عنفنا الدموي لم يقطع رأس نعامتنا!


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4374 - 2014 / 2 / 23 - 12:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


برغم كل العنف المنشور على خارطة البلدان العربية ملتهما اللحم الحي في معظم المجتمعات ومحطما الحدود الدنيا من التعايش ومجذرا التطرف والتعصب والطائفية فإن نعامة التجاهل تتبختر بيننا, وترفع رأسها عالياً ثم تدقه في قلب الرمل من دون ان يمسها ذلك العنف. عوض أن يجتاحنا قلق جماعي يطلق فينا كل جهد للعمل ضد العنف, لفهمه, لإدراك كنهه, ولتخليق كل وسيلة ممكنة وحتى غير ممكنة لصده دفاعا عن ذاتنا وحياتنا ووجودنا, فإننا ببساطة لا نعيره اهتماماً, ونستريح على شتم الغرب والاستعمار وحروبه التي جلبت كل هذا العنف ـ مطهرين انفسنا من اسبابه ومبرئينها من اي علاقة به. ليس هناك جدية حتى في اخذ إحالة التهمة للغرب محمل الرصانة. ذلك انه بفرض قبولها على علاتها, فإننا لا نتجاوزها ونقول حسنا جاءنا العنف من الخارج, لكنه تخطى مرحلته "الخارجية" وقد تجذر واستوطن وصار محلياً, وصار علينا الان التفكير في كيفية مواجهته واعتبار ذلك المهمة الاولى والعاجلة. يقدم لنا "الاستعمار" الشماعة المريحة حتى نرمي عليها كل اوساخنا. وبمعنى ما هنا, وإن كان استطرادا خارجا عن النص, فإنه بالإمكان القول ان الجريمة الاكبر للإستعمار لم تكن في إحتلال بلادنا, بل في احتلاله جزءا من عقلنا الجمعي منتصبا إلى جانب كل معضلاتنا التاريخية على مدار اكثر من قرنين ليلعب دور المسوغ والشماعة التي نتمطى بكسل فكري وسياسي واجتماعي وثقافي مدهش في الإتكاء عليها. ينتهي مشهد تبلدنا تجاه عنفنا إلى سوريالية راهنة مذهلة. فها هي نعامة التجاهل التي ندللها يوميا ترقص, وكإلهة إغريقية مُكتشفة حديثا, في كامل ابهتها فوق جثث كل الضحايا, القتلى والجرحى والمكلومين والمعوقين والمفقرين, وكل من طالته شظية من شظايا العنف, ومن دون ان تُمس به. هي الناجية الوحيدة من إعصار الموت, تدس رأسها آمنة مطمئنة تحت التراب ولا تبالي بما يحدث من حولها, وما يتكدس من ضحايا تحت اقدامها.
بتفصيل اكثر وعندما نتمعن في الجهد الفردي او الجمعي المبذول لمواجهة هذا العنف او فهمه على الاقل فإننا نعي العمق المركب للوضع المرعب الذي نحياه. الانظمة تمارس عنفها الخاص بها ضد كل من يعارضها, وهذا "مفهوم" ولا جديد فيه. وهي تصنف كل من يعارضها في خانات الإرهاب والعنف, وتدفع المعارضين إلى تلك المربعات. ليس هنا اي شيء جديد. الجديد الوحيد في أن هذه الانظمة لا تتعلم ولا تريد ان تتعلم من الشيء القديم ذاته وهو ان العنف يولد عنفا, وانه لا مناص عن الاصلاح والانفتاح والحوار الوطني. عنف الدولة يقوم ب "انجاز" وحيد وهو ضغط العنف المقابل إلى تحت الارض وإلى الهوامش, اي حيث يترعرع ويكمن وينتظر لحظة الهجوم والأنقضاض ثانية. ما عدا ذلك ليس هناك تصالح رسمي مع هذه الثنائية المروعة من العنف والعنف المضاد. بعيدا عن الانظمة الحاكمة ومن منظور الانشغال بإعصار العنف الذي يضرب مجتمعاتنا هناك جمود, حتى لا نقول تصالح, في ردود الفعل المتوقعة في اوساط النخب المفكرة والثقافية والاعلامية ومنظمات المجتمع المدني والاهلي. لو نظرنا في قائمة المنظمات الاهلية غير الحكومية وعددها بعشرات الالوف في البلدان العربية لوجدنا ان عدد المشتغلين منها في موضوعات "العنف المسلح" و"العنف السياسي" هو الاقل. لو نظرنا في قائمة المؤتمرات الفكرية والسياسية والثقافية ذات القيمة المعقولة والتي تعقد كل عام في المنطقة العربية وعددها بالمئات لوجدنا ان اقلها هو تلك الذي ينهمك في الاستغراق في قضية العنف التي تدمر مجتمعاتنا يوميا وتقضي عليها. لو نظرنا إلى وسائل الاعلام وخاصة المتلفز لإنتهينا إلى نفس النتيجة, بل ربما لوجدنا ان وسائل الإعلام هذه متورطة بشكل او بآخر في الترويج لهذا العنف بشكل مباشر او غير مباشر, عن طريق التغطية التفصيلية, والتنافس في ما بينهما على تحقيق السبق الصحفي في تغطية عملية إرهابية ما, او إجراء حوار في كهف ما مع امير من أمراء العنف او سفاح من سفاحين الدماء المنفوخين بأسمائهم وصرخات تابعيهم.
ربما يمكن القول ايضا ان على رأس قائمة المقصرين في مواجهة او على اقل تقدير دراسة وفهم العنف ونتائجه وكيفية مواجهته هو مراكز الابحاث والدراسات والجامعات والاكاديميين. ومرة اخرى لو تساءلنا عن مقدار الجهد والوقت والجدية التي بذلتها وتبذلها جامعاتنا العربية, ومراكز ابحاثنا, واكادميونا, في هذا الموضوع لوجدنا النتيجة مخجلة. والاكثر مدعاة للخجل هو ما نراه من اهتمام اكاديمي وبحثي ومؤتمرات وكتب وتغطيات تقوم بها مراكز ابحاث وجامعات غربية تحفر في اسباب هذا العنف وتحاول ان تموضعه وتتلمس اتجاهاته ومستقبلاته, في ما نواصل كيل الشتائم والتهم إليها وكأن الامر لا يعنينا. إذا كان العنف عنفنا والكارثة تحل في بيتنا, المجاور لبيوت الاخرين, ونحن لا نأبه له ولا للحرائق التي يحدثها فمن حق الآخرين ان يخشوا على بيوتهم ويتحوطوا. إن كنا صادقين حقا في نقدنا للآخرين فإن علينا نقفز إلى الامام وندافع عن حياتنا ووجودنا ضد العنف والارهاب الذي يجهز علينا يوميا, ولا نحفل حتى بمحاولة قراءته بتمعن وعمق يناسب خطورته.
آخر تجليات عنفنا الدموي الأصولي المسلح هو ما يعرف على نفسه ب “تنظيم انصار بيت المقدس” الذي يهدد الجيش المصري الآن بتسونامي من العمليات الارهابية. التنظيم العتيد ومن وراءه يدركون انهم لن يستطيعوا هزيمة الجيش المصري ولا حتى ان يغيروا من ميزان القوى. الإنجاز الوحيد الذي سيحققوونه هو تدمير الاقتصاد المصري, وشل السياحة, وزيادة البطالة في مصر ورفع معدلات العوز والفقر. معظم حالات العنف المسلح في العالم العربي وسواء أكان استخدام العنف مشروعا او شبه مشروع او غير مشروع اصلا نجدها وصلت إلى هذه النهاية وحققت هذا “الانجاز”: انجاز تدمير البلد. ومن هنا كانت عبقرية الحراك السلمي الذي قدمه الربيع العربي في مرحلته اللاعنفية الاولى, مثبتاً عقم وسيلة العنف من ناحية, ومُقدما وسيلة اخرى اكثر فعالية واوسع شعبية بما لا يُقاس. أليس مذهلا عدم امتلاكنا اجوبه معقولة على سؤال يقع في قلب ذلك العنف وهو كيف يغيب التسلسل المنطقي في تدمير البلاد والعباد الذي يسببه العنف عن عقل “امير الجماعة” و”مجلس شوراها” وهم ينطلقون في عنفهم وارهابهم الذي يدمر كل شيء ما عدا من يريدون اسقاطه؟