حوار موسع في شؤون الثقافة والثورة، والإسلام السياسي والطائفية، وقضايا الأخلاق والقيم والعقل


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4372 - 2014 / 2 / 21 - 12:12
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

أسئلة: عدي الزعبي

في المحور الأول، نركز على قضايا المثقف و علاقته بالثورة و كيفية تفاعله معها.
المحور الثاني يتعلق بالإسلام السياسي و إشكاليات الطائفية والهوية الوطنية والتيارات العنفية الجهادية في سورية.
المحور الثالث،يناقش قضايا الأخلاق و القيم و العقل.
المحور الأول
السؤال الأول: نجد في القسم الثاني من كتابك "السير على قدم واحدة" والمعنون "اقتصاد سياسي"، قراءة منفتحة على الليبرالية، التي تميز بينها و بين الليبرالية الجديدة. ولكن في مقابلة منشورة في "بالخلاص يا شباب"، تقول أنك تخليت عن الشيوعية، ولكنك ما زلت يسارياً. كيف تستطيع التوفيق بين الاثنين؟ أي يسار تنتمي إليه اليوم؟ وأية ليبرالية ترى أنك قريب منها؟
دعنى أقل منذ البداية إنه يتقدم لديّ على اليسار واليمين وكل شيء آخر شاغل ثقافي، فكري وأخلاقي. أحب الثقافة أكثر من اليسار واليمين والوسط. الثقافة مصلحة عامة أساسية، مثل الاجتماع البشري نفسه، بعد ذلك وعلى أرضيتهما يمكن أن تتمايز مدارس وتيارات، يسار ويمين.
كمثقفين، يلزم أن نعرف وننتج معرفة ومعاني وقيما ورموزا، أن نسهم في تطور الثقافة، قبل أية انحيازات اجتماعية وسياسية. هل يمتنع أن ننتج معرفة ونسهم في تطور الثقافة... إلا إذا كنا يساريين؟ أو يمينيين؟ لست مقتنعا بذلك. وأظن الضعف الثقافي أحد مصادر عقم يسارنا ويميننا معا. لا تجد شيئا مهما تحت هذه اليافطات. تفضيلي الشخصي: كن مثقفا، منتجا للقيم الثقافية أوّلا، ثم أُفضِّلك يساريا بعد ذلك. لدي شغف يساري، لكني أفضل بالتأكيد يمينيا مبدعا ومنتجا للثقافة على يساري ركيك أو يقول الأشياء نفسها طوال حياته. هشام جعيط أعز علي من أي يساريين توانسة، وعبدالله العروي على أي يساريين مغاربة. ولا أفضل أن أكون مخطئا مع سارتر على أن أكون محقا مع ريمون آرون، على ما كان يقال في فرنسا في ستينات القرن العشرين. أريد أن أتعلم من آرون، لكني يساري الهوى، وأُفضّل مواقف سارتر (كرمزين طبعا ليمين ويسار؛ مواقف سارتر في الشأن الفلسطيني كانت سيئة أكثر من الكفاية).
يمكن تعريف النزعة اليسارية بأنها الانحياز للأكثر حرمانا والكفاح مع الناس وبينهم من أجل تحكم أكبر لهم بشروط حياتهم والتخلص من الاغتراب. على نحو ما عرفناها في القرن العشرين، الشيوعية شكل تاريخي لهذه النزعة، شكل أنتج اغترابا واسعا، حين جعل من الحزب/ العقيدة/ الدولة صنما يُعبد، ومنع عموم الناس من الكفاح لتغير واقعهم. إذا تمسكنا بهذا الشكل التاريخي المفوت فإننا نخسر المضمون التحرري للنزعة اليسارية، أما إذا فضلنا هذا المضمون كان لزاما علينا أن نخلع الشكل الشيوعي. والتجربة حولنا تؤكد هذا الاستدلال. انظر حال الشيوعيين السوريين واللبنانيين وما شابه، لا شيء تحرريا، لا شيء يحمل روحا فتية ثائرة، لا شيء غير تشكيلات ماضوية ومتحجرة لا حياة فيها. حالهم في أوربا لا تبدو أفضل.
من جهتي لم أعد شيوعيا منذ سنوات السجن في ثمانينات القرن العشرين، وبتأثير متضافر من جاذبية الثقافة وتطلع إلى الحرية، شخصي وعام. كنت قليل التقوى الشيوعية منذ البداية. وهذا ربما لكوني لم أمر بمرحلة شيوعية تقليدية. في بدايتي كنت في إطار تجربة انشقاقية، الحزب الشيوعي – المكتب السياسي، تجربة تحمل تناقضات عديدة، منها طاقة تحررية ونقدية كبيرة لا يكف عن تبديدها هيكل سياسي غير تحرري، لكنها وضعتني في إلفة مبكرة مع أمثال ياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبدالله العروي وبرهان غليون أكثر مما مع لينين وكتب دار التقدم. كان من حسن حظي أني قرأت أعمالا لهم قبل سجني عام 1980.
بدا لي أن هناك فقرا ثقافيا شديدا في الشيوعية، يتناسب مع التمركز حول الذات الحزبية/ العقدية والسلف المقدس. ولم أكن مستعدا للقول أن المشكلة في التطبيق، وأن النظرية صحيحة. هذا شيء لا أقبله بخصوص الدين، وهو يخاطب حاجات ميتافزيقية ومتعالية على التاريخ (خبرة الموت تحديدا)، ومن باب أولى لا أراه مقبولا على نظرية تاريخية. "التطبيق" هو علاقة النظرية بالتاريخ، وسوء العلاقة بالتاريخ، وقد تمثل في شيوعية القرن العشرين، لا يمكن أن يكون برهانا على الجودة النظرية. الأصح أن التطبيق يكشف تناقضات النظرية وحدود صلاحيتها. هذه التناقضات والحدود محرك للتطور الفكري، وأظنها كانت محركا لتطوري الشخصي.
وبفعل اختبار تلك الناقضات والحدود، لم أعد حتى أعتبر نفسي ماركسيا منذ أيام السجن أيضا، وإن كنت، ولا أزال، أعتمد كثيرا على أدوات التحليل الماركسي. لم أشعر يوما بارتياح للتحول من اعتبار الشيوعية التجسد الكامل لكل حقيقة وخير وجمال، إلى اعتبارها كتلة مصمتة من الشر والباطل. فعل ذلك كثيرون من جيلنا، ولا أرى موقفهم سديدا.
من المهم القول هنا أنه كان في تمردنا السياسي والفكري على الشيوعية في سبعينيات القرن العشرين وثمانينياته الكثير من الشجاعة الفكرية والأخلاقية، خلافا لما في نقدها والاعتراض عليها اليوم. لم يعد الأمر مهماً اليوم ولم يعد تعبيراً عن شجاعة. بل إن ما صار مهما هو الحفاظ على ما هو نقدي وتحرري في الشيوعية، أطروحات ماركسية كثيرة وتجارب تحررية كان أكثرها على هامش التيار الشيوعي الرئيسي.
أما مطلب الحرية فولد في وضع شخصي محدد، السجن. هنا أخذ يبدو لي أني متهافت التفكير ومتواطئ ضد نفسي إن بقيت على الولاء لنظام عقدي سياسي توفر كل نسخه المطبقة أوضاعا سياسية وحقوقية لا تسجل فارقا مهما عن سورية الأسدية. وعبر هذه الخبرة الشخصية وما تحصّل لي من ثقافة، صرت أكثر تقبلا لليبرالية، لكن ليس ليبراليا. أفهم الليبرالية أنها التيار الفكري المبني حول فكرة الحرية. تيار تشكل في مطالع الحداثة الأوربية، ويختزن خبرة مزدوجة: خبرة الاعتراض على الاستبداد والحكم المطلق، وخبرة الاحتجاج على السلطة الدينية والتعصب الديني. وهما تتقاطعان مع خبراتنا المعاصرة في هذين النطاقين.
في مجالات الأخلاق والدين والحقوق هناك الكثير مما نتعلمه من الليبرالية. وأرى هناك مزيجا من الجهل والتعصب في رفضها على هذه المستويات. في ثقافتنا ومجتمعاتنا أجد غريبا جدا أن نعترض على الأخلاقية الليبرالية القائمة على الحرية، أو على التسامح الديني وحرية الاعتقاد الديني، أو على مبادئ حقوق الإنسان. وحدهما الطغيان السياسي والديني يستفيدان من ذلك. ويفوتنا غالبا أنه حتى الحرية الاقتصادية الليبرالية كانت مبدأ تحرريا في مواجهة الإقطاع.
لكن مع انتصار الرأسمالية، أظهرت التجربة التاريخية أن اقتصاد السوق الحرة اليبرالية دون تعديل سياسي يقود إلى تركز الثروات والفقر، وإلى انقلاب الحرية إلى ضدها حتى على المستوى الحقوقي.
ورأيي أن رهان ماركس أقرب إلى تعميم الليبرالية منه إلى رفضها. شيوعية ماركس هي طوبى ليبرالية، يتساوى فيها الجميع حرية ومقدرات، ويتفاوتون في المواهب فقط. الحرية الليبرالية التقليدية نخبوية، يستفيد منها على نحو خاص الأثرياء وأصحاب القدرات الخاصة.
الليبرالية الجديدة تجاه الليبرالية التقليدية مثل الشيوعية تجاه الماركسية، دوغما فقيرة، تقترح وصفات جاهزة للاقتصاد والمجتمع، محابية منهجيا لنخب الثروة والسلطة. ومنها قواعد "إجماع واشنطن" كوصفة للتنمية: خفض الإنفاق العام، تشجيع الصادرات، رفع الحواجز الحمائية وحرية التجارة، خصخصة الأملاك العامة، تعويم العملة، رفع الدعم عن حاجات أساسية... إلخ. كانت سورية تسير في هذا الاتجاه في سنوات حكم بشار. هذا التطور غير المقترن بأدنى حد من الانفتاح السياسي ساعد على ظهور وتشكل حلف اجتماعي من أصحاب الثروات والدخول العالية، تابعين للنظام، ولا كمون ديمقراطيا لديهم من أي نوع، لكنهم يعتبرون أنفسهم متحضرين.
بعد الثورة ظهر وجه فاشي لهذا التحالف، محفّز أساسا بالشبح الإسلامي، وترفده المخاوف والهوامات الطائفية.
ختاما، أكثر ما يثير نفوري في مجال الفكر هو التمذهب، اعتناق مذهب ناجز واعتباره منبعا لكل الحقائق المهمة. هذه طماشة لست مستعدا لوضعها على عيني. تتساوى في ذلك عندي الماركسية مع الليبرالية مع الإسلامية مع أي نظام فكري جاهز. أفضل خرق الحدود وكسر الأسيجة، وتحمل تبعات ذلك: أن نحتار، وأن نضيع أحيانا. الطماشات ليست أحسن من أي شيء.

السؤال الثاني، دخلت السجن عام 1980 لانتمائك للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي. بعد خروجك، لم تشتغل بالسياسة، و إنما بالكتابة. بالمقابل، كان الهم السياسي دائم الحضور في أعمالك. في الفترة االسابقة، كتبت عن الأجسام السياسية المعارضة ورأيك في عملها وأهدافها ومنطلقاتها، وأُشيع أنك ساهمت في عمل بعضها، كلجان التنسيق المحلية، وأنك أدليت برأيك في تشكيل المجلس الوطني والائتلاف وهيئة التنسيق. لا أعلم مدى دقة هذه المعلومات. بالمجمل، يبدو أنك ما زلت قريب من السياسة بمعنى مباشر. ما هو الدور الذي يلعبه المثقف في السياسة؟ هل يستطيع المثقف النقدي العضوي أن يكون كذلك دون الانخراط في الشأن السياسي العام المباشر؟
بداية، ليس لي ضلع في تأسيس "لجان التنسيق المحلية"، ولم أعمل في نطاقها في أي وقت. ساهمت في كتابة عدد قليل من وثائق اللجان، وثيقة سياسية في حزيران 2011، نالت وقتها اهتماما معقولا، وكتبت وثيقتين ظننتهما أساسيتين: إعلان حول الجمهورية، وإعلان الكرامة، وحظيتا باهتمام عام محدود. لا شيء تقريبا غير ذلك.
ولست على علاقة بحزب الشعب، ولا أشارك في شيء من أعماله. إنه مكون من رفاق سابقين لي، أثق بهم كأشخاص أكثر من الجميع في المعارضة التقليدية. لكن أشعر أن مجمل حساسية المعارضة التقليدية وعالمها كله قد تقادما، ولم يعد لديها ما تقدمه.
رحبت بالمجلس الوطني وقت تشكله، وكتبت مقالين عما قدرت أنها مهامه وجبهات عمله. لكن يبدو أن المجلس كان يتحرك في مدارات تجعله أقل حساسية لكلام أمثالي. وكنت متشككا في دواعي تأسيس الائتلاف، وكتبت عن ذلك شيئا، ويبدي أن ائتلافيين منزعجون من ذلك. ولا أجد نفسي على ود مع النهج الأبوي لهيئة التنسيق، وربما أكون ذكرتها على نحو عارض مرة أو مرتين.
بصورة عامة لا أريد الانخراط في التشكيلات القائمة أو حتى الاقتراب منها. لكن لا أرى موجبا لمعاداتها والانشغال بها وتسميم الأجواء بالهجوم عليها.
وجدت نفسي في الغالب في وضع متناقض. قريب من السياسة، لكن أُفضِّل الثقافة. السياسة موضوع أساسي في عملي، لكن أعمل بأدوات المثقف. لم أنخرط في أطر سياسية منظمة، لكني في الجو ولا أريد الابتعاد كثيرا عن قضايا السياسة والعمل العام. هذا التناقض تشكل في السجن. لا أستطيع كمثقف سِجْن، إن جاز التعبير، أن أبتعد عن السياسة. لكن تفضيلي هو الثقافة، وهي تشدني في اتجاه مغاير.
السياسة تشتغل بمنطق تأليف القلوب، أي التعبئة والحشد والتوحيد، والثقافة بمنطق انشراح الصدر: الشرح والبسط والتوسيع. وهذا تفضيلي، لكن السياسة، وفي بلد ضعيف التشكل مثل بلدنا أكثر من غيره، هي أيضا مبدأ للإحساس بالواقع ومحركاته. لذلك لا أريد الابتعاد عنها كثيرا .
هناك أسباب عامة أيضا لهذا الموقف. نحن في بلد ضعيف التشكل، وفي ثقافة ضعيفة التشكل بنيويا وضعيفة تمايز الوظائف. الابتعاد عن السياسة بذريعة الثقافة يمكن أن يكون قناعا للأنانية أو الجبن، أو لسياسة أخرى مستكينة للوضع القائم. هناك مثقفون فعلوا لك، لكن ثقافتهم كانت سياسة مموهة، منحازة إلى النظام و"العالم الأول الداخلي"، ولا تجرؤ على مواجهة نفسها. شكلوا حزبيات ثقافية متعصبة وضيقة وصراعية، تقوم على المحسوبية والتمييز، "طوائف" (لي تجربة شخصية لا تسر الخاطر مع بعض أعلام "الفكر" هؤلاء). والجوهر السياسي لهذه الطوائف الفرعية ظهر كثيرا جدا في الثورة.
إن كان لا بد من أحزاب، أفضل الأحزاب السياسية الصريحة.
أفترض أيضا أن هناك مثقفين يكرهون السياسة ولا يريدون الاقتراب منها. هذا موقف مفهوم، بل طيب، إن لم يستبطن الأوضاع السياسية القائمة ويعتبرها طبيعية. كره السياسة حق شخصي، لكن لا يستطيع المثقف أن يكون بلا موقف أخلاقي.
هناك، بالمقابل، مثقفون اقتربوا من السياسة كثيرا، أثناء الثورة بخاصة، إلى حد العمل كسياسيين. لا أرى ما يوجب ذلك.
للثقافة أدواتها الخاصة (المقالة والدراسة والكتاب، والموسيقا والأغنية والفيلم...) وكرامتها الخاصة، فلماذا لا ننخرط في العمل العام بأدواتنا، ونحاول مواكبة الثورة بعمل جدي في مجالنا؟
أفضل تصورا للسياسة يحيل إلى الأبعاد الثقافية والأخلاقية للعمل العام، لا إلى الأحزاب والتجمعات والصراعات السياسية. وأتصور أني وأصدقاء آخرين قمنا بعمل "سياسي" فعلا أثناء الثورة، سياسي غير سياسي، إذا جاز التعبير. وأظن أننا محتاجون اليوم لتفكير جديد في مفهوم السياسة ذاته، وكذلك لتشكيل أطر عمل عام "سياسية غير سياسية".
لست مثقفا عضويا، لا أرتاح للمفهوم وخلفياته النظرية، ولا لما يبطنه من تصور كُتَلي وملحمي للمجتمع (طبقات كبيرة، أحزاب، هيمنة، صراعات تاريخية...)، وإطارا وطنيا مستقرا للصراعات الاجتماعية. ولا أعتقد أن دوري العام كمثقف ينضبط بمفهوم المثثف العضوي. وأخشى أن الشكل الوحيد للعضوية اليوم، بعد انحسار الموجة الشيوعية، هو ارتباط المثقفين بروابط عضوية وراثية، وليس بطبقات، بهويات لا بمشاريع تحررية. التصور الكتلي للمجتمع يسهل أمر التحول، يسهله أيضا تحلل الإطار الوطني في بلدنا.
أفضل من جهتي مفهوما للمثقف يجمع بين الانحياز واللاتماهي والنقدية. الانحياز للأضعف في الصراع الاجتماعي والسياسي، لـ"الشعب" الذي يعني في هذا المقام الشرائح الأكثر هامشية وحرمانا. واللا تماهي للحفاظ على مسافة تتيح الرؤية، وكترياق ضد الهويات، والنقدية كفاعلية مراجعة لكل ما هو قائم، منفتحة مبدئيا على نقضه.
استقر خياري العملي على الانخراط في الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري في مجتمعنا، والخيار المنهجي على وضع النفس في مستوى ما يجري ويصير ويتحول، ليس فوقه ولا خارجه ولا بعيدا عنه. هذا ليس خيارا فكريا مجردا بل هو خيار حياتي، نمط حياة فعلا. ويبدو لي أنه في آن موقف معرفي متواضع، لا يتعالى على عالم الممارسات الاجتماعية استنادا إلى مذاهب أو توجهات سابقة على هذا العالم أو من خارجه، هي ما يصدر عنه أكثر المثقفين في بلدنا والعالم العربي؛ وهو أيضا موقف خصب، يتيح اطراد القول وافتتاح نطاقات جديدة للكلام والتفكير؛ وهو بعد موقف مفتوح، انفتاح عالم الممارسات الاجتماعية اللامتناهي وتجدده. ليس هناك فكر ينطلق من مذهب إلا ويكون مغلقا، حتى لو كان اسم هذا المذهب هو الانفتاح أو العلم.
لكن هذا الخيار يعني العيش في التناقض وقبول التناقض. ومنه خاصة ألا نستطيع الحكم على أوضاع عالم الممارسات أو جوانب منه بينما نحن منحرطون فيه. يقتضي الأمر دوما سجلا آخر، نستمده من عمل الثقافة، من التجريد الفكري والحكم الأخلاقي. هذا السجل الآخر يتكون بارتباط مع عالم الممارسات الاجتماعية، لكنه مستقل عنه أيضا. يحرك الثقافة نازع إلى التنظيم والتجريد والحكم، والانفصال المتواتر عن نهر الممارسات العكر والمتدفق. الثقافة تحتاج إلى حجرة خاصة، أو إلى كهف. ونحن لا نكف عن التحرك بين نهر هيروقليطس الدفاق وكهف أفلاطون الظليل، بين التدفق والتنظيم. هذا ليس سهلا. لكنه التوتر المؤسس للثقافة.
وبالطبع هذا الخيار يقتضي البقاء في البلد والعيش بين الناس. ليس هذا شرطا خارجيا للثقافة، بل هو شرطها الذاتي. هذا هو السبب الأساسي لبقائي في سورية. لم أبق لغرض سياسي، بل بالضبط من أجل الثقافة. الثقافة هنا وليست في الغرب. من الغرب نتعلم تقنيات ونستعير أدوات، تقنيات بحث وأدوت تفكير، لكن لا نحصل على الثقافة. كفاعلية تحررية، الثقافة تتكون هنا، وحصرا هنا، في نهرنا. ربما يتوفر لنا كهف في الغرب، لكن النهر هنا.
ومن هذا الباب أجد نفسي في أزمة اليوم، وأنا مضطر للخروج من البلد.
السؤال الثالث، هل يوجد ما يربط أعمالك المختلفة بحلقة متصلة، فكرة رئيسية قد تساعد على فهم هذا التنوع: بين تجربة السجن كما نراها في "بالخلاص يا شباب" ونقد الإسلام السياسي ونقد نقاده في "أساطير الآخرين"، إلى التقارير الصحفية عن قادة الجيش الحر المنشورة في مجموعة "الجمهورية"، وصولاً إلى عشرات المقالات والدراسات المنشورة في "السفير" والحياة" و"الأوان" و"الحوار المتمدن"... ومجمل الأعمال المنشورة في كتب ومجلات متعددة. هل هناك محرك أساسي خلف هذا العمل الثقافي المتعدد الاتجاهات؟ أم أنّ تناول هذه المواضيع لا يحتاج إلى فكرة محرّكة واحدة؟
نعم، أفضل الاعتقاد أن هناك موضوعا واحدا أو روحا واحدة، الحرية. الحرية بأبعادها المختلفة، التحرر السياسي، تحرر الفكر، الحرية الدينية، التحرر الاجتماعي. كتاب السجن، والكتابين عن سورية، "سورية من الظل" و"السير على قدم واحدة"، ثم "أساطير الآخرين"، تحمل هذا التطلب بجلاء.
وآمل أن الحرية ليست موضوعا خارجيا لهذا العمل، بل هي روحه المحركة. أكثر شيء لا أطيقه، أكثر حتى من السجن والتقييد السياسي، هو القيود الفكرية، أسر التفكير في إطار مذهب أو عقيدة، يفترض أنها تقول كل شي مهم أو أساسي. هذا ضرب من التمسك بأب كبير معصوم، لكن من شأنه أن يبقينا صغارا على الدوام. ومعادلاته السياسة هي الطغيان السياسي أو الديني، والضمور الثقافي.
لدي ميل قوي أيضا إلى تنويع مواضيع الكتابة، وتوسيع دائرة ما يمكن الكتابة عنه. أن نتناول أشياء لم يسبق تناولها، وأن تكون المقاربة مبتكرة. المقاربات هي التي تصنع المواضيع، وليس العكس. وأجد متعة خاصة في تناول أشياء وقضايا غير مطروقة أو من زوايا غير مطروقة. أنا كاتب هاوي، الكتابة هي اللعبة التي أهواها.
وأظن دافع التنويع والتوسيع هذا متصل أيضا بنازع الحرية. الواحد منا لا يكون حرا دون خروج على المألوف وانفلات من الدروب السالكة. ولا يكون حرا أكثر مما حين يلعب.
لكن هذا يتعارض مع اضطراري، منذ صرت كاتبا، إلى الكتابة بانتظام في صحف ومجلات. الكتابة الدورية ليست لعبا. إنها "أكل عيش"، على ما يقول المصريون. حاولت أن أجمع بين الأمرين، الالتزام بنظام دوري للكتابة واللعب بحرية واستمتاع. ليس الأمر سهلا. وبعد نحو عامين من الثورة صار صعبا فعلا. توقفت عن الكتابة الدورية منذ أواخر آذار 2013، وآمل ألا أضطر إلى العودة إليها.
المحور الثاني
السؤال الرابع، يشكل سؤال الهوية الوطنية في سوريا أحد المواضيع الرئيسية التي تتكرر في أعمالك. قبل الثورة، كتبت "إن ابتكار الشعب السوري هو التحدي الأكبر المطروح على السوريين". هل تستطيع الثورة ابتكار الشعب السوري؟ أم أنّ سؤال الهوية سيبقى معلقاً لفترة قد تستمر لعدة عقود؟
بداية ماذا لدينا اليوم؟ لدينا "سورية الأسد"، وهي تقتل من يثور عليها، وتستخدم في ذلك أسلحة الدمار الشامل.
ولدينا ميل قوي للتجزؤ المحلي ولتشكل إقطاعات دينية عسكرية، تقوم على الطغيان بدورها مثل "سورية الأسد". وهما معا مضادتان لسورية العامة، دولة جميع السوريين.
ولدينا عملية تاريخية مفتوحة، لا نزال في فصلها الأول، الثورة، الذي سوف تعقبه فصول أخرى دونما شك. وقد تنتهي بدمار كلي للبلد.
أعتقد أن سورية العامة مكسب لجميع السوريين وليس لبعضهم، وهي أقدر على توفير فرص للترقي المادي والأخلاقي والاجتماعي من سورية إسلامية، أو من إقطاعيات صغيرة إسلامية أو كردية، أو طبعا من إقطاعية أسدية. ومن هذه الزاوية أرى أن ابتكار شعب سورية هو العملية الصراعية التي سنخوضها بالتوازي مع الصراع الكبير من أجل تحرير سورية وتوحيدها من الإقطاعيات المتعددة، الأسدية، والإسلامية والكردية.
بعبارة أخرى، لدينا صراع مزدوج، صراع لإعادة تشكيل سورية وصراع لإعادة تشكيل السوريين. وهما معا يتجاوزان الفصل الحالي من الثورة، الذي قد ننظر إليه يوما ما كمدخل لعملية إعادة تشكل تاريخي واسعة للبلد.
وأكثر ما يمكن أن يساهم في تشكل الشعب السوري في تصوري هو التحول من تفكير وممارسات متمركزة حول الهوية نحو تفكير وممارسات متمركز حول العمل والقيم والتطلعات الاجتماعية. الناس يتساوون في هذا، ولا يتساوون في الهويات. والثورة تفجرت بداية ضد أوضاع امتياز تُنشِّط الهويات وصراعاتها، ومن أجل العدالة والحرية للجميع.
العمل من أجل إعادة بناء الاقتصاد والتعليم والإدارة والخدمات العامة، وكفاح سوريين مختلفي الأصل من أجل شروط حياة غير مختلفة، وأشكال التنظيم الذاتي التي قد يبتكرونها أو يطورونها من أجل ذلك، هي العمليات التي أتصور أن يتشكل عبرها الشعب السوري وسورية الجديدة. كلما كانت الأوضاع أكثر صعوبة على مستوى شروط العيش وإدارة الحياة، كان مرجحا للعلاقات بين سوريين مختلفي الأصول أن تكون أسوأ. بالعكس، العمل من أجل تطلعات عامة (دخل أعلى، تعليم أفضل، خدمات أفضل...) يُقرِّب الناس من بعضهم. الشعب يتكون في هذا الكفاح للتحكم بشروط الحياة.
عموما، في سياق الثورة، أرى أن مسألة الهوية الوطنية لا تحل تأمليا وفكريا، إنها تنحل في العمل على تغيير الواقع، التخلص من النظام، واستعادة السوريين حياتهم من أيدي الطغيان والإقطاعيين القدامى والجدد. الثورة هي التجربة المكونة لسورية الجديدة وللهوية السورية الجديدة. تعثر الثورة وفشل العملية التغييرية يفتح بابا لتحلل سورية، مجتمعا وكيانا وهوية. نرى بعض ملامح ذلك الآن. والتحلل يأخذ شكل حروب هويات: عرب وكرد، سنيون وعلويون، وإقطاعيات ضد إقطاعيات. وهذه صراعات منحطة لا تثمر تحررا ولا قدرات عامة.
وعلى مستوى عناصر بناء الهوية، من الأشياء التي تبدو لي منذ الآن مقلقة وتستحق التوقف عندها ما يبدو من إضعاف أو حتى من تجريم العنصر العربي في تكوين سورية، إن لمصلحة العنصر الإسلامي أو لمصلحة تصور ضد عربي لسورية. هذا قصير النظر في رأيي وغير سديد. التحول من عروبة مطلقة إلى سورية مطلقة لا عروبة فيها مسلك متطرف، لا يمثل قطيعة مع البعثية، بل هو بعثية مقلوبة. بدون عروبة، سورية أخف وزنا وأقل تماسكا. هذا رغم أنه لا ريب في وجوب القطيعة مع العروبة المطلقة البعثية، لمصلحة تصور دستوري للعروبة، يجعل منها جزءا من سورية، يربطها بعالم يحيط بها بدلا من أن يفصلها عن العالم الأوسع.
السؤال الخامس, يرى البعض، بعد سنتين من الثورة، أن المجتمع السوري تحول إلى كانتونات طائفية وعرقية مغلقة. يبدو أن في هذه المقولة شيء من الصحة. تبدو الأقليات، ككتل صلبة، أقرب إلى النظام، فيما تبدو الأكثرية السنية أقرب إلى الثورة. قد يبدو هذا كلاماً طائفياً، ولكن هل من تفسير لهذه الظاهرة، لا يقع في فخ الطائفية نفسها، أي لا يعتبر الطوائف كتل صلبة مغلقة لها جوهر واحد ثابت؟ أم ان المقولة بحد ذاتها غير صحيحة؟ هل هناك مخرج من الطائفية؟
الأساس في الطائفية هو الامتيازات الاجماعية وليس التمايزات الثقافية، أي المواقع التفضيلية الراهنة حيال السلطة العمومية والموارد الوطنية وأجهزة الذكر العام، وليس الفوارق الدينية المذهبية الموروثة. المسألة مسألة "نظام"، إذا عنينا بالنظام الترتيب السياسي الذي يحرس أوضاعا قائمة على الامتياز، وليست مسألة أديان ومذاهب. لكن فوراق الأديان والمذاهب يمكن أن تكون أطر تنظيم وتماه وتعبئة سهلة الاستنفار لحفظ الأوضاع الامتيازية وإعادة إنتاجها.
لا أرى أية مشكلة في ما يميز مجتمعنا السوري ومجتمعاتنا المشرقية من تعدد ديني ومذهبي، فمجتمعات الأرض كلها مثلنا، على تفاوت في الدرجة فحسب. المشكلة في الترتيبات السياسية التي قد تعمل على تحييد هذه الفوارق في النطاق العام أو، بالعكس، على تحويلها إلى ما يشبه أحزابا أو لوبيّات سياسية خفية. المشكلة أيضا في مقارباتنا الفكرية للمشكلة ومدى توضيحها وتملكها معرفيا، أو بالعكس تعميتنا لها وإسدال حجاب من الصمت عليها. في سورية اقترن التوظيف السياسي للتمايزات الموروثة، وربطها بأوضاع امتيازية من قبل الفاعلين السياسيين الذي يتحكمون دونما منافس بالدولة، مع التكتم عليها من قبل فاعلين عامين ثقافيين بذريعة الوطنية. المثقفون المعنيون تواطؤوا مع مفهوم أعمى للوطنية، ووفروا الأقنعة لطغمة طاغية، كان مناسبا جدا لها أن تمارس الطائفية من وراء حجاب.
هذا كان ممارسا في سورية فعلا، ولا يزال. لدينا علاقة معرفة/ سلطة مناسبة للطائفية، لا لمقاومتها.
الأوضاع التي يقاربها السؤال بحذر هي نتاج بنية دامت عقودا، وتمخضت عن نشوء "الطوائف". الطوائف هي نتاج السياسة الطائفية، أو ثمرة سياسات التمييز والامتياز، وليس مبتدؤها. ميِّز كسلطة عمومية بين الناس، تلاعب بالفوارق بينهم، قرب بعضا أبعد بعضا، فتحصل على طوائف بدء من جماعات ثقافية أقل تشكلا.
ليس صحيحا أنه في البدء كانت الطوائف. ما لدينا في البدء هو فوراق ثقافية خاملة أو شبه خاملة، "طوائف في ذاتها"، ضعيفة الشحنة السياسية عموما. بالسياسة والدولة، جرى تحويلها إلى طوائف لذاتها، إلى تكوينات اجتماعية مشحونة بقوة، أو ذات كهربائية سياسية قوية، لها حقل جذب ونبذ فعال، والاقتراب من الشاحن السياسي لها خطر، وقد يكون مميتا.
هناك متهم أساسي في هذه القصة، النظام الأسدي الذي توسل الطائفية كأداة حكم، وارتكز إليه في عملية إعادة إنتاجه الذاتية، وعمل على تغذية الطائفية في المجتمع ككل. من جهة هذا يُطبِّعه ويجعله يبدو انعكاسا لمجتمع طائفي التكوين. ومن جهة ثانية، هذا يسهل انقلاب أي صراع سياسي مضاد للنظام إلى "فتنة"، أي صراع داخل المجتمع، فينصب سورا إضافيا لحماية النظام في قلب معسكر العدو: المجتمع المحكوم.

لكن لنقترب قليلا من فيزيولوجيا الطائفية، إن جاز التعبير، أي إلى آليات عملها وأداء وظائفها الاجتماعية والسياسية.
حين نقارب الطوائف في علاقتها بمركز السلطة العمومية، وهي لا توجد خارج هذه العلاقة، نراها مكونة من شبكات محسوبية متفاوتة الكثافة، علاقات خدمة وتبعية وقضاء حاجات تربط بين محاسيب محتاجين وحُسباء أو نافذين يتوسطن بينهم وبين المركز المقرر. والمقصود بالمحسوبية ما نتكلم عليه عادة من "واسطة" أو "فيتامين واو"، أو "ضهر" أو "غطاء". الحسيب، عبر روابطه الخاصة ونفوذه، وموقعه العام بخاصة، ييسر مصالح محاسيب محتاجين، فيحصل منهم على العرفان والولاء بالمقابل. ونقول عن شخص إنه "مدعوم" حين يكون له "ظهر" قوي أو محسوبا على شخص نافذ. وأقوى "الظهور" في سورية عائلي، عائلة حافظ الأسد، والعائلة الأسدية عموما، ثم أمني، ضباط المخابرات.
وتندرج ضمن علاقة المحسوبية أيضا أشكال محاباة الأقارب، سواء القرابة الدموية أو الجهوية أو الطائفية، لكن أيضا التوسط مقابل المال (الحسيب يثري، يزداد "حسبا"، وينمو "حسابه")، وكذلك التوسط للرفاق والإخوان الحزبيين (أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" شبكات محسوبية منظمة ومعترف بها ). وهو ما يفيد منذ الآن للقول إن الطوائف أقرب إلى منظمات سياسية، تمر إعادة إنتاجها بإعادة إنتاج الأوضاع السياسية القائمة على الامتياز، وتعيش وتتماسك طالما هذه الأوضاع مستمرة. يفيد أيضا للقول أيضا إن الطائفية علاقة سياسية محروسة بالقوة، وليست جوهرا ثقافيا أو تعبيرا عن جوهر ثقافي.
والشبكات داخلية عموما، محصورة ضمن كل واحدة من الجماعات الدينية والمذهبية (ربما إلا على مستوى البرجوازية العليا)، وعلاقة الحسيب بالمحسوب قلما تكون عابرة للجماعات. نتكلم على طائفية لهذا السبب بالذات. لأن جماعات خاصة عارضة تشكلت حول شبكات للواسطة وقضاء حاجات مشروعة (وطلبات غير مشروعة) للناس، ويغدو الارتباط بالشبكات مصلحة لجميع أفرادها لأنها تلبي مصالحهم وتيسر أمورهم، وتحميهم من جرائر أعمالهم أحيانا. هذا الدور العام لجماعات خاصة هو ما يحولها إلى طوائف. الطائفية هي العملية الاجتماعية السياسية التي تؤدي بجماعات خاصة عارضة إلى التحول إلى متحدات عامة، ترتبط إعادة إنتاجها بإعادة إنتاج النظام السياسي الذي يستجيب على نحو تفضيلي لهذا الضرب من تلبية الحاجات، ولا يوفر لعموم السكان أقنية عامة شرعية تضمن قضاء حاجاتهم على قدم المساواة.
وكلما كان عدد النافذين في جماعة أكبر (رجال سلطة، ضباط كبار، رجال دين، رجال مال، وجهاء محليون، شيوخ عشائر...) كانت علاقات التبعية ضمنها أقوى، وارتباط المحاسيب بالحسباء النافذين أشد، وعلاقتها مركز السلطة أمتن.
ماذا يفعل الحسباء؟ يسهلون أمور محاسيبهم، من تسيير معاملة عند الدولة، إلى تأمين وظيفة، إلى صفقات كبرى، مرورا بتأمين زيارة سجين سياسي أو تأمين جواز سفر أو رفع منع سفر. وبالآلية نفسها يتحولون هم إلى مقصد للمحتاجين، وجهاء وأعيان.
وبفعل هذه الشبكات الفاعلة تندار الجماعات إلى داخلها وتلتئم حول علاقة المحسوب بالحسيب، وتتجه أنظارها وتوقعاتها، عبر هؤلاء الحسباء أو الوسطاء، نحو مركز السلطة التي هي المفتاح العام: هنا تفتح كل الأبواب (أو تغلق بإحكام) تقضى الحاجات (أو لن تقضى أبدا) وتنحل كل عقدة (أو تمتنع على كل حال). والجماعات المشدودة الأنظار إلى المركز لن تنظر حولها إلا بعين المنافسة، ولا تتفاعل مع من هم حولها. عبر هذه العمليات تتشكل الجماعات كطوائف.
وفي تقديري أن الشبكة العلوية (رجال سلطة، ضباط مخابرات وجيش، رجال مال) هي الأقوى، تليها الشبكة المسيحية (مطارنة ورجال مال أساسا). ولا نستطيع التكلم على شبكة سنية عامة، لكن هناك شبكات جهوية، أقواها الشامية (رجال مال ومشايخ). شبكات المحسوبية ليست متساوية، قوة وفاعلية ونفوذاً.
وتقيس كثافة شبكات المحسوبية وفاعليتها قوة النسيج الطائفي، كلما كانت الشبكة أكثف وعدد النافذين أكبر كان النسيج الطائفي أمتن وأقوى التحاما. ثم إن قوة التحام الشبكات تقيس شدة الولاء للنظام. شبكة محاسيب أقوى يعني نفوذا أكبر في النظام وولاء أشد للنظام، أي للموقع الاحتكاري الذي يتحكم بالسلطة العامة والموادر الوطنية والحركية الاجتماعية. ولاء يبلغ درجة التماهي. وضعف ولاء يبلغ حد الاغتراب حين لا يوجد من يساعدك في تسيير مصالحك المشروعة، ولا قانون أو سياسة عامة تحميك. وهذه خبرة شائعة جدا في "سورية الأسد"، وأكثر من يعاني منها سكان أرياف وأحياء طرفية، وهم في غالبيتهم سنيون. "الظلم" هو هذا: انغلاق الأبواب العامة في وجهك وفقدانك "الظهر" (الدعم) و"الغطاء" (الحماية).
ولن تجد بين الحسباء طبعا مثقفون أو قادة رأي، أو قادة سياسيون مستقلون. هؤلاء ينتمون إلى عالم فيه قانون وحقوق عامة ومؤسسات عامة فاعلة. ولا يكاد يسير شيء بالقانون في "سورية الأسد"، وليس هناك حقوق عامة للناس بصفتهم "مواطنين".

ما هو المحرك في هذه العملية كلها؟ الفئة الحاكمة المستولية التي لا ينضبط حكمها بقواعد عامة مطردة. وهي قوة تطييف إيجابية وواعية جدا، توفر بكامل الوعي فرصا لمحاسيب لا توفرها لغيرهم. لديك فرصة أكبر في أن تقبل في الكلية الحربية (أو في الإيفاد الخارجي، أو السلك الدبلوماسي، والوظيفة العامة عموما) إن كنت من الفئة س. هذا يحول صفتك السينية العارضة إلى منبع امتياز، يحولك إلى شخص مشحون بشحنة مرغوبة من وجهة نظر تحقيق المصالح، وشحنة سلبية من وجهة نظر الأقل امتيازا. كيف لا تعم الطائفية المجتمع؟
وهذا في الأصل هو منبع ظهور النافذين والمحاسيب. إن السلطة العمومية التي يفترض أن يتساوى الناس في نظرها، كمواطنين، هي منبع التمييز واللامساواة. هي "ظهر" خاص و"فيتامين" خاص و"غطاء" خاص و"دعم" خاص لقطاعات من السكان أكثر من غيرهم، وذلك على أساس اعتباطي من وجهة نظر الدولة الوطنية، القرابة. هذا سيجعل منابتنا الخاصة، العارضة والاعتباطية، مقترنة بامتيازات أو بحرمانات عامة. قد يفضل مثقفون ألا يروا ذلك، اختصاصهم بالعمى العام يوجب عليهم عدم الرؤية. لكن كيف لمن حرموا نعمة العمى ألا يروها؟ كيف لعامة الناس أن يتعاموا عما يرونه ويلمسونه كل يوم؟ وكيف للوعي الذاتي الطائفي ألا ينمو؟
الخلاصة أيضا أن الأصل في الطائفية هو أن مركز السلطة العمومية هو المُميِّز العام، مضخة التمييز العام. وأن الطائفية مصنوعة من مكاسب وامتيازات وليس من تمايزات موروثة.
****
أعتقد أن في هذه المقاربة ما يسهم في عقلنة ظاهرة الطائفية وإخراجها من دهاليز العقائد والهويات والماضي إلى ضوء المصالح والامتيازات والحاضر.
ولعلها أيضا جسر تحليلي متين يربط بين الطائفي والطبقي، أو يظهر أساس الطائفية في امتيازات ومصالح متفاضلة وغير عادلة، وليس في هويات لا تتفاضل.
وميزتها الأساسية إظهار أن الطوائف لا تعيش إلا بالنظام العام، أنها ليست كيانات اجتماعية أو ثقافية خاصة، بل هي منظمات سياسية عامة، مثل "المنظمات الشعبية"، ومثل "الجبهة الوطنية التقدمية".
وهي، بعدُ، تجيب على سؤالك: لماذا تبدو الأكثرية السنية أقرب إلى الثورة؟ أو عتبة تماهيها بها أخفض من غيرها؟ هذا لأن عدد الحسباء في وسطها أقل، أي لأن قطاعات واسعة منها "مظلومة"، مفتقرة إلى "الواسطة" و"الظهر" و"الغطاء" و"الدعم". تبقى الأموال التي تدفع، الرشوة، والاضطرار لدفعها مثار غضب جمهور مفقر يرى موارده تشح، ويستنزف جيبه في كل وقت، حين ينجب ولدا وحين يبني بيتا وحين يزوّج ابنا.
وبالطبع هناك سنيون نافذون، في مراكز المدن الأكبر بخاصة، وتجدهم لذلك منسجمين مع موقعهم ومتحفظين على الثورة أو معادين لها صراحة. المسألة دوما مسألة امتيازات وليس عقائد وأصول.
يجد نفسه أقرب إلى النظام المستفيدون من شبكات محسوبية فاعلة، تيسر مصالحهم، وتضعهم في موقع ممتاز في النظام العام. لديك الكثير مما تخسره إذا تغير النظام، طبعا لن تريده أن يتغير.
وميزة هذه المقاربة أيضا أنها تسهل لنا تصور مخرج من الطائفية: رفض التمييز على مستوى السلطة العمومية، ونظام العدالة الاجتماعية والقانونية والحريات العامة. الطائفية (والعشائرية والجهوية...) نمت واتسع نطاق تأثيرها مع استتباع السلطة القضائية والتمركز حول السلطة وتفاقم الاستبداد، وافتقار الأفراد إلى حمايات اجتماعية. الطوائف والعشائر، عبر علاقات المحسوبية، تشكل أطرا وسيطة بين سلطة مستبدة تعسفية وأفراد وجماعات محلية منكشفة وبلا حماية.

على أن هذه المقاربة الداخلية و"الفيزيولوجية" للطائفية تحتاج إلى إكمال خارجي من مجال استراتيجيات السيطرة السياسية. ما الذي يجعل بعض شبكات المحسوبية أكثف من غيرها؟ أضمن للتماهي بالنظام من غيرها؟ أعتقد أنه قرار سياسي، بل تأسيسي، اتخذه حافظ الأسد منذ وقت مبكر من استيلائه على الحكم، بل منذ وقت أبكر، ويتمثل في منح أبدية حكمه موقع الأولوية العامة العليا. هذا اقتضاه توكيل موثوقيه وذوي قرباه بالركائز الأمنية لنظامه، أو بالأحرى الوظائف الأمنية التي تضمن إعاد إنتاج النظام، وهي أوسع بكثير من الأجهزة الأمنية، وتمتد عبر مؤسسات الدولة كلها، من الإدرات إلى المدارس والجامعات إلى المشافي، وتخترق حزب البعث على جميع مستوياته. هذا باب أول للتمييز والامتياز، فتح بالتدريج أبوابا أخرى. شبكات المحسوبية تشكلت في سياق يمنح الروابط الشخصية وعلاقات القرابة والثقة والمعشر الأولوية على الرابط الوطني العام والعلاقات المجردة، العمياء عن أصول الأشخاص وفصولهم.
وخلافا لما يرشد إليه التفكير الطائفي، فإن الأصل في مشكلة الطائفية ليس من يحكم، بل كيف يحكم؟ بالقانون أم بالمحسوبية؟ بقواعد عامة للعدالة أم بالقرابة الاعتباطية؟ الطائفية ممكنة أيا يكن من يحكمون، وممن ينحدرون. ليس لأن الأسرة الأسدية علوية لدينا طائفية في سورية، بل لأن حكم هذه الأسرة قائم جوهريا على المحسوبية، وهو ما بلغ ذروته في توريث حافظ لابنه حكم البلد. الطائفية ممكنة جدا إن كان في الحكم نخبة أو أسرة سنية المنبت، وتحكم بالمحسوبية.

السؤال السادس، ترافق نقدك للإسلام السياسي مع نقد لنقاد الإسلام السياسي. كما دعوت إلى قيام مؤسسة موحدة تضبط تناثر السلطات الدينية، كمقدمة للإصلاح الديني. اتسمت هذه الدعوة بالجدة، وبمخالفة ما هو متواتر عن الإصلاح الديني. بعد ثورات الربيع العربي، أين ترى الإسلام السياسي ونقاده؟ وهل مازلت ترى في توحيد السلطة الدينية مقدمة للإصلاح الديني؟
عندي مشكلة مع مختلف تيارات الفكر الإسلامي. فهي متمركزة حول ذاتها ومكتفية بما لديها، وما لديها قليل فكريا وأخلاقيا. ترى، من هو المفكر الإسلامي غير المنفتح على تيارات فكر أخرى الذي يعطيك شعورا بالحرية أو يغنيك روحيا أو يفتح لك أبوابا جدية للمعرفة، أو يزودك بأدوات جدية للتفكير؟ قليلون جدا. وفوق ذلك تجد غرورا وجهلا بما تحقق في الغرب والعالم من إنجازات فكرية وسياسية وأخلاقية وجمالية كبيرة، وإقرار بالتقدم التقني وحده، كأن هذا جاء من فراغ، كأنه منعزل عن إنسانية متحررة ومبدعة، وعن آفاق تفكير وتخيل مفتوحة.
وأكثر ما لا يدركه الإسلاميون في تقديري أن الغرب متفوق علينا أخلاقيا، قبل أن يكون متفوقا ماديا وسياسيا. في عمومهم، الغربيون أكثر عدالة وأكثر حرية وأكثر استقامة وأكثر غيرية وقبولا للمساواة منا، ومن الإسلاميين بيننا بخاصة. في سجلهم جرائم كبيرة، لكن لأن قدراتهم كبيرة، إن على فعل الخير أو الشر. وفي سجلهم اعتراض على جرائمهم كبير جدا ومشرف. في سجلنا جرائم كبيرة قياسا على قدراتنا، واعتراض على جرائمنا صغير. ضميرهم حي أكثر من ضميرنا.
ليس في الأمر خصوصية. الأمر ببساطة أنهم واجهوا أنفسهم أكثر منا، واشتبكوا مع مواضيهم وتصارعوا مع أشباحهم وشياطينهم أكثر منا.
ومن أبرز ما تلاحظه عند إسلاميينا السوريين اليوم غياب البعد الأخلاقي تماما في مشروعهم أو مشروعاتهم. قضايا العدالة والمساواة والحرية والإخوة بين البشر والكرامة الإنسانة المتساوية غائبة بالمطلق عن تفكيرهم. كأفراد، قد تجد إسلاميين أخلاقيين، لكن لا أخلاق في مشروع الإسلاميين. يتجنبون قضايا القيم عبر المزايدة باسم شرع الله: هل هناك شيئ أحسن من شرع رب العالمين!؟ وهذا برأيي ما سيحكم على هذا المشروع بالإفلاس بعد حين. المزايدة باسم الله أو الدين لا تغني عن وجوب الالتزام بالغير ، بالمخالف قبل المماثل. ومن لا يعدل حيال المختلف لن يعدل حيال المؤتلف. وظلم الغريب، من ليس منا، مدرسة نتعلم فيها ظلم القريب.
لكن عندي أيضا مشكلة مع التيار العريض لنقد الإسلام عموما، السياسي منه وغير السياسي، وهي طابعه الضيق، والعقلانوي. لم يخرج نقد الإسلام من إشكالية العلاقة بين الدين والعلم أو الدين والعقل التي ظهرت منذ أيام محمد عبده، بل بصورة ما منذ رفاعة الطهطاوي. تختلف الإجابات، الإسلام متوافق مع العقل أو هو قابل للتوافق أو هو غير متوافق بالمرة، لكن الإشكالية ذاتها لم تنتقد، إشكالية التمركز حول العقل. يبدو الإسلام وفق هذه المقاربة عقلا، وهو ما صار يقال فعلا في ثمانينات القرن العشرين على يد كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون وآخرين، وهذا مع رد العقل إلى بعده المعرفي. والعقل الجيد هنا هو المتوافق مع "العلم" أو مع "العقلانية" أو مع الحداثة، أو مع الغرب. والعقل السيء هو غير المتوافق، وهو ظلامي وقِدامي وخرافي.
ويفترض أن العقل الجيد يتوافق أيضا مع الديمقراطية أو مع العلمانية، وهي مفهومة دوما كعقليات أو كـ"ثقافة".
لكن لماذا ينبغي أن يتوافق الإسلام، وهو دين عالمي وعنوان لحضارة كبيرة وميراث عمره 14 قرنا، مع أي شيء غير نفسه؟
نحن اليوم في وضع متدهور حضاريا، لسنا أحرارا، إن لم أقل إننا عبيد، أخلاقنا رقيقة، ونظمنا السياسية هي الأسوأ عالميا، وثقافتنا ضعيفة الإبداعية والاستيعاب لإبداع الغير، ومغرورون لا نطاق على علاتنا الكثيرة. مستعد أيضا للقول إن هذه الأوضاع متصلة بوضع الإسلام المعاصر، بل وتكوينه الأصلي. لكن هذا يعني أنه آن الأوان لأن نشتغل على ميراثنا التاريخي الكبير بجدية، أن نصارع ما فيه من شر وجنون وقبح وغباء، أن ننتج من الثقافة ما ينافس نظمه الروحية والأخلاقية والتشريعية، ويفتح أبوابا جديدة للمخيلة والضمير. وأن نسائله تحديدا عن مدى ما يوفره للمسلمين، كيلا نقول للناس جميعا، من العدالة والكرامة الإنسانية.
لسنا مجتمعا جاء من الفراغ أو نشأ لتوه. وراءنا مخزون تاريخي هائل، وعلينا تنظيمه و"تصفيطه" جيدا كي نستطيع أن نستقل عنه. ليس مسلكا جادا تلفيق الأمور في صورة أن نكوم أشياء قديمة في أحد نصفي مخنا، وأشياء جديدة في نصفه الآخر، لنحصل على مخ متوازن. ولا يثمر أيضا أن نرمي بانفعال أشياءنا الموروثة على قارعة الطريق لنصبح حديثين.
لكن المشكلة الأساسية عند نقاد الإسلام المعاصرين، والأقدم في رأيي، هي ضمور البعد الأخلاقي في عملهم. قضايا العدالة والحرية والكرامة وفعل الخير أو العمل الصالح لا تشغل بالهم. ومواقفهم في الحياة العامة أيضا مجردة من البعد الأخلاقي، من الإحساس بمحن الناس وآلامهم، وما يبدو أيضا من انعدام قدرتهم على التعاطف والتضامن الإنساني.
وفي عملهم، تترك قضايا القيم خارج الثقافة. قضايا الإيمان والروح أيضا. القضايا الحقوقية كذلك.
ماذا يبقى؟ يبقى "العقل"، وقد ارتد إلى إيديولوجية نرجسية لا تكف عن التملي في ذاتها والإعجاب بذاتها.
يبقى غالبا أيضا شيء عكر، موتور وكاره، خال تماما من صفاء النفس وانشراح الصدر عند أكثر النقاد.
على أرضية نفسية ومعنوية كهذه لا يظهر شيء متحرر قابل للحياة.
واضح في تصوري أن لدينا مشكلة مزدوجة: في الإسلام وفي نقد الإسلام.
من هنا النقد ونقد النقد.

أما بخصوص مأسسة ومركزة السلطة الدينية, فقد تولدت الفكرة من معاينة تناثر السلطة الدينية في الإطار السني، وما تسببه من فوضى فكرية وروحية وسياسية. هذا يفتح الباب لمزايدات عقدية وسياسية لا تنتهي، يفوز فيها الأشد تطرفا. وهو منبع لاضطراب النفوس، والاضطراب السياسي أيضا. من شأن قيام مركز ديني حائز على الشرعية، أن يحد من هذه الظاهرة، وأن يعوض جانبا من الضعف التنظيمي العريق في مجتمعاتنا، وأن يكون أقدر على اتخاذ قرارات إصلاحية تحظى بقبول عام في الشأن الديني. ماكس فيبر يقول بارتباط بين وجود هيئة دينية مخصوصة أو اختصاص ديني وبين عقلنة التعاليم الدينية.
ثم إني وجدت ما يسند هذه الفكرة عند مثقفين مرموقين مثل الإسلامي فهمي جدعان، ومثل العلماني المذهبي محمد الشرفي، ومثل أمين معلوف وجورج قرم.
ويبدو لي اليوم أن السياق الذي تولدت فيها حاجتنا إلى مركز سياسي عام وشرعي، يمكن أن ينزع الشرعية السياسية عن أية مجموعات طائفية ومتطرفة، ويلم شتات البلد، هو ذاته السياق الذي يسوغ التفكير بضرورة نشوء مركز ديني عام وشرعي، ينزع الشرعية الدينية عن أية جماعات متطرفة وطائفية، ويسهم في تشكل سورية الجديدة. هذا السياق هو انحلال البلد إلى إقطاعيات، وحالة الفوضى العامة التي نتجه إليها.
وفي العموم أرى أنه ينبغي لأمثالنا أن يبذلوا مزيدا من الاهتمام بهذه القضايا. الإسلام عنواننا في العالم، واسم لإحدى مشكلاتنا الكبرى اليوم، ويصادف أننا نحوز أدوات قد تساعد على التفكير في وضعه ووضع المسلمين من موقع يجمع بين النقدية وبين الانتماء لهذا العالم.
مساهمتي في هذا المجال هي عمل ثقافي، توسيع قضايا النقاش العام لتشمل الدين. ليست عملا إصلاحيا، وإن يكن موضوعها الإصلاح الديني.
وقد ميزت في هذا الشأن بين إصلاح هو إعادة هيكلة للدين وتعاليمه، وإصلاح يطال موقع الدين في الحياة العامة. من شأن مأسسة ومركزة للسلطة الدينية تسهيل الأمرين معا.

اليوم، قضايا الدين وموقعه في الحياة العامة تفرض نفسها علينا أكثر من أي وقت سبق. أعتقد أن مسألة الإصلاح تزداد راهنية بقدر ما يبدو أن الدين يشغل موقعا متوسعا في الحياة العامة، ويطالب لنفسه بموقع السيادة السياسية والعقلية والرمزية. هذا تطلع خطر وغير مقبول من وجهة نظر نهوض مجتمعاتنا ووحدتها وترقيها المادي والأخلاقي. بالعكس، أتصور أننا نتطور بصورة سليمة بقدر ما نسير نحو أوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية ينزاح الدين فيها عن موقع السيادة. وهذا هو معنى العلمانية في نظري. أميل إلى تعريف العلمانية بأنها الفصل بين الدين والسيادة، وليس بين الدين والسياسة. ليس هناك مسوغات وطنية أو أخلاقية لاستثناء الإسلاميين من العمل السياسي، إن هم التزموا بميثاق عام يفصل بين الدين (وكل عقيدة اجتماعية أخرى) وبين كل من العنف والولاية العامة. تركيا نموذج يؤشر على الاتجاه الصحيح.

وبقدر ما نتكلم على إزاحة من موقع السيادة، فإن من غير المتصور أن تجري هذه العملية دون صراعات اجتماعية وسياسية، يحتمل جدا أن تكون عنيفة. لكن ينبغي للموجه فيها أن يكون قيم العدالة والحرية. الإسلاميون ليسوا عادلين، ولا يضمنون لمجتمعاتنا الحرية والترقي الأخلاقي. بالعكس، بقدر ما إن الإسلاميين في عمومهم يعتبرون العنف أداة سياسة عادية، وهو ما يحول في رأيي دون تكون سياسة إسلامية، ودون الترقي الأخلاقي للمسلمين، فإننا ربما نلج اليوم حقبة من العنف السياسي والديني قد تطول.
لكن اللاإسلاميين لم يكونوا عادلين وتحرريين. أمثال حافظ الأسد وزين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي قمعوا الإسلاميين وقمعوا الجميع. ولم يندرج حظر الإسلاميين يوما ضمن مسعى عام للنهوض العام وللتحرر الاجتماعي والسياسي.

السؤال السابع, في الثورة السورية، هناك صعود لتيارات عنفية مرتبطة بالقاعدة، ولتيارات إسلامية أخرى أقل تشدداً وغير مرتبطة بالقاعدة، تحارب النظام و تقدّم بديلاً عنه. الأمر يدعو للتشاؤم. قد يعني سقوط النظام إيقاف المجزرة المفتوحة منذ أكثر من عامين، ولكن يبدو أن السوريين ما زالوا بعيدين عن تحقيق حلمهم في بناء دولة ديمقراطية تعددية. لماذا لم تقدّم الثورة البديل الديمقراطي؟ هل البديل الديمقراطي ممكن في سوريا؟

دعنا نفصل بين الأمرين: "البديل الديمقراطي"، وظهور التيارات الجهادية وصعودها.
حتى بدون ظهور الجهاديين، التحول الديمقراطي صار متعذرا في سورية بسبب الخراب الاجتماعي والمادي الواسع، وضعف أو انهيار المؤسسات الوطنية، والانقسام المجتمعي والتباعد النفسي العميق بين السوريين على مستويات متعددة، وضعف الإجماعات الوطنية السورية، والسيولة الاجتماعية والسياسية العالية. كل هذا ينبئ بسنوات طوال من الزلازل والتفجرات الاجتماعية.
يلزم أن نفصل أيضا بين مطلب إسقاط النظام ومطلب الديمقراطية. في رأيي منذ صيف 2012، صار مطلب إسقاط النظام يستمد شرعيته الكاملة من الواجب الوطني والأخلاقي للتخلص من قاتل عام، وليس من أي شيء يتعدى ذلك.
الثورة السورية ثورة ديمقراطية في محركاتها، تفجرت ضد نمط ممارسة السلطة، وشاركت فيها كتل شعبية كبيرة، واعتمدت لشهور الكفاح السلمي، ثم مزجت به حتى حزيران 2012 المقاومة المسلحة، التي تصدرت المشهد بعدئذ. لكنها تحولت تحت وطأة كل هذا العنف والانكشاف الهائل لملايين الناس إلى هذا الجحيم الذي نراه بذهول، ونتحرك فيه كالسائرين في نومهم.
وقد تكون الثورة السورية ديمقراطية أيضا بالمعنى التاريخي لعبارة ثورة ديمقراطية، بمعنى أنها المسار المتعرج، القابل لصواعد ونوازل وقفزات وانتكاسات، المفضي إلى تشكل أمة حديثة، والقطع مع السلطانية المحدثة، دولة واجتماعا وتدينا. لكن حتى لو كانت الثورة كذلك، فهذا لا يعني تحولا قريبا نحو أوضاع ديمقراطية.
أما استمرار الربط بين الثورة بعد 120 ألف ضحية على الأقل وكل هذا الدمار وبين الديمقراطية فيدل ببساطة على كسل فكري، على عدم تبين أين نحن وما هو الواقع الذي نعيشه.
فإذا أضفنا إلى ذلك مشكلة الجهاديين والقاعدة، صار الكلام على الديمقراطية أكثر إثارة للسخرية.
لدينا تشكيلات عنفية عدمية، تشكل ما يشبه إقطاعيات دينية عسكرية في بلد يفتقر إلى مركز سلطة عام وشرعي. المركز الأسدي هو إقطاعية كبيرة مسلحة وقاتلة. من أين تأتي الديمقراطية؟ ينبغي أولا أن تكون لدينا دولة، تكوين سياسي وطني ولو "هرْتكْ"، ليبنى عليه أي شيء. ربما نكون بحاجة إلى ديكتاتورية وطنية مؤقتة، تلم شتات البلد، وتقضي على الإقطاعيات الجديدة والإقطاعيين الجدد. لدينا وضع غير نظامي، يفلت من كل قياس، ونحسن إلى أنفسنا في مثل هذه الشروط أن تدربنا على تفكير غير نظامي.
وعموما، أتصور أننا حيال عملية إعادة تشكل هائلة، اجتماعية ونفسية وسياسية وثقافية وديمغرافية، وربما جغرافية، لا نعرف ما يمكن أن تتمخض عنه. نحن أمام أزمة تأسيسية، وليس أزمة سياسية. وأخشى أننا سنرى من الأضاحي والقرابين أكثر مما رأينا حتى اليوم. تقديم بعض ما في رؤسنا قربانا على مذبح تفكير غير نظامي قد يكون بديلا أكثر إنسانية من تقديم رؤوسنا ذاتها.
*****
أعتقد أن أول تحد يواجهنا بخصوص الجهاديين في سورية هو أن هذا التطور أخذنا على حين غرة، لم نتوقعه، ولا نزال لم نفهمه. أقر بوجود فجوات كبيرة في فهمي، أحاول تداركها ما أمكن. ويبدو أن هناك الكثير من الغوامض والأسرار في الأمر، وأن جلاءها بقدر المستطاع هو واجبنا الأول كمثقفين. لا نستطيع أن نوضح شيئا لأحد، وعمل أمثالنا هو التوضيح والشرح، إن لم يكن الأمر واضحا لنا نحن بالذات. ثم إننا لن نتمكن من اقتراح أية سياسات عملية إن لم نفهم، وبقدر ما أرى، لا يبدو أن أحدا يعرف شيئا أو يحاول معرفة شيء.
أريد أن أقترح بعض القضايا هنا حول الجهاديين.
أولا، إن مساحة ظهورهم تتناسب طردا مع الخراب العام، في المجتمع والعمران والنفوس، ومع شعور قطاعات واسعة من السوريين بأنهم متروكون لمصيرهم وبلا أمل. هذه الظاهرة مرتبطة كثيرا بالآفاق المسدودة واليأس، يأس الأفراد ويأس المجتمع، وفقدان الثقة بالجميع. بمن يثق السوري اليوم؟ بنظام يقتله؟ بمعارضة ركيكة؟ بالأمم المتحدة؟ بالغرب؟ لا أحد. هذه تشكيلات تثق كثيرا بعدم ثقتها بأحد، بعدم جدارة أحد بالثقة. ترفض العالم المعاصر والدول والمجتمعات المعاصرة، وتزدهر حين تتوفر مسوغات الرفض. وهي متوفرة اليوم. "الإسلام" لديها اسم لعدم الثقة بأحد ولرفض كل شيء. هذا لأن الإسلام عموما، ومنذ قرنين تقريبا، ناف للعالم وغاضب منه وحاقد عليه.
ثانيا، إنها تستقطب جمهورا من الغاضبين الحاقدين على المجتمع. صنفان منهم: صنف الساخطين بسبب الفقر والحرمان، شبان يعانون من حاجات مادية ضاغطة، ويعوضون عنها بسلطة لا تحد على غيرهم؛ ثم حاقدون على الدولة والمجتمع معا بسبب الاعتقال والتعذيب والسجن. غير قليل من قادة تشكيلي القاعدة السوريين، "جبهة النصرة" و"الدولة الإسلامية في العراق والشام" هم نزلاء سابقون في سجن صيدنايا، أفرج عنهم النظام في شهري نيسان وأيار 2011، وعن بعضهم قبل الثورة. هذا يفسر جانبا من قسوتهم، ومما يبدو من نازع تعويض لديهم أو مكافأة على آلامهم وتضحياتهم. كنت سجينا وأعرف جيدا أن هذا نازع قوي عند السجناء السابقين، وإن لم يتظاهر بالطريقة نفسها عند الجميع.
معلوم أن أيمن الظواهري كان سجينا أيام السادات في سبعنات القرن العشرين وتعرض لتعذيب وحشي. وكذا كان سجينا زهران علوش قائد "لواء الإسلام" (تشكيل سلفي يجاهد، منطلقه الغوطة الشرقية، وله امتدادات مهمة خارجها، وينال دعما سعوديا كبيرا)؛ ومثله حسان عبود، قائد حركة أحرار الشام السلفية بدورها (التشكيلان الأخيران ليسا مرتبطين بالقاعدة، بل أقرب إلى العداء لها). أما أبو مصعب الرزقاي فكان سجينا جنائيا في الأردن، و"اهتدى" في السجن.
أظن أن المظلوميات الشخصية، سواء كان مصدرها الفقر أم السجن، تجد في المظلومية الإسلامية العامة ما يعطيها بعدا كونيا وغيبيا، ويزودها ببعد خلاصي. المؤامرة الغربية، بل الصليبية اليهودية، هي كل "العلم السياسي" عند مجاهدي القاعدة، بل هي في صلب عقيدتهم الدينية.
ثالثا، من متابعة الأوضاع في بعض مناطق الشمال والشمال الشرقي تولد لدي انطباع بأننا نبالغ بالكلام على تطرف ديني وتشدد ديني وإرهاب إسلامي وجهاد... يتعلق الأمر بقدر كبير بالأحرى بمجموعات شبه إجرامية، عصابات من أناس قساة، كثيرون منهم أصحاب سوابق جنائية، يسرقون ويستولون على ملكيات عامة وخاصة. ويبيحون لأنفسهم ذلك بذرائع دينية.
لا أقول إن هذا يستنفد الظاهرة، لكنه جانب مهم منها، وأعتقد عموما أننا في عالم أكثر تدهورا مما توحي به مقالات التطرف الإسلامي والإرهاب الإسلامي من تنظيم سري تآمري محكم. قد تنطبق هذه الصورة على دوائره العليا، لكن حواشيه متدهورة ورثة، وتمتزج السلطة فيها بالعنف والجريمة.
علىى أننا في حضرة أشكال لافتة واستعراضية من القسوة الإرهابية، من الإعدام المشهدي في ساحات عامة إلى السيارات المفخخة. عادة تقترن القسوة بالسرية. الجماعة أقرب إلى استعراض قسوتهم. وأقدر أن الغرض هو الترويع العام السريع المفعول.
التكفير يسوغ القسوة، ويشكل مقياسا لها، ويشرع استباحة الكفار المفترضين. بل إن محرك التكفير هو تشريع الاستباحة، ورفع أية حماية عن المعنيين. ليس لأنهم كفرة يستباحون، يجري التوسع في التكفير بما يسهل التوسع في الاستباحة. "داعش" التي تكفر الجميع هي الأقسى. جبهة النصرة وأحرار الشام أقل تكفيرا، وأقل قسوة. تكفير أقل يعني قسوة أقل واستباحة أقل.
وفي كل الأحوال التكفير حراسة لامتياز وتسوير لسلطة، على نحو ما هو التخوين عند البعثيين.
وعموما أميل اليوم إلى الاعتقاد بأن التكفير المرسل يؤسس حصرا لنهج فاشي وممارسات سياسية فاشية، نهج إبادة واستئصال أي خصوم سياسيين مقدرين، بما في ذلك استباقيا. أميل أيضا إلى أنه لا يمكن مواجهة هذا نهج التكفر الفاشي دون مراجعة مبدأ التكفير ذاته، ربما في اتجاه تحويله إلى أداة فكرية لتمييز العقائد الإسلامية عن غيره، أي ليصبح "الكفر" و"الإسلام" مبدآن لصون تكامل المعتقد الإسلامي، مع فصل الدين والكفر عن الدولة والسيادة. بعبارة أخرى يتعين على الفكر الإسلامي نقل التكفير من نصاب السلطة والسيادة (التخوين والتكفير من الخصائص الذاتية للسيادة) إلى نصاب الاعتقاد والإيمان.
ولأن التكفير في بنيته ذاتها أصلح للممارسات الفاشية اليوم، فإن الممجوعات الإسلامية الأكثر تحرزا في التكفير مسوقة إلى القطع مع النهج التكفيري والتحول إلى منظمات سياسية تقر بأنها لا تحوز شرعية مبدئية تفوق غيرها، و بالعكس تتحول إلى نهج داعش التكفيري الشامل والفاشي.
رابعا، لا أستبعد، بل أرجح، صلات خفية بين بعض هذه المجموعات وبين أجهزة ودوائر دولية، منها النظام وأجهزته. تواطؤ خفي في الحالة الأخيرة. إذا كان يبدو أن النظام، أجهزته الأمنية بخاصة، هو الجهة الوحيدة في سورية التي تنبأت بهذه "الأمارات السلفية" منذ وقت مبكر، فربما لأنها صنعت ما تنبأت به، أو أسهمت بقدر طيب في صنعه.
هناك غوامض كثيرة في الظاهرة وهناك انتشار سريع لها، بما يثير التساؤل حول منابع قوتها ومواردها. ليس من شأن منظمة سرية إرهابية، محاربة من الجميع، أن تتوسع كل هذا التوسع، وتقيم في مقرات معلومة، وتتصرف بموارد لا يبدو أنها تخشى أن تشح. ليس هذا حال المحارَب المطارًد.
أفرج النظام عن جهاديين في وقت مبكر من الثورة. كثير منهم كانوا في العراق، حيث الحدود بين البعثيين المتحالفين بعد الاحتلال الأميركي مع النظام السوري (وأكثرهم سنيون) وبين القاعدة متداخلة، وحيث يحتمل أن النظام السوري استفاد من دعمه للأولين لاختراق الأخيرين وتجنيد بعضهم.
ومما لا جدال فيه اليوم أن النظام يتجنب ضرب مواقع لـ"داعش" في الرقة، علما أنهم يحتلون مقرات معلومة وبارزة جدا، لا يخطئها حجر يرمى من حلب باتجاه الرقة، على ما عبر بعض من سمعتهم، وعلما أن النظام لا ينقطع عن قصف مناطق في المدينة.
والشيء المثير أن جماعة "الدولة..." مُقنّعون في الرقة، يتصرفون ويفكرون بأنفسهم كمنظمة سرية رغم أنهم انتحلوا لأنفسهم اسم دولة. ولا أظن هذا التحجب لما ينبغي أن يكون عاما وعلنيا إلا تعبيرا عن الطابع الخاص جوهريا لهذه المجموعة. الطابع الخارجي أيضا قياسا لمجتمع محلي.
وأعتقد، استطرادا، أن القناع مؤشر على تحول في شخصية كيان المقنعين، أو هو إعلان لاختلافهم وتغيرهم (أنا لم أعد أنا)، وكذلك للانفصال عن بيئاتهم وأوساطهم الحياتية المعتادة، وتحولهم السياسي والعقدي والحياتي. وقد يكمل الانفصال بقناع بآخر: انتحال فصحى تراثية ركيكة، تنفصل بدروه عن محكية البيئات المحلية. الفصحى التراثية محملة بالخيال الامبراطوري، ومن المشروع التساؤل عن مدى قطيعة الفصحى الحديثة معه.
خامسا، هنا ضرب من الارتباط بالعشيرة. يبدو أن بعض العشائر تشكل أطر استقبال وانتشار جاهزة لهذه المجموعات، بينما تظهر عشائر أخرى ابتعادا عنها. يبدو أيضا أن يتعلق الأمر يتعلق أساسا بتنافس على السلطة والنفوذ والموارد، مما يحتاج إلى تقص تفصيلي. وبينما يبدو أن العشيرة توفر قاعدة اجتماعية جاهزة أو تكاد لانتشار هذه المجموعات، يبدو أن مبدأ سلطويا دينيا يجعلها مستعصية على ضروب المحسوبية والضغوط الاجتماعية المميزة للبيئات العشائرية.
لا أتردد في وصف هذا المبدأ بالاستعماري، مزيج من الاستعلاء شبه العنصري والشعور بالرسالة الخاصة، ومن القسوة اللامتناهية، ومن الخارجية أو الانفصال عن المجتمع المخترق، ومن هندسة اجتماعية تتوسل العنف الأقصى. القاعدة استعمار وحشي مثل كل استعمار، ومواجهته هي صراع تحرري. الفظيع في حالنا أننا نخوض صراعا بالغ القسوة ضد الاستعمار الأسدي، وأنه من الاستحالة بمكان بناء جبهة وطنية عريضة للتحرر من الاستعمار القاعدي في مثل شروطنا.
وربما يلعب القناع هنا دورا أيضا: إذ يغدون غير معروفين، فإن القناع يضع المقنعين في منأى عن الضغط الاجتماعي من معارفهم وذوي قرباهم، على ما شرح لي ناشط متعاون مع حركة أحرار الشام الإسلامية عن بعض مقنعي الحركة.
ومن المشروع أن نتساءل في هذا المقام عن جذور هذا المبدأ الاستعماري في الفكر الإسلامي الحديث والقديم. وهنا نجدنا في تصوري، مرة أخرى، أمام تصفية حساب واجبة ونهائية مع الامبراطورية ومخيلتها وأشباحها التي لا تكف عن ارتياد آفاقنا الفكرية والدينية والنفسية واللغوية. ما يريده الإسلاميون، وما أخذه منهم القوميون العرب، قبل أن يعاود الأولون استلامه، هو "الفتح" والسلطة الامبراطورية، ليس التحرر ولا الاستقلال ولا العدالة، ولا النهوض الحضاري، ولا النمو الاقتصادي.
حديث "من بدل دينه فاقتلوه" هو مبدأ سلطة وامبراطورية وليس مبدأ إيمان ودين. مبدأ قوة، وليس مبدأ عدالة.
تصفية الحساب مع الامبراطورية في الثقافة والدين واللغة هي ما يمكن أن تكون منطلق تجددنا الروحي وتحررنا السياسي.


لا تكفي هذه التقديرات بخصوص مجموعات القاعدة. لدينا مركب عدمي من اللاثقة والحقد والعقيدة والجريمة والمخابرات والعشيرة، والمخيلة الامبراطورية،نحتاج إلى مزيد من المعاينة والمعلومات التفصيلية والبورتريهات الشخصية كي نفك غوامضه.
ومن الوجهة العملية نحتاج قبل كل شيء إلى إلحاق الهزيمة بالنظام، أولا لقطع كل ما يحتمل من روابط خفية لهذا الكيان العدواني الشرير مع هذه التشكيلات العدوانية الشريرة بدورها، ثم لأن سقوط النظام هو شرط ظهور مركز سلطة وطني شرعي أولا، يستطيع أن ينزع الشرعية عن أية جماعات خاصة ومواجهتها، ومخاطبة عموم السوريين في شأنها، وإلى سياسات اجتماعية واقتصادية وخدمية تنعكس تحسنا في أوضاع ومقدرات الشرائح الأكثر فقرا في البلد، وبلا شك إلى إجراءت قمعية فاعلة لمواجهة الأنوية الإجرامية لهذه المجموعات.

بعد هذا كله يبدو لي أن هناك شرط إمكان إسلاميا مستقلا لتوليد هكذا ظواهر، وأظنه يستحق نظرا مستقلا.
فإذا اصطلحنا على أن "العقل" هو طبقة المدركات المزامنة لأوضاعنا الراهنة ومشكلاتنا، و"الضمير" هو طبقة القيم المزامنة أيضا، فإن انهيار هاتين الطبقتين (اقترن في سورية بانهيار الإطار الوطني للصراع بدءا من صيف 2012 في تقديري) يفضي إلى ظهور طبقات أقدم، وهي أقل ملاءمة لمعالجة مشكلات اليوم والتوجه السليم في شأنها، ضرب من "لاعقل"، و"لاضمير" (على نحو ما نتكلم على لاشعور أو لاوعي، يحيل إلى طفولة الفرد وطفولة الجنس البشري). وكلما كانت هذه الطبقات أقدم كانت أقرب إلى قطب الجنون والشر الكامن في أعماق كل إنسان وفي أعماق الإنسانية، منها إلى عقلنا الملائم وسلوكنا المسؤول.
هذا بصورة تخطيطية جدا حصل لدينا بإيقاعين متفاوتين: إيقاع بطيء مديد في عقود الحكم الأسدي الذي أفضى إلى نكوص سورية نحو حكم سلالي عصبي، وإيقاع سريع أثناء الثورة، مع تحطم الإطار الوطني للحياة والعمل، والتفكير والحكم، وظهور الطبقات الأقدم، الدينية.
في المحصلة، يظهر "عقل" عصبي ديني لا يقدر على التوجه السديد في عالم اليوم، فيعمل على تحطيمه كي ينتج عالما مزامنا لما لديه من عتاد فكري. هذا هو اللاعقل. وضمير عصبي ديني لا يسعف في التصرف المسؤول في عالم اليوم، فيدينه ويلعنه، وينتج أطر اجتماع وعيش تلائم ما لديه من أخلاقيه. وهذا هو اللاضمير.
فإذا كان طبقات لا وعينا ولا عقلنا ولا ضميرنا تظهر على السطح اليوم بفعل انهيار الإطار الوطني لحياتنا، فإن الإسلاميين الخلص، على نحو ما يتمثلون في التيار السلفي الجهادي بخاصة، كانوا أقرب إلى هذه الطبقات القديمة: الدين في صيغته الأوامرية السلطوية، الامبراطورية.
الفكر والسياسة الإسلامية ينتجان ما نرى من عنف وقسوة وتدهور وبدائية إنتاجا طبيعيا وحتميا بقدر ما هما ينكران إنتاجية التاريخ والدور الفاعل للزمن. تساعدهم في ذلك نظم التوحش التي أطاحت بكل ما له قيمة من تراكمنا التاريخي، ووفرت لهم قاعدة اجتماعية واسعة، مفقرة سياسيا وثقافيا أكثر حتى مما هي مفقرة ماديا.
في عالم الإسلام الديني والفكري لدينا استعداد قوي لإنكار الزمن، نراه مجرد عرض خارجي لا يصيب جوهر عقيدتنا ومأثوراتنا وطقوسنا، وغاية ما يتسبب به هو أن يعلوها الغبار. ننفضه (ننفض التاريخ) مرة كل قرن، على يد مصلح يبعثه الله للأمة، فيرجع الدين إلى نضارته الأولى. عبالله العروي سمى هذه الآلية: السنة. السنة عملية ديناميكية لحذف الحدث أو تحييد حدثيته وإدراجه في مخطط لازمني قديم. قد يسمى الحدث بالبدعة.
ماذا يعني إنكار فاعلية الزمن؟ يعني رفض أن نكبر، أن ننضج ونتمرس بمشكلات زمننا، أن نعقل ونتحمل المسؤولية، يعني أن نبقى أطفالا.
يعني الطغيان.
الطاغية هو الشخص الذي يريد تجميد الزمن كي يبقى طفلا، وتلبى جميع رغباته بلا حدود مثل الأطفال.
وبما هو يعني الطفلية والطغيان، فإن في رفض التاريخية وإنكار الزمن ومقاومة التغيير إرادة الاحتفاظ بسلطة مطلقة مقدسة لا تمس. يقول مديرو الدين إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان من أجل أنفسهم وسلطتهم. الإسلام "سبب" لجلب الدينا لهم على ما قال أو العلاء المعري قبل ألف عام.
وسينتج الرافضون المنكرون بنية اجتماعية مضمرة في تصورهم للاعتقاد الإسلامي، بنية قديمة وعنيفة، يمتنع أن تطابق بالفعل عالم المسلمين الأول، أقرب إلى شبحه، لكنها تمنحهم موقعا إلهيا، موقع من يحوز سلطة لا تجادل.
إسلام القاعدة هو الأكثر إنكارا للتاريخ، والأشد إطلاقا وعنفا، وجنونا وأنانية وشرا. لكن ليس هناك من يتقبل التغير التاريخي تقبلا إيجابيا، يعتبره خيرا عاما، من الإسلاميين المعاصرين. ولذلك الباب يبقى مفتوحا عند الجميع نحو النكوص نحو اللاعقل والجنون، والطفلية والطغيان، والشر.
حين نقاوم تشكل الطبقة الحديثة من المدركات والقيم، العقل والضمير، أو حين تنهار هذه الطبقة مع انهيار عالم الدولة الوطنية كله على ما هو حاصل لدينا اليوم، فإننا نجد أنفسنا في عالم الأعماق، عالم مسحور يجول فيه الجن والعفاريت والأشباح والشياطين. هذا هو العالم الذي يعيش فيه مجاهدو القاعدة، ولا يبتعد عن تخومه عموم الإسلاميين.
أعتقد أن من المناسب هنا الكلام على تغول الدين على نحو ما نتكلم على تغول الدولة أحيانا. أعني على تحول الدين إلى غول، قوة لا إنسانية ساحقة، لا شكل لها ولا نظام ولا دستور، آلة لطحن البشر وتعليبهم، طحن نصفهم وتعليب نصفهم الآخر.
ومثلما يؤدي تغول الدولة إلى تصرفها على نحو مجنون وإجرامي، على ما تفعل الدولة الأسدية اليوم، ويفتح الباب للدولة الفاشلة، والمجتمع غير القابل للحكم، يحتمل في تصوري أن يؤدي تغول الدين وسلوكه المجنون على نحو نرى مظاهره المتفاقمة منذ عقود، إلى الدين الفاشل، العاجز عن تلبية الحاجات الروحية للمؤمنين، وإلى تحول مجتمعاتنا إلى حشود بشرية متوحشة، غير قابلة للإيمان، لأي إيمان.
ومثلما يلزم عمل على الجبهة الاجتماعية والسياسية لمواجهة هذه التشكيلات العنفية، يلزم أيضا عمل على الجبهة الدينية.
هذا يطرح بحدة مسألة إصلاح الدين، أن يتصالح مع عمره ومع التاريخ. لقد انقلب خير المسلمين العام، الإسلام، انقلابا ضروريا إلى قوة عنف وتدمير. لا بد من الإصلاح. لا بد من تصفية حساب مع الامبراطورية في تفكيرنا وثقافتنا ولغتنا وتديننا. لا بد من إطلاق الماضي وتوديع الطفولة. مقاومة التغيير مسلك طفلي شائع لدينا في مجالات السياسة والدين والثقافة، وآن أن ندخل عالم النضج.
من يستطيع الإصلاح؟ إنه واجب الجميع. لكن على المستوى الديني، ربما يلزم المسلمين مؤسسة دينية شرعية واثقة بنفسها حتى تستطيع أن تعقلن وتصلح وتحدث. هي نفسها علامة عقلنة وإصلاح وتحديث. وقد يكون المدخل إلى ذلك مؤتمر إسلامي عام، يتلاقي فيه رجال الإسلام للتداول في أوضاع دين المسلمين.

المحور الثالث
السؤال الثامن, في "أساطير الآخرين"، ربطت مبدأ حرية الاختيار الديني بإمكانية وجود منظومة أخلاقية تسمح للناس بالتعبير عن أنفسهم، في معرض انتقادك للإسلام السياسي الذي ما زال يرفض هذا المبدأ، وبالتالي يصادر إمكانية وجود أي منظومة أخلاقية. ترى أيضاً أن غياب الحرية في دول الاستبداد العربي تؤدي إلى غياب أي منظومة أخلاقية. هل ترى الحرية شرط ضروري لإمكانية وجود منظومة أخلاقية؟ وهل الثورة على الاستبداد، الديني والسياسي، بهذا المعنى، هي حكماً ثورة أخلاقية؟

طبعا. لا أخلاق دون حرية. مبدأ المسؤولية الأخلاقية يفترض الحرية كمقتضى ذاتي. ثم إنه إذا كان موضوع الأخلاق هو علاقات الناس ببعضهم، وجب أن يكون جميع الناس أحرارا من أجل حياة أخلاقية للجميع.
غير الحر غير مسؤول. وهو يمكن أن يفعل أي شيء لأنه غير حر. الحر لا يفعل أي شيء كل شيء. من يفعل كل شيء هو الطاغية الذي لا قانون له. الحر يفعل أشياء كثيرة توسع مساحة حريته وحرية غيره لأنه مسؤول ويتوقع المسؤولية من غيره. لذلك الواحد منا لا يكون حرا إلا إذا تعاون مع غيره وساهم في تحرر غيره. هنا تكون الحرية منتجة، خلافا لحرية أنانية، نستهلكها كي نفعل ما نريد لأنفسنا.
وأعتقد أن الحرية تتجلى أساسا في إنتاج القيم والمعايير والضوابط الأخلاقية. إنتاجنا من الضوابط مؤشر على حريتنا، وعلى تطلبنا للحرية. وضعف إنتاجنا، وهو شديد الضعف بالفعل، مؤشر صادق لا على قلة حريتنا فقط، وإنما على ضعف إحساسنا بالحاجة إلى الحرية، على أننا لا نشعر كم أننا مقيدون.
أعتقد أيضا أن المشكلة في حداثتنا، على نحو ما هي مجسدة في واقع سياسي واجتماعي واقتصادي... معاصر، في نظم سياسية بخاصة، وعلى نحو ما تجري الدعوة إليها إيديولوجيا في أعمال مثقفين كثيرين، هو بالضبط ضمورها الأخلاقي، وضعف حضور التطلب الأخلاقي فيها. أي بالتالي ضعف تطلب الحرية.
وأنت ترى أنه في أعمال الدعاة الحداثيين المكرسين ما لا يقل عن التحفظ على مطلب الحرية العام، وحرية العامة، وتشكك صريح بالديمقراطية، وهذا بينما لا نشكو من وفرة الحرية في واقعنا السياسي والاجتماعي كما هو معلوم. هذا لأن تفكيرهم متمركز حول مواجهة الإسلاميين، إلى درجة أن مثقفين سوريين مكرسين لم يقولوا طوال عقود جملة واحدة تدين الوحشية التي عومل بها إسلاميون، والوحشية المقاربة التي عومل بها أمثالنا. يخشون أن الإسلاميين هم من يفوزوا بالحرية، فينقلبون ضد الحرية ذاتها، وإن لم يبخروا صراحة لنظم الطغيان، لن تجدهم ينتقدونها بشيء. هذا لا أخلاقي. وهو سياسة قصيرة النظر أيضا. يمكن أن يفوز الإسلاميون وقتيا بالحرية، لكن الحرية مكسب عام ودائم. والإسلاميون إما أن يشاركوا غيرهم مكاسبها، وهذا عز الطلب، أو ينقلبوا ضدها حين تعود مكاسبها على غيرهم، فيمر الكفاح من أجل الحرية بمقاومتهم والصراع ضدهم. لكن كيف لمن لم يدافع عن الحرية ضد الطغيان الأسدي، أن يحوز صدقية أخلاقية للدفاع عنها ضد الإسلاميين؟
ورأيي أننا لن نكون حديثين فعلا إلا بقدر ما نتتج قيما وضوابط أخلاقية، دساتير سلوك وسياسة وعيش، أي إلا بقدر ما نكون أحرارا. الكلام الكثير على العقل ليس فقط لم ينتج تفكيرا حديثا وعقلا حديثا، وإنما آل عند بعض كبار دعاته إلى تجديد مناهج التفكير القروسطية، عبر تفسير الواقع التاريخي المتغير بالماهيات العقلية الثابتة.
مجال الحداثة الفعلي هو في تصوري الحرية، أي ظهور الفرد المسؤول، والضمير المستقل. المستقل عن ماذا؟ عن السلطات الخارجية بالتأكيد، لكن أيضا عن العقيدة المطلقة، وعن المذهب الناجز، وعن الهوية الموروثة، وعن الدعوة الإيديولوجية الجامعة.
وخلافا لرد الحداثة إلى العقل، وهو مسلك نرجسي ونخبوي يفضله المعجبون بعقولهم الخاصة، فإن التفكير في الحداثة كحرية وكضمير غيري جوهريا لأنه يقوم على مبدأ المسؤولية أمام الغير وحياله.
إلى ذلك يبدو لي أن اللاعقل، نقيض العقل في الإطار الإسلامي والعربي، ليس الخرافات والخوارق والشطحات والعرفان...، لدينا من هذا كله كثير، لكن اللاعقل يتجسد أساسا عندنا في اعتباط السلطة وتعسفها. السلطة عموما، لكن أولا السلطة السياسية. ماذا يعني تعسف السلطة؟ يعني أن سلوكها لا ينضبط بقاعدة أو مبدأ مطرد، أو دستور. بما يتحدد إذن؟ بالمزاج والهوى، بنزوات المتسلط، فردا أو أسرة أو طغمة، وتفضيلاته الخاصة. الشخصي يحل محل القانوني، وروابط الشخصي من أسرة وعشيرة وطائفة... محل الروابط القانونية العامة التي تُحيِّد الهوى وتُفرِّد الناس.
وإنما في مجال الإرادة والفعل والسياسة والاعتقاد، وليس في مجال المعرفة والنظر وتعقل الأشياء، نجد تجسدات اللاعقل في ثقافتنا واجتماعنا. أسوأ التجاوزات في تاريخنا، والظلام الأكثر ظلاما، ينتسب إلى دائرة السلطة والسياسة وليس إلى دائرة التفكير والمعرفة، ولا حتى إلى دائرة الدين والاعتقاد. ظواهر السلطة لدينا غير عاقلة وغير عقلانية، إن لم نقل إنها مجنونة، وتعمل كمضخات للعنف والاعتباط والعشوائية والظلم واللاقانون. هذا في الماضي واليوم. أسوأ ظواهر المعرفة لدينا لا يقارن سوؤها بتأثير السلطات التعسفية. هذه كلها كوارث مع استثناءات قليلة جدا. لذلك فإن البحث عن اللاعقل في مجال المعرفة لا يخرج بالجوهري لدينا. وما يقوله المرحوم محمد عابد الجابري عن العرفان ليس مقنعا في تصوري.
اللاعقل لدينا مجاله هو الأخلاق والقانون والسياسة والدين، العقل العملي بلغة كانط أكثر من العقل النظري.
بالمقابل يبدو أنه كان للسلطة في الغرب دوما حدود ما، وأعتقد أن الغرب في العصور الوسطى عرف اعتباطا على مستوى السلطة أقل مما لدينا. لذلك صلة بالمراتب الاجتماعية وبوجود أرستقراطية أو نبالة وراثية بلا ريب. ولعل له صلة من نوع ما بمكانة مقررة للكنيسة، لكن هذه بالضبط من المواضيع التي يتعين أن تدرس جيدا، ونحن نتكلم علىى العقل واللاعقل، بدل تلك الأدبيات التي لا تكف عن الكلام على المعرفة.
وتعسف السلطة يقوض القدرة على التوقع والاحتساب والتخطيط، ويحول دون ظهور قواعد وأصول للأفعال والممارسات الاجتماعية، ويمنع تشكل الأشياء، ويقوض الاستقرار فيضعف التراكم المادي وتراكم الخبرات، ويقوض فكرة القانون، ويضعف القدرة على التنظيم. وبفعل اعتباطية الأوامر الخارجية يتدهور مستوى الانضباط الذاتي، ويعم التحايل والمرواغة في علاقات الناس بالسلطات. ويستحيل تكوين مفاهيم واضحة في شأن الممارسات والمؤسسات الاجتماعية بالضبط لكونها تفتقر إلى روح ذاتي، إلى مسمى مستقر في اسمه. وظاهر أنه ليس لدينا مؤسسات تاريخية مهمة قوية الشخصية. تاريخنا كثير البدايات التي تعود من الصفر.
ومعلوم أن تعسف السلطة قرين للطغيان، أي للتقييد المضاعف للحرية، ليس تقييد الفعل على نحو ما يفعل الاستبداد، بل الإجبار على الفعل المناسب للسلطة. وهو ما يحول دون عيش حياة أخلاقية، وليس فقط دون عيش حياة سياسة. الاستبداد يحرمنا من السياسة، أما الطغيان فيحرمنا من الأخلاق، فوق حرماننا من السياسة. ونحن نعرف ذلك من تجربتنا في "سورية الأسد"، حيث حرمنا من الحياة الأخلاقية والحياة السياسية معا.
هذا الاستطراد يعيدنا إلى القول إن المجال الاستراتيجي لحداثة منتجة في إطارنا الاجتماعي الثقافي هو "العقل العملي"، قضايا الأخلاق والقانون والسياسة والاعتقاد على نحو خاص.
ورأيي أننا متأخرون عن الغرب في مجالات الأخلاق والسياسة والتنظيم تأخرات حاسمة، أما تأخراتنا في مجالات العلم والتكنولوجيا والإنتاج المادي فهي أهون بكثير.
قيودنا المعوقة للتقدم، ونصير حديثين حين نتحداها ونتحرر مننها.
أولها القيد السياسي الذي يتواتر ألا يقف عن منعنا من فعل ما نؤمن به، وإنما يتعدى ذلك إلى إكراهنا على فعل ما لا نؤمن به، وما ينتهك ضميرنا. وهو الآن في بلدنا آلة قتل تعمل بطاقة لا نظير لها في العالم كله.
القيد الديني الذي يمنعنا من أن نعتقد بحرية ونفكر بحرية، ونظهر أفكارنا وعقائدنا في المجال العام. وبعض تعبيراته تعمل اليوم كآلة عدوان وقتل إجرامية. وباتصال مع ما قلته للتو عن السلطة التعسفية، يبدو لي أن "الشريعة" تقع في مركز النقاش حول العقل لدينا، نظرا لكونها "قانون" من نوع ما، و"أخلاق" من نوع ما، و"سياسة" من نوع ما. "العقل" هو التمييز بين هذه الدوائر والعمل على استقلال كل منها بنصاب ذاتي يخصه، من أجل أن يستقل كل منها عن الآخر. وعموما تشغل دائرة الاعتقاد موقعا وسيطابين دائرة المعرفة والفكر من جهة، ودائرة السياسة والتنظيم الاجتماعي من جهة ثانية، ما يجعلها موقعا استراتيجيا للنظر في عقلنا ولاعقلنا.
ثم هناك القيد المادي الذي يشد أكثرنا إلى التراب، إلى حياة ضيقة فقيرة وحقود.
وكذلك القيود الاجتماعية المتنوعة التي تتجلى في النزعة المحافظة والتراقب الاجتماعي (الكل يراقب الكل ويأسره في صورة ثابتة) والموقف السلبي من المغايرة والاختلاف والجديد. وأيضا استبعاد النساء من الحياة العامة، وهي في تقديري مصدر أساسي لفظاظة الذكور وتوحشهم وجفافهم، ولنظرتهم البهيمية إلى المرأة كموضوع جنسي نتطلع إلى إباحته إن لم يكن منا، وإلى تقييده والحجر عليه إن كان يخصنا. وهو أيضا أحد مصادر ضمور الحس الجمالي لدينا. في وجود المرأة، النساء، تعرف أن الذكور يتهذبون. الحضور الدائم للمرأة في الحياة العامة يهذب، يربي الضمير والذوق، ويرقي الحس الجمالي. نحن نفعل أشياء كثيرة من أجل النساء. هذا طيب وجميل وأخلاقي. وهن يفعلن أشياء كثيرة من أجلنا، وبشجاعة أكبر. تحرر البروليتاريا النسوية شرط ضروري ليتحقق لنا أي تقدم في التحرر الاجتماعي.

بخصوص الدين، رأيي أنه يمتنع أن تتشكل أخلاقية إسلامية، أو أية حياة أخلاقية للمسلمين، دون فك ارتباط نهائي بين الدين والعنف، لنتحول نحو دين الإيمان الشخصي والضمير. إن كان العنف في المتناول دوما، العنف حيال الأولاد والزوجة في الحياة الخاصة، أو حيال غير المؤمنين أو الأقل إيمانا أو عموم المحكومين في الحياة العامة، فكل ما يلزم هو شرائع تبرر هذه العنف. وهي موجودة في المخزن الكبير الذي اسمه التراث، وفي الخدمة. الضمير هنا فائض عن الحاجة. فقط حين نُفطم عن العنف، نضطر إلى توليد منظومات أخلاقية من أجل أنسنة الإنسان. نوظف عندئذ في التربية وفي الثقافة، وفي الأخلاقيات والقيم.
بل أتصور أن حرية الاعتقاد الديني مقوم ذاتي لمفهوم الدين نفسه. لا يستقيم الدين بالإكراه، ولا أي اعتقاد. الخير لا يأتي بالإكراه، الذي هو اللاخير جوهريا. وسنبقى نحن المسلمين عبيدا، أمة عبيد، إلى حين يتقرر لدينا دون غمغمة أو جمجمة، أن حرية الاعتقاد الديني من الدين، أن المرء منا يستطيع أن يكف عن كونه مسلما، أن يتحول إلى دين آخر إن شاء، وأن هذا شأنه الخاص كشخص، وليس شأن الدين أو الأمة أو الحكومة.
والحقيقة أنه ليس الإسلام السياسي وحده من يعترض على ذلك كما يقول السؤال. الفكر الإسلامي الموروث، منذ تشكل في الإطار الامبراطوري العباسي، وقبله، يرفض مبدأ حرية الاعتقاد. أتصور أن الأمر أوثق صلة بالامبراطورية منه بالدين، وبالسيادة الإسلامية كأساس مشرع للسلطة الامبراطورية. لكن الإسلام امتص منطق الامبراطورية وتسمم به، ولم يجر فك الارتباط بينهما حتى اليوم. بمعنى من المعاني، الإصلاح الديني هو تخليص الإسلام من سم الامبراطورية، ومن كل ما يحيل إلى السيطرة والإكراه والتحكم بالناس.
هذه وجه أساسي لحداثتنا أيضا: أن نندار من الماضي إلى الحاضر والمستقبل.
ولا تستقيم الدولة والسياسة أيضا دون فطام عن العنف والإكراه، أو دون تقييد ممارسة العنف بأصول وقواعد عامة متفق عليها. طالما العنف في المتناول لن تقوم لنا سياسة، ولا دولة عامة. غاية ما يمكن أن يقوم هو دولة خاصة، خلدونية، نوبة في الحكم تحارب ضد الزمن. وما يكون شعار "إلى الأبد" الأسدي غير حرب ضد الزمن، يشنها حكم عصبي؟ أو ربما حكم طغياني عاصف، يخفق حتى في التطور إلى دولة خلدونية، لكنه يتسبب في دمار عميم.

بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، نعم، الثورة ضد الاستبداد تحركها بالفعل نوازع أخلاقية، وغضب أخلاقي من عدوانية النظام وزبائنه وانحطاطهم، وتطلع عام إلى العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
غير عالم المحسوبية الشامل الذي تكلمت عليه في إجابة سابقة، ربما تكون سمعت بقول أشبه بنكتة، يحصي وسائل الصعود الاجتماعية في "سورية الأسد"، ويقول الكثير عن سلم القيم العام فيها؛ هذه الوسائل هي: نجوم تلمع، أو أموال تدفع، أو سيقان ترفع! أي القوة والمال والجنس. والشكل الأساسي للقوة، ولعله الوحيد اليوم، هو السلطة والقرب من السلطة.
لكن العامل الأخير، الجنس، في رأيي ليس مستقلا، وهو تابع لعاملي السلطة المال. عامل السلطة هو الأكثر استقلالية، وهو يأتي بالمال والجنس، يتلوه عامل المال الذي يأتي بالجنس، لكن ليس بالسلطة حتما، وأخيرا الجنس الذي يأتي بمكاسب محدودة على نساء شابات جميلات.
القرابة من القيم الاجتماعية المهمة، وتتفوق على الجنس، لكن ليس على السلطة ولا على المال. وقد تعززت كثيرا في السنوات الأسدية، ومعها محاباة الأقارب المنتشرة التي هي من الأوجه الأبرز لنظام المحسوبية العام.
وذروة المحاباة والمحسوبية هي توريث حافظ الأسد السلطة لابنه بشار دون استشارة للسوريين، ودون كفاءة خاصة للشاب الألثغ. هذا انتهاك لضمائر السوريين قبل أن يكون انتهاكاً لمفهوم الجمهورية.
وكما لا مكان في عالم المحسوبية للمثقف والسياسي، لا مكان لهما أيضا في عالم النجوم والمال والقرابة والسيقان إلا كموظفين وأتباع، كحاشية لصاحب السلطة، كاختصاصيي تعمية عامة، أو كمهرجين على موائد ضباط المخابرات.
ولا مكان لعامة السكان. إنهم رعاع وحثالات وقرباط ومتخلفين... هذه كلمات صارت تقال علنا في سورية بعد الثورة في وصف الثائرين.
بالمقابل هناك انهيار لقيمة العمل. كم نسبة السوريين الذي يعيشون حياة كريمة من عملهم؟ قليلون جدا.
وانهيار قيمة العلم. من يعيش من العلم؟ من إنتاج المعرفة ونشرها؟

وأضيف، في قراءة حالتنا الأخلاقية، أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية لدينا تعاني من تدهور كبير في أداء مهامها.
أولها الأسرة، التي يعجز الآباء الفقراء، ونسبتهم عالية، وعدد أفراد أسرهم أكبر، عن تربية الأولاد أو توفير مستوى من المعيشة يصون كرامتهم. في مراهقتهم يتحول كثير من هؤلاء إلى "معقدين" حاقدين على المجتمع. هذه مشكلة كبيرة، وأظن أنه ظهر في الثورة كم أن نطاقها أوسع مما نتصور. وتقديري أن كثيرا من الجهاديين هم "معقّدون"، معادون للمجتمع، منحدرون من هذه البيئات.
المدرسة تتدهور في سورية منذ 40 عاما بلا توقف. رسميا منذ عام 1974 الذي تأسست فيه "منظمة طلائع البعث". بالتزامن مع هذا الضرب من الخصخصة السياسية للتعليم العام، إن جاز التعبير، وهو أحد وجوه خصخصة سورية ككل لمصلحة حافظ الأسد ومحاسيبه، أخذت تظهر الدروس الخصوصية التي نخرت مع الزمن المدرسة وحولتها إلى هيكل خارجي فارغ، ومحت الحدود بين المؤسسة العامة والبيئات الخاصة للمعلمين والتلاميذ (تجري الدروس في بيوت المعلمين أو بيوت التلاميذ). نحن في المدرسة أبناء الأسد، وفي البيت أبناء آبائنا. لسنا مواطنين أو متدربين على المواطنة في أي مكان. والمكون الوطني والمدني والأخلاقي للتعليم تدهور مع الزمن بالتناسب مع انشغال النظام حصرا بأن تكون المدرسة معبدا آمنا للديانة الأسدية.
المؤسسة الثالثة هي المسجد. وهي أيضا مراقبة من قبل النظام، وكانت تعمم تدينا محافظا اجتماعيا وداجنا سياسيا. ورغم أن الدين يقوم بدور أخلاقية عامة أو شبه عامة إلا أن أخلاقيته غير تحررية، يتفوق فيها البعد التشريعي على البعد الضميري، أي الإلزام الخارجي على الالتزام الداخلي. وهذا يبقي الضمير الشخصي ضامرا. يحل بدلا منه شيخ الجامع أو المفتي، واليوم الداعية المجاهد في بعض المناطق.
الأخلاقية الدينية أيضا أخلاقية طائفية، تنحصر فيها الالتزامات الأخلاقية حيال الشركاء في الدين، أو هي على الأقل تتفوق على الالتزامات حيال غير الشركاء. أما عند مجموعات الإسلاميين، وبدرجة تتناسب مع تشددهم، فإن العالم الأخلاقي يقتصر على شركاء المجموعة الضيقة، وتتكفل عقيدة "الولاء والبراء" التي يتبناها بعضهم، التيار السلفي والسلفي الجهادي، برفع ذلك إلى مستوى واجب ديني، وتجريم الالتزام صافي النية حيال غير الشركاء في العقيدة.
ويبدو أننا نعاين أزمتنا الأخلاقية وهذه الأشياء كلها اليوم مع الفوران الهائل الذي يمر به المجتمع السوري.

السؤال التاسع، كيف ترى العلاقة مع "الآخر"، الغرب تحديداً، خصوصاً في ظل ما يتردد منذ منتصف القرن العشرين عن الخصوصيات والثقافات المختلفة والمتعددة، و الدعوات للتخلص من المركزية الغربية التي استعمرت، وفرضت قيمها على الشعوب الأخرى، كما يرى البعض. هل نتشارك مع الغربيين في مجموعة قيم إنسانية عابرة للثقافات؟ وأية قيم؟ هل هي قيم التنوير؟ أليس هذا نوع من الإمبريالية كما يرى نقاد التنوير؟ هل التدخلات الغربية المستمرة في مناطق عدة من العالم تعبير عن الهيمنة فقط؟ ألا يمكن إصلاح ذلك؟ وماذا عن الحالة السورية؟
هذا موضوع مهم. لدينا اليوم ثلاثة قوى ينسج تشابكها مصيرنا: الدين والدولة والغرب. ولكل منها وجه عام وإنساني، ووجه غولي متوحش. وقد يكون وضعنا السوري مأساويا لكوننا نعاني من الوجه الغولي للدولة متمثلا بالنظام الأسدي، والوجه الغولي للإسلام متمثلا بالقاعدة، والوجه الغولي للغرب متجسدا على نحو خاص بإسرائيل، لكن ليس محصورا بها. ثلاثة وجوه مندارة نحو الماضي، وتحمل سرديات مظلومية قوية. وليس هناك أقسى من قلوب من يستمدون شعورهم بالعدالة مما تعرضوا له من ظلم. الظلم أسوأ معلم للعدالة، والمظلومية أسوأ مدرسة.
بيننا وبين الغرب تشابك بنيوي طويل الأمد، تشاركت في تشكيله الجغرافية مع التاريخ مع السماء مع الجيولوجيا.
وقد سبق أن لاحظ كثيرون أننا نلوم الغرب على سياسته في شؤون متنوعة، ونطلب تدخله في الشؤون نفسها. قضية فلسطين هي المثال الأبرز، واليوم القضية السورية.
ولكن في الحالين لم نستطع أن نقول كلاما موحدا في طلب العون. من جهة لأن بلدنا (وهذا ينطبق على فلسطين أيضا) ضعيف التشكل الوطني، ولا أحد يملك من الشرعية ما يكفي ليتكلم باسم المصحلة الوطنية أو باسم الشعب السوري. سورية ليست فرنسا في الحرب العالمية الثانية، ولا أحد قادر على إشغال موقع ديغول. لا لنقص جوهري في أهلية الأفراد لدينا، أو لنقل إن نقص الأهلية المحتمل (بل الأكيد) يحيل إلى نقص التشكل الوطني. نعيش في ظل دولة سلطانية محدثة، قليلة العقل والضمير، ردت مجتمعنا إلى عشائر وطوائف وإقطاعيات. ثم إنه لم يسبق أن تجاسرنا على طي سجلاتنا القديمة، التي تتقاسم العشيرة والامبراطورية صفحاتها. ليس ميسورا أن نتكلم بصوت واحد واضح، وحالنا كذلك.
لكن من جهة ثانية هناك ازدواج الغرب. الغرب القوي الأقدر على المساعدة، هو أيضا الغرب غير الودود الأقدر على الإيذاء، وله في ذلك سوابق كثيرة. والغرب الذي تنتظم وفق قيمه المؤسسات الدولية، في سجله انتهاكات هائلة لهذه القيم، في بلداننا أكثر من غيرها.
ثم أننا نخشى، ونحن ننتقد الغرب على سياساته وأفعاله، وغالبا ما نكون محقين في رأيي، من عالم بلا قيادة. يمكن لهذا أن يكون عالما أكثر وحشية من عالم يقوده الغرب بما يلائم مصالحه. فإذا أردنا أن نكون فكرة عما يشبه عالما بلا قيادة، فحال العالم حيال وضعنا السوري مثال عليها. لدينا مذبحة مستمرة منذ ثلاثين شهرا، وأوليغارشية مجلس الأمن معطلة، ومع إحجام الولايات المتحدة والدول الغربية التي تشغل موقعا قياديا في النظام العالمي عن القيام بدور قيادي لوقف المأساة السورية، وفي ظل ما نعلم من غياب من قيادة ديمقراطية عالمية.
لنا مصلحة، كشعب منكشف وبلد أقرب إلى القاع العالمي، بوجود قواعد عامة أيا تكن. بدون قواعد حالنا أسوأ لأننا أضعف. حالنا أسوأ أيضا حين يجري تعطيل القواعد على ما هو الحال اليوم.
وتقديري أن العالم لم يعد موحدا، وأن هناك تغيرا عميقا أصاب مفهوم العالمية أو الكونية في العقدين الأخيرين. قبل حين كان هذا المفهوم يعني انبثاث قيم عالمية، قيم التنوير وحقوق الإنسان، في التفكير والمؤسسات والتخطيط السياسي، ومع اتجاه واحد للتاريخ، يتكثف في مفهوم التقدم. اليوم مفهوم العالمية يحيل أكثر إلى تجاوز وتعايش الثقافات، إلى الهجنة وتعدد القيم، إلى النسببية الثقافية.
أعتقد أن نهاية الحر ب الباردة كانت فرصة لترقية الوحدة العالمية والتحول من وحدة موضوعية إلى وحدة ذاتية إن جاز التعبير ، أي إلى مركز سياسي عالمي مزود بصلاحيات تنفيذية، تتخلى له الحكومات عن جانب من سيادتها؛ شكل أكثر فاعلية من الأمم المتحدة، وأكثر ديمقراطية. لم يحصل ذلك. وعالم اليوم يعرض وضعا متناقضا، فهو كروي وزمنيته واحدة على مستوى الاقتصاد والتكنولوجيا، لكنه منبسط ومتعدد الزمنيات على مستوى السياسة. عالم حديث وما بعد كوبرنيكي على مستوى العمليات الاقتصادية والمعلوماتية، وبطليموسي وقروسطي على مستوى تنظيمه السياسي. حالت دون التكور السياسي للعالم، ودون نشوء سلطة أو قيادة عالمية ديمقراطية، مصالح أوليغارشية مجلس الأمن وأنانية الدول الكبرى، وانكفاء الحركات التحررية والتغييرية العلمية نحو عداء سلبي أو ممانع للولايات المتحدة.
وإذ بقي العالم السياسي منبسطا، بعد زوال معسكر كبير كان ينازع على القيادة العالمية، لم يبق سالكا غير درب التجزؤ العالمي الحالي. وربما ظهرت نظرية "صراع الحضارات" من باب إسباغ الشرعية على التجزؤ العالمي، لحظة بدا أن العالم صار أكثر تقاربا واختلاطا.
ويتوافق هذا التجزؤ والتشكل "الثقافي" للعالم مع تعمم الرأسمالية كونيا من جهة، ومع ضرب من التوازن الدولي يحاكي بصورة ما التوازن الأوربي في القرن 19، لكن دُفع ثمنه في منطقتنا التي أنهكت الأميركيين فعلا في السنوات المنقضية من هذا القرن. وهناك اليوم ما يقارب عودة إلى القرن التاسع عشر أيضا والسياسات القومية التي تؤكل فيها البلدان الضعيفة، أو تستخدم لتسوية فروقات الحساب بين القوى التي على القمة. لكن بدل "المسألة الشرقية"، لدينا ربما المسألة الإسلامية. والجديد هو دخول آسيا عبر الصين والهند نادي القمة الدولية الذي كان حكرا على قارتي أوربا وأميركا.
بلدنا اليوم أقرب إلى ضحية لانحسار الامبريالية والتدخلات الامبريالية، كما أخذت بالظهور في أواخر القرن التاسع عشر وعاشت أكثر من قرن، منه إلى ضحية للامبريالية. إنه ضحية منطق المصلحة القومية في أشد أشكالها أنانية، المنطق الذي تشغل فيه إسرائيل وإيران موقعا متقدما.
لكن قبل الجميع نحن أمام طغيان محلي إجرامي، استفاد من تكوين اجتماعي معقد، ومن مواريث تاريخية غير مسواة، ومن أوضاع إقليمية ودولية غير عادلة.

بخصوص القيم، أعتقد أن التاريخ مفتوح على اللانهاية. هناك موجات تاريخية وانبعاثات للماضي وانطلاقات متجددة، وليس هناك أي سبب للاعتقاد بأن الموجة الراهنة أبقى من سابقاتها.
مم تتشكل هذه الموجة؟ من أربع حركات: العولمة، الليبرالية الجديدة، ما بعد الحداثة، والأصولية (الإسلامية خصوصا، لكن المسيحية واليهودية والهندوسية أيضا). وفي عمومها هي موجة محافظة وغير تحررية.
غائب كليا عن اللوحة حركة اعتراض عالمية حية. اليسار القديم أما متعفن، أو هو أكثر تفتتا من أن يسهم في تشكيل الوضع العالمي أو يعدل من مزاج الموجة العالمية الحالية.
وفيما يخصنا تختلط علينا الأزمنة والتحديات، من زمن مواجهة الطغيان السياسي القاتل، إلى زمن مواجهة الطغيان الإسرائيلي والمساندة الغربية (والروسية، والصينية، والهندية) له، إلى زمن الاشتباك الفكري والسياسي والاجتماعي مع الطغيان الديني، ثلاثة غيلان وثلاث استعمارات قاسية، وثلاث صراعات من أجل التحرر والانعتاق.
أفضل مقاربة قضايا القيم الفكرية من هذه الزاوية، من زاوية صراعاتنا الفعلية، وليس من زاوية معروض قيمي عالمي جاهز، نتحزب لجانب منه ضد جانب.
أنحاز مبدئيا لقيم عالمية، لكن ليس لفكر التنوير الأصلي، الفرنسي بخاصة، ولا بخاصة لتناسخاته عندنا. يبدو لي أنها لم تأخذ من التنوير الأصلي، الفرنسي الألماني، غير عداء طائفي وغير تحرري للإسلام (من مونتسكيو إلى فولتير إلى هيغل)، وغير ولاء لما يفترض أنه "استبداد مستنير". فكريا وأخلاقيا، يبدو تنويريينا السوريين قياسا إلى فولتير في مثل وضعية "الرئيس المنتخب" بشار الأسد قياسا إلى فريدريك الثاني.
أفترض أن إشغالنا هذا الموقع القريب من القاع العالمي، والمقتلة التي تسير في بلدنا منذ أكثر من عامين ونصف، مع وقوف يمين العالم ويساره إلى جانب النظام، وحكوماته أيضا، تضعنا في موقع مؤهل مبدئيا لفحص عقل العالم وضميره.
القيم العالمية التي انحاز لها هي المشاركة في الكفاح من أجل عالم مغاير، أعدل. مشاركة آخرين في تجديد معانيه، وتغيير سياسته، وتحويل نظمه الاقتصادية.
وبقدر ما يبدو أن التغيير السوري مسألة عالمية، فإن المشاركة في تغيير العالم مسألة سورية. مسألتنا مثل غيرنا وربما أكثر من غيرنا.
وأيا يكن مآلها السياسي، يتوجب علينا إكمال الثورة في الثقافة. هذا تطلعي الشخصي. ثورة في الثقافة وإنتاج المعنى، وفي أفق عالمي دوما، هي ما يمكن أن تكرم عناءنا الرهيب طوال ألف يوم، "تحت أنظار غربية" وعالمية لا مبالية، إن لم تكن متواطئة.