في فلسفة -التَّغَيُّر-


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4377 - 2014 / 2 / 26 - 16:12
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جواد البشيتي
كل شيء "يتغيَّر"؛ فَهَلْ مِنْ مُعْتَرِض، أو مُنْكِر؟
كلاَّ؛ فـ "التغيُّر (التَّبَدُّل)" هو حقيقة لا رَيْب فيها؛ وإنَّ أحداً من العقلاء لا يجرؤ على أنْ يقول فيها ما يَحْمِل، ولو نَزْراً، من معنى الاعتراض، أو الإنكار؛ وإنَّ أحداً من العقلاء، أيضاً، لا يجرؤ على أنْ يُصوِّر "التغيُّر" على أنَّه "اكتشاف" اكْتَشَفَهُ مُكْتَشِفٌ ما.
"التغيُّر"، أو القول به، هو أمْرٌ بديهي، مُسَلَّم به؛ وهو "حقيقة مُطْلَقَة"؛ لكنَّ بعض الناس أَبوا إلاَّ أنْ يبحثوا عن "الاستثناء"، مستنفدين كثيراً من الجهد والوقت في البحث عن "شيءٍ لا يتغيَّر أبداً"، يَمْلؤون به الفراغ بعد أداة الاستثناء "إلاَّ"؛ فاكتمل القول عندهم إذْ قالوا: كل شيء يتغيَّر إلاَّ الله. ثمَّ تمادوا في مَسْخ التغيُّر (مفهوماً) فَنَسَبوا التغيُّر في الطبيعة إلى هذا "المُسْتَثْنى (مِنَ التغيُّر)"، وهو "الله".
وعندنا، أيضاً، يَكْتَمِل القول بـ "مُسْتَثْنى آخر"؛ فنقول: كل شيء يتغيَّر إلاَّ التغيُّر نفسه (فهو ثابِت، لا يتغيَّر أبداً).
"التَّغَيُّر"، في أَبْسَط معنى له، هو أنْ "لا شيء يبقى على ما هو عليه (الآن)"، أو أنْ "يصبح الشيء على غير ما كان عليه"؛ وإنَّكَ بـ "العَيْن" ترى "التَّغَيُّر"؛ وبما يُرى بـ "العَيْن" تُثْبِت "التَّغَيُّر"؛ وإنِّي لأَعْني بـ "العَيْن" الحواس الخمس جميعاً، وكل "امتداد اصطناعي" لحاسَّة البصر، كالتلسكوب والميكروسكوب.
كل شيء "ينشأ" و"يزول"، "يُوْلَد" و"يموت"؛ وكل شيء يتغيَّر (ويتغيَّر في استمرار، في كل لحظة). و"التغيُّر" و"الزمن" يَتَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه أبداً؛ فالتغيُّر بلا زمن، هو كالزمن بلا تغيُّر، أيْ شيء لا وجود له أبداً.
ومع ذلك، نقول، ويجب أنْ نقول، توضيحاً: إنَّ "النشوء (الولادة)" و"الزوال (الموت)" لحظتان ليستا من عُمْر، أو زمن، الشيء؛ وليستا، من ثمَّ، جزءاً من تَغَيُّره؛ فالتغيُّر هو تَغَيُّر شيء موجود؛ ووجود الشيء، مع زمن وجوده، يمتدُّ من "لحظة نشوئه" إلى "لحظة زواله".
قُلْنا إنَّها لحقيقة مُطْلَقَة أنْ تقول إنَّ كل شيء يتغيَّر، إلاَّ التَّغَيُّر نفسه؛ فهل لكَ أنْ تأتينا بشيء، لتقول لنا: أُنْظروا؛ فهذا هو الشيء الذي لا يتغيَّر؛ لم يتغيَّر قَطْ؛ ولن يتغيَّر أبداً؟!
إنَّه لَطَلَبٌ تعجيزي؛ فَمِنَ التَّغيُّر ينشأ، ويُوْلَد، كل شيء؛ وفي التَّغيُّر، وبه، يبقى على قَيْد الحياة؛ ومِنْ طريق تغيُّره (المستمر والحتمي) يزول، ويموت؛ لكنَّه لا يزول، ولا يموت، من غير أنْ يتسبَّب في تغيُّر ما.
وإنَّها لحقيقة مُطْلَقَة ثانية أنْ نقول إنَّ "التَّغايُر" يُلازِم "التَّغَيُّر" دائماً؛ فإذا قُلْنا بـ "التَّغيُّر"، فلا بدَّ لنا من أنْ نقول، في الوقت نفسه، بـ "التَّغايُر"؛ ذلك لأنَّ الأشياء جميعاً متغايرة.
في الطبيعة، والكون، لا وجود إلاَّ لـ "الأشياء (بصلاتها المتبادَلَة)"؛ ولا وجود إلاَّ للشيء الذي لا نظير، ولا مثيل، له؛ فالشيء الذي هو نسيج وحده، هو وحده الموجود؛ والشيئان اللذان يتماثلان تَمَاثُلاً "مُطْلَقَاً" لا يمكن إلاَّ أنْ يكونا "شيئاً واحداً".
على سبيل المثال، وبقصد توضيح وجلاء هذا الأمر، وجَعْل فَهمه، أو تَمثُّل معناه، ممكناً ميَسَّراً، أَسْأَل: هل من وجود لـ "الإنسان العام (للإنسان على وجه العموم)"؟
كلاَّ، لا وجود له أبداً؛ فالإنسان الموجود هو "هذا" الإنسان، الذي أراه "الآن"، وفي "هذا المكان"، والذي اسمه "زَيْد.."، و"عُمْره.."، و"طوله.."، و"لونه.."، و"لغته.."، و"مهنته..". وبمزيدٍ من هذا "التعيين (والتحديد، والتفصيل)"، يتأكَّد أنَّ "زَيْد (هذا)"، ولجهة وجوده، لا يُوْجَد، ولا يُمكن أنْ يُوْجَد، إلاَّ إذا كان كالبَصْمَة، لا نظير، ولا مثيل، له، حاضِراً، وماضياً، ومستقبلاً، وفي كل مكان.
"زَيْدٌ" هذا هو "الفَرْد"؛ ولا وجود في الطبيعة، أو الكون، إلاَّ لـ "الأفراد"؛ لكنَّ "الفَرْد" لا يُوْجَد، ولا يمكنه أنْ يُوْجَد، إلاَّ إذا كان منطوياً، مشتملاً، على "العام" المُتَدرِّج تَدرُّج النزول، أو الهبوط، من قِمَّة الهرم إلى قاعدته. وهذا "العام" لا يُرى بـ "البصر"؛ لكن بـ "البصيرة"؛ لا يُرى بالعَيْنَيْن، أو بإحداها؛ لكن بـ "العَيْن الثالثة (عَيْن العقل)". "العام" لا يَراه إلاَّ "الإنسان"، بصفة كونه حيواناً اجتماعياً، ناطِقاً، عاقلاً ، صانِعاً (ومستعمِلاً) لأدوات العمل، لغوياً، لديه القدرة (الذهنية ــ اللغوية) على "التجريد"، أيْ على اكتشاف ومعرفة "العام" في "الخاص".
كل شيء يتغيَّر؛ والأشياء جميعاً متغايرة؛ فلا شيء يُماثِل غيره مُماثَلَةً مُطْلَقة؛ وإنَّها لحقيقة ثالثة مُطْلَقَة (مُشْتَقَّة من الأولى) أنْ نقول: لا شيء يُماثِل حتى نفسه، مُماثَلَة مُطْلَقَة؛ فكل شيء هو نفسه، وغير نفسه، في كل لحظة؛ لكن ما معنى عبارة "في كل لحظة"؟
راقِبْ وردة في شجرتها المزروعة، الحيَّة، النامية. راقِبْها أيَّاماً عِدَّة. إنَّكَ، وبعد بضعة أيَّام من المراقَبَة، ستقول: لقد تغيَّرت الوردة (تَغَيُّراً محسوساً ما).
وقَبْل أنْ ترى هذا التغيُّر الواضح الجلي، عَرَفَت الوردة نفسها كثيراً من التغيُّر؛ وإنَّكَ لتستطيع أنْ تقول: الوردة تتغيَّر كل يوم، لا بَلْ كل ساعة، لا بَلْ، كل دقيقة، لا بَلْ كل ثانية، لا بَلْ كل نصف ثانية، لا بَلْ كل عُشْر ثانية، لا بَلْ كل..
هل مِنْ زَمَنٍ، لضآلته، يمكننا تشبيهه بـ "الجسيم الأوَّلي"؟
هل مِنْ زَمَنٍ، لضآلته، يَغْدو غير قابِل للتجزئة، فلا زَمَن أصغر منه؟
في كل لحظة، ومهما صَغُرَت هذه اللحظة، تتغيَّر الوردة؛ وهذا التغيُّر" يعني أنَّ الوردة هي نفسها، وغير نفسها، في كل لحظة، ولو كانت هذه اللحظة أصغر جزء من الزمن؛ فهذه الوردة لا تبقى (في كل لحظة) في المكان نفسه؛ فمكانها، بمعناه الكوني، يتغيَّر في استمرار؛ وهي، في كل لحظة، تتبادَل المادة (أو الطاقة) مع بيئتها الطبيعية، بكل مستوياتها؛ وهي تتغيَّر، في كل لحظة، في تكوينها، ومُكوِّناتها؛ في مقاديرها؛ وفي أنواع مُكوِّناتها مِنَ الجزيئات والذرَّات والجسيمات؛ وفي حركة هذه المُكوِّنات في المكان.
افْتَرِضوا أنَّ "الثانية" هي "اللحظة الزمنية الصغرى"؛ وافتَرِضوا، أيضاً، أنَّ الوردة لا يطرأ عليها أي تغيير في هذه "اللحظة الزمنية الصغرى"؛ فكيف لها (أيْ الوردة) عندئذٍ، أنْ تتغيَّر في كل دقيقة، أو في كل ساعة، أو في كل يوم؟!
"التَّغَيُّر"، في منطقه، وفي العُمْق من منطقه، لا يُعَبَّر عنه في قول من قبيل "كل شيء يتغيَّر"، أو "كل شيء يتغيَّر في استمرار". إنَّه يُعَبَّر عنه، على خير وجه، في القول الآتي: "الشيء هو نفسه، وغير نفسه، في اللحظة نفسها"؛ والعبارة الأهم في هذا القول هي عبارة "في اللحظة نفسها".
في اللحظة نفسها، ولو كانت هذه اللحظة زَمَناً من الضآلة بمكان، يكون الشيء، ويجب أنْ يكون، مُطابِقاً لنفسه، مغايراً لها. و"التغيُّر"، بمفهومه هذا، يشبه، ويُماثِل، "الحركة في المكان"؛ فحركة الجسم تعني أنَّ الجسم نفسه، وفي اللحظة نفسها، يُوْجَد في هذا الموضع، وفي غيره.
لِنَرَ الآن كيف نُعَبِّر عن "التَّغَيُّر" بـ "اللغة".
في "جُمْلَة التَّغَيُّر"، نقول مثلاً: "كان زَيْدٌ سميناً"، أو "أصبح زيْدٌ سميناً".
تأمَّلوا جيِّداً في "المعنى الفلسفي" الذي تنطوي عليه كلتا الجُمْلَتَيْن".
"كان زَيْدٌ سميناً" تعني أنَّه الآن "نحيفٌ"؛ و"النحافة" هي نقيض، أو ضديد، "السُّمْنَة". بهذا المعنى "تَغَيَّر" زَيْد؛ فهل لكَ أنْ تأتي بأيِّ تَغَيُّرٍ يَشُذُّ عن هذه القاعدة؟!
لا تَغَيُّر، على وجه الإطلاق، إلاَّ بمعنى "تَحَوُّل الشيء إلى نقيضه"؛ فسُمْنَة زَيْد تحوَّلت إلى نحافة (ونحافته تتحوَّل إلى سُمْنَة). زَيْدٌ كان سميناً؛ زَيْدٌ الآن ما عاد سميناً؛ زَيْدٌ الآن نحيفٌ.
الآن، زَيْدٌ "نحيف"؛ وبعد بضعة أشهر، قد نقول: "أصبح زَيْدٌ نحيفاً (أو "ازداد زَيْدٌ نحافةً")". معناه هو أنَّ زَيْداً الذي قُلْنا عنه، مِنْ قَبْل، "أصبح نحيفاً"، ما زال فيه شيء من "السُّمْنَة"، وإلاَّ كيف أصبح (بعد بضعة أشهر) نحيفاً، أو ازداد نحافةً؟!
"نحافة" زَيْد لا معنى لها (من الوجهة الفلسفية) إلاَّ المعنى الآتي: زَيْدٌ السَّمين، هو الآن "نحيف"؛ لأنَّ سُمْنَته "نُفِيَت" و"احتُفِظَ بها" في الوقت نفسه؛ فما "النحافة" إلاَّ "سُمْنَة نُفِيَت واحتُفِظَ بها في الوقت نفسه"؛ وبما يشبه هذه الجُمْلَة الأخيرة، يمكننا تعريف كل تغيير، والتعبير عنه (فما "الحركة"، مثلاً، إلاَّ "سكون نُفيَ واحتُفِظَ به في الوقت نفسه"، وما "الحرارة" إلاَّ "برودة نُفِيَت واحتُفِظَ بها في الوقت نفسه").
أُنْظُرْ الآن إلى "الزمن"، ومعناه، في الجملة نفسها (أيْ في جملة "كان زَيْدٌ سميناً"، أو "أصبح زَيْدٌ سميناً").
إذا أَمْعَنْت النَّظَر تتوصَّل إلى استنتاج مؤدَّاه أنْ لا زَمَن بلا تَغَيُّر، ولا تَغَيُّر بلا زمن؛ فالزمن والتَّغَيُّر يتَّحِدان اتِّحاداً لا انفصام فيه.
إذا ظلَّ الشيء هو نفسه في ماضيه وحاضره ومستقبله؛ فهل من معنى للماضي والحاضر والمستقبل؟!
الشيء الذي تراه وتُعاينه "الآن" له "ماضٍ"، وله "مستقبل"؛ لأنَّه الآن مُخْتَلِفٌ عمَّا كان؛ ولأنَّه مستقبلاً سيَخْتَلِف، حتماً، عمَّا هو عليه الآن.
"الماضي" و"الحاضر" و"المستقبل" هي ظروف زمان لا معنى لها إذا لم يتغيَّر الشيء في استمرار؛ فهل لكَ أنْ تأتيني بشيء له ماضٍ؛ لكنه كان في ماضيه مماثِلاً تماماً لِمَا هو عليه في حاضره؟!
وهل لكَ أنْ تأتيني بشيء تغيَّر، ويتغيَّر؛ لكن في خارج الزمن، وعلى الرغم من "عدم وجود الزمن"؟!
كل شيء "يتغيَّر"؛ لكن هل ترى في التغيُّر ما يؤكِّد أنَّ كل شيء "يتكرَّر"؟
في "التَّغَيُّر" نرى، ويجب أنْ نرى، ما يؤكِّد "التكرار"، وما ينفيه، في الوقت نفسه.
من الوجهة الهندسية، التَّغَيُّر (أو التطور) ليس "دائرة"، وليس "مستقيماً"؛ إنَّه في منزلة بين منزلتين؛ إنَّه "حلزوني (أو لولبي)" الشكل، أو الخطِّ، أو المسار. إنَّه "مُرَكَّب (جدلي)" من "الدائرة" و"المستقيم"؛ ففي التَّغَيُّر "تكرار" و"ارتقاء"؛ فيه عودة ما إلى الماضي، وفيه (في الوقت نفسه) صعود (وارتقاء) دائم إلى المستقبل؛ فيه ما يؤكِّد "التكرار"، وفيه (في الوقت نفسه) ما ينفيه.
في المنطق، "السالب" هو نفي "الموجب"؛ ونفي "السالب" هو "العودة إلى الموجب"؛ لكنَّ هذا "الموجب الجديد" لن يكون هو نفسه "الموجب القديم"؛ ففي هذا "التشابه" يكمن كثير من "التغاير".
وفي العودة إلى مثال "زَيْد السَّمين الذي نحف، وازداد نحافةً"، نقول: كان زَيْد يَزِن 130 كغم، فنَحِف إذْ أصبح وزنه 100 كغم، ونَحِف أكثر إذْ أصبح وزنه 80 كغم.
زَيْدٌ النحيف يَزِن الآن 80 كغم؛ فإذا أصبح وزنه بعد بضعة أيَّام 85 كغم، نقول: لقد سَمِنَ زَيْد.
زَيْدٌ كان سميناً (إذْ كان وزنه 130 كغم) فنَحِف، وازداد نحافةً، فعاد إلى ما كان عليه من سُمْنَة، إذْ أصبح وزنه 85 كغم؛ لكن هل سُمْنَة زَيْد الجديدة هي نفسها سُمْنَته القديمة؟
كلاَّ، ليست هي نفسها؛ فزَيْدٌ بسُمْنته الجديدة ليس هو نفسه زَيْد بسُمْنته القديمة؛ ذلك لأنَّ "طور النحافة" الذي عرفه زَيْد قد غيَّر فيه أشياء كثيرة، وفي خلال هذا الطَّوْر، تغيَّر زَيْدٌ في وجوه عدَّة؛ وإنَّ بعضاً من هذا التغيير قد احتَفَظَ به زَيْد في سُمْنته الجديدة.
"السُّمْنَة" لا تُنْفى إلاَّ بـ "النحافة"، التي لا تُنْفى إلاَّ بـ "السُّمْنة"؛ على أنْ نَفْهَم "النَّفي" على أنَّه "إلغاء + احتفاظ"؛ فإذا كان التطور هو تَحَوُّل الشيء إلى نقيضه، في الصراع، وبالصراع، فلا وجود أبداً لأحد الضدين إلاَّ وهو متَّحِدٌ اتِّحاداً لا انفصام فيه (مكاناً وزماناً) مع الآخر.
زَيْدٌ في صعوده "سُلَّم النحافة" درجةً درجةً، ظلَّ دائماً محتفِظاً بشيء من السُّمْنة؛ ومع كل درجة يَصْعَدها، يتضاءل الشبه بين "السُّمْنة المُحْتَفَظ بها" و"السُّمْنة القديمة"، التي منها بدأ الصعود في "سُلَّم النحافة".
سار زَيْد صعوداً في مسار النحافة؛ ومن قبل، سار صعوداً في مسار السُّمْنة؛ لكنْ لا مسار لا نهاية له؛ فزَيْد، مهما نحف، لن يصبح أبداً في وَزْن 1 كغم مثلاً؛ ومهما سَمِن، لن يصبح أبداً في وَزْن 1000 كغم مثلاً.
ثمَّة "سُمْنَة قصوى"، وثمَّة "نحافة قصوى"؛ و"الوحدة الأمثل بين الضدين (السُّمْنة والنحافة في زَيْد)" هي التي يَصْعُب فيها تمييز "السُّمْنة" من "النحافة"، و"النحافة من السُّمْنة"؛ هي التي "يَعْتَدِل" فيها "الضدان"؛ هي التي فيها من "السُّمْنة" ما يجعل سُمْنتها شبيهة بالنحافة، وفيها من "النحافة" ما يجعل نحافتها شبيهة بالسُّمْنة.
لا انفصال أبداً بين "الشيء نفسه" وبين "حالة وجوده"؛ فالشيء يُوْجَد، ويجب أنْ يُوْجَد، في حالةٍ ما من حالات وجوده. إنَّه يُوْجَد مرتدياً حالة معيَّنة من حالات وجوده، ولا يمكن، من ثمَّ، أنْ يُوْجَد "عارياً". وحالات وجود الشيء كثيرة، وتتغيَّر في أثناء وجود الشيء؛ فهذا الجسم (أو الشيء) مثلاً يتحرَّك في المكان؛ إنَّه ينتقل، في استمرار، من موضع إلى آخر، أو من نقطة إلى أخرى، في الفضاء.
حركته هذه في المكان هي حالة من حالات وجوده؛ وهو الآن يُوْجَد في هذه الحالة؛ فهل لكَ أنْ تتخيَّل وجود حركة في المكان من دون وجود هذا الجسم؟!
لا حركة في المكان مجرَّدة عن الجسم؛ فهذه الحركة (أو هذه الحالة) تختَّص بجسمٍ (أو جسيمٍ) ما؛ لكنَّ هذا الجسم نفسه يمكن أنْ يُوْجَد، وأنْ يظلَّ موجوداً، من دون حركته في المكان (أو من دون هذه الحالة من حالات وجوده).
وحتى لا يُساء الفهم، نقول إنَّ هذا "الفراغ"، والذي نعني به عدم حركة الجسم في المكان، يُمْلأ، ويجب أنْ يُمْلأ، بالحالة المضادة، وهي "السكون"؛ فالجسم الذي لا يتحرَّك في المكان، أو الذي توقَّف عن الحركة في المكان، هو نفسه الجسم الموجود (أو الذي أصبح موجوداً) في حالة سكون؛ وحتى لا يُساء الفَهْم، نقول أيضاً لا وجود أبداً لسكونٍ لا ينطوي على حركة، ولا وجود لحركة لا تنطوي على سكون؛ فالضدان دائماً معاً، لا انفصال أبداً بينهما (في المكان، والزمان).
حالة وجود الشيء لا تُفْهَم فَهْماً موضوعياً، وعلى خير وجه، إلاَّ بمَنْطِقَيِّ "الجدل" و"النسبية".
أُنْظُرْ إلى جسمٍ يتحرَّك في الفضاء بسرعة 1000 متر في الثانية الواحدة؛ فهل هو (من حيث حالة وجوده) سريع؟
قد تجيب قائلاً إنَّه "سريع"؛ وغيرك قد يجيب قائلاً إنَّه "بطيء".
هذه الإجابة، أو تلك، يجب أنْ تكون "نسبية"، وإلاَّ اعْتُدَّت خاطئة؛ فالجسم "سريع" بالنسبة إلى..
بالنسبة إلى جسم آخر يسير على مقربة منه (يسير مثلاً بسرعة 500 متر في الثانية الواحدة). كلا الجسمان (وعلى ما ترى أنتَ، وبحسب قياسكَ أنت) يبتعدان عن نقطة ما؛ لكنَّ الأوَّل أسرع من الثاني في ابتعاده عنها؛ وعليه، تقول إنَّه "سريع".
وقد يكون "سريعاً" بالنسبة إلى السرعة التي كان يسير فيها مِنْ قَبْل، أو بالنسبة إلى السرعة القصوى التي يمكنه أنْ يسير فيها؛ فربَّما كانت سرعته القصوى 1200 متر في الثانية الواحدة؛ وعليه، تستطيع أنْ تَصِفه الآن بأنَّه "سريع".
أنتَ تراه أوَّلاً "يتحرَّك"؛ ثمَّ تراه "سريعاً" في حركته؛ لكنَّ غيركَ قد يراه "ساكِناً (لا يتحرَّك).
إنَّكَ لم تُخْطِئ في قولكَ إنَّه "يتحرَّك"، وإنَّه "سريع (في حركته)"؛ وغيركَ لم يُخْطِئ إذا ما قال إنَّ هذا الجسم نفسه "ساكن، لا يتحرَّك"، أو إذا ما قال إنَّه "بطيء (في حركته)".
هذا هو الجواب السليم، بحسب منطق "النسبية"؛ فالحركة نسبية، والسكون نسبي، والسرعة نسبية، والبطء نسبي.
وسلامة هذا الجواب مستمدَّة أيضاً من منطق "الجدل"؛ فلو لم يكن الجسم نفسه "متحرِّك" و"ساكن" في "اللحظة نفسها، "سريع" و"بطيء" في "اللحظة نفسها، لتداعى منطق "النسبية"؛ فإنَّ "النسبية" هي أنْ ترى من الشيء نفسه نقيض ما يراه، أو ما يمكن أنْ يراه غيركَ، في اللحظة نفسها.
ليس من منطق "النسبية" في شيء أنْ تقول، مثلاً، إنَّ زَيْد يرى هذا الجسم "سريعاً"؛ أمَّا أنا فأراه "طويلاً". إنَّ "النسبية" لا تقوم لها قائمة في خارج "الوحدة التي لا انفصام فيها بين ضدين"؛ فضديد "سريع" هو "بطيء"، لا "طويل".
بـ "عَيْنٍ جدلية"، أُنْظُرْ الآن إلى عملٍ ما تعتزم تأديته؛ وليَكُنْ هذا العمل "تحريك طاولة ثقيلة من مكانها".
لقد دَفَعْتَها بيديكَ، وبقوَّة معيَّنة، فتحرَّكت؛ فما هذا العمل الذي أَدَّيْتَه، بحسب منطق "الجدل"؟
إنَّكَ، وبقوى معيَّنة، وفي طريقة ما، خُضتَّ صراعاً ضد "قوى السكون"، أو ضدَّ القوى المقاوِمَة لحركة (أو تحريك) الطاولة، وتغلَّبْتَ على هذه القوى، فحَصَلْتَ، من ثمَّ، على النتيجة التي تريد، ألا وهي تحريك الطاولة من مكانها؛ فما "الحركة" إلاَّ النتيجة المترتبة حتماً على صراعٍ يُخاض ضد "السكون"، وعلى التغلُّب، في هذا الصراع، وبه، على "السكون".
قبل أنْ تُحرِّك الطاولة من مكانها، وحتى تُحرِّكها منه، ينبغي لكَ أوَّلاً أنْ تخوض صراعاً ضدَّ "القصور الذاتي" للطاولة، وضد قوى الاحتكاك بين الطاولة وأرضية الغرفة؛ وينبغي لكَ، من ثمَّ، أنْ تَخْرُج من هذا الصراع (الحتمي، الذي لا مفرَّ منه) متغلِّباً على تلك القوى المضادة والمقاوِمة لفعلك وعملك.
قد تَظُن أنَّ هذه القوى لم يكن لها من وجود من قَبْل، أيْ قبل أنْ تبدأ عملك. كلاَّ؛ فهي كانت موجودة. كانت موجودة في الطاولة نفسها، وفي الصِّلة بين الطاولة وأرضية الغرفة؛ وكل ما حَدَث هو أنَّكَ ما أنْ شَرَعْتَ تحاوِل تحريك الطاولة حتى استَثَرْتَ كل القوى المضادة والمقاوِمة لمحاولتكَ هذه؛ فأنتَ لا تستطيع أبداً أنْ تحاول فعل شيء ما من دون أنْ تستثير، في اللحظة نفسها، كل القوى المضادة والمقاوِمة لفعلكَ هذا؛ فالقوى تَظْهَر دائماً على هيئة "أزواج"، أي على هيئة "قوى وقوى مضادة"؛ إنَّها تَظْهَر معاً، وتختفي معاً.
لولا وجود القوى المضادة والمقاوِمة لتحريك الطاولة لَمَا تحرَّكت الطاولة؛ فإنَّ وجود هذه القوى، مع خوض الصراع ضدها، والتغلُّب عليها، في هذا الصراع، وبه، هو ما يجعل تحريك الطاولة أمْراً ممكناً، فحقيقة واقعة.
"الحركة (تحريك الطاولة من مكانها)" ما هي إلاَّ النتيجة التي تحصل عليها حتماً إذا ما صارَعْتَ ضد "السكون (وقواه وأسبابه وظروفه)"، وإذا ما تغَلَّبْت عليه.
صارِع ْضد "السكون"، تغلَّبْ عليه، واحتَفِظْ به، في الوقت نفسه، تَحْصَلْ على "الحركة".
صارِع ْضد "الجهل (في أَمْرٍ ما)"، تغلَّبْ عليه، واحتَفِظْ به، في الوقت نفسه، تَحْصَلْ على "العِلْم (والمعرفة)".
صارِعْ ضد "الموت"، تغلَّب عليه، واحتَفِظْ به، في الوقت نفسه، تَحْصَلْ على "الحياة".
صارِعْ ضد "السقوط"، تغلَّب عليه، واحتَفِظْ به، في الوقت نفسه، تَحْصَلْ على "الطيران".
وأحسبُ أنَّ خير تعريف للشيء (لأيِّ شيء) هو أنْ تُعَرِّفه قائلاً: إنَّه "النقيض (لهذا الشيء) إذْ غُلِبَ، وقُهِر، واحتُفِظَ به في الوقت نفسه.
إنَّ "الحرارة" هي "البرودة إذْ غُلِبَت، وقُهِرَت، واحتُفِظَ بها في الوقت نفسه"؛ وإنَّ "البرودة" هي "الحرارة إذْ غُلِبَت، وقُهِرَت، واحتُفِظَ بها في الوقت نفسه".
في "تَغَيُّر (وتطوُّر)" الشيء نقول إنَّه "نتيجة لها أسبابها"؛ فحُدوث حادِثٍ ما هو نتيجة حتمية لاجتماع وتهيُّؤ أسباب حدوثه؛ والظاهرة (أو الشيء، أو الحادِث) تبقى ما بَقِيَت أسبابها؛ فإذا زالت أسبابها، زالت هي.
هذا قولٌ علمي، لا ريب في صوابه؛ لكن، لو أَمْعَنْتُم النَّظَر في "الأسباب (المؤدية حتماً إلى شيء ما)" لوجدتم أنَّ هذه "الأسباب"، أو الجوهري والأساسي منها، لا تَعْدو كونها "النتائج الحتمية" لوجود "النقيض"، وفعله.
هذه "السلعة" هي الآن رخيصة السِّعْر؛ كانت غالية، فأصبحت رخيصة. ولا بدَّ لنا من تحرِّي الأسباب التي جَعَلَتْها رخيصة.
إنَّنا، وبَعْد معرفة وجَمْع "الأسباب"، نرى أنَّ غلاءها، مِنْ قَبْل، هو الذي أَنْتَج تلك الأسباب؛ فهذه "السلعة" لا يمكن أنْ يَغْلو سعرها من دون أنْ يترتَّب على ذلك إنتاج أسباب رخصها؛ فالغلاء يَدْفَع إلى زيادة إنتاج هذه "السلعة"، وإلى زيادة المعروض منها في الأسواق؛ وهذه الزيادة، وتلك، تؤدِّيان أخيراً إلى تضخُّم في "العَرْض"، فيتراجع السِّعر، ويتحوَّل "الغلاء"، من ثمَّ، إلى "رخص".
و"السؤال الجدلي"، من ثمَّ، هو "كيف يُنْتِج كلا الضدين الآخر؟". ونحن يكفي أنْ نطرح هذا السؤال، وأنْ نجتهد في إجابته، حتى يتضح لنا، ويتأكَّد، "التطوُّر الذاتي للشيء"؛ وهذه "العملية"، أيْ "عملية التطوُّر الذاتي للشيء"، يمكن أنْ تَجِد في "خارجها" من العوامل ما يجعلها سريعة، أو بطيئة، سهلة، أو صعبة.
قُلْنا إنَّ الضديد، أو النقيض، يُغْلَب، يُقْهَر، ويُحْتَفَظ به، في الوقت نفسه؛ لكن، ما هي عاقبة ذلك؟
العاقبة هي أنْ هذا الذي غُلِبَ وقُهِر يغدو أشد قوَّةً وبأساً ومقاوَمةً، وأكثر شراسةً في الصراع؛ فإنَّ التغلُّب عليه، في المرَّة المقبلة، يصبح أصعْبَ من ذي قبل.
وهذا ما يُمْكِنَك أنْ تُلاحظه إذا ما حاوَلْتَ، على سبيل المثال، أنْ تزيد، في استمرار، سرعة جسمٍ يسير في الفضاء؛ إنَّكَ كلَّما جَعَلْتَه أسرع، قَوَّيْتَ فيه القوى المقاوِمة لكل زيادة جديدة في سرعته؛ فقوى التَّسْكين والإبطاء في هذا الجسم تزداد بأساً وحيويةً مع كل هزيمة تَلْحَق بها؛ وتكون النتيجة، من ثمَّ، هي أنَّ هذا الجسم كلَّما زِدَتَّ سرعته، اشتدت صعوبة تسريعه. وعلى ذلك قِسْ.