رزان...


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4383 - 2014 / 3 / 4 - 13:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

الفتاة النحيلة الخجولة كانت تستند إلى جدار رواق داخلي في "قصر العدل" في دمشق. هذه صورتها الأقدم في ذاكرتي، وأظنها تعود إلى عام 2001. علمت وقتها أنها محامية متدربة وناشطة في مجال حقوق الإنسان.
جاءت رزان من خارج بيئات المعتقلين السياسيين السابقين والمعارضة التقليدية، لكنها دخلت أجواء العمل العام بسرعة، وحافظت في الوقت نفسه على استقلالية فكرية وأخلاقية كبيرة.
بعد حين بدأت رزان الكتابة. كتبت مواد حقوقية ووسياسية، تجمع بين روح بالغة الصفاء وبين إحاطة وتمكن لا يكفان عن التحسن. لم تجد أية صعوبة في أن تصير كاتبة مقروءة ومطلوبة للمساهمة في منابر متنوعة. حسها الإنساني وصدقها وأسلوبها المباشر واطلاعها الشخصي على القضايا الحقوقية التي تكتب في شأنها جعلها مرجعا موثوقا في قضايا حقوق الإنسان في سورية.
دون نصب حواجز أمام الغير، تثير رزان مشاعر من الاحترام والتقدير حولها، لكنها شغوفة بالحياة إلى أقصى حد. تدربت قبل سنوات على أنوع من الرقص الغربي: فلامنغو، تانغو... ولها معرفة تبدو طيبة بموسيقات غربية حديثة تثابر على سماعها أثناء العمل. أما غرامها بالقطط فموضع تندر عام من أصدقائها. قبل أن يتوفر جهاز إنترنت فضائي في مكان عملها، كانت رزان تحب أن نلعب طاولة الزهر. تعد الخانات على أصابعها، وتلفظ أرقام النرد بالعربية، وتخسر أغلب المرات، لكنها تحب اللعب.
منذ بداية الثورة توارت رزان عن أعين النظام، وتفرغت لمتابعة الثورة وتغطيتها وتنظيم الأنشطة الاحتجاجية وإطلاق المبادرات التنظيمية. دورها مؤسس في "لجان التنسيق المحلية" و"مركز توثيق الانتهاكات" ومبادرات متنوع للإغاثة ولمساعدة المجتمعات المحلية.
ولم يمنعها هذا النشاط اليومي المكثف من المشاركة الميدانية في العديد من المظاهرات، 15 مرة على الأقل، في فترة النضال السلمي حتى مطلع صيف 2012. ولم يمنعها انحيازها القطعي إلى الثورة من نقد ومقاومة ميول ونزعات فوضوية أو تعصبية عرضت في مسارها والدفاع عن قيمها المؤسسة. عملت رزان من أجل "مدونة سلوك" خاصة بالجيش الحر في ربيع 2012، وقعت عليها مجموعات مقاتلة (جرفتها حرارة الوقائع فيما جرفت)، وزارت شخصيا بعض المجموعات المقاتلة في ذلك الوقت المبكر.
وخلال أكثر من 25 شهرا من الإقامة في دمشق لم تأخذ رزان إجازة ليوم واحد أو لبضع ساعات. عمل يومي متواصل حتى فجر كل يوم. 16 ساعة كل يوم على الأقل، مع قليل من الطعام، وكثير من الدخان. بسبب إيقاع العمل هذا، ومصادر الإحباط والتعطيل المتواترة، كنت أخشى عليها من المرارة. قلت لها ذلك غير مرة، وأظنها طورت آليات مقاومة نفسية، تحول دون أن تنقلب هازئة شكاكة مريرة، أو غاضبة محترفة.
لم تتأخر رزان عن بدء العمل من جديد حين قدمت تهريبا إلى دوما في الأسبوع الأخير من نيسان 2013. بدأت فورا اللقاء بالناس والعمل على تأمين موارد لمساعدة أسر محتاجة. وبعد أقل من شهر كان لديها مكتب وإنترنت فضائي، وشبكة اتصالات محلية وخارجية واسعة جدا.
لا تتكاسل أبدا من عمل ميداني أو إعلامي أو توثيقي، يمكن أن تجدها بعد الساعة 12 ليلا في مشفى تجمع شهادات من تعرضوا لهجوم بالسلاح الكيماوي، أو تقابل أطباء، أو تلتقي بقادة تشكيلات مسلحة وتحاورهم (أبو صبحي طه، أبو علي خبية...). وفي مجتمع ذكوري كمجتمعنا استطاعت رزان دوما أن تجعل كل من يراها ويتعامل معها يرى عملها ويتعامل مع عملها. كانت تبدو ممحوة الجنس فعلا في كل ما تقوم به. ومن جهتي كنت أتساءل: من أين تأتي بكل هذه الطاقة، وكل هذا الوضوح في الرؤية، في أوضاع بالغة التعقيد والعسر؟
ليست شخصا صداميا، يسعى وراء الظهور أو المغايرة المجانية، لكن رزان كانت مصرة على أن لا تغير شيئا من مظهرها كامرأة سافرة في مدينة محافظة كدوما، مدينة كانت فوق ذلك تطور ضربا متشددا من التدين كوسيلة تكيف ومقاومة للعدوان الأسدي والحصار، وكآلية تعايش مع الموت اليومي.
لم تعلّق رزان بكلمة على هجمات مُسفّة أو أشد إسفافا تعرضت لها من هواة تسفيه ومحترفين، ودون أسباب مفهومة غالبا. كانت تشعر بشيء من الألم بسبب بعض تلك الهجمات، لكنها كانت تتجاوز الأمر دوما بسهولة.
مع سميرة في الغوطة، شكلت المرأتان ثنائيا متغايرا ومتكاملا. كانت سميرة تلطف وقع أسلوب رزان الصارم أحيانا، ورزان توفر لسميرة بيئة عمل عام مثمرة.
إن كانت القيم المحركة والمؤسسة للثورة تتمثل في شخص واحد فهو في رأيي بلا شك رزان زيتونة، المناضلة والحقوقية والكاتبة، والمرأة. لقد جمعت روح الكرامة والعدالة والنزاهة في شخصها وعملها، وإرادة الحرية والاستقلال الفكري والسياسي، والترفع الكلي على الطائفية والتعصب، وأخلاقية عمل وإيقاع عمل نادرين في مجتمع سوري تعود التراخي والتواني والخمول. وهذا مع بعد تام عن التذمر والشكوى، ومع تواضع وتفان أصيلين.
لذلك لا يمكن لمن اختطف رزان، ومعها سميرة ووائل وناظم، إلا أن يمثل كل ما هو معاد للثورة على مستوى القيم وعلى مستوى المآلات. فإذا كانت رزان رمز كرامة الثورة السورية بحق، فإن مختطفيها هم عار الثورة، وشركاء في الخسة لعار سورية الأسدي.