وصول غودو القسم الخامس نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4381 - 2014 / 3 / 2 - 11:28
المحور: الادب والفن     


في محطة الشمال، كانت السماء تقوم ولا تقعد على غير عادتها في عالم افتراضي، فالحاجةُ تشحذُ القريحة كما يقال، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ على أكف الغيم، والركاب يقومون بأفعال خيالية، كما لو كانوا من عُصبة الشياطين. للنزول إلى الرصيف، كانوا يجعلون من النجوم سلالم لهم، وللصعود إلى الغيم، من أجل أخذ هذا القطار أو ذاك، كانوا يركبون على ظهور الجياد الرقمية المجنحة. لم يكونوا على عجل دائم من أمرهم، ولم يكن سحبهم لحقائبهم أو حملهم لها يشكل عبئًا كبيرًا. كان كل شيء يتم كما يريدون، وكما يرغبون، كما يعالجون ألواحهم. لم يعد هناك من ينتظرهم عند الوصول، مثلي تمامًا، ولا من يأتي لوداعهم، كان كل منهم المنتظر لذاته المودع لذاته، هذا لا يعني أن الوداع كالاستقبال لن يكون في مكان آخر غير محطة الشمال، مكان آخر لم يعد مهمًا جدًا أين يكون، طالما أنه سيكون رقميًا، وسيكون دون أدنى شك، فهي حضارة المستعمِر المنتجِ لاستعمارِ نفسه. لهذا لم أكن وحدي المبتسم بفم الشيطان في محطة الشمال، حتى الابتسام لم يعد له ما يبرره بعد أن حلت الإرادة الرقمية محل إرادة البشر، وانتهت كل الصعوبات، أسبابها خاصة، المنكّدة. ابتسمتُ على مرأى امرأة غير متكلفة التصرف في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، ليس بسبب عسر وهمي أو خيالي، كان ابتسامي بسبب نقلها لأشيائها وحقائبها على ظهر جمل رقمي، ودون أن تطلب عونًا من أحد، حتى سيارتها. "لا تشكرني، رجاء، خاطبت المرأة الجمل الرقمي، عليّ أنا أن أشكرك، لكنك لا تنتظر حتى هذا. تسألني إذا ما كنتُ اليوم أكثر سعادة؟ في الماضي لم أكن أبدًا سعيدة، وفي الحاضر لم يعد هذا مهمًا، أن أكون سعيدة." كانت لكل شيء لكل شخص إرادة رقمية في محطة الشمال، فها هو عازف الغيتار، هذا الشُّحْرور الناريّ، يتسلق طرفًا من قمر أحمر، يعزف، ويغني، صوته الملائكي يشنف الآذان، والناس في محطة الشمال تسمع، لكنه لم يكن هناك لتسمع الناس، لم يكن هناك إلا ليعزف، ويغني، كانت تلك غاية غاياته، ألا يكون هناك إلا ليعزف، ويغني. لم يكن يريد مالاً من أحد، ولم يكن أحد يفكر في إعطائه بعض المال، كان في محطة الشمال فقط ليعزف، ويغني. كان يكتفي بالعزف والغناء، ولا بأس ألا يسمع أحد، كان يكتفي بابتسامة جواد رقمي مجنح، أو عندليب رقمي يشاركه في الترنيم، أو طاووس رقمي يفرش ذيله طربًا. كان كل شيء في محطة الشمال يكون بأمر بشر رقمي، بإرادة بشر رقمية، إرادة بشر جماعية، إرادة بشر دون إرادة، لأنها تكنولوجية، كلية، دائمة. لم يعد للخوف من الموت وجود، وبالتالي لم يعد للأديان لزوم. الخوف من الموت أدى إلى هستيريا جماعية: الأديان. ولنزوات ليست مشبعة، اخترعوا الشيطان كنزوة شرجية والله كنزوة قضيبية. عذبوا أنفسهم، ولم يعذبهم وخز ضميرهم. وجدتني أسير على شكل ثقب إلى جانب أم تمسك بيدها طفلة لم تتجاوز العامين أشبه بالملاك الرقمي المتحرر من كل تاج حديديّ، وفي لحظة من اللحظات، أفلتت الصغيرة من أمها، وأخذت تركض كفراشة رقمية، والأم تبتسم لها غير قلقة عليها، لكن أحد الجِمال الرقمية كاد يسحقها لولا حملي إياها، وإعادتها إلى أمها التي شكرتني، وابتسمت لي، وتركت البُنَيَّة تذهب إلى أين يحلو لها الذهاب، فلم يعد هناك أيُّ خطر وهمي، هو في الحقيقة ليس بالخطر الأرضي. لم أفارق الأم والابنة بناظري، كانت الأم جميلة، ولم يكن ذلك لأنها كانت جميلة، بين البشر الرقميين الجَمال ميتافيزيقي، كان ذلك لأنها كانت أُمًا فيلية في طبعها لا في طبيعتها. الفيليات شيء غال، والنرجس في ماء الماوراء، والحب الذي يمكن أن يتحول إلى كره العقارب لسمها، وساعتئذ يكون الصراع، ويتحول البشر الرقميين إلى بشر من عندنا، يدمرون أنفسهم، ولو يلزم يدمرون أنفسهم، ويدمرون غيرهم، يدمرون العالم لو يلزم. هذا ما شدني إلى رجل وامرأة يبدو على وجهيهما يأس العقول الالكترونية، ومن يقل يأس العقول الالكترونية يقل جبروتهم، وما يتبع ذلك من بطش للأقدار الرقمية، التي لن يصمد أمامها ضعاف النفوس. كان كل من الرجل والمرأة يسحب حقيبتين ضخمتين دون أن يكون ذلك بذي بال، كل ما كان يرمي إليه الواحد كالآخر عقاب المجرم باسم الجماعة، كان يبدو على وجهيهما أنهما يحبان بعضهما البعض حبًا عظيمًا إلى حد العقاب، لذنبٍ ارتكبه الواحد أو الآخر أو الاثنان، ذنب لا يستحق المغفرة. لم تكن الخيانة، فالخيانة شيء عادي في العالم الرقمي. كان كل واحد يمر بهما من ركاب محطة الشمال يعرف ما أعرف، ويعرف أيضًا أن شيئًا رهيبًا سيقع بين لحظة وأخرى. لم تكن هناك فائدة من التدخل، كان كل شيء قد تم قبل أن يتم، مبرمجًا، وكان من الأجدى تأجيل ذلك ولو القليل، ريثما يجد العاشقان نفسيهما بعيدين عن أنظار باقي البشر الرقميين، فللرقميين، الشياطين البشر أم الشياطين الشياطين، حياتهم الخاصة وحسهم الباطنيّ. لكن شيئًا من هذا لم يحصل بعد أن حُددت النهاية التي تنتظرهما التي ينتظرانها قبل هذا الوقت بكثير. فجأة، سقطت الحجارة الرقمية في اللوحة من بين أصابع لاعبين، أسود وأبيض، كانا يتسليان مع ملوك الشطرنج هناك على مقربة، فرمت المرأة حقيبتيها أرضًا، وغدت لهبًا رقميًا أحرق رجلها في عدة ثوان. تم كل شيء في عدة ثوان، دون أن يكون لنا الوقت الكافي لتأمل المشهد، ولو لم تفعل هي لفعل هو، ولكانت نهايتها. هذه هي الإرادة الرقمية، الرقميون البشر أم الرقميون الرقميون، عزمها، وإصرارها على الوجود الرقمي، استحقاقها لتبوء العرش الرقمي. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بكل أنفة وعظمة، ومجموعة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها تنحني لها إجلالاً. امتطت جوادًا رقميًا مجنحًا، وصعدت إلى حيث كانت، إلى القطار الذي جاء بها قرب راهبة حبلى على أكف الغيم الرقمي. "راهبة وحبلى"، قالت المرأة دَهِشَةً. "الملائكة تحبل أيضًا والشياطين في العالم الرقمي، قالت الراهبة الحبلى قبل أن تضيف، إذا ما شاء الرب." ضحكت المرأة، "يشاء أو لا يشاء، في عالم رقمي، كل شيء جائز، الرقمي هو الله." "قصدي كان هذا، على عهد مريم كان الروح القدس، واليوم الروح الرقم." "روح رقم! أي روح؟ كل واحد رهين بأعماله." "زوجي هناك بانتظاري، تذرعت الراهبة الحبلى للهرب من حوار تعرف جيدًا إلى أين سيؤدي، وهي تشير إلى أحد القساوسة، فاعذريني"، وذهبت ليأخذها القس بين ذراعيه بحرارة، ويطبع قبلة طويلة على ثغرها.
أول ما غادرت نجيمة السينما السلم الرقمي للنجوم، إذا بعشرات الكاميرات تقصفها بفلاشاتها وعشرات الصحفيين والصحفيات بأسئلتهم: "احكي لنا قصة تعاقدك مع شركة غومون؟ لماذا أعجبك السيناريو؟ لماذا تم اختيارك بين عشرات الممثلات المعروفات؟ لماذا كل هذا الاهتمام المفاجئ بك؟ متى سيبدأ الكاستنغ لأجل الأدوار الأخرى؟ متى ستبدأ البروفات؟ متى سيبدأ التصوير؟ من سيلعب الدور الرجالي الأول إلى جانبك؟ من سيلعب الدور الثاني؟ الأدوار الأخرى من النساء؟ من الرجال؟ هل كانت لديك شروط معينة بخصوص الدور الأول الرجالي؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟" جن جنونها، بدأت تصرخ، وهي تبعدهم، فكل هذا لم يحصل، عقد، وسيناريو، ودور أول، ودور ثان، ودور ثالث، إلى أن ظهر المنتج الذي عزمت على عدم النوم معه، وهو يحمل العقد بيده. جذبها من ذراعها، وهو يهمس في أذنها "سأشرح لك فيما بعد." قدم لها قلمًا أمام كل كاميرات الدنيا، وقال لها "وقعي هنا"، انحنت لتوقع، وفستانها يكشف عن أروع نهدين، بينما المنتج يذوب فيهما رغبة، وهو يفكر كل سلطة التكنولوجيا علينا ولا شيء أعظم من هذه السلطة، كل التسامي الرقمي الذي فينا ولا شيء أعظم من هذا التسامي، كل الخلق الرقمي الذي لنا ولا شيء أعظم من هذا الخلق، ولا أجلّ، ولا أفظع!
"أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال صبي سمين جدًا لأمه، وهو ينطنط كالمنطاد. "أنت تحمل ماما، يا حبيبي؟" قالت الأم وشفتاها ترتعشان من الخوف على ولدها مفكرةً: قابل الخير بالشر! "أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال الصبي، وهو لا يتوقف عن النطنطة، وهو يتخيل أنه رقمي، وهو يشعر بمغص لتكلس في المعدة يسعى إلى نسيانه. كان يبدو خفيفًا كطابة. "لا، أنا أحملك، يا حبيبي"، قالت الأم وشفتاها ترتعشان من الخوف دومًا على ولدها مفكرةً: قابل الشر بالخير! "لا، أنا أحمل ماما، يا ماما"، قال الصبي. "لا، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، يا حبيبي." "لا، أنتِ لست خائفة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، خائفة عليك كثيرًا، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، لست خائفة عليّ كثيرًا، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، يا حبيبي." لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، أنا كبيرة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، أنت لست كبيرة عليّ، يا ماما." "لا، أنا خائفة عليك، أنا ثقيلة عليك، أنا كبيرة عليك، كبيرة عليك، يا حبيبي." "لا، أنت لست خائفة عليّ، أنت لست ثقيلة عليّ، أنت لست كبيرة عليّ، لست كبيرة عليّ، يا ماما." وحملها، فإذا بها ترقى الجبال المسننة الأطراف، وتأخذ بالقهقهة.
كما قلت منذ قليل، لم يكن أحد بانتظار أحد، الانتظار في محطة الشمال غدا ذكرى من الذكريات، بدون انتظار، يتصرف المرء من تلقاء نفسه، لكنني لاحظت أحد وكلاء الفنادق ينتظر، كما لو كان يعيش دومًا في الماضي، قطارًا أبدًا لن يأتي، ويجعل نفسه تحت تصرف غيره. وأنا أتقدم منه، رفع الوكيل لوحته المكتوب عليها اسم نزيل في وجهي، وسألني إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الشيطانية، ضرب بذقنه الأرض، وقال إنه هنا منذ ساعات، ولا من قطار قادم. "قطار الموت"، همهمت. لكنه لم ينتبه إلى ما قلت، أخذ ينادي، وينادي، وينادي، وصوته يبدو كصوت إنسان يأتي من زمان آخر. تأملت وجهه، ووجهه يبدو كوجه إنسان يأتي من مكان آخر. كانت الجياد الرقمية المجنحة تملأ سماء محطة الشمال، وهو لم يكن يلاحظ أيًا منها. أردت أن أشرح له، أن أقول له كل هذا الإبداع من ورائه الموت، فالموت يدفع إلى كل إبداع يبقى بقاء صاحبه رقميًا ويخلد، القلة مبدعة، والبقية الباقية من العباد تبتدع لها مكانًا في الفردوس البارحة وفي التكنولوجيا اليوم، فتقطع حياتها في سلام أو في الخراء. لكن الأحمق لن يفهم، سيظل الأحمق فَجْلاً، سيظل يعيش في مكان آخر، مكانه القديم، سيظل عبدًا لزمن آخر، زمن مضى، ولن يقدر على التحرر مما هو فيه، حتى بتدخل خارجي، تدخلي، تدخل فلك البروج. تركته ينادي كمن ينبش قبرًا إلى أن بُح صوته، ولم يعد يسمع أي صدى من أصداء الماضي، كان كل الحاضر الآن يفرض على الواقع حضوره الرقمي. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت شابًا يرتدي بذلة سوداء مخططة، ويضع على رأسه قبعة سوداء حريرية، الوحيد الذي ينزل من القطار، ويركض على الرصيف، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويحرك ذراعيه، ويركض على الرصيف، ويقف فجأة، يلتفت، ثم يلتفت، يرفع ذراعيه، ويركض على الرصيف، ولا أحد هناك لاستقباله. قلت هذه هي الفكرة الرقمية المُضَيَّعَة!
في محطة الشمال، لم يعد البشر الرقميون بحاجة إلى الكلام الكثير، كانت إشارة من الرأس أو من اليد تكفي وبعض الكلام الوجيز. لم يعد هناك مكبر صوت يمارس الإرهاب على المسافرين، فلا أحد منهم بحاجة إلى معرفة ساعة وصول هذا القطار ومغادرة ذاك، كان كل شيء للرقميين من البشر معروفًا، وهم ليسوا بحاجة إلى وسيط أيًا كان، كانوا وسطاء أنفسهم إلى العالم وإلى ما في العالم من أشياء. والحال هذه، إما القُبول أو القُبول. رأيت فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما لا ينبسان بكلمة، كانا يتبسمان لبعضهما، وفقط. وهناك ليس بعيدًا منهما كان طبيب الأسنان قد وجد كل الوقت للاعتناء بأسنانه، فلم يكن لديه أي زبون، وكذلك حال الكاتب، وقد أخذ من عظيم الفراغ يقص صفحاته، فتنبثق منها الصور والشخصيات هاربة. وعن أسماك القرش، كانت قد نبتت للوالدين أجنحة كالجياد، وعندما كان أحدهم يحتاج إليهما، ينقلانه بين أسنانهما دون أن يؤذياه، حتى أسماك القرش قد حبت نفسها بالخصال الرقمية. كان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما، يتبسمان لبعضهما إلى ما لا نهاية، ولم يكن يبدو عليهما أنهما سيأخذان القطار، كانا هناك لأنهما يريدان التبسم لبعضهما، وفقط. "تبتسمين، أنا في ريو..."، كما تقول الأغنية. وصلتني ضربات على البيانو، كان شوبان، وكان الفتى والفتاة يتبسمان لبعضهما، وشوبان هناك لأنهما كانا يتبسمان لبعضهما، كل هذه الضربات الرقيقة على البيانو لأنهما يتبسمان لبعضهما، وليس لأنهما في محطة الشمال، أو لأنهما سيفترقان. ربما لأن الواحد سيستنزف ماله من أجل الآخر. شيء لا لا نزاع فيه. أخذت الفتاة جرعة من قهوتها، وعادت إلى التبسم، وكذلك فعل الفتى، أخذ جرعة من الكوكا-كولا، وعاد إلى التبسم. ربما لم يكونا من البشر الرقميين، لكنهما كانا يحسنان التبسم، وكان هذا شيئًا عظيمًا، لا تقدر عليه التكنولوجيا، كعصر حبة ليمون، كقضم لوح شوكولاطة، كقطف حبة مشمش من بستان في نيس.
جاءت فتاتان، وكل منهما تسحب حقيبة، وأخذتا مكانًا حول طاولة قرب الشابين العاشقين. طلبتا قهوة، وأمسكت الواحدة يد الأخرى، قَبّلت إحداهما الأخرى من ثغرها، دفعتا، ثم نهضتا. كان هناك جواد رقمي مجنح بانتظارهما، وما هي سوى عدة ثوان حتى غادرتا المكان إلى قطار يقف على أكف الغيم. "متى سنعود؟" سألت الأولى الثانية بّرِمَةً. "لماذا؟" سألت الثانية الأولى دَهِشَةً. "لنكون معًا." "نحن معًا." "أن نكون معًا تحت شيء آخر." "لا تكوني مصابة في رأسك!" "أن نكون معًا في باريس..." جاء أحد لاعبي الرُّغبي مباشرة صوبي، وسألني إذا كنت أرغب في اللعب معه، لم أكن أرغب، وقلت أرغب. كانت الحركة في محطة الشمال فوق، وتحت كانت المحطة شبه فارغة. لعبنا حتى مللنا، بقدر جحافل من الأولاد، بعد ذلك، ودعني لاعب الرُّغبي، وشكرني على لطفي. جاء رجال المطافئ، ونظروا هنا وهناك، ثم ما لبثوا أن غادروا المكان. رفعت رأسي إلى أعلى، فرأيت عربات حمل الحقائب بالمقلوب بينما يقودها صاحبها دون خوف من الاصطدام بأحد، وعند سماعي لصفارة المراقب، رأيت القطار بالمقلوب، وكل الناس الذين كانوا على رصيف الغيم، صعدوا كلهم ما عدا شيخ عجوز لعجزه، مما جعل القطار يتأخر عن الإقلاع حتى ساعده الناس على حمل حقيبته كمجيرِ أُمِّ عامر. وبلمح البصر، بعد ذلك، غادر القطار على خطوط سكك الغيم. الحقيقة الرقمية هي هذه، حقيقة الوهم، البابونج. سالت دمعة إنسانية على خدي، فخبأت انفعالي. حتى الشيطاني الذي فيك يبكي عليك! بكاء لذيذ كسرقة رزمة قناني ماء فيتِل من لَدُنْ كارفور.
هنا تحت، دفع شاب من أمامه عربة جده المُقعد، وهو يقول له إنهما سيسافران معًا، وإنه سعيد لأنهما سيسافران معًا. "وأنا أيضًا سعيد، يا جان"، قال الجد. "ستكون مفاجأة لها"، قال الشاب. "لأمك؟" سأل الجد. "ستكون مفاجأة لها"، أعاد الشاب. "نعم، ستكون مفاجأة لها"، قال الجد. "لم أرها منذ مدة طويلة"، قال الشاب. "نعم، منذ مدة طويلة، قال الجد، منذ موتها." "منذ موت أمي لم أرها"، قال الشاب. "نعم، منذ موتها، قال الجد، منذ مدة طويلة." "لم أرها منذ مدة طويلة، قال الشاب، منذ موتها، وستكون مفاجأة لها." "نعم، ستكون مفاجأة لها، قال الجد، المسكينة، ستكون مفاجأة لها..." ولم أعد أسمع ما يقولان. هناك، لا أحد يخطل في كلامه، لا أحد أمام شبابيك بيع التذاكر، كان الكل يشتري تذكرته على إنترنت، فلم يعد بالركاب حاجة إلى عمل صف طويل يدوم ساعات، حتى أن البعض كان يشتري تذكرته على ظهر القطار، إذا وجد على ظهر القطار مكانًا، من أحد المراقبين الذين ينقلون في جيوبهم شبابيك بيع التذاكر الإلكترونية. رحلة على ظهر الغيم، قرأت بخط عريض، السماء مُلْكٌ للجميع. هذا هو عالم الرقميين الجدد، همهمتُ ودمعة إنسانية ثانية تسيل على خدي، أنا المتنبئ بالشر، فالآتي أكثر عجبًا. "الإبرة أكثر خطرًا من المدفع!"، قلتُ. على مقربة ليست بعيدة، غيرُ دفقٍ من المال. كانت ماكينات تبديل النقود، ولم يعد أحد بحاجة إلى تبديل نقوده بعد أن توحدت العملة في كل أوروبا على التقريب. جاء عمال برافعاتهم، واقتلعوها من جذورها تحت حراسة شرطيين، وذهبوا، بينما أخذ متسولان أحدهما شريف والآخر غشاش بالبكاء وتوبيخ الأقاقيا، ولسان حالهما يقول: كلُّ كلبٍ ببابِهِ نَبّاح!
البكاء لا ينفع شيئًا في العالم الرقمي للبشر، قلتُ، وأنا أرفع رأسي إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها بالمقلوب، فمحطة الشمال الحقيقية فوق، والناس فوق يقفون بالمقلوب، ينظرون إلى تحت. لم يكن يهمني أي إعلان هو، كانت الفتاة كل ما يهمني، شعرها المتطاير وفستانها الكاشف عن ساقيها. الشياطين كالآلهة يحبون السيقان العارية، المبيدة للآمال، المثيرة للفتن! هل سيقان المرأة هي التي خلقت الآلهة أم الآلهة هي التي خلقت سيقان المرأة؟ لو كنت إلهًا يختار خالقه لاخترت سيقان المرأة. يتحول الكلام الزقاقي بأمرهما إلى آيات، اللمس الوحشي إلى حرائر، الوعد المستحيل إلى شموس. تنهار الجبال، تزول البحار، تنطبق السماوات. كل مسائل الوجود المحيرة هما، مسائل القلوب، مسائل الفلاسفة التي يستسلمون أمامها. كل الظلال التي نسيها أصحابها في الحي اللاتيني، وكل القبلات التي لم تعرفها بعد أرصفة باريس، وكل التنانير القصيرة التي لم تلبسها فرنسا! سيقان المرأة، سيقان الحياة، سيقان العدم! أيتها السعادة، أسعد الله صباحك! فليسقط الحزن! كانت مواعيد القطارات تتلاحق على لوحة بالمقلوب إلى جانب صورة الفتاة المتطايرة الشعر والفستان المطيرة للعقل للزمان، وكانت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت لوحة القطارات بالمقلوب، وتنظر إليّ، وتضحك عليّ. إنجليزيات. إنجليزيات قمريات سفيهات ينظرن إليّ بالمقلوب، ويضحكن عليّ، لأني أميل برأسي كي أرى البنطال القصير للفتاة التي يتطاير فستانها دون أن أتمكن من ذلك، فكل شيء فوق بالمقلوب، كل شيء فوقَ أكفِّ الغيم بالمقلوب، فوق أكف القلوب. أخذت الإنجليزيات يشرن إليّ بالصعود، بالذهاب معهن إلى لندن لو أريد، لكني كنت في محطة الشمال كآخر محطة، فلنقل حتى الوقت الحاضر، آخر محطة حتى الوقت الحاضر، قبل أن أنضم إلى العدو. أيه؟ أي عدو، في كل مكان العدو. كانت أجمل الفتيات السفيهات يشرن إليّ بالصعود، وهن بالمقلوب دون أن تكشف فساتينهن عن سيقانهن، سيقان النساء هي الخالقة للآلهة، للشياطين، للمواخير، وأنا لعجزي عرفت أني لست إلهًا ولا شيطانًا من صنع سيقان النساء. كنت فيلمًا إباحيًا في سِكس شوب إلى جانب أفلام رقمية كثيرة على الرفوف، ولم أُلفت نظر أية واحدة من الأقاقيا.
أمسكني أحدهم من رأسي، ورفعه إلى ناحية في السماء فيها هرم رأسه إلينا، وعلى بابه رجل يبكي دون أن يكون الألم سببًا. كان تنين رقمي يمزق صدره دون أن يتمكن من الإجهاز عليه على الرغم من إنجاز الرجل لمكان موته. كان يبكي لأنه أنجز بناء قبره، ولم يكن يمكنه الموت. كان التنين الرقمي يسعى إلى عونه على الموت، وفي السماء، لا يوجد موت في السماء، يوجد الموت في تروكاديرو.
أنا سأموت على رصيف في محطة، إذا كان شيطان يموت، كي أداوم على سماع المسافرين، فأعتقد أني لم أزل حيًا. كالأقاقيا الحمراء. سمعت شابًا أحمر البشرة يسأل موظفًا في المحطة عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى فوق، وقال على الشاب أن يمتطي جوادًا رقميًا مجنحًا. وهو يبحث عن جواد رقميّ مجنح، اعترضته فتاة حمراء، وسحبته من ذراعه إلى رصيف أرضي فارغ من البشر. تركته ينتظر القطار هناك، قطار لن يجيء أبدًا، وجاءتني، وهي تبتسم لي ابتسامة المومس. ابتسمتُ لها، لابنة الخديعة، وأنا أقول لنفسي خديعة المرأة سماوية، لها غاية سامية. غاية مومسية. "أعرف لماذا فعلتِ هذا؟" قلت للفتاة الحمراء. "أما هو، فلا يعرف"، قالت الفتاة الحمراء. "سيعرف عندما يدرك أن القطار لن يصل أبدًا"، قلت للفتاة الحمراء. "عند ذلك ستكون كل القطارات الأخرى قد غادرت محطة الشمال، قالت الفتاة الحمراء، وستكون الصدمة. أنا هنا لأصدم، لأهدم، لأقطع كل صلة بالعالم القديم، أنا هنا لأخدع، لأكذب، لأحرق كل ما لم تستطع عليه أمهاتنا، أنا هنا لأعذب لو يلزم، ليعرف الناس أننا لسنا كلنا ملائكة طيبين"، أضافت الفتاة الحمراء. "ليعرف الناس أننا لسنا كلنا شياطين طيبين"، قلت للفتاة الحمراء مصححًا. تعلقت الفتاة الحمراء بكتفي، وطبعت على خدي قبلة. "رافقني أرافقك"، سألتني الفتاة الحمراء. ودون أن تنتظر مني جوابًا، سحبتني من يدي كما تسحب حقيبتها، وأنا أتدحدل من ورائها مصطدمًا بهذه القدم أو ذاك العامود بينا هي تضحك عليّ، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان بدا منقطعًا عن عالمي المحطة القديم والجديد، مكان منسيّ. كان هناك مركز للشرطة مفتوح لا أحد فيه، ومكاتب متفرقة، مفتوحة، لا أحد فيها، كانت تبدو مهجورة، لا فائدة من وجودها. داومت الفتاة الحمراء على سحبي، وكأنني حقيبتها أو كلبها، أتدحدل تارة وأنبح تارة، وهي تضحك عليّ، إلى أن دخلنا منطقة تتقاطع فيها خطوط السكك الحديدية كخطوط اليد، القطارات المحطمة والصدئة فيها كثيرة، قالت الفتاة الحمراء عنها إنها المقبرة القديمة للقطارات. "والجديدة؟" سألت. أشارت إلى فوق. "فوق أين؟" "فوق، فوق"، وهذه المرة راحت تقهقه. "تقهقهين، أنا في ساكوراجيما"، تلعثمت، وأنا أتعثر، ولولاها لوقعتُ، بينما عادت إلى القهقهة. "ما برخو القدم هذا؟" ألقت ساخرة. "تسخرين، أنا في إيجافجاللاجوكول." تثاءبتُ دونما حاجة بي إلى النوم أو بسبب العياء، "هل تريد أن أهزك على فخذيّ؟"، تهكمت حمراء باريس. "تتهكمين، أنا في كيلويا." وفي اللحظة ذاتها، انبثقت من بعيد سفينة تبحر على ارتفاع عدة أمتار من خطوط السكك الحديدية، توقفت عند مستوى رأسينا، وما لبث أن أطل منها قرصان يضع على عينه عُصابة سوداء. قال إنه أعمى، لا يرى شيئًا، ومع ذلك، رفع العُصابة السوداء، وأخذ يجول بجفن مغلق في كل الأنحاء. "هل هذه محطة الشمال؟" سأل القرصان. أكدت الفتاة الحمراء أنها محطة الشمال، "هنا المقبرة، أضافت محددة، وهناك المحطة." أطلق القرصان ضحكة مجلجلة، ونادى على خادمه، وهو يقول إنها المرة الأولى التي لم يخطئ فيها رغم فقدانه لبصره، وإن إبحاره لم يذهب سدى. أطل الخادم بوزرته البيضاء، وهو يحمل حبلاً طويلاً لفه حول رقبة القرصان، وجذبه منه، فسقط هذا أرضًا، لكنه نهض كالجني، بعد ضَرْبِ خادمه له عدة ضربات بالسوط وأَمْرِهِ إياه بحمل حقائب أربع كانت هناك. أطاع القرصان، ونفذ ما أُمر به في الحال ليتفادى لسع السوط. تعثر لعماه، فقاده الخادم بالحبل، إلى أن حطا القدم على قضيب حديدي. "هذا القضيب الحديديّ هو البحر الذي لي"، هتف لص البحر، وسقط بجسده عليه ليقبله ويضمه بقوة. "ليس هذا"، قلت. "إذن ماذا، صرخ القرصان بعنف، هل تكذبني يا هذا." "نعم، هو هذا"، تراجعتُ، فانفجرت الفتاة الحمراء ضاحكة. "هل تهزأين بي، أيتها المومس الصغيرة؟" عاد القرصان يصرخ بعنف. "إنه لا يتوقف عن جعل نفسه ضُحكة لغيره"، بررت الفتاة الحمراء مشيرة بإصبعها إليّ. "لا تشيري بإصبعك إليه، قمعها القرصان، فأنا أرى ما لا أرى، أنا الضرير." "لم أفهم"، همهمتُ. "لا أحد يفهمني أكثر من خادمي، قال القرصان، فلسعه خادمه بالسوط، أرأيتما؟" لم تكن الفتاة الحمراء راضية عما يجري، خاصة وأن الخادم لم يتوقف لحظة واحدة عن لسع سيده بسبب أو بغير سبب. كانت تغلي. "سأشير إلى ما لا ترى، إلى ما لم ترَ، إلى ما لن ترى، إلى السعادة التي لم تجدها في أعماق المحيطات"، كذبت حمراء باريس. "هل هو قضيب عوليس أم ماذا؟" سخر القرصان. "والله إني صادقة، فانظر!" دفعت قطعة حطب رست السفينة عليها، وأسقطتها على رأسيهما لولا دفعي لهما بعيدًا تساقط اللوفر وبرج إيفل والسوربون في إحدى لعبات ننتندو. "ها أنت تفعل ما لا تقول وتقول ما لا تفعل كغيرك ممن يفعلون ما لا يقولون ويقولون ما لا يفعلون!" سخرت الفتاة الحمراء. "لماذا تريدين التخلص منهما؟ ماذا فعلا لك؟ قرصان وخادمه وقضيب حديدي كل عالمهما؟" "تحرق روحي الطاعة لمن لا طاعة له، أبدت الفتاة النارية، وهذا ما لم أشاهده في سكناتي وحركاتي." "هذا لا شيء"، قلت. "لا شيء كيف؟" احتجت الفتاة الحمراء. "هذا شيء كثير"، قلت متناقضًا. "أنتَ تخريني!" نبرت مرافقتي، وهي تعطيني ظهرها إلى شجرة لم يبق منها سوى جذعها، وكأنها تريد الالتحاق بالشفق القطبي الشمالي.
خرج من تحت قاطرة قطار محطم توأمان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع، فكأنهما مخلوق تحت أرضي مثير للقرف والاشمئزاز. ما أن وقعا على الفتاة الحمراء حتى سألاها إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالإيجاب، وهي تخرج بلطة من مخبأ فهمتُ في الحال مغزاها، فعبدتُ ربة الشر، واختلجت كل أعضائي اغتباطًا. "ولكن هذه بلطة وليست حبلاً، قال التوأمان السياميان، نحن نريد حبلاً، حبلاً، لنشنق نفسنا، نريد حبلاً نربط به عنقنا هكذا، هكذا، وليس بلطة." أشارت الفتاة الحمراء إلى الجذع، فقط الجذع ما بقي من كل الشجرة، "لم تعد الشجرة شجرة، وأنتما لا تزالان على حالكما"، قالت. لم يفهم التوأمان السياميان، أراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك. "احملا السلاح، وكونا إرهابيين، اقترحتُ مع الصيحات الغاضبة للفتاة الحمراء المخططة للموت الذي تريد، أنا أكشف لهما الحقيقة." "حقيقة قفاي"، نبرت ابنة النار. "ولكننا لن نفعل"، قال الأخوان المشوهان. "من الأحسن ألا تفعلا"، عدت عن قولي بينا مرافقتي تنفجر ضاحكة، وتقول "لماذا لا تكون مهرجًا، معك لا شيء غير الفرح." "لا فرح هناك أبدًا والكل يقول فرح هناك"، علق السياميان. "نتظاهر بذلك"، اعترفت الفتاة الحمراء عابسة. تَرَكْتَهُمَا، وهي تسحبني من يدي ككلبها، فلم أعو، ولم ألعق. "لم يفهما، ولكنهما سيفهمان"، قالت ساحرة فرنسا. "هل تريدينني أن أفهمهما على طريقتي"، سألتُ واغتباطي يصل إلى حد متعة الجماع. "إذا اضطررنا إلى ذلك، تركتك تفعل"، قالت ابنة إبليس.
قطعنا أنا وفتاة البراكين المقبرة إلى جهة أشعلت فيها نارًا، وما هي سوى عدة دقائق حتى برز من اللهب رجل أرمد الشعر متغضن الوجه، ركضت الفتاة الحمراء إليه، وعانقته بشوق، والرجل ينظر إليّ، وبيده يداعب نهديها وإليتيها. خاطبته الفتاة الحمراء بيا أبي، وخاطبها الرجل ذو الحفر والرماد بيا ابنتي. سألها إذا ما كنتُ عشيقها الأخير، فقالت إنني لست بعد عشيقها. "إياك أن تجعلي من النار مسكنه، يا ابنتي"، قال الأب. "النار مسكنك أنت ولا أحد غيرك، يا أبي"، قالت الابنة. "تعالي، يا ابنتي"، قال الأب. جذبها من ذراعها، وهي تنظر إليّ راجية إياي بعينيها ألا أبالي. دخل معها النار، وضاجعها. بعد قليل، خرجت الفتاة الحمراء وحدها، وهي تتوهج بالشر والشرر، وأنا أشتهيها كجهنم. أردت أخذها كما أخذها أبوها، فأوقفتني، وراحت ترقص مع النار في الهدم والدمار. جذبتني إليها، ورحنا نرقص في قلب الثَّوَران. "لنذهب إلى مسكني، اقترحت الفتاة الحمراء، هناك لن توجد ملائكة من حولنا." "وهل بقي من الملائكة شيء؟" سألتها. "بقي." "ماذا؟" "وَدْفُ أبي". عادت تسحبني ككلبها المسعور إلى قصر مبني من القطارات القديمة، وأنا أعوي، وأنط، وأعض. أرضَعَتْ ولدًا كان لها في التاسعة عشرة، وصرفته، ثم اشتعلت جنسًا وجهنم في حضني وهمجية وشيطانية وقحبنية تتحول بنا وتحولنا تحول الكودات لدى بارت. بقيت أضاجعها طوال تسعة وتسعين ألف عام رقميّ، هكذا خُيل لي. في الصباح، قالت إنها سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فالعلوي المعلق على أكف الغيم معروف معرفة الكل لإطباقاته، أما السفلي كالسفلة سرسري ابن كلب للاكتشاف حالاً.
عدنا أدراجنا والنار التي أشعلتها ساحرة فرنسا تتأجج دون انقطاع، والجذع الذي عليه رؤوس مئات الطيور الغريبة يغرق في الدم، والسفينة التي سقطت تغوص بنصفها بين القضبان. كانت هناك بعض الطيور الغريبة الأخرى التي جمدت من الخوف، وكأنها صُنعت من شمع، وكان الوقت منتشرًا هنا وهناك انتشار خطوط السكك الحديدية الصدئة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة لتستقبلنا سماء محطة الشمال مقلوبة. كان العالم كله مقلوبًا، لكنه كان العالم. دفعتني حمراء مدينة النور إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي توجز أفكارها: "سندخل في استيهامٍ يتلو استيهامًا، فالحضارات هي هذه، استيهامات، تتنوع الاستيهامات وتتبدل تنوع الحضارات وتبدلها." رأيت في الطابق الأول السفلي طيورًا إفريقية ملونة: شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... عملاقة، تتسلى بنقر أربابها من البشر، أمام المستودع على اليمين، وكأن ذلك شرط إيداعها في أقفاص إلى حين استردادها. "ممن؟" سألتُ. "مني"، أجابت الفتاة الحمراء، وهي تداعب بيدها عنق أبي قُرَيْن. "قبلاتك، أنا لن أنساها"، أوجزتُ كلامي. جاءت ببغاء، واحتضنت الفتاة الحمراء، وكذلك فعلت دجاجة سندية بدت عاشقة لها، ففجرت غيرتي. "جسدك، أنا لن أنساه." كل هذا لم يكن غريبًا والحال تلك. "فرجك، أنا لن أنساه." على اليسار، رأيت عددًا من رجال الفضاء أمام شبابيك الصرف، كائنات أشبه بسكان المريخ، ومن الناحية الثانية للشبابيك كان الصرافون، في ثياب ملاحي الكون. "نارك، هدمك، أنقاضك، أنا لن أنساها." ذكرتني الفتاة الحمراء أن عملتنا لا تشمل سكان الفضاء، لهذا أبقوا على هذه المكاتب مفتوحة بعد أن اقتلعوا آلات الصرف، فمحطة الشمال العليا تستقبل اليوم الكثير من سكان الكواكب الأخرى. "تأوهاتك، صرخاتك، هذياناتك، أنا لن أنساها." كان كل هذا هذيانات مريضة، صرخات مختنقة، تأوهات قتيلة لقتلى الروح. "أصدقاؤك الطيور لا ينقرون إلا البشر كما أرى"، قلت للفتاة الحمراء. "لم يتعود أصدقائي الطيور بعد على لحم هؤلاء"، علقت الفتاة الحمراء، وهي تشير إلى رجال الفضاء. رجال فضاء قفاي! حديقة حيوانات المريخ! مِنطقة حيادية! "رؤاك، سراباتك، خيالاتك القحبة، أنا لن أنساها." كنا قد وصلنا إلى نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها فيلة وردية على أشكال الأرقام. لم أبد للفتاة الحمراء دهشتي، وكل الكائنات الرقمية المنتشرة اليوم في محطة الشمال. "أما تحت، فدهشتك ستكون أكبر من كبيرة"، قالت النار الحمراء، وهي تتقدم من خزانة حديدية فتحتها بمفتاح كان تحت ممسحة الأرجل على بابٍ في داخلها أدخلتني منه أولاً كي تعيد غلق الخزانة من ورائها. "رسوماتك المتحركة، إطباقاتك المفترضة، أقمارك الغارقة في حمم المعرفة الرقمية، لن أنساها." كانت دهشتي بالفعل أكبر من كبيرة، فالفيلة الوردية الضخمة الثقيلة الوزن ترتفع عن الأرض محلقة، وصهاريج البترول الضخمة ترتفع عن الأرض محلقة، وبواخر الرحلات البحرية ترتفع عن الأرض محلقة، والأغرب من كل هذا ما رأيته من تماسيح عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وكلاب عملاقة ترتفع عن الأرض محلقة، وديوك عملاقة، وأرانب عملاقة، وفئران عملاقة، وسحالي عملاقة، وصراصير عملاقة، ونمل عملاق، و... و... و... كلها ترتفع عن الأرض محلقة كأنها بالونات منفوخة، ومتروكة هناك بين السماء والسماء. "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها. كطفل يضاجع، كقرنفل يقاوم الأرق بالاستمناء، كثعبان مقطوع القضيب، قضيب بقي منتصبًا." من الناحية الأخرى، وجدنا ناطحات سحاب ترتفع عن الأرض محلقة، وجبال جليد ترتفع عن الأرض محلقة، وجزرًا بأكملها ترتفع عن الأرض محلقة، و... و... و... "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها." هذا وألقينا نظرة عاجلة على قطوف العنب أو البلح العملاقة المحلقة، وحبات الأِجّاص، والبصل، والباذنجان، واللوبياء، إلى آخره... إلى آخره... إلى آخره... "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها." طرق تحايلية للعالم الرقمي. تفاجأنا بأقزام عمالقة، كلهم مافيا، يترعون شراب الرمان كما يترعون الماء. أقزام عمالقة. كبنك له أجمل ثديين، كوزارة لها أجمل إليتين، كسفارة لها أجمل ساقين. وكذلك، تفاجأنا بنساء عملاقات، كلهن دميمات، يبترن كل أقاقيا من أجسادهن يردن تبديلها. نساء عملاقات. كأمة تحترق، كبلد يُباد، كقارة تغرق في الخراء. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة الحمراء، دهشتنا الأكثر، كون الراهبات الرقميات يسعين إلى تطهير كل مومسات باريس كي يجعلن منهن بناتٍ للرب صالحات. كانت الصورة الرقمية التي ستكون، فليس أي شيء من هذا حقيقيًا. راهبات رقميات. ككلب يحاول اختراق المرآة، كلص يحاول اختراق الدولار، كرئيس يحاول اختراق ما بين فخذي عهدة ثانية. كانت المومسات عندهن بالآلاف، من كل الأجناس، وكانت فضيلة الفضائل بالنسبة لهن هذا التعدد العرقي والثقافي، وهدفهن التوصل إلى إنشاء سوربون جديدة، سوربون عملاقة في رؤيتها المتعددة وفلسفتها المتغربة. "لن أنساها، لن أنساها، لن أنساها."
أشارت الفتاة الحمراء إلى كبار رجال الأعمال والوزراء، "رجال الجهالة والبهيمية ووزراء الصَّبَّار وكره الأجانب"، قالت ساحرة فرنسا، وهي تتلظى كالجمر، وأنا أتلظى كالقواد: "أحبك نارًا، أعبدك بركانًا، أموت فيك هدمًا وأنقاضًا." "يعملون كل ما في وسعهم لإفشال مشروع الراهبات الديني الثقافي الإنساني الجمهوري الراقي، وإبقاء الباب بين فخذي النساء مفتوحًا." "لن أتسلط على ميولي، سأتسلط على الحكم، لن أسلّم أسراري لأحد، سأسلّم برغباتي، لن أتسامح في أي شيء، سأتسامح لي فيما لا أتسامح." كانت الراهبة الزائفة فريستهم، ربما لا، فهي قد أخذتهم كلهم بين فخذيها كما لو كانوا شخصًا واحدًا، ابنة التسلط على الحكم على طريقتها، كاللبؤة الحبلى، والأقاقيا الحبلى، والغابة العذراء. رحنا أنا والفتاة الحمراء نلاعب الفيلة الوردية المحلقة في الأجواء ونلعب بها ونحن نضربها كالبالونات والفيلة تطلق صيحات الجذل. "هُراء، كل هذا هُراء"، أبديتُ، وأنا أفكر في حديقة النبات. "اخترق المرآة"، طلبت حمراء باريس. "ولكني كلبك"، بررتُ. "تعال معي إذن، أمرت، وهي تبتسم، اختراق المرايا، أنا أعرف كيف." سحبتني، وأنا كالذليل أتبعها، وذهبنا مع عشرات غيرنا نصعد على سطوح ناطحات السحاب لنرى كل العالم حتى نيويورك حتى نيودلهي حتى بيكين حتى مكسيكو حتى هافانا حتى هونولولو. هونولولو. صبايا هونولولو. صبيان هونولولو. رقص هونولولو. يزلق العالم على خاصرة. يغرق في البحر. يغتال الشبق. جربنا بعد ذلك حظنا مع سباق صهاريج البترول، فانفجر أحدها، لكن شفاطات عملاقة شفطت كل شيء، والعقل، والروح، وأفكار سارتر الأَنَسِيَّة. كانت مرآتها صغيرة بقدر قرص عباد الشمس، لكنها كبيرة فيما تحتوي عليه، غريبة بما تحتوي عليه. شفاطات عملاقة. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب حقيبتها الأزلية، الأزل، كلسات ديكارت، وذهبت بي إلى مِصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. شفاطات عملاقة في قرص عباد الشمس. عند خروجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الغيلان، آكلي اللحم الآدميّ. في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. مرآة صغيرة بقدر قرص عباد الشمس فيها من الأحلام ما لا يعد ولا يحصى. حجر سُمّاقي. اجتمع بعضهم ضدي لست أدري لماذا، ربما لحلاوة لحمي، فأصلتهم الفتاة الحمراء بنار من جهنم، وعلمت بهم الأقاقيا الصفراء. كانت الفكرة السامية كما تفهمها، وكانت النفس السامية كما أفهمها. كانوا يتعانقون عناق الأوابد عندما لا يجدون لحمًا آدميًا يأكلونه، "أصبحنا أسياد أنفسنا"، قالوا، وهم بالمناسبة أقاموا للفتاة الحمراء حفلاً طنانًا تعاطوا فيه كل أنواع المخدرات والكحول وقُبَلِ الجنيات في الأوديسا. كانت الكيفية التي تسير بها. سِرْ! عند آخر الليل، أحضروا بعض الحيوانات العملاقة، والتهموا صورها الافتراضية، ثم هدأوا، رأيتهم ينامون عينًا مفتوحة وعينًا مغلقة. سير الحكاية كان، وسير الوقت.
سحبتني الفتاة الحمراء من يدي كما تسحب كلبها وأنا أنط وأنط وأنط متشبثًا بها إلى المِصعد، وصعدت بي إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين. كانت شعوب لا أصل لها ولا فصل تنهض من سباتها الطويل، تقوم من العدم، من ظلام الظلام، لا ماض لها ولا تاريخ، تنام مع الظن، وتنام مع التيه، لا أمل لها ولا مشروع، أملها غير الأمل، ومشروعها الهدم، تهدم كل شيء، الأسوار والظلال وقبور الشمس، وفي ظنها السيطرة على البحار. بهمجية كانت تهدم كل شيء، ولكن أيضًا بجمالية بودلير وهيغل وماركيز. بهمجية. وبجوع الغيلان إلى اللحم الرقميّ. إلى الحرية. إلى الضوء. بهمجية النيل ووحشية الفرات ودجلة. بوحشية الطفولة الرقمية والطفولة الوحشية وتسلط الرجولة فيهما. تسلط الجنس والجهالة، المال والعبادة، الماء والبطاطا، الجوّال والحجاب، الحاسوب والباذنجان. المحشي. شارَكَتْهُم مليكة النار في الهدم والتدمير، وأبدًا في البناء والتعمير. قالت عن التعمير ليس من مهماتها، وأنا مثلها قلت عن التعمير ليس من مهماتي. باكورة النار كانت، وبَكْرَة الحث والتحريض كنتُ. كانت مِجمرةً للعطور وجَمَرات نار لِجَلْدِ كلِّ ما هو غير شيطاني، وكنت ثملاً على مناظر الهدم والدَّك والتدمير والتغيير والتقهير والتعهير والتحمير والتبرير، التبرير، التبرير، التبرير، كثير التبرير، كنت أشعر بأسعد لحظة في حياتي، كدُعْسُوقة مضيئة في حديقة البيت الأبيض، مع سيماء البلاهة.


* يتبع القسم السادس