مصر.. من العقل إلى الإيمان فالجنون!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4374 - 2014 / 2 / 23 - 14:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

جواد البشيتي
مِنْ قَبْل، شَكَوْنا كثيراً من فساد القضاء؛ فَوَيْلٌ لأُمَّةٍ فَسَدَ فيها القضاء والقُضاة؛ وشَكَوْنا كثيراً، أيضاً، من اختلاط "السياسة" بـ "التجارة"، مُسْتَذْكرين (ومُذكِّرين بـ) قَوْل ابن خلدون "إذا تَعاطى الحاكِم التجارة، أو اشتغل بها، فَسَدَ الحُكْم، وفَسَدَت التجارة"؛ وأَحْسَبُ أنْ لا حاجة إلى إثبات هذا الاختلاط اللعين، في كثيرٍ من البلاد العربية، مع ما أتى به من فساد في "الحُكْم" و"التجارة" معاً؛ فالأمْر نُعاينه، يومياً، ونُعاني منه.
واليوم، نشكو كثيراً، وأكثر من ذي قَبْل، من "فساد الإعلام"، الذي لكثرة ما اعتراه من فساد، تحوَّل إلى "إعلامٍ للفساد (والفاسدين)"؛ وإنِّي لأَزْعُم أَنَّني أتكلَّم بلسان "الحقيقة الموضوعية" إذا ما قُلْتُ إنَّ "الإعلام الفاسِد"، في بلادنا العربية، على نوعين اثنين: "الإعلام المصري (الآن)"، و"سائر الإعلا م العربي الفاسِد".
أَوْجُه (ومعاني) الفساد في الإعلام العربي، كثيرةٌ متكاثرةٌ؛ ولقد كان "الربيع العربي"، بمَدِّه وجَزْرِه، بالنِّصف الممتلئ من كأسه، وبنصفها الفارِغ، بخَيْرِه وشَرِّه، كالمرآة المصقولة لهذا الفساد، تَعْكِسه في وضوح وجلاء، وكَمَصْدَر تغذيةٍ له؛ فَمَع دُنُوِّ "المُسْتَبِد (غير العادِل)" من السقوط، يَرْتَفِع أكثر منسوب الفساد في "إعلامه (العام والخاص)"؛ ومِنْ كل أَوْجُه الفساد الإعلامي لا يَسْتَفزني، ويثير حفيظتي، إلاَّ "فساده العقلي"؛ فالمرتزقة مِنْ إعلاميين وصحافيين وكُتَّاب، ومن أمثالهم في سائر "أهل الفكر والقلم"، يُطَلِّقون، أوَّلاً، "العقل" و"المنطق" فيهم؛ ثمَّ يُخاطِبون (إعلامياً) الشعب، أو العامَّة من الناس، كمثل مَنْ يُخاطِب قَوْماً من الأغبياء، مقيمين الدليل، من طريق ذلك، على أنَّ الحاكِم المًسْتَبِد، مع إعلامييه، يَفْقِد، عشية سقوطه، البقية القاقية من "العقلانية" في الحُكْم؛ وكأنَّ مِنْ سُنَن سقوط "نظام الاستبداد" أنْ يتقدَّم "السقوط الفكري" للحاكِم المُسْتَبِد على "سقوطه الواقعي".
وفي مصر الآن، حيث تُرْسى الأوتاد لخيمة "حُكْمٍ بونابرتي"، يشبه، لجهة مكانته التاريخية، "الفأر الصغير"، الذي ولده "جَبَل 25 يناير"، إذْ تمخَّض، تزدهر صناعة إعلامية جديدة، أُسمِّيها صناعة "اجْعَلْهُ يَعْتَقِد..".
وبما يشبه تَصْنيف أفلاطون لمُسْتَهْلكي مُنْتَجات هذه الصناعة الإعلامية؛ وَهُم في جُلِّهم من العامَّة من الناس، نرى "المجانين"، و"المتعصِّبين"، و"العبيد"؛ فـ "المجانين" هُمْ أولئكَ الذين لا يستطيعون التفكير في كل ما يرون ويسمعون؛ و"المتعصِّبون" هُمْ أولئكَ الذين لا يريدون التفكير؛ لأنَّهم متعصِّبون لآراء لا وَزْن لها بميزان العقل والمنطق؛ و"العبيد" هُمْ أولئكَ الذين لا يجرؤون على التفكير.
لم تَكْفِهِم أقوال ومزاعم وبيانات "شيوخ السلاطين" الذين فيها تَصَوَّروا المشير عبد الفتاح السيسي، وصَوَّروه، للعامة من المسلمين المصريين، على أنَّه (مع جُنْدِه) المُبارَك المؤيَّد من الرسول في حر به على "الخوارِج"، والذي مَنَّ الله على أهل مصر إذْ بَعَثَ فيهم هذا "المُنْقِذ (المُخلِّص)"، فأرسلوا على الشعب "شياطين" على هيئة "عُلماء فَلَك"، لا هُم بـ "العلماء"، ولا هُمْ من أهل "عِلْم الفلك"، بمعناه الحقيقي، لعلَّ العامَّة من الناس تَسْتَخْذي للأوهام، وتَعْتَقِد، من ثمَّ، بوجوب وجود المشير السيسي على رأس الحُكْم في البلاد؛ لقد جاءوا بـ "المُنَجِّمين (والعرَّافين)" ليَقِفوا منهم على "الخبر اليقين"؛ فلمَّا رَاقَب هؤلاء السماء، واستطلعوا مطالِع النجوم، وتَفَحَّصوا أحشاء الحيوان، واستعملوا (استعمالاً غَيْبياً) قِطَع النقود، وأَوَّلوا (تأويلاً غَيْبياً غَبِيَّاً) بعض الكلمات والعبارات والأرقام التي تضمَّنتها مخطوطات قديمة، "اكتشفوا" أنَّ "القَدَر"، ومنذ 1200 سنة، قد عَقَد للسيسي الرئاسة على مصر!
لهجة قولهم، مع طريقة قولهم، لا قولهم بحدِّ ذاته، هي ما أَدْهَشتني؛ فَهُم أَبْلغوا ما بلغوه من "نتائج بحثية" إلى المصريين في لهجة الواثِق المُؤمِن بصِدْق ما يقول؛ فـ "المُسلَّمة" عندهم هي أنَّ المشير السيسي موعود برئاسة مصر منذ 1200 سنة؛ ثمَّ اتَّخَذوا من هذه "المُسلَّمة" دليلاً لإثبات ما يودُّون إثباته، ولنفي ما يودُّون نفيه!
إنَّهم، وعَمَلاً بمبدأ "اجْعَلْهُ يَعْتَقِد"، اسْتَجْمعوا كل "شياطين الإعلام" ليَنْفثوا في روع العامَّة من الناس أنَّ في السيسي من "الأسرار السماوية"، ومن "عِلْم الغيب"، ما يملي علينا أنْ نَنْظُر إليه، ونُعامِله، على أنَّه من جِنْس البشر، جُزْئيَّاً، لا كُلِّيَّاً؛ فهذا الذي كُتِبَت له الرئاسة على مصر منذ 1200 سنة لا يمكن إلاَّ أنْ يكون مُسْتَغْنياً عن "تفويضٍ من الجيش"، و"طَلَبٍ من الشعب"؛ لكنَّ تواضعه الجم غَلَبه، فَطَلَب ذاك "التفويض"، وهذا "الطَّلَب"!
في عهد سَعْي "الإسلام السياسي" إلى الهيمنة على الثورة، فَقَدَت "مصر 25 يناير" روحها؛ وفي عهد "الحُكْم البونابرتي"، فَقَدَت عقلها؛ ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ أحد "عَبَدَة" السيسي قد توعَّده بالقتل إذا لم يُرشِّح نفسه للرئاسة؛ وهكذا انتقلت "مصر 25 يناير" من "العقل"، إلى "الإيمان"، إلى "الجنون"!