الأزمة أُوكرانيَّة.. لكنَّ النَّكْهة سوريَّة!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4384 - 2014 / 3 / 5 - 16:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

جواد البشيتي
إنِّي خَيَّرْتُكِ فاختاري..
إنَّها واشنطن تُخيِّر موسكو قائلةً لها: إمَّا "طرطوس"، وإمَّا "سيفاستوبول".
ومدينة سيفاستوبول تقع في شبه جزيرة القرم (التي هي جزء من إقليم دولة أُوكرانيا) التي تقطنها غالبية من المتحدِّرين من أصول روسية. وهذه المدينة تستضيف قاعدة عسكرية روسية هي مقر الأسطول الروسي في البحر الأسود. وحتى تَصِل قِطَع بحرية روسية (مِنَ القاعدة في القرم) إلى ميناء طرطوس السوري، حيث "المياه الدافئة"، ينبغي لها أنْ تَعْبُر مضيق البوسفور بين البحر الأسود وبحر مرمرة، وأنْ تَعْبُر، من ثمَّ، مضيق الدردنيل بين بحر مرمرة وبحر إيجة (ومِنْ بحر إيجة تَصِل إلى "المتوسط" وميناء طرطوس). وشبه جزيرة القرم لم تصبح جزءاً من أُوكرانيا إلاَّ سنة 1954 عندما قرَّر الزعيم السوفياتي (الأُوكراني الأصل) نيكيتا خروتشوف "إهداءها" إلى موطنه الأصلي (أُوكرانيا).وبعد انهيار وتفكُّك الاتحاد السوفياتي سنة 1991، ظلَّت شبه جزيرة القرم جزءاً من أُوكرانيا (المستقلة). ولقد استولت روسيا على شبه جزيرة القرم في أواخر القرن الثامن عشر عندما دحرت جيوش الإمبراطورة الروسية كاثرين العظمى تتار القرم (المسلمين) الذين كانوا متحالفين مع العثمانيين.
"الربيع السوري" فهمته روسيا على أنَّه نذير شؤمٍ لوجودها البحري (العسكري) في طرطوس، آخر موقعٍ لها في "المتوسط"؛ ومن أجل أنْ تحتفظ به، لا مانع يمنعها من الأخذ بأسوأ خيار، وهو قيام دولة علوية في تلك المنطقة الساحلية (الجبلية). و"الربيع الأُوكراني"، والذي تجدَّد أخيراً، فهمته روسيا على أنَّه نذير شؤمٍ لوجود قاعدتها العسكرية البحرية الاستراتيجية في شبه جزيرة القرم. وروسيا لن تُفاضِل، ولن تختار؛ لأنَّ خيارها الاستراتيجي هو "القرم وطرطوس معاً"؛ فإنَّ القرم بلا طرطوس تَفْقِد كثيراً من أهميتها الاستراتيجية؛ أمَّا طرطوس بلا القرم، فلا معنى، ولا أهمية، لها.
سنة 2009، أعلن الرئيس الأُوكراني (الموالي للغرب) فيكتور يوشنكو أنَّ على روسيا إخلاء قاعدتها البحرية في سيفاستوبول بحلول سنة 2017، فسَقَط (انتخابياً). وسنة 2010، انْتُخِبَ "فيكتور آخر"، هو فيكتور يانوكوفيتش (الذي أطيح مؤخَّراً). وقرَّر يانوكوفيتش (اللاجئ الآن في روسيا) تمديد بقاء الأسطول الروسي في الميناء حتى سنة 2042؛ و"العهد الجديد" في أُوكرانيا قد يدعو إلى ما دعا إليه يوشنكو؛ وبوتين لن يَقْبَل "القلق والتَّرَقُّب" خياراً؛ فالأَمْر بأهمية "أَكون أو لا أَكون".
الولايات المتحدة وروسيا لا تَعْرِفان من "الشرعية" في "السياسة الخارجية" إلاَّ ذاك المبدأ الذي استذرعت به موسكو في أفعالها الأخيرة في أُوكرانيا، وفي شبه جزيرة القرم على وجه الخصوص، إذْ قالت إنَّ لها "الحق في الدفاع عن مصالحها (ولو كانت مصالح إمبريالية)".
وأحسبُ أنَّ هذا "المبدأ الأسمى" لموسكو وواشنطن سيُتَرْجَم، عمَّا قريب، وبعد اختبار كلتيهما القوَّة النسبية للأخرى في الميدان الأُوكراني، بتوافقهما على خيار مشتَرَك، هو خيار "المِقَص (والقَصْقَصَة)"؛ فشبه جزيرة القرم تَنْفَصِل سيادياً عن أُوكرانيا، متحوِّلةً إلى منطقة نفوذ روسي آمنة، يُهمَّش فيها التتار (نحو 12% من سكَّانها) المسلمين، والذين تحالفوا مع الأعداء التاريخيين لروسيا، كالعثمانيين وألمانيا النازية، ويتحالفون الآن مع معارضي موسكو في أُوكرانيا ؛ وسورية تَنْفَصِل عن "المنطقة العلوية" مع طرطوس، وعن بشار الأسد.
إنَّها أربع "لاءات" استراتيجية روسية، أكَّدتها موسكو غير مرَّة: "لا" لتوسُّع "الناتو" إلى دولٍ تقع ضِمْن مجالها الحيوي، و"لا" لنشر أجزاء من "الدرع الصاروخية" للولايات المتحدة في أراضي تلك الدول، و"لا" لكلِّ ما من شأنه جَعْل أوروبا مستغنيةً (أو في طريقها إلى الاستغناء) عن الغاز الروسي الذي في أنبوبه تَنْقُل روسيا، أيضاً، مزيداً من نفوذها إلى أوروبا، و"لا" لنَقْل "الحرائق الثورية" إلى المجتمعات الإسلامية (السنية) في أراضيها، أو في الدول التي تَقَع ضِمْن مجالها الحيوي.
الولايات المتحدة هي الآن مكتفية، أو شبه مكتفية، ذاتياً من الطاقة النفطية؛ أمَّا أوروبا فما زالت تعتمد كثيراً على الغاز الروسي، وعليها أنْ تعتمد، وتزداد اعتماداً، على مصادِر غازية بديلة، تُفضِّلها الولايات المتحدة؛ وقد يَحِلُّ "المُسْتَهْلِك الصيني" محل "المُسْتَهْلِك الأوروبي (للغاز الروسي)".
"أُوكرانيا" هي الآن، وبمعنى ما، ثمرة من ثمار الأزمة السورية، التي من أغصانها ستتدلى، عمَّا قريب، ثمرة أُوكرانية؛ فاللعب المباشِر بين الكبار بدأ؛ وويَلٌ للصغار.
انقسام أوروبا إلى "شرقية" و"غربية" انتهى؛ لكنَّ عدواه قد تَنْتَقِل إلى العالم العربي؛ و"دول المحور " هي الآن قَيْد الظهور؛ لكن في حُلَّة جديدة؛ فروسيا مَحَل ألمانيا، والصين محل اليابان؛ وأخشى أنْ تَحِلَّ ألمانيا محل إيطاليا.