الفصل الثالث : بين ( قل ) و( قول ) الدعاء ( الجزء الثانى )


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4373 - 2014 / 2 / 22 - 20:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب ( قل ) فى القرآن الكريم
( أقوال الرسول فى القرآن فقط ، وليس له أقوال فى الاسلام خارج القرآن )
الباب الأول : المنهج القرآنى فى إستعمال ( قل )
الفصل الثالث : بين ( قل ) و( قول ) الدعاء ( الجزء الثانى )
ثالثا : دعاء المؤمنين بدون ( قل )
1 ـ بدون كلمة ( قل ) أمرنا الله جل وعلا بالدعاء ، وجعل من لا يدعوه مستكبرا مستحقا للجحيم : : ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) غافر ) ، وهذا أكثر تأكيدا من إستعمال (قل ). وبدون( قل ) ايضا قال جل وعلا : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186 ) البقرة ) .
وفى كل الأحوال فالبشر جميعا مدعوُّون لأن يكونوا من عباد الرحمن بأن يستغيثوا برحمته إذا مسّهم الضرر ، وهو جل وعلا الذى يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السُّوء عنه :( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ )(62 النمل ) . وكل منا يقع فى أزمات ومحن وشدائد ، ويلجأ الى الله جل وعلا متضرعا.
2 ـ وينبغى لمن بلغ سنّ الأربعين أن يتوقف مع نفسه ، وأن يبدأ مراجعة حياته تائبا داعيا الله جل وعلا بإخلاص أن يُصلحه ويُصلح ذريته : ( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (15) الاحقاف )، والله جل وعلا يعد بالاستجابة : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) الاحقاف ).
3 ـ والدعاء يصاحب العبادات ، ففى الصلاة يكون الخشوع إقترابا من الخالق جل وعلا عند السجود والدعاء فيه كما جاء فى آخر سورة العلق ، وفى تشريع الصوم يقول جل وعلا : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)البقرة ) ، وفى الحج يأمر الله جل وعلا بالذكر وبالدعاء الأمثل:( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202 البقرة ) . وفى الذكر والتفكر فى خلق السماوات والأرض : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) آل عمران )
4 ـ وهناك نماذج فى القرآن الكريم لدعاء المؤمنين ، تمت الاستجابة لها من الرحمن جل وعلا :
ـ إمرأة فرعون دعت ربها جل وعلا أن يبنى لها قصرا فى الجنة وأن ينجيها من فرعون وعمله : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم ) والجزء الخاص بالدنيا تم تحقيقه وهو الانتقام من فرعون . والجزء الخاص بألاخرة نفهم مقدما تحقيقه لأن الله جل وعلا جعلها مثلا أعلى للذين آمنوا .
ـ وبعض القساوسة والرهبان كانوا يسارعون الى الايمان عند سماع القرآن ويدعون الله جل وعلا أن يكونوا من الصالحين ومن الأشهاد على قومهم : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) المائدة ) . ونفهم أن الله جل وعلا إستجاب دعاءهم، لأنه جل وعلا يقول عنهم : ( فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85 المائدة ) .
ـ وأهل الكهف دعوا ربهم بالرحمة والرشد : ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً (10). ونفهم أن رب العزة قد إستجاب لهم إذ وصفهم لنا بأنهم ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)) الكهف ) وسجّل قصتهم فأصبحت معلومة شهيرة فى هذه الدنيا .
ـ وسحرة فرعون أمضوا حياتهم فى الضلال ، ثم آمنوا عندما شهدوا آية موسى ، أو عصاه ، تأكل حبالهم وعصيّهم ، فأعلنوا إيمانهم تحديا لفرعون ، ورفضوا تهديده لهم بالقتل والصلب ، ودعوا ربهم بالغفران ، وسجّل رب العزة موقفهم هذا فى القرآن الكريم :( لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126 ) الاعراف ) ،( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) طه ) ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) الشعراء )
رابعا : الانسان والدعاء
1 ـ عندما يكون ابن آدم مشركا كافرا سيء الخلق فإن وصفه القرآنى ( إنسان ) ، وهذا عكس الشائع فى ثقافتنا المعاصرة عن المفهوم الايجابى الطيب للإنسان والإنسانية . يقول جل وعلا فى الصفات السيئة للواحد منا إن كان ( إنسانا ):(إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) ابراهيم)( وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً (100) ( الاسراء )( وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) الكهف ) ( إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ (66) الحج )( وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) ( الأحزاب) (إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) الزخرف)( قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) عبس).والمؤمنون المفلحون هم الاستثناء من الخسران الذى يقع فيه الانسان:( إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) ( العصر) ، والتفاصيل فى سورة المعارج ( 19 : 35 ).
2 ـ هذا ( الانسان ) عند المحنة كالمرض والتعرض للغرق يدعو ربه مستجيرا به مؤمنا مخلصا ، ولكن بمجرد أن ينجو من المحنة يعود الى ضلاله، يقول جل وعلا :( وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) الاسراء )، ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) يونس ) ، ( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) الزمر )،( فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) الزمر )
3 ـ ولهذا الانسان طبيعة خاصة فى الدعاء ، هى التعجُّل ، أى يدعو بالشّر أحيانا على نفسه وأقرب الناس اليه ( كما تفعل بعض الأمهات فى غضبهن ). المفترض أن تدعو بالخير ولكن الغضب يجعله يُسارع بأن يدعو بالشر بمثل دعائه بالخير،يقول جل وعلا :( وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)( الاسراء )
4 ـ إلا إن الأغلب على الإنسان تأثره بالأنانية فى دعائه ، فهو غافل عن الآخرة، غير مهتم بالدعاء بالغفران لأن الدنيا هى شُغلُهُ الشّاغل . وهو يريد النعيم الدنيوى فقط ، فإذا جاءه النعيم إغترّ وطغى واستكبر يظنُّ أنه إسنغنى عن الرحمن جل وعلا:( كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7 العلق ). وإذا مسّه الشّرُّ وقع فى اليأس : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً (83)( الاسراء ). إن العادة ان يتعرض ابن آدم لاحتبار النعمة والنقمة ، والمحنة والمنحة ، والمؤمن يصبر و يشكر فى الحالتين . أما ( الانسان ) فهو يائس عندما تُنزعُ منه النعمة ، وهو كفور عندما تأتيه نعمة بعد نقمة : ( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ (48) الشورى )، ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10 هود )
5 ـ يترتب على هذا فيما يخُصُّ الدعاء أن الانسان لا يسأم من الدعاء بالخير ، فإذا أُبتُلى بمصيبة وقع فى اليأس والقنوط . فإذا تبدلت المصيبة بنعمة إغترّ وأعرض ونأى بجانبه وكفر بالآخرة ، فإذا عاد اليه بالابتلاء بالمصائب جأر وصرخ بالدعاء العريض . وما أروع قوله جل وعلا : ( لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) فصلت ) . أى هو خاسر فى الحالتين . وصدق الله العظيم : ( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) (العصر)
خامسا : تشريع الدعاء
1 ـ لأنه عبادة فلا بد للدعاء أن يصدر عن خشوع وتضرع . إذا لم يكن تضرعا وخشوعا أصبح سخرية بالله جل وعلا ، وإعتداءا على التقديس الواجب له وحده جل وعلا . أى إن الدعاء إما أن يكون تضرعا وبصوت خافت خاشع وإما أن يكون إعتداءا وكفرا . يقول جل وعلا : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) الأعراف )( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ (56 الأعراف). أى عندما ندعوه خوفا وطمعا وتضرعا وخفية فإن رحمته جل وعلا ستكون قريبة منا ، وسيستجيب لنا . وزكريا عليه السلام حين دعا ربه فقد تكلم بصوت خافت ، والله جل وعلا يجعله لنا تذكرة وذكرا لنتعلم منه الدعاء الناجح المُستجاب : ( ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) مريم ).
2 ـ ويختلف الأمر فى الديانات الأرضية حيث يتحوّل الدعاء الى غناء وموسيقى وقصائد ولهو ولعب . لذا يأمر رب العزة بالاعراض عمّن إتخذوا دينهم لهوا ولعبا : ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا )(70) الأنعام )، ويصف أصحاب النار بأنهم ( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) (51) الأعراف ).
3 ـ وتحويل الدعاء الى أغانى والتغنى بالقرآن والانشاد الدينى والمديح فى النبى والأولياء والأئمة من الملامح الأساس فى الديانات الأرضية للمسلمين ، خصوصا دين التصوف . إنّ من صفات المؤمنين حقّ الايمان أنهم إذا ذُكر الله وجلت قلوبهم : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )( 2 ) الأنفال )، أمّا المحمديون فأشدهم تدينا هم الذين إذا ذُكر إسم الله رقصت قلوبهم .! . يكفى أنهم يجعلون لفظ الجلالة ـ إسم الله العظيم جل وعلا ـ فاصلة موسيقية فى أغانيهم .!
وفى نفس الوقت يجعلون الغناء العادى المباح حراما ، وهذا بالتناقض تماما مع شرع الله جل وعلا.
بل حتى بالتناقض مع أنفسهم وثقافتهم الاجتماعية . إن الدعاء هو رجاء من الأسفل الى الأعلى . ومن الطبيعى أن يكون الرجاء مصحوبا بالخضوع والخشوع طالما ترجو ربك جل وعلا . بل إنّك عندما تقدم إلتماسا لرئيسك فى العمل تقدمه بإحترام له ، وربما بتذلل . تخيل لو دخلت عليه تلتمس منه شيئا وأنت ترقص وتغنى وتتلاعب حواجيك ؟ تخيل أن إبنك جاء يطلب منك شيئا فاصطحب فرقة موسيقية وجعل طلبه غنوة ؟ فى كل الأحوال سيكون هذا سخرية ممّن ترجوه وتطلب عونه . لا يرضى أحدنا أن يرجوه أحد بأسلوب ساخر ، فكيف برب العزّة جل وعلا ؟. هنا نفهم وصف رب العزة للدعاء الخالى من التضرع بأنه إعتداء . وافظع أنواع الاعتداء أن تعتدى على التقديس الواجب لله جل وعلا وحده .
4 ـ ومن سُبُل التضرع ـ فى الظروف العادية ـ أن يسبق الدعاء تحميد وتمجيد وتقديس لله جل وعلا . والفاتحة خير مثال ، فنصفها الأول تمهيد للدعاء : ( بسم الله الرحمن الرحيم (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) ونصفها الآخر هو الدعاء : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)).
وفى دعاء زكريا لم يقل ما يطلبه مباشرة ، بل بدأ بحيثيات طلبه ورجائه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6) مريم ) . وفى دعاء يوسف بدأ بقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) ثم بعد هذه المقدمة دعا ربه جل وعلا أن يتوفاه مسلما وأن يُلحقه بالصالحين : ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) يوسف ). وهكذا دعاء أولى الألباب الذين يرجون النجاة من النار ، يقولون فى البداية على سبيل التمهيد : ( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ(193) آل عمران )
5 ـ أمّا فى الظروف القهرية عند شدّة الكرب فلا بأس أن يأتى الدعاء بإيجاز لأن الله جل وعلا هو الأعلم بالحال ، والحال صعب شديد ، وبالتالى يكون التضرع صادقا وخميقا وحارا ولا يحتاج الى مقدمات . يونس عليه السلام وهو فى بطن الحوت ، لم يشرح حاله الفظيع ، ولكن إكتفى بأن نادى ربّه جل وعلا ، وهو فى ظلمات بطن الحوت قائلا :( لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87 )الانبياء ).وإكتفى يعقوب عليه السلام فى جزعه على يوسف بقوله داعيا الله جل وعلا : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)، وقوله :( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) يوسف ) . والمؤمنون يدعون الله جل وعلا عند الابتلاء بعبارة بسيطة خاشعة :" إنا لله وإنا اليه راجعون": ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) والمكافأة :(أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ (157 البقرة ). وهكذا حال المؤمنين المتضرعين فى الدنيا .
6 ـ وهناك دعاء ضمنى مستتر ، كان ملاذنا نحن أهل القرآن وقت إضطهاد الفرعون مبارك لنا . كنا ـ ولا نزال ـ نقول : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) ( حسبى عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ، حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون ) . عند قولها يُحسّ المظلوم أنه مؤيّدُّ برب العزة العزيز المتعال ، خصوصا فى حالنا نحن أهل القرآن . إذ نتعرض للإضطهاد ليس بسبب أننا نسعى للحكم أو نتصارع مع أهل الثروة والجاه حول حُطام الدنيا . ليس بيننا وبينهم خلاف شخصى أو نزاع حول ميراث أو مصاهرة . يضطهدوننا لأننا ندافع عن حق الله جل وعلا فى أن يكون الدين خالصا له جل وعلا دون تقديس لبشر أو حجر . أى نحن ننصر الله جل وعلا ، ومن حقنا أن ينصرنا الله جل وعلا ، وهذا هو الذى وعد به رب العزة جل وعلا بصيغة التأكيد ، أه سينصر من ينصره : (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج ) (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) الروم ) كنّا ـ ولا زلنا ـ نتمثل هذا ، ونحن ندعو : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) ( حسبى عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ، حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون ) . ولم يخذلنا أبدا رب العزة . ونرجو ألّا يخذلنا يوم القيامة ، وأن يتحقق وعده فينا ، وهو جل وعلا يقول ويعِدُ : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)( غافر )
إن الدعاء بأن يكون رب العزة هو وحده حسبنا ونصيرنا فى المحن والشدائد يأتى عند التحدى للمشركين وآلهتهم وخرافاتهم التى تجعل لهذه الآلهة والأولياء سطوة بالنفع والضر . وكان المشركون يُخوُّفون خاتم النبيين فقال له جل وعلا : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ )(36) الزمر).وقد أكّد رب العزة أن هؤلاء الآلهة والأولياء كانوا بشرا مثلنا ، ثم أصبحوا موتى وترابا فى قبورهم لا نفع فيه ولا ضرر:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا )، ثم أمر رب العزة رسوله الكريم أن يتحداهم وأن يقول لهم : ( قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197) الاعراف ). جاء هنا إستعمال ( قل ) فى معرض التحدى .
وفى معرض التحدى يأتى القول ( حسبى الله ، حسبنا الله ) فى مواجهة الظلم والظالمين يستعين فيه المؤمن بربه جل وعلا . وبهذا كان يدعو النبى عليه السلام ، وكل مؤمن يدعو الى الله على بصيرة فى مواجهة المشركين المعتدين ، سواء كانت المواجهة حوارا عقليا أو جهادا حربيا . فى الجهاد العقلى تحديا لخرافات الكرامات والمعجزات للاولياء والآلهة المزعومة ، نقرأ قوله جل وعلا : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) . الأمر هنا ب( قل )، والقول هو (حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ). والمعنى طلب العون من الله وحده ، والتوكل عليه جل وعلا وحده : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) الطلاق ). وعندما كان خاتم النبيين يعانى من قومه واصحابه أمره ربه جل وعلا أن يقول حسبى الله :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) التوبة )، وهكذا كان يقول المجاهدون الصادقون الذين لم تمنعهم جراحاتهم عن ملاحقة العدو ، ورفضوا تخويف الناس لهم : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) وكانت النتيجة : ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) آل عمران ).

أخيرا : دعاء الكافرين وهم فى النار :
1 ـ يختلف الحال فى الآخرة حيث الخلود فى نعيم الجنة أو عذاب النار . فأصحاب الجنة يكون دعاؤهم ليس بالتضرع ، فقد إنتهت المحن وجاء وقت النعيم الخالد ، وفيه يكون دعاؤهم بالتسبيح وبالحمد لله جل وعلا رب العالمين ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) يونس ). أما أصحاب النار الذين إتّخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرّتهم الحياة الدنيا والذين لم يعرفوا التضرع فى الدعاء فى الدنيا ،فهم يتضرعون لربهم وهم فى النار يطلبون الخروج منها ، ولكن بلا جدوى .ويأتى القرآن ينذرنا مقدما ويعظنا ونحن أحياء ، يخبرنا بما سيحدث فى الآخرة :
2 ـ عند وقوفهم أذلّة أمام رب العزة يتمنُّون الرجوع للدنيا:( وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ )، ويتضرعون له جل وعلا:( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12 السجدة )، وهم على أبواب النار يتحسّرون يتمنون ـ بلا جدوى ـ رجوعهم الى الدنيا ليؤمنوا : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (27) ، ويأتى الرد بأنهم لو رُدُّوا لعادوا الى ضلالهم :( بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28 الانعام ). انتهى الأمر فقد تبين لهم الحق فرفضوه وسكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم : ( وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ ( ابراهيم 45 ). لذا يقول رب العزة فى نهاية السورة : (هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ابراهيم )
3 ـ وهم فى غمرة العذاب تلفح وجوههم النار يتم تذكيرهم بتكذيبهم بآيات القرآن:( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) ، فيطلبون الخروج : ( قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)، فيأتيهم الرد :( قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108)) الى أن يقول جل وعلا لهم ولنا :(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) المؤمنون ). فى عذابهم هذا يتمنون الموت دون جدوى : ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) ابراهيم ) يتضرعون الى ( مالك ) خازن النار يرجون الموت :( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )،ويردُّ عليهم:( قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) الزخرف ).
4 ـ ييأس الرعاع الضعفاء الأتباع الذين إتّبعوا سادتهم وشيوخهم المُضلّين فيتضرعون لله جل وعلا أن يؤتيهم ضعفين من العذاب وأن يلعنهم لعنا كبيرا :( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68 الأحزاب )
5 ـ يظل الحال كما هو ، تضرّع لا فائدة فيه ، وخلود فى النار بلا خروج وبلا تخفيف ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)فاطر )ويصف رب العزة صراخهم بأنه ( إصطراخ ) بالتضرع طلبا للخروج من الجحيم :( وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ )، ويأتيهم الرد بأنهم أخذوا فرصتهم فى حياتهم الدنيا فعاشوا ، وجاءهم الكتاب النذير فأعرضوا:( أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37 ) فاطر ).
الخاتمة
1 ـ هذا ما يقوله لنا ربنا بدون كلمة (قل ) . يقوله لنا ونحن أحياء فى خطاب مباشر لنا قبل أن نموت وتضيع منا الفرصة . أن نؤمن الآن وأن نتضرع له جل وعلا نطلب الغفران قبل فوات الأوان .
2 ـ ونحن أحرار فى الايمان أو الكفر ، وما على الرسول إلا البلاغ . يقول جل وعلا يدعونا ويقرّر حريتنا فى الطاعة والمعصية :( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ )(48 )الشورى ). إن إستجبنا لربنا إستجاب هو لنا. وإن أعرضنا فأمامنا خلود فى النار،وتضرع بالخروج منها لا يُستجابُ له .
أحسن الحديث :
( وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)( الزمر )
ودائما : صدق الله العظيم .!!