارًا"، قالت لي ساحرة الصين. أبعدتها عني بلطف، ورفعت إصبعًا كارهة نحو باب الخروج، فاستلت مسدسها، وراحت تطلق النار بين قدميّ، وأنا أراها حصانًا أصفر يصهل ويشب ويرفس، إلى أن أرغمتني على أخذ ثديها. حصان أبيض وحصان أصفر راحا يتصارعان في حلبة حب جبار وروح جبار وسلطة جبارة. التاريخ كما يجب أن يكون. نهضنا بعد أن أشبعتها أكل ما لم تأكل أبدًا، مدنًا بأكلمها، وبحارًا، وشعوبًا من السوجا. "سأذكرك إلى الأبد"، قالت لي شاكرة، وعدنا أدراجنا قاطعين مقبرة للقطارات لا حياة فيها، لم يكن فيها لا طير ولا بشر ولا نمل ولا أرز كانتوني للكائنات الثلاثة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة إلى عالم محطة الشمال. استقبلنا الصخب والناس والقطارات كما يجدر بالصخب أن يستقبلنا والناس والقطارات في محطة القيامة والأقاقيا، كانت هذه هي الحياة القحبية على أكمل وجه، بتاريخها القحبي، وكل الأوهام القحبية للبط المبرنق والنقانق. دفعتني الفتاة الصفراء إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تقول: "كما يقول أجدادنا، الحياة كابوس طويل نعيشه فاتحي الأعين مغمضي الأجفان، الوهمي فيه أحد كتبه، فهناك الكتاب الوهمي، وهناك الكتاب الواقعي، وهناك الكتاب الرمزي، وهناك الكتاب الشعري، وهناك الكتاب الفلسفي، وهناك الكتاب الحِكَمي، وهناك الكتاب الديني، وهناك الكتاب الميثي، وهناك الكتاب التاريخي، وهناك الكتاب الاجتماعي، وهناك، وهناك، وهناك، وكلها كتب كابوس طويل مرعب، حتى ذلك الذي يحبه الأطفال، وينامون على قراءة مقطع منه." واجهني صف من الفرنسيين، وهم يحملون لوحات جوارب مثقوبة ورافعات نهدين مقطعة وأوراق كلينيكس مستعملة ثمنها بالملايين بسبب الأزمة. "هل تحب الثلج الأبيض؟" سألتني ساحرة الصين. "الثلج الأبيض؟" أجبت على السؤال بسؤال. "كل هؤلاء لا يحبون الثلج الأبيض." "أحب الثلج الأبيض"، قلت، وأنا ألمس شعرها الأصفر. ابتسمت لي، وأشارت إلى اليسار، فرأيت كيف يبدل أجانب الناس سلال اليوروات بقليل من نقودهم على شبابيكِ صرفٍ الصرافون فيها ما بين صراف وصرافة يرتدون كلهم ثيابًا براقة كثياب المحتفلين بموتهم. "وهؤلاء؟ لا يحبون الثلج الأبيض؟" سألتُ ابنةَ بكين. "لا يحبون الثلج الأبيض، أكدت الفتاة الصفراء التي ما لبثت أن أفضت: أنا مثلك أحب الثلج الأبيض." واصلنا السير، أنا ومرافقتي، حتى نهاية الممر، ووقفنا تحت ساعة ضخمة فيها تنينات أخذت أشكال الأرقام. وبِدونِ تردد، تقدمت الفتاة الصفراء من خزانة حديدية كانت هناك فتحتها بمفتاح أخرجته من بين فخذيها، وإذا بباب في داخلها لم تغلقه من ورائها اجتزناه إلى عالم أصفر من بشر وحيوان وأشياء، حتى التنينات الرقمية فيه كانت صفراء. لم تكن التشاينا تاون، كانت كل الحضارة الصينية هناك. كانت الصين. كانت الدراجات. كانت القبعات. كانت الفساتين المشقوقة على طول الساقين. كانت الأعلام الحمراء. كان ماو. كان الإمبراطور الحديث. كل صيني كان إمبراطورًا حديثًا. كانت الفطيرة الإمبراطورية. كان الشعر الكستنائي. الشعر الطويل. الشعر الجميل. الشعر الأخرق. كان الكشح الأصفر. كان السحر الأصفر. كان الموت الأصفر. الأصفر. الأصفر. الأخضر. كان الموت الأخضر. أخذت أنتقل من مكان إلى مكان، وبقوة الأشياء غدوت أصفر. غدوت أخضر. لم ينقصني سوى التحدث بالصينية. كانت تلك مهمة الفتاة الصفراء مرافقتي. جعلتني أكتشف مستوى آخر من هذا العالم السفلي، المافيا فيه صفراء لا ترحم، والجميل فيه أصفر لا يرحم حتى ولو كان أسود أو أبيض أو أحمر أو أسمر، حتى ولو كان مكانًا لعبادة كونفوشيوس رأس المال، والجميل هو مكان للجنس في نفس الوقت، لا يميز المرء فيه الصالح عن الطالح، القمر عن الشمس، ساحة تياننمن عن ساحة النجمة. هذا هو عالم التنين الأصفر، ألا تميز فيه شيئًا. أيًا كان.
أشارت النار الصفراء إلى صف من كبار رجال الأعمال والوزراء أمام باب كونفوشيوس، "ها هم عملاؤنا الجدد، قالت الفتاة الصفراء بشيء من ترف الكلام بعد أن تصفحت الوجوه، فالتنين أصفر عندنا، ورقمي عندكم، واحد في نهاية المطاف، يرى بعيون الحاسوبات، يتكلم، يأمر، يحاسب، يعاقب، وككل مستعمِر لمستعمَر يأخذ ويعطي، الكثير يأخذ، القليل يعطي، لكنه يكفي لافتداء الأسرى الرأسماليين." كان كل منهم هناك ليقذف بجسده وبلده بين ذراعي مومس صفراء. لم يكن ذلك بالطبع سوى استعارة، المومس الصفراء كانت في الواقع تلك الراهبة الحبلى القادمة من الجناح الفرنسي في المدينة المحرمة. "قف لهم احترامًا"، سمعت ساحرة الصين تقول ساخرة. "أبدًا، همهمت، لن أقف أبدًا لسياسي من يمينك أو سياسي من يسارك، فالواحد ليس أحسن من الآخر، قمر الواحد أوسخ من شمس الآخر، لهذا سياسي اليوم غير قابل للاحترام، لا يتردد عن استعمال كل الوسائل للاحتفاظ بالباذنجان بين مخالبه، أطول مدة ممكنة." فتحت المومسات الصفراوات أفخاذهن، فرأيت البحر، الصراع، فالبحر صراع، فقط الصراع، الصراع دون كُنية. حتى الصراع كلمة منفوخة في عصرنا، الأقاقيا، فكلُّ واحدٍ أقاقيا، صغيرة أو كبيرة، العامل أقاقيا والمعلم أقاقيا ورأس المال هو هذا وذاك، رأس المال هو البنوك والمواخير والبارات والمراكز التجارية وحاملات رباط الجورب واللحم الحلال والسَّلَطَة المبرقشة. مسؤولية زمننا الملقاة على عاتق الكل هي أنسنة الأقاقيا التي لا بد لها أن تمضي بحركة إكساب المعايير الحية مظهر الموت يساهم فيها المعلم والعامل وملايين الكلاب المدللة من شتى الأجناس. ذهبنا لنشاهد صراع الرز مع الرز، رز أبيض ورز أسمر ورز أحمر ورز أسود ورز أصفر، هكذا كانت تُدعى فرق المصارعين. انتصر في هذا الصراع الرز الأصفر. غضبتُ وغضبت الفتاة الصفراء، ولتراضيني، قالت لي: "ليس هذا كل شيء في العالم السفلي لمحطة الشمال." سحبتني من يدي كما تسحب تنينها الغالي على قلبها، "تعال"، قالت لي، ففتحت فمي كي أقذف اللهب الأصفر لهب التاريخ الأصفر دون أن أقدر على ذلك. "ستقدر على ذلك عندما يستصلح مسدسي الأخلاق، النقد، الكراخانات"، ألقت جميلة الصين.
نزلنا في مِصعد طابقين آخرين تحت الأرض، ووجدتني أمام عشرات بل مئات وربما آلاف التماثيل الصينية المطعونة بعشرات السيوف المرشوقة بعشرات الأسهم المبقورة بعشرات الرماح. "هؤلاء هم أجدادنا"، قالت الفتاة الصفراء. كان متحف الأجداد الصفر. "كما أراهم في أشكالهم، قلتُ، هم لا يختلفون كثيرًا عن الأحفاد الصفر اليوم." "ربما من ناحية واحدة، ردت مرافقتي، عشق المال، وعشق الهيمنة. صُفر اليوم لا يهمهم إذا ما سيكون العالم معهم، أضافت الفتاة الصفراء، ولكن أن يكونوا هم أسياد العالم كما كان الذين من قبلهم، وهم لن يقدروا على ذلك إلا إذا صاروا بدون قدر مثلكم، وصرتُ مثلكَ قدري الشخصي." أفرغت رصاص مسدسها في صدور التماثيل، وقبل خروجنا من المتحف، بَصَقَتْ عليها، فأثارت استغرابي. "هذا لأنني شيوعية"، أودعت الفتاة الصفراء.
في الطابق الوسط، طابق بين وبين، الطابق الذي تمنيت أن أجد فيه قدري الشخصي، وجدت حصانًا أبيض ينتظر وصولي. حصانًا كان الفكرة المتسلطة، السلطة الروحية، السلطة المطلقة. أذهلني جماله. درت به، ودار بي. احتضنته، واحتضنني. قهقهت بين يديه، وقهقه بين يديّ. "امتطِهِ"، أخطرتني الفتاة الصفراء، وهي تبكي، وتنحني. امتطيته، فسار بي. داومت الفتاة الصفراء على البكاء والانحناء مودعتني. كانت تودع التاريخ، نابليون، الأقاقيا: جسمًا يُلقي ظله، فعلاً يقترح كلامه، حاضرًا يرى مستقبله. دخل الحصان المِصعد، وأنا دومًا على ظهره. ارتفع المِصعد، ثم توقف.



* يتبع القسم العاشر