إذا الكون انكمش..!


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4367 - 2014 / 2 / 16 - 09:51
المحور: الطب , والعلوم     

جواد البشيتي
الكون، أو كوننا، هو الآن في حالة تمدُّد متسارع؛ فالفضاء بين مجموعات المجرَّات، والذي يشبه غشاءً مطَّاطياً، يتمدَّد في استمرار، وبسرعةٍ متزايدةٍ؛ أمَّا عِلَّة هذا التمدُّد فتَكْمُن في "الطاقة الداكنة" التي تملأ هذا الفضاء؛ وثمَّة من يقول بـ "كَوْن مفتوح"، أيْ يستمر في تمدُّده واتِّساعه إلى الأبد؛ وثمَّة من يقول بـ "كَوْن مُغْلَق"، يَبْلُغ تمدُّده نهايته، فيتوقَّف عن التمدُّد، ليَشْرَع ينكمش ويتقلَّص (منهاراً على نفسه).
إذا كان الانكماش هو ما يَنْتَظِر كَوْننا بعد تمدُّده، فمتى يمكننا أنْ نقول: "ها قد بدأ الانكماش"؟
لِنَفْتَرِضْ أنَّ الكون قد شرع الآن ينكمش (يتقلَّص، ينهار على نفسه).
هذا الانكماش الكوني يبدأ، ويجب أنْ يبدأ، في اللحظة نفسها، في كلِّ الكون؛ فالفضاء بين كل مجموعة مجرَّات وبين سائر المجموعات في الكون يجب أنْ يشرع ينكمش الآن؛ ومع ذلك، لن يكون في وسِعْنا الآن أنْ نَعْرِف هل بدأ الانكماش الكوني.
سَنَعْرِف عندما يَصِلُ إلينا الضوء الذي انطلق الآن من مجموعة المجرَّات الأقرب إلى مجموعتنا؛ وهذا "الخبر" لن يَصِل إلينا إلاَّ بعد ملايين السنين.
بعد ملايين السنين، سيقول مراقِب أرضي: "لقد شرع الكون ينكمش؛ والدليل على ذلك أنَّ الضوء الآتي إلينا من تلك المجموعة، الأقرب إلى أرضنا ومجموعتنا، يَزْرَق، ويزداد زرقةً؛ وهذا الازرقاق وتزايده يعني أنَّ تلك المجموعة تَقْتَرِب، وتزداد اقتراباً، من مجموعتنا؛ وهذا الاقتراب وتزايده يعني أنَّ الفضاء بين مجموعتنا وتلك المجموعة ينكمش ويتقلَّص".
وفي الوقت نفسه، نظل نرى ضوء مجموعات المجرَّات البعيدة والأبعد مُحْمَرَّاً؛ لأنَّ ضوءها الأزرق، أو المُزْرَق، لم يَصِل إلينا بعد. ومع مرور الوقت، يزداد عدد المجموعات التي نرى ضوءها مُزْرَقَّاً؛ وبعد مرور نحو 14 بليون سنة، نرى المجموعة الأبعد (عنَّا) وقد شرع ضوءُها يَزْرَق.
مِنْ قَبْل، أيْ قَبْل بدء الانكماش الكوني، كُنَّا نرى المجرَّة الأبعد هي نفسها الأقدم وجوداً، الأسرع في ابتعادها وارتداها عنَّا، والأكثر احمراراً في ضوئها؛ أمَّا الآن، حيث بدأ الانكماش الكوني، فنرى المجرَّة الأقرب إلينا (على أنْ تكون من خارج مجموعتنا) هي نفسها الأحدث في هيئة وجودها، الأسرع في اقترابها مِنَّا، والأكثر ازرقاقاً في ضوئها.
نحن في كوكب الأرض لن نتأثَّر فيزيائياً بالانكماش الكوني الذي بدأ الآن إلاَّ بعد ملايين السنين، أيْ عندما يَصِل إلينا "الخبر" من مجموعة المجرَّات الأقرب إلينا؛ فالتأثير الفيزيائي ينتقل بسرعة الضوء، أيْ بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية؛ وإنَّ لحظة الاصطدام بين مجموعتنا والمجموعة الأقرب إلينا هي نفسها لحظة الاصطدام بين مجموعات المجرَّات جميعاً.
لَمَّا وَقَعَ "الانفجار (الكوني) الكبير"، شَرَع سطح البالون الكوني، والذي هو كلُّ كوننا، يتمدَّد؛ ولقد عَرَفَ، في البدء، تمدُّداً، هو الأسرع؛ فسرعته تجاوزت سرعة الضوء بكثير. ولم يَسْتَغْرِق هذا الطَّوْر من التمدُّد الكوني إلاَّ زمناً ضئيلاً جِدَّاً، يُقاس بالثواني. وبعد ذلك، شرع الكون يتمدَّد بسرعة عادية (أيْ دون سرعة الضوء) لكن متزايدة؛ واليوم نرى الجسم الأبعد عن الأرض يبتعد عنَّا بسرعة تَعْدِل 80 في المئة من سرعة الضوء؛ مع أنَّ سرعة تمدُّد الفضاء بين كلِّ مجموعتين هي نفسها في نواحي الكون جميعاً.
وفي كوننا المتمدِّد، المتسارِع تمدُّداً، لا نرى، في خارج مجموعتنا، إلاَّ المجرَّات المُحْمَرَّة في ضوئها، والتي كلَّما كانت أبعد عنَّا، ازداد ضوءُها احمراراً؛ أمَّا في كوننا المُنْكَمِش المُتَقَلِّص المنهار على نفسه، فنرى خليطاً من الضوئين الأحمر والأزرق؛ ونرى نسبة الأزرق تزداد مع مرور الوقت؛ فإذا اكتمل ازرقاق الضوء الكوني، رَاَيْنا تَدَرُّجاً في هذا الازرقاق؛ فالمجرَّة الأقرب إلينا (من خارج مجموعتنا) هي التي يأتينا منها الضوء الأكثر زرقةً.
لقد نُسِبَ تمدُّد، وتسارُع تمدُّد، الكون إلى "الطاقة الداكنة" في الفضاء بين مجموعات المجرَّات؛ وهذه الطاقة هي في صراعٍ دائم مع الجاذبية الكونية، أو مع الجاذبية بين مجموعات المجرَّات؛ وهي (أيْ الطاقة الداكنة) تتغلَّب، في استمرار، على هذه الجاذبية؛ لكن من غير أنْ تقضي عليها قضاءً مُبْرَماً.
ومع ذلك، لَمْ تُجِبْ الفيزياء الكونية حتى الآن، وعلى ما أَعْتَقِد، عن السؤال "ما الذي سيَتَسَبَّب في انكماش الكون؟".
لِجَعْل الإجابة فيزيائية، لا ميتافيزيائية، دَعُونا نتصوَّرها بما يُوافِق (ولو من حيث المبدأ المنطقي) الصِّلَة المتناقضة بين البروتونات في نواة الذرَّة.
باطِن النجم هو البيئة الفيزيائية التي فيها، وبها، يُصْبِح ممكناً دَمْج نوى الذرَّات. إنَّ البروتونات في نوى الذرَّات متنافِرة دائماً، وبطبيعتها؛ وكلَّما قَرَّبْتَ بين نواتين اشتد وعَظُم تنافرهما (المتأتِّي من تنافُر بروتوناتهما).
هذا التنافُر ما أنْ يَبْلُغ حده الأقصى حتى نرى النواتين وقد اندمجتا في نواة أكبر؛ أمَّا السبب فيَكْمُن في كَوْن هذا "التنافُر الأقصى" يُمثِّل، في الوقت نفسه، المسافة الصغرى بين النواتين؛ وهذه المسافة هي التي تَسْمَح لقوَّة أخرى، هي "القوَّة النووية الشديدة" بِفِعْل فِعْلها، والذي هو الدَّمْج بين النواتين من طريق تغلُّبها على هذا التنافُر الأشد بينهما. وهكذا تتكوَّن نواة جديدة أكبر، يُخالِط الترابط بين بروتوناتها (والذي أقامته "القوَّة النووية الشديدة") بعض التنافُر؛ فالنواة ليست إلاَّ اجتماع "الترابط" و"التنافُر" بين بروتوناتها؛ فهذا التنافُر لم يُقْضَ عليه قضاءً مُبْرَماً إذْ سادت وهَيْمَنَت "القوَّة النووية الشديدة"؛ وإنَّما غُلِبَ، وقُهِرَ، وكُبِحَ، واحتُفِظَ به في الوقت نفسه.
وإنِّي لأَفْتَرِض، من ثمَّ، أنْ يَحْدُث للكون، عند بلوغه الحد الأقصى من تمدُّده، ما يشبه ما حَدَث لنواتين ذرِّيتين بلغتا الحد الأقصى من تنافُرهما (إذْ اقتربت كلتاهما كثيراً من الأخرى).
إنَّ كل تمدُّد كوني جديد هو تَغَلُّبٌ على تقلُّص (كوني) واحتفاظٌ به في الوقت نفسه؛ وإنَّ التمدُّد الكوني لا يمكن فهمه، لجهة استمراره وتناميه، إلاَّ على أنَّه الحالة التي فيها، وبها، تتهيَّأ الظروف والأسباب والقوى التي لا بدَّ من تهيُّؤها لبدء الانكماش الكوني؛ فهذا "الانكماش" يَخْرُج من أحشاء ذاك "التمدُّد"، ورغماً عنه.