وصول غودو القسم الثالث نسخة مزيدة ومنقحة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4377 - 2014 / 2 / 26 - 16:13
المحور: الادب والفن     



في محطة الشمال، كانت الدنيا تقوم ولا تقعد، القطارات في حركة ذهاب وإياب لا تهدأ، والركاب يقومون بطقوس من جهنم، كما لو كانوا شياطين على عجل دائم من أمرهم، كانوا يسحبون حقائبهم أو يحملونها وكأنهم يسحبون أقدارهم ويحملون عبء ذنوبهم، وهم دائمًا لا ينظرون إلى ما يفعله غيرهم، ويبحثون عمن ينتظرهم على باب الجحيم، فينقذهم من عذابات الحياة والقلق الناجم عن الأحاسيس الماورائية المتولدة من التفكير في الحصان الأبيض والأقاقيا، في الدانتيل والموسى، في المال ومقدمي البرامج التلفزيونية الذين هم ها هنا دون حياء منذ عشرين ثلاثين أربعين بل وخمسين عامًا، وغدوا لهم واحدًا من كوابيس كل يوم. كنتُ الوحيد ما بينهم دونَ أن أكون ما بينهم بدونِ حقيبةٍ أحملها أو أسحبها ودونَ أن يكون أحد بانتظاري، فينقذني من عذاباتٍ لم تكن عذاباتي، ويزيل عني قلقًا لم يكن قلقي. لهذا كان يمكنني الابتسام في عالم كل ما فيه يبعث على التجهم، وحتى القهقهة إلى حد تفجر الخراء في الأمعاء، وتلويث وجه العالم. ابتسمتُ على مرأى امرأة مفرودة القامة، في حوزتها عدد من الحقائب والأشياء الأخرى، وكأنها تنقل معها كل ما تمتلك. في هذه الظروف، كانت في وضع من ينتظر عونًا من أحد، إلا أنها بدت جهنمية قادرة على حمل أشيائها وحقائبها، حتى بلا عربة، صورة لعصر حديث قام على القوة، فلم أمد لها أيةَ يدٍ للمساعدة. ند عنها نباح مُخْشَوْشِن، وهي تنبذ البشر نبذ النواة. كل هذا كمن يحمل موته بيد وحياته بيد، كل هذا كمن يصعد الجبل لأجل أن يقطف زهرة غير محددة المعنى، كل هذا كمن يريد أن يكون شخصًا لا عاديًا. لكن عازف الغيتار، ذلك الشُّحْرور الناريّ، الجالس هناك، توقف عن العزف، وجاءها يعرض عليها خدماته، فانتهرته، وطردته، وأنا أواصل ابتسام من لا يريد الحد من رغباته الشيطانية، وأنظر إلى الشاب الموسيقيّ بطرب المحصور بفكرة الحصان الأبيض. المتعذر الحصول عليه. حملت المرأة أشياءها وحقائبها، وتحركت، أشبه بالتنين على أرض الجحيم، وأخذت تقهقه كمن تقول لنفسها ها أنا أنهض بأعبائي، وأتحمل كل مسئولياتي. تركتها من ورائي، وهي واثقة بقدراتها، وفي الوقت ذاته قلقة من ألا تكون على قدر هذه القدرات، أن تخونها قدراتها أو أن تتخلى عنها، فيكون فشلها. ألم أقل لكِ إنك ستموتين تحت عبء قدراتك؟ هذا ما يثير الكدر في نفسي، ثقتي الكبيرة في قدراتي، لا شكي فيها، يا دين الرب! وجدتني أسير إلى جانب أم تحمل بين ذراعيها طفلة لم تتجاوز العامين شبه غائبة عن الوعي، ظننت في البداية أن ذلك بسبب عدم تحملها السفر في القطار، لكنني كنت على خطأ، فالأم صفعت ابنتها ما أن رفعت الصغيرة رأسها تريد السير على قدميها: "هذا لأنك شيطانة ابنة جن! لماذا لم يمتني الله يوم مولدك؟ أنا، لا أنتِ، يا حبيبتي! أنا، فقط أنا!" وانفجرت باكية قبل أن تتابع: "فأنا لا أحتمل ما أنا فيه، لا أنتِ، يا قملتي، أنا، أنا!" عرفت حينذاك أن البنت كثيرة الحركة تسبب الإزعاج للأم إلى حد تمني الموت، وبدافع الخوف على ابنتها من الضياع في محطة الشمال كانت الأم تضربها، وتُفقدها حيويتها. على الرغم من الوحشية الأمومية للمرأة داومت على الابتسام الشيطاني الذي لي، فلنقل، والحال هذه، داومت على الابتسام الشيطاني دون أن يكون ابتسامي في محله، خاصة وأن الصغيرة كانت تتألم لتصرّفٍ بلا عِوَض، وتُرْغَم على وضعٍ غير وضعها، وضع تنطلق فيه بحرية صغار الأفاعي ككل الأطفال. لم تنقطع ابتسامتي الشيطانية، ابتسامة تحصيل الحاصل، لكن رجلاً وامرأةً يصطليان في نار الكره شدا انتباهي إليهما، وجعلاني أتبعهما. كان كل منهما يسحب حقيبتين ضخمتين كحوتين، ويشقان طريقًا تنفصل إلى اثنتين في وادي الجحيم. لم يكن الواحد يلقي على الآخر أية نظرة، بينما قرأت في عينيهما كل صفحات الضغن والسُّم، سُمٌّ وضغنٌ جعلا من محياهما عشًا لبنات ذي الناب. تجاوزتهما، وأدرت رأسي إليهما، وأنا أترك ابتسامتي الشيطانية تمزق بمخالبها الوجهين الجهنميين. كانت طريقتي في دكهما إلى الحضيض. إذا بالمرأة تفلت حقيبتيها من يديها، وتأخذ بتمزيق وجه الرجل بأظافرها، وهي تهمر، وتبدي عن نواجذها، بينما الرجل يحاول تدارك ذلك دون أن ينجح. كان الناس ينظرون إليهما بشيء من التلذذ، كانوا ينظرون إلى الرجل والمرأة، وإلى بعضهم البعض، ويرتعشون حبورًا، كانوا يرتعشون حبورًا، وبعضهم ينتظر أكثر، أن يدافع الرجل عن نفسه كمجرم كسفاح كتمساح أمريكيّ، فيغرق الكل في مستنقعٍ للأوباش. لم يكن المشهد عاديًا يتكرر كل يوم، لهذا كانوا يرتعشون حبورًا ارتعاش الأحياء على حواف قبور غيرهم، وهم يصبون إلى المزيد، حتى أن شابين، أسود وأبيض، كانا هناك غير بعيد قد توقفا عن خلع ملوك الشطرنج، وأتيا بأظافرهما ليشاركا المرأة في تمزيق وجه الرجل. ماذا دهاكما، يا دين الكلب! تفجرت المرأة بهما، هذا رجلي، وهذا بصلي معه، فاذهبا إلى النعيم! ضغطته على صدرها، ولعقت جراح وجهه، وجهه، كل جسده. بعد ذلك، سحبت المرأة حقيبتيها بارتياح لا يصدق، وعادت من حيث جاءت، باتجاه القطار، بينما لم تمنع مجموعة صاخبة من الشبان والشابات الحاملة على ظهرها أو الساحبة بيدها حقائبها الرجل من اللحاق بالمرأة، والرجل كل أمارات الرغبة في الانتقام تَشُلُّ وجهه لتغطي كل كِيانه. لم يجعل الرجل مجموعة العفاريت الصغار التمكن من جرفه في الاتجاه المضاد، وهو يضرب بقبضته هذا أو ذاك، هذه أو تلك، أينما كان، في الوجه، في الصدر، في البطن، وهو يضرب بقبضته، وهو يضرب بقدمه، دون أن يترك نفسه طوع إرادة أخرى، وبدوره مزق وجه المرأة، ولعق جراح وجهها، وجهها، كل جسدها، وعند ذلك بدا عالم الجحيم عالم استرداد الشرف للجميع. للجميع؟ ليس تمامًا، فتلك الراهبة الحبلى كانت تمشي مثقلة ليس مما في بطنها، كانت مثقلة بشيء آخر غير الشرف، شيء اسمه العار، العار من الذات، العار من الوجود، العار من الظل، كانت مثقلة بظلها، بالعار من ظلها، وكانت تتحاشى النظر في عيون الناس، ليس مثلي أنا ابن الشرموطة، كانت تسعى إلى الاختباء منها، ولكن كيف؟ ثوبها الفضفاض ممتلئ ببطنها، وبطنها هو العار، عار اسمه الانتكاح، لامرأةِ دينٍ الانتكاحُ هذا اسمه العار، وشيء آخر ربما كان الأقاقيا، فالأقاقيا هي الوجه الآخر للعار، للأقاقيا والعار نفس المعنى، لكنهما شيئان مختلفان. "ما هذا سوى تَنَكُّر، يا دين القرد! همست الراهبة الحبلى لنفسها، ككل شيء، كالعرصة في بيغال، كوزيرة الثقافة، كامرأة الفضاء، تَنَكُّر، الشيء الوحيد الحقيقي ما هو فيّ، هذا الجنين الذي سيبدأ موته يوم مولده، جنين أيًا كان أباه. إنه زوج أمي الذي قتلته، يا دين القرد! ولأنجو من فعل رهيب كهذا كان عليّ أن أختار تَنَكُّرِي: قناع المعتقَلة أو قناع الراهبة."
كانت إحدى نجيمات السينما تشكل صدرها بأقاقيا كبيرة، وتصبغ وجهها بماكياج هائل، ترفع إلى الأعلى شعرها كناطحة سحاب، وتمضغ علكًا، وهي تفتح فتحًا كبيرًا شفتيها الملوثتين بأحمر الشفاه تلويثًا عابثًا، وتبتسم لجمهور خفي من الشياطين ورواد البورصة، كان ذلك تَنَكُّرَها، وكانت تحرك بإصبعها حقيبتها البلاستيك، بغنج، بإثارة، بإغواء، وهي تنظر إلى كل من يتجاوزها بتحد بيغاليّ. "تعال، كي أرميك تحتي"، كأنما كانت تقول لكل من يضرب كتفها بكتفه، فجاء من جاء. حمل لها ثلاثة شبان حقائبها، فاعتقدت أنهم عرفوها. في فيلمها الأخير كان لها دور لا يذكر، "ربما شاهدوا الفيلم أكثر من مرة، منايك الخراء هؤلاء!" قالت لنفسها. ضاعفت من غنجها، ودلعها، وقرفها، والشبان الثلاثة أحاطوا بها، والتصقوا بها، وجذبوها، وأحدهم قد مد براثنه، ومزق رافعة ثدييها، مما أفزعها، فصرخت، ودفعتهم بقوة، وعنف، وبربرية، وأخذت تركض، وهي تضرب بالمسافرين في محطة الشمال، تضرب بالأشياء، حطام الدنيا.
"تعال هناك، يا حبيبي." كان الصبي في التاسعة أو العاشرة، وهو يزن تسعة وتسعين كيلوغرامًا. "هناك، تعال هناك، سترتاح قليلاً، ثم سنواصل طريقنا، يا حبيبي"، قالت الأم، وهي تبحث عن حظوة لدى ولدها. "أنا تعب، يا ماما"، قال الصبي، وهو يشعر شعور من ارتكب ذنبًا. "أعرف، لهذا، اجلس، يا حبيبي"، قالت الأم. "لماذا لا تحملينني، يا ماما؟" قال الصبي. "سأحملك، اجلس أولاً، أرح قدميك، يا حبيبي"، قالت الأم. جلس الصبي قليلاً ثم نهض. "أرحت قدميّ، يا ماما"، قال الصبي. "أنت متأكد، يا حبيبي؟" سألت الأم. "أنا متأكد، يا ماما"، أجاب الصبي. "أرحت قدميك، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا حبيبي؟" "أرحت قدميّ تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، يا ماما." "إذا أرحت قدميك تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا تمامًا، دعني أحملك، يا حبيبي." كان ثقيلاً كالمرساة، فوقعت به، والصبي يقهقه. كان يعشق هذا، وكانت تقول: "للناس في ما يعشقون مذاهب."
لم يكن أحد بانتظاري، ويا للحظ! فالمنتظرون لغيري لم يكونوا لإنقاذ الناس مما هم فيه. كان الصديق أو القريب أو الحبيب أو الخادم أو السائق أو السارق أو الناهق أو الباشق أو وكيل أحد الفنادق أو... كانوا يتقابلون كالغرباء: كل واحد منا سيأخذ القطار ذات يوم! لهذا كان اللقاء ما بينهم عابرًا، من قطار إلى آخر، من محطة إلى أخرى، من جحيم إلى آخر، من فاست فود إلى آخر، من تنزيلات إلى أخرى، من سوق إلى آخر، من نويل إلى آخر، من نوبل إلى آخر، من فيلم فرنسي إلى عرس إسلامي الرجال فيه مفصولون عن أقلام الحُمرة. الرجل غير سعيد بلقاء المرأة أو المرأة بلقاء المرأة أو الرجل بلقاء الرجل. رجل في الستين لم يكن سعيدًا بلقاء زوجه الصبية، زوجة صبية في العشرين، ليس لأنها دميمة، وهي حسب شهادتي ليست دميمة، ولكن لأنه لم يكن سعيدًا بلقائها. كانت زوجه، كان يعرفها، والآن لم يعد يعرفها، هل كان حقًا يعرفها؟ لهذا لم يكن سعيدًا بلقائها، بانتظار أن يأخذ القطار القادم، فالأقاقيا قطارات نأخذها. متى تكون آخر محطة؟ لا أحد يعرف. كالموت. القلق ليس لأن لا أحد يعرف متى، ولكن لأنها ستكون آخر محطة. وبعد ذلك؟ بعد المحطة الأخيرة؟ الماخور الأخير؟ فالإنسان مسافر بطبعه. ليجيب على سؤال اللاوجود اخترع حماقات الوجود، الشعائر الدينية، الانتساب إلى الأحزاب، أتبار الشوكولاطة. كان ابنٌ غيرُ سعيدٍ بلقاء أبيه، كان يتمنى لو يكون أي واحد من الموجودين في محطة الشمال أباه ما عدا أبيه، ليس لأنه يكرهه، ولكن لأنه لا يحبه، ليس هكذا، لأنه لا يتوقف عن الرحيل. الهناك شيء أبعد من جهنم، سيبيريا، هونولولو، جزيرة العرب، البحر الميت، آه! البحر الميت. لهذا، لنحيا علينا ألا نعتاد الرحيل، هذا ما سيعرفه الابن فيما بعد، عند ذلك سيحب أباه، وسيكره إيّاه. نسج الكلام. نسج الخيال. لنعد إلى التَّنَكُّر، إلى الحقيقة الزائفة للأشياء في محطة الأقاقيا: كانت راهبة أم عليا تقف هناك قصيرة مكعبلة متذمرة تميل برأسها يمنة ويسرة بحثًا عن الراهبة الحبلى بين القادمين، وتهمهم شاتمة، وعندما رأتها في الأخير ببطنها المنتفخ الدافعة له كبطن الأسقف من أمامها، قبضت على الصليب، وأخذت تضرع إلى الله، وتدعو عليها بالدمار، وعلى الكون، تدعو، وتدعو، وتهمهم، والقادمون لم يكونوا ليهتموا بما تدعو. بماذا تنصحني؟ كان القادمون لا يبالون بما تهمهم، يتباطأون، ولم يكن يبدو عليهم أن رحيلهم قد انتهى مع وصولهم إلى محطة الشمال. كانوا في رحيل أزلي، وكانوا يجرجرون حقائبهم، وهم يخبطونها بحقائب غيرهم، وكأنهم مكرهون على ذلك، يخبطونها بكل من يعترضهم، فلا تُسمع في الآفاق سوى صيحات الألم وصرخات الاحتجاج: يلعن دين... ابنة الشرموطة... ابن الشرموطة... بدي أنيكك... كانوا لا يترددون عن رمي حقائبهم من أعلى الدرج المؤدي إلى المترو. مواطنو الدولة الأكثر رعاية. بماذا تنصحني، يا دين الرب؟ رَفَعَ وكيل أحد الفنادق لوحته المكتوب عليها اسم النزيل المجهول في وجهي، وكأنه يرمي إلى ضربي بها، وهو يعبس سائلاً إذا ما كنت هذا النزيل، وأمام ابتسامتي الشيطانية الملوِّثة لثغري تركني إلى قادمٍ ثانٍ ثم إلى قادمٍ ثالثٍ، وهكذا دواليك، دون أن يتوقف عن العبوس كالوغد، عبوس وبشاعة لا مثيل لهما، بينما كان وكلاء آخرون أكثر إجرامًا يجذبون القادمين من خناقهم مهددين، فيذهب هذا أو ذاك معهم. وقفت أراقب وكيل الفندق ذاك، وقد غلبت على صوته خشونة الكاره لجهنم، لموزارت، لميتشيغان، ينادي، وينادي، وينادي، وهو لا يتوقف عن العبوس كالوغد إلى أن وجد نفسه وحيدًا بعد مغادرة كل الركاب. قوس قزح. شاذ. منطق ثنائي. أخذ بلوحته يضرب حتى حطمها، ورأيته، وهو يشد بأصابعه شعره، يريد اقتلاعه، ويبدو أكثر بشاعة من ابنة هيغو. عندما لاحظ أنني أراقبه كالملاك الخارج على القانون جاءني، وعاد يسألني، ويهددني، يريدني أن أكون السيد المنتظر، فكانت ابتسامتي الشيطانية جوابي دومًا. رماني بعدة شتائم مغلظة، وهو يعبس، وارتدى وجهه قناع كل الفجائع الدموية في المسرح الإغريقي، ثم ذهب بطيئًا متثاقلاً، دون أن يلقي نظرة أخيرة على رصيف المحنة، كغيره، ليس كل غيره. "ما به؟" سألني أحدهم. "ذابت أَظْفَارُهُ فيما لا طائل له"، أجبت. "هذا ما يذهلني". "في جحيم محطة الشمال لا تزال في الأذهان ذكرى اللهب الذي انطفأ مثلكم جميعًا، الأحياء ما بينكم ذكرى، فانسَهُ!" شيء قليل الأهمية، رواية مشوهة، سر شائع. كان رجل في بدلته السوداء المخططة وقبعته السوداء الحريرية يُحْدِقُ النظر في اتجاه الرصيف، والدمع يسيل من عينيه. رأيته يبكي كالثاكل، ولا يمسح دمعه السائل على خده. كان يبكي، ولم أكن أدري إذا ما كان يبكي على حبيب لم يصل. كان يذرف الدمع، ويداوم على النظر في اتجاه واحد حتى غاب كل شيء في عينيه، لم يعد يرى شيئًا، غدا العالم جحيمًا أبيض منطفئًا، أطفأ جحيم العالم بدمعه، وأبقى على جحيمه مشتعلاً، ليذيق نفسه ضربةَ منقارٍ عقابًا.
في محطة الشمال، كان الكلام شيئًا أقرب إلى السُّخرة، شيئًا مرهقًا ومفقدًا للأعصاب، فمكبر الصوت لا يتوقف لحظة واحدة عن إرهاب المسافرين، وذلك بإعلان وصول هذا القطار أو ذاك، مغادرة هذا القطار أو ذاك، تأخر أو إلغاء هذا القطار أو ذاك، باللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، لغات بناءة لكنها في هذا السياق هدامة، أضف إلى ذلك الرقص الجهنميّ الذي تمارسه اللوحة العملاقة بأزرارها المضيئة صعودًا وهبوطاً على إيقاع هو أيضًا هدام مدمر. نُصْبَ عينيّ، كان المسافر يخضع لكل هذا الصخب، وكنت أتساءل إذا ما كان ذلك من طبيعته، وزيادة على هذا، ذلك التواطؤ إلى حد الاشتراك في الجرم من طرف المضيفة عندما تصر على الاعتذار إذا ما تأخر قطار عن الوصول بنبرة فوقية تدغدغ عدم الصبر الأزلي لدى الفرد أو عندما تصر على التهلل عند وصوله في الوقت المحدد بنفس النبرة الفوقية دومًا، نبرة تعيد إلى الفرد الضائع في الجحيم بعض التوازن. كانت نبرتها المخضعة نبرتها الجسيمة بمثابة ترويض للذات قبل الأذن، لهذا كان الواحد يصرخ عندما يحادث الآخر دون حرج، لا شيء غير الصراخ في الجحيم، وفي الجحيم يعتاد المعذبون صراخهم، حتى ولو لم يعتادوا جحيمهم هم يعتادون صراخهم، ويقبلون خراهم. والحال هذه، كان فتى وفتاة جالسين حول طاولة أحد الأكشاك المقامة في وسط المحطة، وهما يصرخان عند الحديث ولا أحد ينتبه إليهما، وأولئك الذين لم يكونوا يصرخون لحديث كانوا يصرخون لوجع كأولئك المنتظرين دورهم من أجل خلع أضراسهم لدى طبيب أسنان المحطة، أو أولئك الذين يتصفحون كتب الكاتب الموجعة صوره وكلماته، أو... أو أولئك الذين يرتعدون فرقًا على رؤيةِ سمكٍ قرشٍ ذكرٍ وسمكةٍ قرشةٍ أنثى في حوض غير بعيد من أصابعهم دون أن يمثل لا الواحد ولا الواحدة تهديدًا حقيقيًا لهم. كان الفتى والفتاة يصرخان، وكأنهما يتشاجران، فقلت لا بد أن أحدهما على وشك السفر بعد أن قررا الافتراق إلى الأبد. كان الشرر ينبثق من عينيهما، وهما يبتعدان برأسيهما من فوق فنجان قهوة وزجاجة كوكا-كولا، وهما يبتعدان بجسديهما، وهما يبتعدان بِكِيانيهما، وهما يبتعدان بقبلات الأمس، وهما يداومان على الصراخ بطريقة حاقدة ولئيمة وذئبية. لم يكن بإمكاني متابعة حركة شفتي كل منهما، كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، والكل يسمع ما يقولان دون أن يميز بالفعل ما يقولان، فالكل بدوره يصرخ. ذاتية الكائن هي هذا، مزيج من الدفاع الذاتي والتدمير الذاتي. خيل إليّ أنني أسمع قرعات طبول، وأصوات أبواق، وخيل إليّ أن وفودًا من شياطين جهنم بدأت تتقاطر. كانا لا يتوقفان عن الكلام بسرعة صارخين، ومعًا في آن واحد انفجرا ضاحكين، ضربا كفيهما كفًا بكف، وهما يهزان رأسيهما لماخور مفاجئ، فقلت لا بد أنهما وجدا حلاً لمسألتهما، وهما لهذا السبب يقهقهان كأبناء العفاريت. توقعت أن يأخذا القطار معًا لكنهما نهضا فجأة، تأبط كل منهما ذراع الآخر، وسارا في الطريق المؤدية إلى باب المحطة. ابتسمت هذه المرة لانخداعي انخداع البطاطا: عاشقان يعود أحدهما إلى الآخر في محطة للقطارات دون أن يأخذا أيًا منها إلى جهة من الجهات! كان موعد كهذا أشبه بالموعد مع الأنا، الأنا السفلى، فأي قطار سنأخذ إلى الذات المنحطة، لنفهم ذاتنا الوضيعة، ومع من؟ صَلَفٌ تحتَ الراعِدة! جاءت فتاتان كشخصٍ واحدٍ يتراءى في مرآته، وكل منهما تسحب حقيبة من الناحية التي ذهب منها العاشقان، وبعد أن قبّلت إحداهما الأخرى من ثغرها قبلة طويلة لاعبة انفصلتا، وذهبت كل منهما إلى رصيف. أخرجت كل منهما مرآة من حقيبة يدها، وبدأت بمخاطبة نفسها: "وماذا لو وقع حادث، انقلب القطار أو فجره إرهابي؟" "أفضّل أن أقتل نفسي." "لِمَ انفصالنا إذن؟ لنقتل أنفسنا، هذا أحسن." "نقتل أنفسنا، فنموت؟ أنا لا أريد أن أموت!" "وعندما تحلمين بي في الليل، وأنا أنام على جسدك كاللهب، كجهنم، كالشيطان، كقصر الإليزيه، وبكلام آخر كالموت المدوخ؟" مضى أحد لاعبي الرُّغبي من أمامي، وهو يركض بكرته كالسهم المتلولب بين الموجودين في محطة الشمال دون أن يقدر على تفادي الكل، فيصطدم بهذا، ويصطدم بذاك. كانت محطة الشمال تمتلئ بالأقاقيا القادمة بقدر المغادرة، تضغط على نفسها ضغط الماء في حوض بابا قرشٍ وماما قرشةٍ وصغارِهِما، تصنع من نفسها جِرمًا واحدًا، جسدًا واحدًا لا يتجزأ، نوعًا من أكواريوم البشر، وكأن الكل إليها يجيء، محطة ممتلئة بالبشر وبالوقت، فلا نهاية للبشر، ولا نهاية للوقت. وكان لاعب الرُّغبي يركض بكرته من طرف إلى طرف ظنًا منه أنه يركض في ملعب، وهو يصطدم بهذا، ويصطدم بذاك، وأنا أتابعه بعينيّ دون أن يحتجب عن ناظري، فيلقي بالكرة وبجسده بين أكمة من الحقائب، ثم لا يلبث أن ينقل الكرة وجسده، ويقوم بما قام به، ولكن في الاتجاه المعارض. كان يلهث، ويعرق، ويبدو عليه التعب، كان يدفع ثمن اللعب. كان كل واحد من الركاب يدفع ثمن اللعب بشكل من الأشكال، فأَخْذُ القطار كان لعبة، لعبة تسليهم، كانوا يتلهون بالسفر والرحيل، الرحيل إلى أماكن عديدة بعيدة دون أن يهمهم أمر الوصول، المهم أن يقلع القطار، وتبقى أعينهم ثابتة على أمر الإقلاع إذا كانوا من المسافرين في محطة الشمال أو أمر الإقلاع في المحطات الأخرى إذا كانوا من المنتظرين، مع الشعور بارتباك كبير، وبرغبة جارفة في الهرب. جاء رجال المطافئ يركضون، دون أن أدرك السبب إلا عندما رأيتهم يحملون على نقالتهم لاعب الرُّغبي، ذهبوا به في الوقت الذي سقط فيه أحدهم تحت عجلات ناقلة الحقائب، والمسافرون يهبون إلى امتطاء أحد القطارات، وكأنهم يرتلون أغاني المجد. هذه هي كل المسألة! وصلني الصفير المؤذن بالرحيل، ورأيت شيخًا عجوزًا يهرول مع حقيبته ليلحق بالعربة الأخيرة. وهو يضع قدمه على عتبتها، أُغلقت الأبواب، فوقع على ظهره. نهض بقوة شاب في التاسعة عشرة، وتعلق بالقطار الذي أخذت عجلاته تدور. لم يكن خائفًا من السفر مع الموت، بل كان يسعى إلى ذلك، وكان يبتسم، دونما يرجع عما هو فيه. في هذا العمر، لا شيء يمثل تهديدًا غير هذا العمر!
وهذا النداء من ورائي: "جدي... جدي..." التفتُّ، كان شاب يبحث عن جده، سألني أين هو المُقعد الذي كان هنا، وكأنني المسئول عن اختفائه، لا يعلم على أي رجل يقف. قال إن اسمه "جان"، وهو ترك جده المُقعد هنا، في هذا الماخور. أوضح أنه تركه لأن امرأة نادته، كان لها صوت أمه، صوت رجيم، فذهب إليها. قال إن أمه ميتة، لكنه ذهب باتجاه الصوت. صوت كان يأتي من قطار، لكن القطار غادر. عندما عاد، لم يجد جده. ومن جديد، سألني "أين هو، يا قحبة الخراء؟" قلت "لست الرب العليم لأعرف، لم يكن من الواجب تركه." "ظننتها أمي، يا قحبة الخراء! همهم الشاب، أمي ميتة، لكنني ظننتها أمي، كان الصوت صوتها، ثم غادر القطار." راح ينادي "جدي... جدي..." وتركني، وهو لم يزل ينادي "جدي... جدي... جدي..." ماذا يعني أن تموت أمك؟ ابذل كُلَّ مُرتَخَصٍ وغالٍ! سبحان الله! لا تحسن الظن في شيء! هناك من أمام شباك بيع التذاكر كان اثنان يتبادلان الكلام بعنف لأن أحدهما قطاره على وشك الإقلاع، وهو يريد أن يشتري تذكرته، وما لبثا أن تبادلا اللكمات: "يا دين الرب! يا دين الرب!" لم يتدخل المسافرون، استمروا في شراء تذاكرهم، وكأن ذلك كان ردهم المسروق كرهًا. فتح شباك آخر، فشكلوا صفًا ثانيًا سريعًا من أمامه، وترك الكل الرجلين يتشاجران إلى ما شاء الله، إلى الأبد لو يلزم، رُذالة الناس. لم يكن ذنبهم لأنه تأخر عن الحضور من أجل قطاره، روح متحضرة أم غيره، لم يكن ذنبهم، شيء لا رادّة فيه. كانت سلطتهم المطلقة! وعلى مقربة ليست بعيدة، كان شاب أحمر الشعر، يضرب ماكينة تبديل النقود بقدمه، "لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟ كان يردد، لماذا سَرَقْتِنِي نقودي؟" "لأنك ترزح تحت ثقل الخطايا"، قلت له. "أية خطايا، يا دين الكلب!" تعجبت النار الحمراء. "أرسل نفسك على طبيعتها"، عدت أقول له. "قحبة الماكينة هذه ابتلعت نقودي، يا دين الكلب!" وعاد يضرب الروبو المالي بقدمه، في الوقت الذي كان فيه شرطيان يمضيان من هناك، فألقيا القبض عليه بتهمة السطو والتخريب، والشاب يتابع ما يدور مذهولاً خاصة وأن قطاره سيقوم بعد عدة دقائق. ماذا لو تقاسمنا؟ همس أحد المتسولين الغشاشين في أذني، وهو يقترب من الماكينة في اللحظة التي ذهب فيها الشرطيان بالشاب إلى مركز الشرطة. حكى معها بطريقة جعلتها تصرف النقود في الحال، وكأنه كان على تفاهم معها. من العبث أن يكون المتسول على تفاهم مع ماكينة الصرف، من العبث أن تفهم الماكينة كلامنا – هذه الماكينة - من العبث أن تسرق، الملوك يسرقون، والأمراء يسرقون، والرؤساء يسرقون، والوزراء يسرقون، والإسكافيون يسرقون، وكذلك الطيور على الساعة الثانية عشرة في حديقة الإليزيه، لكن كل ذلك جرى أمام عيني، ووقع دون أدنى شك مِنْهَجِيّ.
"جدي..."
دفع أحدهم الجد المُقعد بهوس الممسوس، وهو يقهقه، والجد يصرخ بكثير من الذعر، "ولكنك لست جان! جان، أين أنت، يا جان؟" تراشقا بالشتائم: "ابن الشرموطة!" "أنيك أمك!" "سأفقع قفاك!" "سأفجر خراك!" وفي اللحظة التي قذف فيها الممسوسُ الشيخَ المُقْعَدَ من رأس الدرج المؤدي إلى المترو، رفعتُ رأسي مع عدد من الرؤوس إلى إعلان عملاق لفتاة يطير شعرها وفستانها. كانت الفتاة على وشك الطيران، والسقوط بين أذرعنا، وكان الإعلان لبنك يشجع على الاستثمار، على استثمار كل شيء، وأول شيء الألباب. خلبت الفتاة أنظارنا، وكنا على استعداد لنفعل كل ما تأمرنا به صورتها مقابل تملكنا لها. أحس كل واحد منا بالفتاةِ ملكًا له، وبدأ كل منا يدفع الآخر بعيدًا عنها. جَعَلَنَا كل هذا الجمال الإلهي وحوشًا فيما بيننا، لم نعد نهتم إلا في إقصاء الآخر، أَخْذ مكانه في عالم الساقين، وكَنْس ما يمثله من خطر. كل الخطر الذي كان تحت الفستان دون أن نراه، ونحن إن رأيناه لا نريد السماع به، واكتفينا بدرء خطر الواحد عن الآخر. استرشدنا بقضيبنا لا بعقلنا ، وكنا لنا بالمرصاد. كانت مواعيد القطارات تتلاحق على اللوحة ولا أحد منا يهتم بها، غدت الفتاة كل الكون، وساقاها كل الوجود، كل اللاوجود، كل عدم الحياة، كل ثلوج السويد، كل أمطار الحبشة، كل ساحرات الدعاية. رأيت مجموعة من الفتيات تنتظر تحت اللوحة، وهن عازمات على وضع حد لنزاعنا، وذلك بلفت نظرنا إليهن. إنجليزيات. إنجليزيات وجوههن ملأى بالنمش، لكنهن جميلات كالشيطانات، كأسرارها، كإراداتها، كالرضاء بالموت، كالحاظيات برضاء الملوك. شيء عذري فاسق يطغو على نظراتهن. شيء أقرب إلى الخراب. لم يعدن ينتظرن القطار القادم. كن ينتظرن انهيارنا، فيأخذننا إلى الفردوس، جحيمهن كان الفردوس. رحن يبتسمن لبعضهن ثم رحن يقهقهن، وجعلن منا ضحايا أبديين. لم نعد أنفسنا. كنا شيئًا يشبهنا، شيئًا ليس ملموسًا، شيئًا أقرب إلى ظلالنا. عند ذلك، لم يعد أخذ القطار لهن والوصول إلى لندن أمرًا مهمًا. القطار القادم سيكون فيما بعد، سيقوم فيما بعد، سيقوم في اللحظة التي سيقوم فيها.
"من العادة أن يقوم الهرم على قاعدته ليلامس برأسه الشمس"، قال لي أحدهم، فانتبهت إلى ذلك البناء الشاذ في محطة الشمال. "للرطل رطل وأوقية، علقت قبل أن أضيف: الشمس في محطة الشمال غير الشمس، وأنا أفكر في الإله رع، هذا المغفل. يظل آلهة مصر بطبيعتهم أرضيين حتى الخراء، النيل شيء أرضي، والدلتا، والصعايدة بشواربهم المجرمة، كل ما في مصر أرضي، كل ما قيل عن حضارتهم غلط، كل ما في مصر رمل." كان باني هرم محطة الشمال ينقل الحجارة الثقيلة، وينظر من حوله بغضب من يرعى عليه حُرمته. لاحظتُ على صدره العاري أفعى جبارة وحشية تلفه، وكلما وضع حجرًا، التقط الأفعى، وعضها. "هكذا أقاوم سرطان الرئة، قال الرجل لي، وهو يعطيني ظهره، الألم يواجَهُ بالعنف، لهذا ألمي لم يحن. على ألمي أن يحين بعد أن أنجز بناء قبري." أشار إلى الهرم، وهمهم بكلمات لم أفهمها، كان يتكلم اللغة المصرية القديمة. تناول حجرًا ضخمًا، وفلقه كهمجيّ. "المدنية همجية، قال الرجل، المدنية سرطانية، شيطانية، جحيمية، وأنا لهذا أحطم المدنية." كتب على الحجر باللغة الهيروغليفية: ألم الإنسان هو رع الذي فينا!
كشف الرجل عن ذلك كسر، هل كان مضطرًا؟ كل شيء مكشوف في محطة الفراعنة دون أن نكتبه أو نقوله، كل شيء مرئيّ، كل شيء مسموع، لا أحد يخفي شيئًا. لهذا كان القلق الكائني الذي لنا، لأن كل شيء مكشوف، لا شيء خفي، لا شيء سري، لا شيء فضائحي، موت الأطفال لا شيء في بغداد أو في الأوتوروهات. أن تشرك بالله. سمعت شابًا أبيض البشرة يسأل مراقبًا عن رصيف أحد القطارات، فأشار الموظف إلى أحد الأرصفة، وهو يؤكد ذلك. لم تكن ساعة الإقلاع، لكنه كان واثقًا من الإقلاع حينما يحين ذلك، فالمراقب كان متأكدًا من الرصيف، والرصيف هو هذا. رُفِعَ من الأمر! لم يكن في حياته أكثر منه ثقة كتلك اللحظة. رُفِعَ الجثمان! كان واثقًا من قيام قطاره بعد قليل، وانطلاق كل حياته. كان إحساسه بضبط حياته كمن يضبط ساعته، لا خطأ هناك، لا خوف هناك، ولن يكون خطأ هناك أو خوف. كنت فخورًا به فخري بإبليس، لو كنت مكانه لراودني نفس الشعور بالثقة، بعدم الخطأ، بعدم الخوف، بامتلاك حياتي قبل أن تذهب حياتي إلى مكان لا يُرقى إليه.
وأنا أتأمل الشاب الأبيض بإعجاب ديني، تفاجأت بإحدى الفتيات البيضاوات، وهي تسحبه من ذراعه بعد أن طرحت عليه عدة أسئلة بخصوص قطاره، وراحت تعدو به إلى رصيف آخر. لم يكن الرصيف الصحيح، خَلَّته، وتركته هناك حائرًا، بعد أن عطلت عليه حياته. عادت الفتاة البيضاء، وهي تبتسم لي، فلم أبتسم لها، كانت قد عطلت على الشاب حياته، كل حياته. زجرتُها: "عاهرة قذرة!" أرادت أن تقبلني من خدي، فأشحت بوجهي عنها. "عاهرة قذرة! أعدت، عطلتِ على الشاب الحياة، لماذا فعلتِ هذا؟" "ليعرف كل شيء عن حياته بدافع الخوف والخطأ وبشكل آخر، ولئلا تكون ثقته بالأشياء ثقة عمياء ثقة الناس بحب الله لهم، فتغدو الأشياء لا شيء غير أوهام"، أجابت الفتاة البيضاء. قلت لنفسي هذه الفتاة يركبها الشيطان، فتركتها تتعلق بذراعي، وهي تعيد: "بدافع الخوف والخطأ، وما ألذ الخوف عندما نتمكن من الحد منه، وما ألذ الخطأ عندما نتمكن من معالجته." قالت إنها في محطة الشمال بالخطأ، لم يكن قطارها، لكنها عرفت أشياء مُرَوِّعة في محطة الشمال لم تكن تأمل بمعرفتها، وعرفت بالتالي حياتها، ما الحياة، ما الموت. سألتني إذا كنت على استعداد لأعرف كل شيء عن الحياة كما عَرَفَتْ، فترددتُ: "عن الموت؟" "عما في قلب الألماس الأسود من بياض." "إذا كان ارتكاب أخف الضررين هو ما سأعرف، فأنا لا أريد أن أعرف، ولأني هنا لا لأعرف كل شيء عن الحياة بل كل شيء عن محطة الشمال." "لا نشوش الأمور!" سحبتني الفتاة البيضاء من يدي كما تسحب حقيبتها، قيمة باطنية، وذهبت بي إلى آخر رصيف هناك حيث كانت أربع حقائب متروكة إلى منفذ جانبي لمكان من وراء كل القطارات بدا منقطعًا عن عالم المحطة، فلم يكن المكان الذي يشدني بالفعل. كان هناك مركز للشرطة فيه ضابط يبدو عليه الجوع، فرأيت فردين من أفراد الشرطة قادمين بظرف من الوجبة السريعة، كما ورأيت امرأة على باب أحد المكاتب المغلقة، وقبل أن تفتحه، وتدخل، ألقت نحوي نظرة كوبيدية، وهي تبتسم لي ابتسامة من بعث الله من الموتى. كانت الفتاة البيضاء لا تنظر إلى حيث أنظر، تسحبني، كما لو كنت حقيبتها، وكنت أتبع من ورائها طائعًا ككلب، إلى أن دخلنا منطقة تتسلقها خطوط السكك الحديدية كالشريانات من كل ناحية، جثث القطارات فيها كثيرة، قالت الفتاة البيضاء عنها إنها مقبرة القطارات. ونحن في قلبها، تحررتُ من قبضة الفتاة البيضاء، وابتسمتُ لها ابتسام الشيطان لمركزية ذاته، فلم تبتسم لي، وعلى العكس عَبَسَتْ، وتَجَهَّمَتْ، فمقبرة القطارات تبقى مقبرة تبعث على القلق، وتثير الأفكار السوداء كالبيضاء حول ما بقي منا أو ما سيبقى منا. ستعرف كل شيء عن الحياة بعد قليل، قالت لي الفتاة البيضاء، وبدا على وجهها الخوف. لم يكن القلق، كان الخوف. لم أقرأ القلق بين سطور وجهها، بل الخوف، خوف من كسروا بينهم رُمحًا.
أخذت تصلنا ضربات سوط من إحدى العربات المحطمة، وصرخات سببها العذاب والألم، اندفع في إثرها شخص بوزرة بيضاء مربوط بحبل من عنقه قافزًا يريد الهرب، والنفاد بجلده. ظهر رجل في ثياب القرصان على عينه عُصابة سوداء، ثم قفز، هو الآخر، من وراء الأول، وهو يجذبه بالحبل، ويواصل ضربه بالسوط، ويلعنه، ويأمره بالعودة وحَمْلِ حقائب أربع كانت موضوعة على باب العربة المحطمة، وهذا يصرخ من شدة العذاب والألم، ويترامى على قدميه. قال القرصان بصوت رنّان، وهو يشير إلى الرجل المربوط بحبل، إن الخادم هذا كذب عليه، الإنسانية تكذب دومًا، فهنا ليس شاطئ السين، هنا مقبرة للقطارات، بسبب الحقائب كذب عليه، فهو لم يعد باستطاعته حملها بعد أن حملها دون انقطاع طوال رحلة دامت... ينظر إلى ساعته، تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان. "أنا آت من جزيرة ضائعة في وسط المحيط عومًا، تابع القرصان، منذ تسعة عشر عامًا وتسعة شهور وتسعة أيام وتسع ساعات وتسع دقائق وتسع ثوان، وأنا أعوم كسمك القرش. وهذا الجحش يحمل الحقائب الأربع على ظهره، ويعوم ككلب البحر، ثم مشينا بعد ذلك طويلاً، طويلاً جدًا، مشينا بعد ذلك طويلاً جدًا، طويلاً جدًا جدًا قبل أن تكذب عليّ الإنسانية قائلة إننا وصلنا إلى شاطئ السين، لأجد نفسي في مقبرة للقطارات، مقبرة للقطارات فقط لا غير، هكذا هي الإنسانية، الإنسانية كاذبة منذ مولدها." "الإنسانية تخشى الموتَ حيةً"، قلت للقرصان. "إذن لماذا يا إنسانية جئت بي إلى هنا؟" طن رجل البحر. "لتموت"، قلت، والخادم يقبّل يد سيده. "كل هذه الإنسانية التي تتنفس كأقحب الكلاب، وتقول لتموت!" تعجب القرصان. "الموت يطاردها، وهي تطارد الموت، لهذا." أخبرته الفتاة البيضاء بشيء من الوجل أن خادمه لم يكذب، حقًا هم هنا في مقبرة قطارات محطة الشمال، لكن شاطئ السين على بعد عدة محطات في المترو. تنفس الخادم الصعداء، وهو يمسح جراحه، ويرمي سيده بنظرات مستعطفة. "شاطئ السين انتهى، أضافت ساحرة السويد، دون أن يذهب عنها الوجل، جمعت البلدية رمله في أكياس بانتظار فصل الصيف، فالأمور مرهونة بأوقاتها." عاد القرصان يجذب خادمه بالحبل، ويضربه بالسوط، متهمًا إياه بخداعه، ففصل الصيف لم يزل بعيدًا، يجذبه، ويضربه، ويلعنه، ويأمره بحمل الحقائب الأربع، للعودة من حيث جاءا، سيقضيان تسعة عشر عامًا آخر وتسعة شهور أخرى وتسعة أيام أخرى وتسع ساعات أخرى وتسع دقائق أخرى وتسع ثوان أخرى... "مهلاً، قلت للقرصان، وأنا لا أريد به خيرًا، ابقيا في المقبرة ضيوفًا على الأموات الحديديين حتى الصيف القادم، الصيف على الأبواب، وستأتيكما هذه الفتاة البيضاء بكل ما تحتاجون إليه، هذا وعد، أليس كذلك؟" أضفت، وأنا أتوجه بالكلام إلى الفتاة البيضاء التي رشقتني بنظرة فيها بعض الهلع، بينما عاد الخادم يقبّل يد سيده. وبعد تردد لم يدم طويلاً، طلبت منهما الفتاة البيضاء ما طلبتُ كمن تطلب الموت نائمة. أعادت "هذا وعد"، وهي تبحث قربي عن الاطمئنان. على الرغم من موقف الخادم الارتيابي، قلت "اترك مملوكك إذن وشأنه، الإنسانية توجعت الكثير مقابل لا شيء." بدت على وجه الرجل المعذب أمارات الشكر والعرفان، وانتظر من سيده أن يسمع لي، إلا أن رجل البحر رفع عن عينه السليمة العُصابة السوداء، وأخذ يفحص المكان دون أن يروقه ذلك. "بل سنذهب إلى فندق قريب من شاطئ السين، أي الفنادق أقرب إلى شاطئ السين؟" سأل. "كلها"، أكدت الفتاة البيضاء مع بعض الارتياح. أعاد القرصان العُصابة السوداء على عينه، ورفع سوطه إلى أقصاه يريد ضرب خادمه قبل أن يأمره بحمل الحقائب الأربع. أخذ الفتاة البيضاء خوف عظيم، فأمسكتُ بقبضته. "اضربه، قلت للمتجبر، ولكن لا تضربه أمام الفتاة." "فتاة قفاي!" "إذن سنتركك لتواجه ما تستحقه من مصير." "مصير قفاي!" "الغير المتروي من تصرف." "تصرف قفاي!" ما أن سمع الخادم قولي حتى استقام، واستطال، غدا أطول من سيده، وراح على سيده نباحًا، وبأسنانه هجم، وعضه من ذراعه، فدخل الاثنان في معركة ضارية لم نر نهايتها. كانت الفتاة البيضاء قد سحبتني من يدي هاربة، وطيور غريبة تنعق ليس بعيدًا، التفتت باتجاهها الفتاة البيضاء جاحظة العينين. حَمَلَتْ حجرين أو ثلاثة، ورشقتها بها، وهي تلهث من شدة الخوف، ثم عادت تسحبني من يدي، وذهبت بي بأسرع ما تستطيع عليه إلى قطار محطم يربض كجثة تمساح قرب شجرة جافة تكسرت كل أغصانها إلا من غصن واحد سميك في وسطها.
خرج من تحت القاطرة توأمان سياميان برأسين وجذعين وبطن واحد وأذرع أربع وسيقان أربع لم تخفف رؤيتهما مما لدى الفتاة البيضاء من وجل، فكأنهما تنين آدميّ. ما أن وقعا على النار البيضاء حتى سألاها بتعطش لا يُروى إذا ما أحضرت لهما الحبل المتين الذي طلباه منها. أجابت بالنفي، وأنا لا أحس بالهدوء يرين عليها، فقالا لم تبق لهما سوى فرصة واحدة للانتحار شنقًا، أغصان الشجرة التي جرباها كلها لم يبق منها سوى غصن واحد لم ينكسر. بدا عليهما الحزن، وجمجما "نحن خطأ لا يمكن تقويمه!"، فطلبتُ منهما ألا يحزنا، لأن طريقة الانتحار شنقًا ليست الطريقة الوحيدة، وهي ليست بالطريقة المناسبة. أزجيت إلى ذهن مرافقتي كل صور الموت التجريدية، فبدا على وجهها الخوف أكثر من قبل، أخذت ترتعد، وترجوني ألا أدلهما على ما ليس بمقدورها احتماله. كانت من طبيعة رقيقة، تقبل بكل شيء مهول على ألا تضطر إلى مشاهدته. "على الأمور المتعلقة بالموت في مقبرة القطارات أن تمضي كما لو كانت في عالم المحطة دون غصب أو اغتصاب"، قالت الفتاة البيضاء، وهي تزم شفتيها. لم يفهم التوأمان المشوهان كلامها، قالا إن عليهما العودة إلى ما تحت قاطرة قطار ولى زمانه، وطلبا من الفتاة البيضاء الانتباه إلى نفسها، وعدم الخوف، والشجاعة اقتداء بهما. "للشجاعة قوة، وأنا لست القوة، تدخلتُ، لعدم الخوف الشجاعة، وأنا لست الشجاعة، للانتباه إلى النفس الحماية، وأنا لست الحماية." "صغارًا كلما أشعلت لنا أمنا المدفأة كانت توصينا ألا ننسى إطفاءها قبل أن ننام"، ارتعشت ساحرة السويد. "هذا لأن أمكم كان همها حمايتكم"، علقتُ. "وكلما تضاربنا مع أندادنا في الحارة، وذهبنا نشكو أمرنا إليها كانت تضربنا." "هذا لأنها كانت تريدكم أن تكونوا شجعاء." "وعندما كنا نتردد في قذف أجسادنا في ماء البحيرة أيام الشتاء كانت ترغمنا على ذلك." "هذا لأن القوة لها أقوى من كل شيء." "ثم ماتت أمنا... وكأنها ماتت منذ قرون! ليس باستطاعتي أن أكون كغيري ممن هم في محطة الشمال، وأكثر في مقبرة قطاراتها"، عادت ساحرة السويد إلى الارتعاش. "هذا لأنكم الحضارة القادمة، الخوف هو التعبير العميق عن إنسانيتها." "حضارة أم غير حضارة، إنسانية أم غير إنسانية، هذا ليس بصلنا"، قال المشوهان، وأراد أحدهما الذهاب يسارًا، والثاني يمينًا، وفي النهاية، بقيا في مكانهما دون حراك، بينما عاد نعيق الطيور الغريبة يصلنا من بعيد منيعًا على الزمن.
قطعنا، أنا وساحرة السويد، المقبرة من وسطها إلى عربة معلقة كالأرجوحة على أكف الريح، وبالفعل راحت تتأرجح مع هبوب بعض الرياح. خُيل إليّ أنها ستسقط أرضًا، والفتاة البيضاء من تحتها صاحت من الخوف، وهي تحمي رأسها بيديها، وعلى صيحتها خرج أحدهم من النافذة برأس أرمد الشعر ووجه متغضن، وسأل إذا كانت الصرخة صرخة أحد المشاهدين، منذ مدة طويلة لم يأت مشاهد واحد ليرى مسرحيته. عندما رآنا، غضب منا أشد الغضب، واتهم الفتاة البيضاء بتحريض المشاهدين عليه. "مشاهدوك في الماضي كانوا يأتون إلى مسرحك بدافع الفضول وليس حبًا بك أو إعجابًا بما تكتب"، أجابت الفتاة البيضاء. فقال الرجل ذو الشعر الأرمد والوجه الممتلئ بالغضون إن كل هذا ما يطمح إليه، أن يأتي المشاهدون بدافع الفضول، لأن كل شيء في الحياة يتوقف على هذا: الفضول، ولا بأس من الاحتقار بعد ذلك، ولا بأس من الاستهزاء بعد ذلك، ولا بأس من كلام المومسات بعد ذلك، لأن كل هذا جزء من سيادة العبث، العبث عندما يصبح حياة كل يوم، الطعام والشراب والهواء والشخاخ والخراء والنياك والفساتين القصيرة للممثلات. "لا ممثلات في مسرحياتك"، قالت الفتاة البيضاء. "أنت كل الممثلات بالنسبة إليّ، قال الرجل الأرمد الشعر والوجه المتغضن، ساقاك من تحت فساتينك القصيرة التراجيديا في فصلين، والكوميديا في فصلين، والقمر في فصلين." أشار إليّ، وسأل إذا ما كنت من المشاهدين أم الممثلين. "لا من هؤلاء ولا من أولئك، قلت مزهوًا بنفسي، أنا مسرحياتك القادمة، الشيطانية، الماخورية، المدقوقة بالنار، والتي ستخلدك إلى الأبد." "وما الفائدة؟ ألقى صاحب المسرح، الخلود، ما الفائدة؟ الخلود في حياتي لا الخلود في مماتي." ابتسم، وهو يدمدم أني أنا أيضًا مصنوع من فصلين، ولكن من فصلين غير موجودين، ومن زوبعتين، ومن زنزانتين، ومن كل حماقات الإنسانية، وغادر النافذة.
ابتسمت بدوري، كان كل واحد منا، أنا ورجل شعر الرماد ووجه الحُفَر، يفكر التفكير ذاته، وكأننا كنا سياميين في رأسينا. لم تكن مقبرة القطارات ذات قيمة مطلقة لولا مسرحه المتأرجح على أكف الريح، ولا الموت، ولا المواخير. عادت الفتاة البيضاء تسحبني من يدي بعيدًا عن الطيور الغريبة الناعقة، ولولا إحساسي بسحبها لي كحقيبة لَزُلْتُ من الوجود. فجأة، هاجمها طائر بعين واحدة، ومنقار منكسر، وجناح ممزق، فسقطتْ عليه بيديها وقدميها، وأخذت به ضربًا أشرس ضرب، وهي تصرخ بشجاعة لم أر أختًا لها. كانت تضرب بدافع الخوف، ولولا الخوف لما ضربت، إلى أن سحقته محولة إياه إلى جثة هامدة. بدا على وجهها الارتياح، وهي تداوم على الارتعاش، فجمعتها بين ذراعيّ إلى أن هدأت تمامًا. أشارت إلى بيت حقير بعد آخر قطار محطم، "هناك بيتي، قالت النار البيضاء، وهي تعجل السير، وهناك يعود اطمئناني لي." وبالفعل ما أن دخلنا حتى تبدلت سيماؤها، غدت طلقة المحيا، وخفت تحمل ابنًا رضيعًا كان بانتظار أن تلقمه ثديها، وهذا ما فعلته بسعادة كل أم. بعد أن أنامت طفلها، تعرت، وعرتني، وأنا لا أعترض. كانت مهنتها في محطة الشمال، لكني كنت أريد أن أعيش الحياة تمامًا كما تعيشها عن طريق الخطأ، كانت هذه فلسفتها التي تبنيتها في اللحظة التي وافقتُ فيها على اللحاق بها كحقيبة، ككلب، كماخور، وأنا لهذا عملت كل ما بوسعي كي أكفيها لذة، وجعلتها تشعر بمعانقتها للأبالسة، كنت قادرًا على اجتراح كل ما تعجز عنه مقابل أن أتدارك خوفها، لأن في الخوف كما أرى، من موقع الشياطين الذي لي، تدميرًا ليس فقط للذات في عدمها بل وللعالم في عدمه، وزوال مملكة الموت الخلاق. سمعتها تهمهم، وهي تغوص في خاصرتي، إنها المرة الأولى التي تشعر فيها بكونها امرأة! قبلتني من كل مكان من جسدي مكافأة منها على رجولتي، ووعدتني ألا تخيب ظني في شيء، وأكثر من هذا أن تكون لي كلها كائنًا وكيانًا حيث سترافقني إلى عالم محطة الشمال السفلي، فللمحطة عالم سفلي مليء بما لا تصدقه عين ولا يخطر ببال، بينا أنا لا أسأل عن الوالي، ولا أتساءل هل.
عدنا أدراجنا، أنا وبيضاء ستوكهولم، دون أن نقع على العربة المرفوعة على أكف الريح ولا على الشجرة ذات الغصن الأوحد ولا على القرصان ولا على خادم القرصان، حتى أن تلك الطيور الغريبة التي تنعق لم نقع عليها. اجتزنا مقبرة القطارات مع مفارقة في الشعور لدينا بعدم الموت، باستبداد الحياة. قطعنا الرصيف الأخير، ومررنا بالحقائب الأربع المتروكة ليستقبلنا الصخب في محطة الشمال، متعة الصخب، وضجيج الناس، متعة الضجيج، وحركة القطارات الذاهبة والآيبة، متعة الحركة. أسباب العيش. أسباب الراحة. أسباب الحضارة. حضارتنا. اللا إنسانية. على نطاق لم يسبق له مثيل. دفعتني الفتاة البيضاء إلى درج يهبط تحت الأرض، وهي تطلب: "أغمض عينيك أو افتحهما ترى ما تراه." "هذا ليس حُلمًا"، قلتُ. "لا"، قالت. "هذه ليست حقيقة." "لا." رأيت في الطابق الأول السفلي هذا ما هو عجيب، رأيت طيورًا إفريقية ملونة لها ما لنا من قامات، شَقِرّاء، مِكْتير، لَقْلَق، ببغاء، حُبارى، أبو قُرَيْن، بومة صمعاء، تَنْتَل، دجاج سِندي... تقف في طابور أمام المستودع على اليمين، وهي تحمل في أقفاصٍ أربابها من البشر، تودعها لدى مسئول مقابل وصل بعد أن تدفع. شيء مذهل. كانت البومة الصمعاء تتصرف كامرأة، وكذلك الببغاء، وأبو قُرَيْن كرجل. كل هذا غريب بالفعل، لكن المحير وجود كل أولئك الناس في الأقفاص، وكلهم كانوا بيضًا من عندنا. "نحن في حُلم ليس حُلمًا وفي حقيقة ليست حقيقة"، علقتُ. "نحن على عتبة الحلم/الحقيقة الحقيقة/الحلم، أوضحت الفتاة البيضاء، الحلم/الحقيقة الحقيقة/الحلم عالم الغد الذي يبدأ اليوم سندخله عما قريب." أمسكتني من يدي، فقلت "يدك دافئة." "هذا لأنها يد أمك"، قالت الفتاة البيضاء. "ولكن ليس لي أم"، همهمتُ. "فلتكن هذه اليد البيضاء أمك إذن"، طلبتْ. "فلتكن هذه اليد البيضاء أمي السوداء إذن"، اقترحتُ. "هؤلاء كلهم سبّلوا ثروتهم للخير"، أضافت الفتاة البيضاء. "يا للخسارة، همهمت، لن يجدوا عندي ما يرضيهم." على اليسار، رأيت من وراء شبابيك الصرف الزبائن، ومن أمامها الصرافون، في ثياب براقة كثياب ملاحي الفضاء. كان الوضع معهم معكوسًا كما كان مع الطيور خارج الأقفاص. عالم محطة الشمال السفلي عالم منقلب على رأسه، أريد القول عالم انقلبت فيه الأدوار، وتلاشت الفروق بين إنسانه وحيوانه، بين إنسانه وما فوق إنسانه، عالم تراجيدي، حُلمي، ولكن تراجيدي، فلا من مخرج هناك. واصلنا السير، أنا والفتاة البيضاء، فإذا بنا عند نهاية الممر تحت ساعة ضخمة فيها جِمال أخذت أشكال الأرقام. أبديت للفتاة البيضاء دهشتي، "حتى الأرقام تبادلت الدور مع الحيوان في العالم السفلي لمحطة الشمال، ويا له من حيوان!" ابتسمت الفتاة البيضاء. "الغريب في عالم محطة الشمال السفلي لم يزل، قالت الفتاة البيضاء، والأمر لن يقف عند حد تبديل الأدوار، فلم تعد هناك أخطاء." "كل هذه المؤشرات تعني ذلك"، قلت. تأملتها عن مقربة، لم تكن خائفة من أن تلعب دورًا آخر غير دورها، فلا من خطر هناك. لهذا كان انسجامي مع غير ما هو منسجم. تقدمت الفتاة البيضاء من خزانة حديدية بقدم جريئة، وفتحتها بمفتاح ذهبي كان معلقًا حول عنقها على باب في داخلها اجتزناه، فإذا بنا في عالم كل شيء فيه ضديّ: الجِمال الرقمية تركب الرجال، والسيارات الرقمية تتراجع في سيرها، هذا ما ظننته في البداية، ثم تأكد لي عكس ما ظننت عندما رأيت سائقيها يقودونها من ظهرها. وكان هناك تراجيديون رقميون كالمهرجين يُضحكون، كانوا يُضحكون البالغين ممن هم هناك، ولا يؤثرون في الصغار أقل تأثير. وكانت في العالم السفلي المتعارض لمحطة الشمال كافة الألعاب الرقمية الخطرة كضرب النار مثلاً للصغار، واللا خطرة كالكُلات للكبار. طغى سحر الكلام لدي على سحر الأفعال، فاحتملتُ ما لا يُحتمل، وسَدَدْتُ على رفيقتي باب الكلام. سمعتُ ما أريد سماعه، وتركت لخيالي الجهنمي الحرية في تصدير الشر على هواه. أخذنا ننتقل، أنا والفتاة البيضاء، من مكان إلى مكان، وأنا أنتظر أن أرى أكثر مما رأيت، بعد أن أعلمتني الفتاة البيضاء أن هذا العالم عالم التعارض والتبدل يتبدل كل يوم كل ساعة كل دقيقة. آه! ما أجمل الشر. تفاجأنا بأقزام يصرعون مقابل لا شيء وببساطة لا تصدق عمالقة من رجال المافيا، قياس الخُلْفِ، وبنساء يدخلن إلى مكان وهن بأجمل الوجوه ليخرجن منها بأبشعها، خروج عن القياس. أما أكثر ما أثار دهشتنا، أنا والفتاة البيضاء، كون الراهبات يسعين إلى العودة بنا إلى التعارض الحضاري، إلى بداية البدايات في تطورنا الطبيعي، عندما رحن يطفئن النار والدين، وهن يعطين أنفسهن عند العناق من ظهورهن. كان يتم كل شيء في الظلام الدامس للمكان وللمعرفة، وأنا عندما حاوَلَتِ الراهبة الحبلى معي، مَنَعَتْها الفتاة البيضاء، وخلصتني من نزواتها، وتلك تردد: أنا الصلاة التي لن يقيمها كاهن، أنا الثوب الذي لن ترتديه امرأة دين، أنا السُّم الذي لن تجرعه مدام بوفاري مؤمنة!
أشارت الفتاة البيضاء إلى غيري من كبار رجال الأعمال والوزراء، "رجال الانحطاط ووزراء الظلام"، قالت الفتاة البيضاء بازدراء شقائق النعمان. كنت غير متفق معها ومتفقًا معهم تمامًا، الظمأ للسلطة كعاهرة يسعون بشتى السبل إلى امتلاكها، للمجد كقضيب في فم التاريخ، للجاه كقفا للبورصة. ولأول مرة فهمتُ لماذا يحكون عن النار والنور في الكتب السماوية، قبل انطفاء العالم، والسقوط في السديم. دخلنا في ميدان سباق الجِمال الرقمية، فحملتُ واحدًا، وحملتِ الفتاة البيضاء واحدًا، كنا في ثقب الحلم، وذهبنا مع عشرات غيرنا نعدو، ومكبر الصوت يشجع هذا أو ذاك منا. كانت هذه حضارة أخرى، لكنها لا تنتمي إلى العدم، إلى التخلف المطلق، ليس إلى العدم، إلى نوع من لعبة اللامعقول في عالم محطة الأقاقيا المتعارض، ليس إلى العدم. حضارة المستعمِر المنتج لاستعمار غيره له، فهذا هو الاستعمار الرقمي. جربنا بعد ذلك حظنا مع السيارات التي تقاد من ظهورها دون أن يؤثر ذلك في التطور، وكانت تلك تجربة من أجل التوازن في التعارض وتبادل الأدوار. لم يكن ذلك كل شيء بخصوص عالم محطة الشمال السفلي، إذ سحبتني الفتاة البيضاء من يدي، إن لم أرتكب خطأً، كما تسحب كلبها الجَرِبَ أجملَ كلب، وذهبت بي إلى مِصعد نزلنا بواسطته إلى طابقين آخرين تحت الأرض. عندما خرجنا إذا بنا وجهًا لوجه مع عشرات بل مئات وربما آلاف من الهنود الحمر، قدمتهم الفتاة البيضاء لي. "هؤلاء هم الفلسطينيون"، قالت ساحرة السويد. "الفلسطينيون! أنت مخطئ يا الثلج الأبيض، قلت لمرافقتي، أما إذا كان الأمر كذلك، فلمفهومكم المتطور للأمة أنتم السويديون. الفلسطينيون هم أحذية ساندريلا منتصف النهار في الليل الميت، طناجر شوربة الفلاسفة المؤمنين في البحر الميت، أرانب ملوخية المستوطنين في الحلم الميت، تراجيدْيَاهُم عادت بنا إلى زمن داوود وجالوت، وتراجيديا الهنود الحمر راحت بنا إلى عصر اللوحات والجوّالات." كانوا يشربون الجعة أو يتعاطون المخدرات أو ينفخون الأعشاب، وكانوا يقيئون في المكان الذي يجيئهم القيء فيه، ويبولون على الجدران التي يكونون قربها، وأحيانًا على رؤوس المستلقين. كانوا هنودًا عن حق، أصليين. من السذاجة أن يقال عنهم فلسطينيين! ابتسمتُ لهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون ابتسام الشياطين، حاولتُ التكلم معهم، لكنهم لم يكونوا يعرفون كلام أبناء المومس من العفاريت، لم يكونوا يعرفون سوى شرب الجعة وتعاطي المخدرات ونفخ الأعشاب وباقي الأشياء الحضارية، لم يكونوا ليروا أبعد من خط سكتهم الحديدية، خطٌ وهميّ، يمتد منذ الأزل، كالأزل. أشارت الفتاة البيضاء إلى وجوههم المصبوغة بألوان القتال، "إنهم في وضع من هو في حرب دائمة"، قالت الفتاة البيضاء. "ليخسروها دومًا، وإلا ما كانت المسرحيات الغنائية"، ألقيتُ. وضع غير معقول، ضد المعقول، ضد الموجود، ضد "ضد الضد"، كانوا جزءًا لا يتجزأ من العالم السفلي المتعارض لمحطة الأخطاء حتى الصباح الذي يحمد القوم فيه السُّرى. سحبتني البيضاء السكاندنافية من يدي كما تسحب فيلمًا لِبِرْغمان إلى المِصعد، وصعدت بي إلى الطابق الوسط، طابق بين وبين. أذهلني وجودي غير المتوقع قرب البحر الميت من ناحية، وجزيرة العرب من ناحية. كانت تطفو على سطح البحر الميت جثث لا تعد ولا تحصى من البُواءات، وكان يخرج من جزيرة العرب الأنبياء، فينزعون عن البُواءات جلودها ليكتبوا عليها رسائلهم المقدسة. لم يكن للبواء شيء مقدس إلا في الهند، ونحن لم نكن في الهند، كنا في بحر الموت قرب كثبان الموت والموت أبدًا لم يكن شيئًا مقدسًا إلا في الهند. كانت تلك صفة للتعارض على صفة بين أشياء عالم محطة الشمال وحالاته المتراوحة بين إسفاف الأخلاق وإسفاف الأساليب. اختفت النار البيضاء وراء أحد الكثبان، وبعد عدة لحظات عادت، وهي ترتدي الساري الهندي، ساري بلون الرمان، وبين حاجبيها بقعة بلون الرمان، وبيدها حبة رمان فتحتها، وبدأت تأكل العقيق منها أكل من لا يخاف من شيء، وتطعمني، فلا ألعب دور النبي، وأتمنى ألا يمضي الوقت، وألا لا نتعلق خطأً بين نابيه السامّين.


* يتبع القسم الرابع