وصول غودو القسم الرابع نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4379 - 2014 / 2 / 28 - 10:30
المحور: الادب والفن     

كانت المقبرة المكان الوحيد الذي ترتاح فيه الصغيرة أنيتا، كانت عالمها الثاني، وبين القبور كانت تتسلى، تقلم الجنبات، تسقي الزهور، وتنظف الشواهد، وأكثر ما كانت تُعنى بضريح من الرخام الأبيض عليه صليب كبير. كانت تقول بيتها، ومرارًا حاولت فتحه، واكتفت في الأخير بأن يكون دومًا مغلقًا على كل الأسرار التي تركتها فيه.
- عندما يفتقد المرء أنيتا يجدها في المقبرة، جاء صوت أنثوي من ورائها.
كانت صديقتها بريتا، بالأحرى صديقة أمها.
- أوه! بريتا، قالت الصغيرة أنيتا دون أن ترفع رأسها، إنه بيتي.
- أعرف أنه بيتك.
- وأنا أنظفه.
- أنا لا أجده وسخًا.
- وسخ أم غير وسخ، ماما تريدني أن أنظفه.
- ألا تجدين أن ماما تبالغ بعض الشيء؟
- عندما تقول ماما شيئًا، ماما تعرف ما تقول.
- وإذا قالت القمر سيتفجر؟
- أيضًا.
- ألا تخافين من أن يتفجر القمر؟
- أخاف.
- لن يتفجر.
- إنها ماما.
- بيتك ما أنظفه!
- ليس رأي ماما.
- ما أسعد النائم فيه.
- مَنْ هذا؟
- أوه! معذرة.
- في بيتي لا ينام أحد.
- أعرف.
- ماما تريده أن يكون الأنظف.
- هناك بيوتٌ الشِّشَمُ أنظفُ منها.
- وعدتُ ماما أن أنظفه كل يوم.
- هل تريدين أن أعاونك؟
- أحضري لي ماءً من النافورة هناك.
- أُحْضِرْ لكِ ماءً...
- من النافورة هناك.
حملت المرأة الدلو، وذهبت باتجاه النافورة.
- املأيه جيدًا، صاحت أنيتا، وهي منهمكة دومًا في تنظيف القبر الرخامي الأبيض.
عادت بريتا بالدلو الثقيل، وهي تسأل:
- أين ذهبت أمك؟
- لا أعرف، أجابت أنيتا، والدلو يسقط من بين يديها الصغيرتين، والماء يضيع سدى.
- كان من اللازم ألا أملأه جيدًا، ألقت صديقة الأم، سأعود إلى ملئه حتى منتصفه.
- شكرًا، يا بريتا، همهمت الصغيرة أنيتا.
ثم دون أن ترفع رأسها:
- ماما لا تغيب عن البيت كثيرًا، ربما تكون قد عادت.
- سأعود إلى رؤيتها في المساء، قالت بريتا قرب النافورة، هذا الماء اللذيذ يشعرك بالظمأ.
عبّت بريتا الماء عبًا، وهي تتأوه، وهي تتنهد.
- إنه لذيذ بالفعل!
ثم وهي تضع الدلو بين اليدين الصغيرتين:
- أنت هذه المرة لن تسقطيه.
- أنا لن أسقطه.
- طيب، سأذهب. أشعر ببعض الجوع.
- أنا ببعض التعب.
- هكذا ستنامين جيدًا، وستحلمين أحلى الأحلام.
- أحلم بالقبور.
- هل هو قبرك المفضل؟
هزت الصغيرة أنيتا رأسها، وهي تواصل شطف الرخام، وتلميعه.
- قولي لأمك أنني سأعود إلى رؤيتها هذا المساء.

* * *

سارت الفتاة البيضاء في عالم الموت، وكل شيء حيّ من حولها: الشموس ليست شقراء والأقمار ليست خبازية، الأشجار ليست خضراء والأحجار ليست وردية، المناقير ليست صفراء والعناكب ليست فيروزية. لم يكن هناك انتظار، والكائن هناك يولد خالدًا، يبقى الكائن حيًا في عالم الموت، ولا حاجة به إلى التفكير في موته. راحت الفتاة البيضاء تفكر، والكل يسمع أفكارها: عندما أقدر على السير على الأمواج، كانت تفكر، وهي تنظر إلى الناحية الأخرى من البحر الميت، وكانت تشم رائحة الصوديوم والماغنيسيوم. لم تتأثر للرائحة النافذة، ولم تأبه بالطبيعة. لم تكن منها جسدًا ولا روحًا، لم تكن طبيعتها ولا جوهرها، كانت قدرتها. عندما أقدر على الطير فوق الأمواج. في عالم الموت لا نتساءل، وبالتالي لا نقلق، لا نخاف، في عالم الموت ننفذ، يجري التنفيذ بالتوافق مع قدراتنا، فالكائن لا يموت، الكائن دائم، والكينونة دائمة. الديمومة هوية للكينونة والكائن، الكائن هو الكينونة، والكينونة هي الكون. يوجد الكائن في عالم الموت ليكون. من يكون؟ أسود؟ أبيض؟ أحمر؟ أسمر؟ أصفر؟ هذا لا يهم. كل هذا. ليقدر. ليفهم. ليعرف. عندما أقدر على التجول مع الأمواج.
سمعت الفتاة البيضاء قهقهة لم تحدد من أين تأتي، فصاح الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر:
- هنا، هنا!
كان يجلس بين أعرافٍ أوراقُها غامقة، ويرتدي قميصًا غامقًا.
- فوق، فوق!
رفعت الفتاة البيضاء رأسها.
- ماذا تفعل فوق؟ سألته دون أن تفتح فمها، في عالم الموت لا حاجة بنا إلى التكلم بأفواهنا.
- لأكون معك، أجاب الرجل الأرمد الشعر المتغضن الوجه دون أن يفتح فمه.
- معي كائنًا فوق شجرة؟
- مع الموت.
- أنت تتكلم من بنات أفكارك.
- كلنا مع الموت معًا.
- كمن لم يكن ولن يكون.
تدحرج الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، وقفز، فإذا به يقف مقابل الفتاة البيضاء.
- هذه هي طريقتنا في أن نكون.
- حقًا! القدرة إرادة.
- في عالم الموت الإرادة استعارية، الفعل استعاري، الحدث، لهذا لا حقيقة زائفة هناك، لا حقائق هناك، هناك حقيقة استعارية واحدة، حقيقة حقيقية لا يدركها الموتى في عالم الحياة، ويدركها الأحياء في عالم الموت.
- الكائن المدرِك بالموت.
- على كل حال.
- بشكل ملموس.
- بشكل غير ملموس.
- حتمًا! لا أيام صيف لاهبة هنا.
- كمن يتلمس طريقه في الظلام.
- بحرية.
- في صحن الوجود، الموت في حالتنا، الحرية جوهر كل شيء.
- ليست استعارة الحرية.
- ليست استعارة الحرية، الفعل الحر نعم.
جذبها إلى صدره، وقبلها.
- آه! ما ألذ شفتيك.
- إنه الشعور ذاته على شفاهنا جميعًا.
فجأة، أخذت الفتاة البيضاء تلهث، وكذلك الرجل الحكيم. جس كل منهما بأصابعه ثغره، وعنقه، وثديه، وبطنه. على مقربة منهما، كان السياميان يمارسان الاستمناء، وكل كائنات عالم الموت تنال من اللذة قسطها. حالما انتهيا، راحا بالجذوع البرتقالية طعنًا، وكل كائنات عالم الموت تنال من الألم قسطها. وعند إهراق الدمين الأبيض والبرتقاليّ، في الحالين، يبقى عالم الموت على حاله: سليمًا.
- هذا لأن الكائن فعل والفعل استعارة، أناطت الفتاة البيضاء بشرط.
- لو نظرنا لوجدنا، استنار الرجل الحكيم بعقله.
- لوجدنا ماذا؟
- كلُّ شاةٍ مِن رِجلها تُناط.
- هل يجوع الموتى؟
- يجوعون، ولكنهم لا يأكلون.
- هل يظمأ الموتى؟
- يظمأون، ولكنهم لا يشربون.
- هل يغفو الموتى؟
- يغفون، ولكنهم لا يحلمون.
- هل يشقى الموتى؟
- يشقون، ولكنهم لا يتعبون.
- استعاري كل ما يشعرون.
- أمنية لا يتلهف الكل إلى تحقيقها.
- حمى اغتراب لا تلفحنا.
- تَوَلُّد.
- تَوَلُّد تلقائي.
- تَوَلُّد، فقط تَوَلُّد، لا خوف ولا كَرْب ولا تساؤلات لا فائدة منها.
- ما بعد النفس.
- ما قبل النفس.
- ما بعد المنطق.
- ما قبل المنطق.
- وماذا عن لهيب الذكرى؟
- لا توجد ذكريات، فلا زمن هناك. تكون كائنات الماضي والماضي لا يكون.
- تكون، تكون، رددت الفتاة البيضاء باحثة عما تخلقه من وسائل.
راحت ترقص دون دافع، وتدندن دون دافع، ثم ما لبثت أن راحت تخلع ثيابها دون دافع، وترتدي العراء دون دافع، لما يكون دون الدافع كائن الكينونة. على عكس الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر، الدافع لديه هو الدافع: يبكي لأنه يريد أن يبكي ويضحك لأنه يريد أن يضحك، يهلوس لأنه يريد أن يهلوس ويصرخ لأنه يريد أن يصرخ. تطارد الكينونة الكائن في دوافعه حتى تهلكه.
- ما بكَ؟ سارعت إلى سؤاله، وهي تلقي بنفسها في أحضانه.
- نحن الموتى تهلكنا الدوافع، برر، وهو يلقي بنفسه في أحضانها.
- تقول موتى ونحن أحياء في عالم الموت؟
- استعاري ما أقول، كل ما نقول استعارة لاستعارة أو استعارة عن استعارة.
- لولا جهلي بالاستعارات لقلت كل ما نخرأ.
- نخرأ، إحدى مُلْهَمات الشاعر.
ابتسمت الفتاة البيضاء.
- تبتسمين، فتبتسم المدن.
ضَحِكَتْ.
- تضحكين، فتضحك القارات.
قَهْقَهَتْ.
- تقهقهين، فتقهقه الكوكبات.
وصلهما صوت غاضب تبعته ضربات سوط:
- تقدم، أيها الكلب! لا تتظاهر بالعياء! لا تلوث البيئة الطبيعية بدموعك! لا تلمع ببريق الغباء! لولاك لما كنت سعيدًا!
ظهر القرصان، وهو يجر بحبل خادمه، وهذا يحمل على ظهره حقائب عديدة، ثقيلة. ما أن وقعت عيناه على الفتاة البيضاء والرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر حتى قال لهما، وخادمه يتهاوى على الأرض:
- مخرت عُباب كل بحار العالم، فلم أجد أحيا من البحر الميت، ولا أبيض من البحر الميت، ولا أحلى من البحر الميت. لو تُرك لي الخيار بين البحر الحيّ والبحر الميت، لاخترت البحر الميت.
- كل شيء ميت في البحر الميت، قذف الخادم، وانفجر ضاحكًا.
- اخرس، أيها الكلب! قرع القرصان الخادم بسوطه ولسانه. هذا الكائن الملقى على هامش عالم الموت كقمامة ها هو يتلفظ بحماقات أجمل ما يستطيع عقله عليه.
- كل شيء حيّ في البحر الحيّ، عاد الخادم يقذف، وانفجر ضاحكًا.
- ألم أقل لكما ما أجملها من حماقات يستطيع عليها عقل.
- كل شيء ميت في البحر الحيّ.
- اخرس، فلتخرس، أيها الكلب!
- كل شيء حيّ في البحر الميت.
- نعم، كل شيء حيّ في البحر الميت. ليست كل الحماقات في دماغه دميمة.
- كل شيء...
- اخرس، أيها الكلب! ليت أنك لم تكن!
أمره بالعُواء، فعوى. أكثر، فعوى أكثر. أكثر، أكثر، فعوى أكثر وأكثر. أكثر، أكثر، أكثر، فعوى أكثر وأكثر وأكثر. حضر السياميان، وراحا يتبادلان مع الخادم العُواء، وحضر عدد من الكلاب، وَضَرَبَ عُواءٌ فظيعٌ الآفاق. أخرس القرصان الأفواه بسوطه، وعندما حط صمت القبور ما بينهم، تنهد، وأفضى بمكنونات فكره:
- كلب وقط كانا لي، كلما غبتُ انتظراني، على أحر من الجمر، كل يوم، ويومًا بعد يوم، فرحلاتي طويلة، أنا القرصان، أطولها الرحلات التي كنت أقوم بها في بحار الخراء. كانا ينتظرانني دون كلل، كان الانتظار يُقرأ في عيني الحيوانين، غدا الحيوانان الانتظار. إلى ما لا نهاية له. هنا لا الحيوان ينتظر ولا الإنسان. ارتاح الجميع، إلى الأبد، في عالم الأبد.
عاد خادمه والأخوان السياميان يعوون، فأخرسهم بسوطه.
- عندما لم يعد هناك انتظار العُواء أسهل المهن، جمجم القرصان كمن يُلقي بشيء لا يؤبه به.
- وإلى أين أنت ذاهب هكذا؟ سألت الفتاة البيضاء.
- إلى الطرف الآخر من البحر الميت.
أنحى الرجل الحكيم عليه باللوائم:
- هل تقدر على السير على الأمواج؟
- للتغلب على القوى الطبيعية؟
- هل تقدر على الطير فوق الأمواج؟
- للتغلب على القدر؟
- هل تقدر على التجول مع الأمواج.
- للتغلب على الأهواء؟
- أغلب الظن أنك مغلوب على أمرك.
- ما عاقَ عندي ولا لاقَ.
- لم تصل الحداثة بعد إلينا.
- ما أشبه الليلة بالبارحة.
- كيف ستفعل؟ سألت الفتاة البيضاء، وهي تستهدي عقلها.
- سأركب ظهر هذه السمكة المزدوجة في نصفها الأعلى، هذا ما سأفعل.
عوى السياميان فرحًا، وعبس الخادم ترحًا.
- ما من فرحة إلا وبعدها ترحة، قهقه لص البحر.
- أي جحيم جحيمه هذا الذي تعويان فرحًا لاستعباده لكما استعباد أباطرة الشر لأحذيتهم من إنسان وحيوان، حَذّرَ الخادمُ المِسْخَيْن، إلا إذا كنتما من هواة الجَلد في أي زمان وفي أي مكان، وشعاركما "لا بد مع الخراء من إبر النحل"!
- لا تستمعان إليه، نبر القرصان، وهو يسوط خادمه بأقصى عنف، إنه لذو مآبر في الناس.
لما فجأة انطلق صهيل، وبرز حصان أبيض جاء يعدو، ووقف هاشًا باشًا بين يدي القرصان. داعبه بيده، والحصان يشب طربًا.
- هذا الحصان كان لي قبل أن أغدو قرصانًا، أوضح لص البحار، عرفته بعد أن عرفني، وعرفني بعد أن عرفته. لما مات بدلت رأيي، بدل أن أكون قاطع طريق غدوت قاطع بحر.
- اتركه لنا، طلب الرجل المتغضن الوجه الأرمد الشعر دون أن يهتدي إلى شيء، أنا وهذه الفتاة لا نحب البحار، ولا نقدر على قهرها.
- سآخذه معي، سأُرْكِبُهُ على ظهر السمكة المزدوجة، وسيكون لي ذا كبير عون على الضفة الأخرى، فهذا البحر هو آخر بحر.
بلبل أفكارَ الخادمِ كلامُ سيده، فذهب إلى زاوية، وانفجر بالبكاء.
- أيها الكلب، تعال! أمر القرصان.
جاء الخادم، فساطه، والخادم يلعق نعله.
- ضع الحقائب على ظهر هذه السمكة الطيبة، عاد القرصان يأمر، والحصان، وأنت، واجعل لي مكانًا أنام فيه طوال الرحلة، فما أبطأ ما يمضي الوقت في هذا العالم!
على سماعها لهذه الكلمات، أخذت الفتاة البيضاء تعطس. أَعْدَتِ الجميع، فراحوا كلهم يعطسون، تمامًا كما كان عهدهم في عالم الأحياء، وإحساس ما ورائي بالقلق يتولّد لديهم من التفكير في الخراء والملح، وكأنهم غادروا بالفعل عالم الأموات. داوم القرصان وصحبه على العطس، وهم يبحرون، ثلاث عشرة عطسة، سريعة في البداية، وبطيئة في النهاية، والفتاة البيضاء تلوح لهم بيدها إلى أن تواروا عن نظرها.
- ها هم يتوارون عن النظر، قالت ابنة العدم الأبيض تحت تأثير الأمر غير المطلق.
- لن نقدر على تعقّب آثارهم، قال ابن الوجود المتغضن الأرمد تحت تأثير الأمر المطلق.
- على أي حال، أَفْضَل هكذا.
- سيظل هذا العالم الذي ارتبطوا به واسطتهم إلى أنفسهم وهم خارجه.
- ونحن الذين في داخله؟
- واسطتنا إليه.
- هل سنتوقف يومًا؟
- سنتوقف.
- متى؟
- متى نموت.
- نحن في عالم الموت.
- متى نعتاد.
- ألم تعتد؟
- لم أعتد على الملح، ودروب الحرية ملح، فلم أزل من مواطني بلدان الأحياء من هذه الناحية.
- خُذِ الأمرَ بقوابلِهِ.
- الملح؟ بقوابلِهِ؟
- قليله سكر.
- قليله ككثيره ملح.
- العدم ملح.
- مرعب أن يكون العدم ملحًا.
- خلال الليل، أشعر بأني أعانق الملح، فأفكر في البتراء.
- كم من مرة اغتُصبتِ في حياتك؟
- كثيرًا.
- هل هم المخبرون السِّرِّيُّون؟
- هم وغيرهم.
- لهذا.
- البتراء ليست ماخورًا، يا دين الرب!
- إذن لماذا لا تشعرين خلال الليل بأنك تعانقين السكر؟
- سكر في عالم البحر الميت؟ قل الفوسفات، البوتاس، المغنيسيوم، الصوديوم...
- قضيب نهر الأردن.
- ذات مرة، عملنا بيكنيك. كنت صغيرة. شوينا اللحم، ودخنا النارجيلة. ليس أنا. زلقت قدمي، فصعدت الموجة إلى فرجي. الماء. الملح. كانت الشمس قوية. بعد أقل من ساعة أخذت أصرخ، أصرخ، فحار في أمره كل من كان معي، إلى أن سالت قطرات وردية مني. فقدتُ عذريتي. كانت تماثيل الملح.
انبثق سرب سمك أبيض من الأمواج الميتة، سمك مربع كالهريرات، أسنانه مربعة كزعانفه، أذياله مربعة كرؤوسه. وهو يلقي بنفسه على الشاطئ، ظنت الفتاة البيضاء أنه يريد الانتحار، لكنه راح يبحث في الرمل عن الحصى، ويأكله. وهو يعاني فظيع الآلام، رأت الفتاة البيضاء الموت وهو يعاني الموت، فالموت في البحر الميت حياة، وقالت لا مهرب منه، لكنها لم تشأ الهرب من مسؤولياتها. سأساعِدُكَ، سأرأفُ بكَ، سأحميكَ من نفسِكَ، قالت الفتاة البيضاء للسمك، دون أن تفعل شيئًا. هَرَفَتْ بكلمات لا طائل من ورائها، كالبرتقال الفضيّ، كالفضة البرتقالية، كالبرتقال البرتقاليّ، كالفضة الفضية، كالبرتقاليّ البرتقاليّ، كالفضيّ الفضيّ. كلمات، فقط كلمات، ككلمات الدجال من الأنبياء. لم تكن لها وللسمك هوية واحدة وكان لها وللسمك لون واحد. اللون ليس الهوية ولا الخراء. تفاقم قضم الحصى، وبدا للفتاة البيضاء أن قمم جبال الملح تنهار. تماسكت، وقالت لنفسها: البغلُ الهَرِمُ لا يُفْزِعُهُ صوتُ الجُلْجُل. انهارت قمم جبال الملح بالفعل، فكان رد فعلها الطبيعي، ألا تنهار الطبيعة، ألا ينهار الكون. فرشت بطنها للسمك المربع، وفي رأسها اهتزت القاعة من التصفيق. التهم السمك الأبيض سُرَّتَها، وغاص في بحر بطنها. لم تكن في بحر بطنها تماثيل الملح، كان كل ما فيه ينطق بلسان الخراء الذي تفجر، وأغرق العالم، بإرادةِ من هَزِقَ بالضحك. حاوَلَتِ النومَ، وككل ليلة لم تستطع. كان السهاد، لا شيء غير عقرب موت تفتح عينيها على الأحياء. لم تكن تفكر في امرأة حبلى بالأوهام كانتها ما بينهم. لم تكن تفكر في رجل يرفع قضيبه لها مهددًا. تساقطت النجوم سوداء، والأقمار سوداء، والثلوج سوداء. كانت بيضاء، والأسود لون سهادها. الاكتئاب لا لون له، له طعم الملح وكرز الهُنَاك. تناولت كمشة من الحبوب مع كأس ماء دون فائدة. ما العمل لأجل إغراء شيطان النوم؟ كشفت له فخذيها، بطنها، ثدييها. خلعت قميص نومها، ومدت له ذراعيها. رجته أن يأتيها، جذبته إليها، جعلته فوقها، أحسته فيها، فتأوهت، وقطعت الموج والزجاج، أدمت أصابعها، أدمت روحها، نهقت، لعنت العالم. المغرور.

* * *

انتثرت النجوم هنا وهناك في مقبرة بير لاشيز، كانت عيون النائمين فيها المتلألئة بفرح العدم. وعلى العكس، كانت أنيتا تبكي، وتذرف الدمع السخين. لم تكن تدري بمن تلوذ، كانوا يفتحون قبر الفتاة ذات العشرين عامًا التي دُفنت هذا الصباح ليخرجوها، فاقترب من أنيتا حارس المقبرة، وأخذ يعمل على استرضائها.
- كل ما في الأمر أننا نُكريها، يا آنسة أنيتا، وعند الفجر سنُعيدها إلى أذرع الملائكة كما هي عادتنا مع غيرها، فكفكفي دموعك.
لم تكفكف أنيتا دموعها، بل انفجرت على صدر حارس المقبرة باكية أضعافًا مضاعفة، وهذا يهدهدها:
- طيب، يا آنسة أنيتا! طيب، يا آنسة أنيتا!
وضع الرجلان جثة الفتاة في سيارة لاند روفر بيضاء، وصاح أحدهما قبل أن يجلس وراء عجلة القيادة:
- كل شيء تمام!
- هيا، يا آنسة أنيتا! طلب حارس المقبرة برفق.
دفعها بنعومة، وهي تضغط الصليب الكبير على صدرها، وأجلسها إلى جانب الجثة.
- كما قلتُ لكِ، عند الفجر سنُعيدها إلى أذرع الملائكة.
غادرت اللاند روفر البيضاء المقبرة الشهيرة شاقة شوارع باريس المشعة بالأنوار المرتدية للأحلام إلى مكان منعزل في أحد الأزقة الشعبية. لم يكن هناك أحد، لم يكن هناك شيء آخر غير النجوم. حمل الرجلان الجثة، ودخلا من الكراج إلى صالون تجميل. مدداها على حمالة، وتركاها مع أنيتا. بعد تردد، كشفت ساحرة السويد وجه الميتة، كالقمر كان وجهها. وهي على وشك البكاء من جديد، حضرت امرأة في كامل أناقتها.
- كالعادة كما أفترض، قالت المرأة بصوت مفعم بالحياة.
- كالعادة، ردت أنيتا بصوت مثقل.
كشفت المرأة كل الجسد الرائع، ودفعت الحمالة إلى الحمام، وراحت تغسل الفتاة الميتة، ولما انتهت، نشفتها، وجففت شعرها، وعطرتها، وعادت بها. بعد ساعة من الزمن، كان الجثمان في كامل زينته. فتحت المزيّنة يدها، فوضعت أنيتا فيها رزمة من النقود.
- إنها لكِ الآن، ألقت المرأة ببشاشة قبل أن تذهب.
تقدمت أنيتا من ساحرة الموت، وتأملت وجهها الفتان مليًا، ولم تقدر على عدم الابتسام، وعدم الرغبة في طبع قبلة صغيرة على ثغرها.
عادوا يشقون شوارع باريس، والأنوار تنعكس على وعن الموت الجميل في ثوبه الشفاف. بدت الفتاة الميتة تبتسم لباريس، وباريس تبتسم لها. كم رائع هو الموت، همهمت أنيتا لنفسها. كان كل أحلام الأحياء.
من الباب الخلفي لعمارة في الأنفاليد، باب الخدم، دخل الرجلان بحملهما إلى المِصعد، وأنيتا لا تتوقف عن طلب الانتباه إلى مليكة السماء. وَضَعَهُم المِصعد في الطابق السادس، وكان عليهم أخذ الدرج إلى الطابق السابع. غضبت أنيتا، لأن رأس الفتاة الميتة ضرب في الجدار، وفي الدرابزين، فلمسته بحنان لتزيل وجعه. دخلوا شقة من باب منفرج، واتجهوا إلى حجرة نوم مددوا في السرير ساحرة الموت. خلعوا ثوبها الشفاف، وجعلوها عارية تحت غطاء. اطمأنت أنيتا إلى أن كل شيء على ما يرام، فصرفت الرجلين، وقطعت ممرًا طويلاً في آخره باب فتحته على حفلةِ استقبالٍ المدعوونَ إليها في كامل صخبهم.
- كل شيء على ما يرام، يا سيدي، همست أنيتا في أذن صاحب الحفلة.
- أشكرك، همهم الرجل الثري، خذي قدح شمبانيا.
- أفضّل الذهاب.
لكنه تناول قدح شمبانيا عن صينية، وقدمه لها.
- أفضّل الذهاب، وسأعود على الخامسة صباحًا.
- سأحتفظ بك هذه المرة.
- ولكن، يا سيدي...
وضع قدح الشمبانيا في يدها، وهو يبتسم بندى، فلم تصمد طويلاً.
- لماذا؟
- هكذا.
- فهمتُ، ستفعل هذا أمامي. أنت مريض بالفعل، يا سيدي!
- لدي الكثير من النقود، لهذا.
- أغرب الأغرب!
- كما تقولين.
- لنبدأ إذن.
- ليس قبل أن تجرعي كمية من أقداح الشمبانيا.
- اطمئن، إنها جميلة كالقمر! الناظر إليها لا يشك أبدًا في كونها ميتة.
- ليس لأجل أن تحتملي ذلك.
- لأجل ماذا؟
أعطاها ظهره، وذهب إلى مجموعة أنيقة من الرجال، وراح يهمس في آذانهم. جرعت أنيتا قدح الشمبانيا الأول، فالثاني، فالثالث، وتناولت الرابع، وزحفت حتى البوفيه. أكلت من الطعام أنعمه، ابتسمت لهذا، وهزت رأسها لتلك.
- اتبعيني! همس صاحب الحفلة في أذنها، فتبعته.
سحب الرجلُ الغطاءَ عن الجسدِ الميتِ، وقال مسحورًا:
- حقًا! إنها جميلة كالقمر.
خلع ثيابه، وراح بجسد الفتاة الميتة قُبُلاً تحت عيني أنيتا الذائبة اشتهاءً. مد يده إليها، فجاءت، وهي تخلع ثيابها خلع الممسوس من طرف الشيطان، ومارس الرجل الجنس مع المرأة الحية والمرأة الميتة.
- هل أعجبكِ؟
- أعجبني.
- إنها تجربة فريدة في التاريخ!
- أعرف. لهذا.
- لهذا ماذا؟
- لهذا.
- لماذا تبتسمين؟
- هكذا.
- هكذا لماذا؟
- هكذا.
- قولي لي.
- لأذهب بك إلى كل المقابر.
- إلى طنجة.
- هل للمقابر في طنجة صفة خاصة؟
- لا.
- لماذا طنجة؟
- لا أعرف.
- هل تعرف طنجة؟
- لا.
- ولا أنا.
- أعرف ستوكهولم.
- مقبرة كبيرة ستوكهولم. بيضاء.
- كالموت.
- كالموت.
- كالحلوى بالقرفة.
- ماما...
- ماذا؟
- لا شيء.
- قولي لي.
- كان هناك قبر، قبري المفضل، وكانت ماما...
- وكانت ماما؟
- لماذا أقول لك هذا؟
وهما يدخنان سيجارة، إذا بالباب ينفتح، وبالمجموعة الأنيقة من الرجال تدخل. تركهم صاحب الحفلة بصحبة الفتاتين المُطْلَقَتَيِ السلطة، ومارسوا بدورهم الجنس بِدونِ استعداء ودونِ أيةِ أغراضٍ عدائية.


* يتبع القسم الخامس