من مقدمة كتاب -نقد النساء- قراءة في عابدات باخوس- القسم 2


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 4364 - 2014 / 2 / 13 - 07:37
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات     

عابدات باخوس
لم يكن الإله ديونوسوس إله الخمر فقط ... لدينا شذرة من أعمال الشاعر الإغريقي بندار (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد) تشير إلى ديونوسوس كإله للأشجار . لدينا أيضاً مناقشات بلوتارخيس التي تشير إلى أن ديونوسوس "إله كل شيء طبيعي متدفق، إنه السائل الحيوي الموجود في الكروم، والنّسغ الجاري في فروع الشجرة النامية ، والدماء المتدفقة في شرايين الحيوان الصغير، إنه كل التيارات الجارفة المبهمة العنيفة التي تعلو وتهبط وتروح وتجيء في حياة الطبيعة " والطقوس المتعلقة بالإله ديونوسيوس هي التي ولدت كل من المأساة والملهاة"
كان ديونوسوس إلهاً طِراقي الأصل وفد إلى بلاد اليونان إما من طراقيا (قرب بلغاريا الحالية حيث تربّى أرسطو وتعلّم) أو من فريجيا (أحد أقاليم الأناضول) حيث كانت تسكن بعض القبائل الطراقية . والطروق الرجل يسير في الليل ، وسمي النجم طارقاً لأنه يطلع ليلاً.. ومن معانيه الضرب وجنس من استرخاء الشيء وخصف شيء على شيء .. والأصل الليل .
وكان في الأصل أيضاً إله للنبات كالقمح والأشجار والتين واللبلاب ، ولم يلبث أن غدا إلهاً للخصب والثمار واقترن اسمه بالعنب على وجه الخصوص ، فصار إله النبيذ . وقد اقترنت عبادته منذ البداية بطقوس غريبة مصحوبة بالشراب والغناء والرقص العنيف ودق الطبول ورفع عصي مضفورة بشماريخ الكرمة والتلويح بالمشاعل في مواكب الليل. كان إله النشوة الغامرة والجذب الروحي (الوجد الصوفي) والخروج عن الوعي والرواح في الغيبوبة. وكانت عابداته من النساء – وهُنّ أكثر الناس تأثراً بديانته- يقمن أثناء سيرهن في مواكبه الدينية الليلية الصاخبة ، بأعمال خارقة – كالفتك بصغار الحيوانات وأكل لحمها نيئاً وذلك بعد أن تتقمصهن روح الإله ويصبحن من فرط ما يغشاهن من عاطفة دينية متأججة كالممسوسات أو المجذوبات .
هذه المواكب الليلية ذات سمة أورفية. وسمي النجم طارقاً لأنه يطلع ليلاً وكل ما أتاك ليلاً فقد طرقك وفي القرآن الكريم:" الطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب" والطارق كوكب الزهرة ، و النجمة الخماسية .
لم يكن المسرح الإغريقي في الأساس سوى قدّاس ديونوسوس؛ أي تأليف موسيقي درامي لموضوع ديني ؛ أنشودة الجدي ؛ اللحن الواضح جداً في طفولة إله يعيش مختبئاً في اليمن العربي السعيد على شكل جدي. "والجدي" الذي تُعرف به القِبْلة هو جدي بنات نعش الصغرى ، و"بنات نعش الصغرى" بقرب "الكبرى" مثل تأليفها: أربعة ، منها نعش وثلاثة بنات ؛ فمن الأربعة "الفرقدان" وهما المتقدمان ، ومن البنات "الجَدْيُ" وهو آخرها، و "السُّهى" كوكب خفي في بنات نعش الكبرى ، والناس يمتحنون به أبصارهم ، وفيه جرى المثل فقيل: أُريها السُّهى وتريني القمر" .. وبنات نعش تغرب بعَدَن [أصحاب الجنوب] ، ولا تغرب في شيء من بلاد أرمينية [أصحاب الشمال]" . و بنات نعش هنا تأخذ صيغة المذكر لأنه قال ثلاثة بنات، ولم يقل ثلاث بنات!
النساء الباخيات لُقّبن في الواقع بالمجنونات (maenades) أو الباكخيات (Bacchae) نسبة إلى باكخوس (Bacchus) وهو اسم آخر ليدي الأصل (أي من إقليم ليديا بالأناضول) للإله ديونوسوس و Bach كلمة تعجب عند الجذل . ارتبط ديونوسوس في أذهان المخلصين لعبادته بالعالم الآخر ، وهي فكرة ربما نشأت أصلاً بين أنصار المذهب الأورفي ( حيث نهر ميليس الذي يضم شاطئه الأيمن قبر أورفيه والذي إليه تعود هذه النسبة) الذي كان ديونوسوس يحتل في تعاليمه مكانة مرموقة .
والأورفية .. شأن جميع الديانات القديمة ، بئر شطون لا قرار لها ، لأنها الفاتحة الهامة والوحيدة التي صنعها في الحقيقة الفيلسوف المشّائي أوديم الذي قدّم لنا في مؤلفاته الأساس في علم نشأة الكون الأورفيّ... وإذا كان أبوللو يُعظّم النور ، فإن أورفيه نوع من ظلمات مرسومة ، والملاحم والأناشيد التي تتغنى به هي إذاً وفي آن واحد ليلية (طراقية؛ تراقية) وبحرية"
وهكذا أصبحت لديونوسوس هو الآخر عبادة ذات طقوس سريّة مختلفة عن طقوس عبادته القديمة المقرونة بالعربدة والتهتك (orgia).
يقول يمليخا تلميذ فيثاغورث: "إن المثال الحي للتعاليم الربّانية حول العدد، كان قد امتلكها فيثاغورث في شخص أورفيه (أورفيوس)".... ويضيف يمليخا : "في "الكلمات المقدسة " "أو التعاليم عن الأرباب" يصبح جلياً من هو الذي نقل التعاليم عن الأرباب ، فهناك قيل: هذه الكلمة عن الآلهة تعود إلى فيثاغورث بن مينمارخ والتي أدرَكْتها وأنا اجتاز الطقس السري في طراقيا بمساعدة أغلوفام الذي نقل لي أن أورفيوس ابن كاليوبا والذي تعلم من قبل أمه فوق جبل بانغي ، قال إن جوهر العدد الثابت هو القوة المسيطرة على كل ما هو موجود في السماء والأرض والطبيعة.." نقرأ في البرمنيدس: ".. لا شيء يوجد ، ولا الأشياء الأخرى تظهر إن لم يوجد الواحد" ويمليخا هذا هو إيمبليخوس السوري Jamblichus (توفي 330 م ) تلميذ فرفوريوس الصوري (من صور) دفع بالنزعات الدينية في فلسفة معلمه فرفوريوس خطوة أخرى في اتجاه ممارسة الطقوس الدينية والمعجزات ودمج آلهة الديانات الوثنية وطقوسها في نظام أسطوريّ مبني على فلسفة أفلوطين إلى حد ما وعلى الوحي الكلداني Chaldean Oracles والطقوس السحرية المفضية إلى التطهيرات "
لاحظ أن كل من امتلك تلك التعاليم الربانية عن العدد فهو فيثاغورث. لاحظ هنا أيضاً التماثل بين أورفيه الذي تعلّم من أمه (الطبيعة) وبين عيسى بن مريم الذي ولد من دون أب، المولود من عذراء.. أيضاً لاحظ أن جوهر العدد الثابت القوة المسيطرة أو القدرة علّة الكلمة؛ هذه الكلمة التي هي أثر الذات (النفس) في الجسم [الكلمة النباتية، الكلمة الحيوانية والكلمة الإنسانية أو الناطقة]
اقترنت عبادة ديونوسوس منذ البداية بلبس الأقنعة . ولما كان الحيوان الأثير لديه والمقدس عنده هو الجدي فقد حرص المتعبدون له على التقرب منه بطرح ملابس جلدية فوق أكتافهم أو وضع أقنعة على وجوههم تقربهم من شكل الجدي . ومن لفظ الجدي اليونانية (tragos) ركّبت كلمة تراجوديا (tragôdia)؛ أي " أغنية الجدي " التي كانت تنشد للإله في أعياده ، ثم تطورت إلى حوار بين المنشدين ارتقى بعد ذلك إلى فن تمثيل التراجيديا . وكان المحتفلون في الريف بعيد قطف العنب يسيرون في موكب صاخب عابث ماجن (kômos) متنكرين في أزياء يتدلى منها ما يشبه عضو الذكورة phallus أو حاملين شكلاً مضخماً يمثل عضو الذكورة ، رمز الخصب الذي كان ديونوسوس هو ربُّه ، وكانوا يتبادولون النكات الفكاهية الساخرة أو الفاحشة البذيئة . ومن اسم هذا الموكب (kômos) جاء اسم كوميديا (kômôdia) – أي أغنية أو أغاني الموكب الماجن- التي تطورت بدورها وصارت إلى ما نعرفه اليوم باسم الكوميديا . لا عجب إذاً أن يسمى المسرح الكبير في أثينا باسم ديونوسوس ، إله النشوة الغالبة والنبيذ ، وإله التنكّر والتقنّع الأورفيّ ، الذي نشأ فن التمثيل في رحاب عبادته . وقد أقيم بجوار هذا المسرح معبد صغير لهذا الإله وكان يتوسط ساحة المسرح مذبح ديني (thymelê) [ضريح ثِمِلي ابنة قدموس] حيث كانت تقدم بعض القرابين قبل بداية العرض المسرحي ." و القدموس: القديم، والرجل القدموس : السيّد. وثَمَلَ: الشيء يبقى ويثبت..يقال: دار بني فلان ثَمَلٌ؛ أي دار مُقام .. وكل بقية ثميلة..
فطن هوميروس إلى ذلك لذا نجده لا يشير إلى ديونوسوس كمجرد إله نبيذ. كذلك فعل أغلب الكتاب والشعراء الإغريق في العصر الكلاسيكي. لكن ارتباط الإله ديونوسوس بالخمر والنبيذ والمُجُون لم يصبح ظاهرة ملحوظة إلا ابتداء من عصر الاسكندرية كما أنه امتد حتى شمل العصر الروماني حيث أصبح ديونوسوس الإله باكخوس الطروب المرح الذي يرتبط بالخمر والمُجون والجذل والذي يمرح ويلهو وسط فرقته الماجنة المكونة من الباكخيات والساتوري.
"لقد ترك لنا اليونان أدباً رفيعاً ، امتاز بالجمال والبساطة وصدق التعبير، نبت جلّه في أثينا، مهبط الآداب والعلوم ، لقد بقيت قرناً ونصف المركز الأول للثقافة العالمية والفنون الجميلة ... ولذلك ما زالت تعتبر هذه الفترة الذهبية أغنى عصور الأدب؛ فأغاني بندار Pindar (518-438) الخالدة ومسرحيات أيسخيلوس العنيفة ومآسي سوفوكليس الرائعة وروايات اريستوفانيس اللاذعة وأشعار يوريبيديس الثائرة وتاريخ هيريدوت وثوكوديديس الشامل وخطب ديموسثنيس البليغة – تكوّن في مجموعها أدباً خالداً، سيبقى مثلاً حياً لكل العصور المستقبلة.. لكن هذا الازدهار الذي جاد به الزمن لم يدم طويلاً، إذ ساءت حال أثينا بعد موت بريكليس (429 ق. م) ، وتوالت عليها المصائب في الداخل والخارج . أما في الداخل فقد أسلست القيادة لشرذمة من متزعمي الشعب وقادته الطائشين الذين استطاعوا أن يتملّقوا الجماهير الغافلة فأوردوها موارد الهلاك . وأما في الخارج فقد تتابعت الهزائم على جيوشها ودحرتها إسبارطة في موقعة "إيجوس بوتاموس" (404 ق.م ) وألحقت بها خسائر فادحة فأحرقت أسطولها وحطمت قوتها البحرية . وما زالت أثينا في تدهور وانحلال حتى قضى على سيادتها وزال سلطانها باندحارها في موقعة "خايرونيا" (338 ق. م) ، وتبع ذلك أن فقدت مكانتها الأدبية وتخلت عن منزلتها السامية للإسكندرية التي بناها الإسكندر المقدونيّ عام 332 ق. م "
لكي نفهم تراجيديا "عابدات باكخوس " علينا أن نتناسى صورة باكخوس إله الخمر الماجن الفاجر وأن نتذكر صورة ديونوسوس كروح ذات حيوية متدفقة تجري في عروق كل كائن حي. " علينا أن نعيده إلى موطنه الأصلي (آسيا الكبرى وآسيا الصغرى).. فهو ربُّ النّسغ الحيّ.
لكننا نلاحظ أن إله الخمر باكخوس يتضمن أمر مزدوج : فمن جهة أولى يشير الخمر إلى الستر وعدم الكشف، و من الجهة الثانية نلاحظ أنه يشير إلى المُجون والفجور والاندفاع الهائل في إظهار تدفق الوجدان وحركة الجسد . جاء في مُعجم مقاييس اللغة في معنى الفعل "خَمَر": "أصل واحد يدل على التَغْطية ، والمخالطة في ستر. فالخَمْر: الشراب المعروف.. والخِمار، خمار المرأة ... والتخمير: التغطية.. ويقال خمّرت العجين ، وهو أن تتركه فلا تستعمله حتى يجود.." والفعل (فَجَرَ): هو التفتح في الشيء.. والانبعاث والتفتح في المعاصي هو الفجور .."
وليس عن طريق احتساء الخمر فقط يتوحد الإنسان مع الإله .. بل يمكن أن يحدث ذلك عن طريق الرقصات التي كانت تؤديها عابدات باكخوس فوق الجبال في دلفي ومناطق جبلية أخرى والتي كانت تمثل شعيرة هامة من شعائر عبادة الإله ديونوسوس منذ عصور قديمة حتى عصر بلوتارخوس." . يروي بلوتارخوس .. أن عبادة ديونوسوس في مقدونيا ظلت تحتفظ ببعض شعائرها البدائية حتى القرن الرابع ق.م .. فغالباً ما توحي بعض الرقصات إلى الراقص بأن روحاً غير روحه قد تسللت إلى جسده فسيطرت عليه (استحوذت عليه).. وقد وصف يوروبيديس ذلك على لسان بنثيوس بأنه نار مشتعلة لا يفطن لخطرها أحد .. سرعان ما تتحول إلى قوة جارفة مسيطرة على نفس الراقص سواء كان مؤمناً بـ الإله مثل فتيات الكورس أم غير مؤمن به (كافر به) مأخوذ مثل أجافي والدة بنثيوس والنساء الباكخيات..
لا بد أن الرقصات الجبلية الشتوية التي يصفها يوريبيديس في "عابدات باكخوس" كانت سائدة في فترة من فترات التاريخ الإغريقي ، وأن الراقصين كانوا يتأثرون بتلك الرقصات ويشعرون أن روح الإله ديونوسوس قد حلّت في أجسادهم.."
و الفعل "حلَّ ": له فروع كثيرة ومسائل أصلها .. فتح الشيء ، وحلّ ، نزل .. وتحلحل، إذا زال.." . فإذا حلّت روحه فيهن زال عقلهن. إنها قوة من خارج الفرد تحلُّ فيه وتنزل على شكل طوفان وجدانيّ غامر ؛ تزيله كفرد وتظهر على صورته ، وتهدر منحدرة كطغيان سيل جارف في الوجدان والحركة، تجرف أنا الفرد في طريقها مزعزعة كيانه، كل ذلك في ظروف انحطاط حضاري .
ولما كانت هذه الرقصات ذات تأثير على غير المؤمن بهذا الإله ، و المؤمن به، فقد تخيل الإغريق الإله ديونوسوس في صورة "المتسبب في الجنون" Bakchos والمخلّص من الجنون Lysiosفي نفس الوقت . فديونوسوس فارماكون القدرة: قدرة الإمراض وقدرة الإشفاء ، إن الكلمة المنطوقة مَثَلٌ عليه ؛ الكلمة فارماكون ، فتارة تشفُّ المعنى وأخرى تحجبه. والفارماكون عقار مرة سم ومرة ترياق!
كانت الرقصات الجبلية الشتوية التي تقيمها الباكخيات توصل إلى شعيرة أخرى ذات شقين : الشق الأول هو التمزيق sparagoms والثاني هو الالتهام omsphagia أي أن الراقص المتعبِّد عندما يسيطر عليه الجنون الإلهي يكون قد أصبح تواقاً إلى تمزيق جسد حي ثم التهامه نيئاً. معتقداً أن المتعبد قد أصبح بهذه الطريقة هو الإله نفسه، عندئذ يصل المتعبد إلى أقصى مراحل التوحد (التقمص؛ النيرفانا) مع الإله .. هذه العملية ذات بعد تكويني أيضاً قائمة في عملية تمثل الإنسان الفرد للطعام عبر تمزيق الطعام و من ثم ابتلاعه بهدف تمثله ودمجه في كيانه الجسدي. هنا يظهر ديونوسوس في حقيقة الأمر كلحظتين : لحظة التمزيق و الالتهام ، من ثم لحظة التمثُّل والدمج. أما ظهوره المزدوج فهو عائد بشكل أساسي إلى انحجاب النفس عنه وإلى نقص العلم به؛ النفس الكثيفة السميكة المنحجبة بالجهل ونقص الإحاطة ؛ النَّفس الكافرة عن حقيقته تتوهمه على أنه شَفْع من الآلهة: صورة حيوانية- بربرية حربية هي صورة طغيان السلطة الحاكمة وأخرى كريتية آسيوية لها علاقة تصويرية تمثيلية برب كل نَّسغ حيّ.
ذكر يوريبيديس عملية التمزيق مرتين والالتهام مرة واحدة وقد أسهب في وصف عملية التمزيق..يشير ثيوفراستوس إلى وجود عادة التضحية بالبشر ، كما يذكر أيضاً أن عابدات باكخوس في طراقيا Bassarides كنّ يأكلن لحم البشر . يقول باوسانياس أنه سمع أن أهل بلدة قريبة من مدينة طيبة تدعى بوتيناي قدّموا ذات مرة صبياً ضحية للإله ديونوسوس .. ويروي يبوليس الكاريستي أن أهل جزيرتي خيوس وتنيدوس .. الواقعتين في البحر الإيجي كانوا يمارسون تمزيق ضحية بشرية .."
تشير المصادر القديمة أيضاً إلى استمرار وجود عادة تقديم ضحية بشرية للإله ديونسوس حتى القرن الخامس قبل الميلاد ، بل حتى القرن الثاني قبل الميلاد .. لكن بعض المصادر القديمة أيضاً تشير إلى أن عادة التضحية بالبشر قد استبدلت بعادة التضحية بحيوان مثل البقرة أو الثور." وحرف الألف في الكنعانية يعني بقرة (ثور) و حرف A في اللاتينية يعني ثور وهو على صورة رأس ثور مقلوب.. والثور بعل الذي اختطف أوربا أخت قدموس لينقلها إلى كريت، والتي ستولد في مينيطور ، لسلالة مينوس ، ديانة الثور الذي قتله هيراكليس . كانت كنوسوس عاصمة كريت، ومينوس واحدة من عواصم ديونوسوس .. واضطلعت بإدخال تسلسل الأفكار الكنعانية على أوربا : الثور ، وديونوسوس ، وهيراكليس. هنا ، في هذه المرحلة من تطور الوعي الديني لدى البشرية يتم التضحية بالصورة البهيمية بينما تصعد الصورة البتول إلى السماء لتتجلى كرمز في الكتاب المقدس ؛ هذه الصورة البتول هي مريم العذراء.
إن عبادة الإله ديونوسوس محاولة من جانب الإنسان للتوحّد مع هذه القوة العارمة والحيوية المتدفقة . والتأثير النفسي الناتج عن هذه العبادة هو محاولة تخليص حياة الإنسان البهيمية (شهوات النفس: الحسد والكراهية والطمع والغضب، والرغبات الجسدية، وكل ما هو حسي ) من القيود التي يفرضها عليها العقل والتقاليد الاجتماعية . فما الرقصات الجنونية إلا لحظة تفتح و تفلت العاطفة والوجدان المتعدد الاتجاهات من سيطرة العقل وهيمنته، إنها لحظة جنون حقيقية يتم فيها إسقاط هذا التمزق الوجداني على جسد ضحية بشرية تتم رؤيتها على أنها صورة حيوان بفعل زيغان النفس. إن قدرة هائلة تحلّ في الأفراد المتعبدين فتزيلهم كأفراد وتظهر على صورة فردية .. إنه الاستحواذ في الوجدان ، وإسقاط شعور الانقسام والتمزق على ضحية بشرية أو على حيوان .
يقول المؤرخ هيرودوتوس أن ميلاميوس هو أول من أدخل في بلاد الإغريق اسم ديونوسوس وأعياده ، وأن هذه العبادة جاءت من فينيقيا. وتشير مصادر قديمة أخرى إلى وجود علاقة بين الإله ديونوسوس والمناطق الواقعة في شمال اليونان ... يروي المسافرون الإغريق أثناء القرن الخامس أن عبادة ديونوسوس كانت قائمة في مناطق جبال بانايوم ورودوبي ... يرى يوريبيديس أن عبادة الإله ديونوسوس جاءت أصلاً من مناطق لوديا وفروجيا الجبلية بآسيا الصغرى .
لكن الاكتشافات التي تمت أثناء النصف الثاني من القرن العشرين أثبتت أن الإغريق عرفوا عبادة الإله ديونوسوس منذ العصور المركينية بل ربما منذ العصور المينوية .. و يرى بعض الدارسين أن الإغريق عرفوا عبادة الإله ديونوسوس منذ عصور تليدة (العصر المينوي) لكنها انقرضت ثم عادت للظهور من جديد قبيل العصور الكلاسيكية .. ثمة إمارات تظهر بجلاء خلف المجتمع الهيليني لقيام مجتمع سبقه في الزمن ، وتتألف دولته العالمية من الإمبراطورية البحرية التي أمكنه المحافظة عليها بفضل سيطرته على بحر إيجه من قاعدة في جزيرة كريت، خلفت في التقاليد اليونانية اسم "تلاسوكراتيه مينووا" (حكم أهل البحر المينووا).. (وتدل على ذلك آثار كونوسوس وفايستوس ) ... تَعرّض الطور الثاني من الحضارة المينوية المتأخرة .. لغزو من البرابرة الآخيين ومن في حكمهم ، الذين أتوا من أواسط أوربا إلى ساحل بحر إيجه ، ونزلوا إلى البحر وتغلبوا على قوة كريت البحرية .. بلغت الحركة أقصاها على شكل نوع من الطوفان البشري قوامه شعوب بحر إيجه (غالبة ومغلوبة على السواء ) اكتسح إمبراطورية الحثيين في الأناضول وأغار على الإمبراطورية الحديثة في مصر ، لكنه فشل في تحطيمها.. حدد المؤرخون عام 1400 ق.م تاريخاً لتدمير كونوسوس." .. تنبؤنا الحفريات بوجود حضارة مادية تفتحت في كريت وانتشرت فجأة إلى أرجوليد خلال القرن السابع عشر قبل الميلاد ، عبر بحر إيجه ثم انتشرت تدريجياً من هذه النقطة إلى الأجزاء الأخرى من اليونان القارية في غضون القرنين التاليين . وثمة ما يدل على وجود حضارة كريتية تمتد جذورها حتى العصر الحجري الحديث . ونستطيع أن نطلق على هذا المجتمع : المجتمع المينوي."
يكتب جان سوريه كانال: "بالنظر إلى أن جل اعتماد انجلز كان على أعمال مورغان ، وبالنظر إلى أن مرحلة نمط الإنتاج الآسيوي لم تكن ظاهرة في نشأة المجتمع الإغريقي- الروماني القديم ، لذا لم يشر إنجلز إلى مرحلة انتقالية بين الشيوعية البدائية والمجتمع الرقي غير "الديمقراطية العسكرية" وهي شكل سياسي لتنظيم المجتمع الرعوي المتطور باتجاه المجتمع الطبقي .. في المرحلة التالية لنشر "المجتمع القديم" لمورغان 1871 و "أصل الأسرة" لانجلز 1882 جاء تقدم علم الآثار ليشير إلى وجود مرحلة طويلة (نحو ألفي عام) سبقت ظهور المجتمع الرقّي الإغريقي وشغلتها مجتمعات طبقية (المجتمعان الكريتي والمسّيني ) تنتمي على ما يبدو إلى "النموذج" الآسيوي " .. ونحن نعلم اليوم أن مرحلة "آسيوية" (كريتية مسّينية ) قد سبقت كما تشير الدلائل المجتمع الرقّي الإغريقي الكلاسيكي"
" إن بحّارة السفينة آرغو وهم في الطريق إلى البحر الأسود ، يعبرون الدردنيل ، ويقفون في فريجيا حيث يقدمون الاحترام إلى سيبيل. ثم يرحلون بعد أخطار عديدة ليبلغوا منطقة كوليشيد في شمالي الظلمات القوقازية .. يسكنها جنود دسيزوستريس وهو رمسيس الثاني المشهور.. وعندما تحاذي تلك البلاد جماعة من الأرغونوت ، كان يحكمها الملك ايتيس الذي لم يكن سوى زوج لباسيفي زوجة مينوس ملك كريت وحفيد أجينور ملك فلسطين (صور) . وفي جاسون حيث تلتمس جزّة صوف إيتوس الذهبية تفرض محنة الثور والتنين . ويخرج جاسون منتصراً حاملاً معه الجزّة وميديا الضالع معها، وتبدأ عند ذاك رحلة العودة على طول أنهار الدانوب والرون والبو ، أنهار وشواطئ أتروسكية من كامبانيا ، على بحر الحوريات ، وهن مغنّيات محترفات تهرب منهن السفينة آرغو بفضل تجسّد أورفيه وتآنسه . وإنها لمرحلة تمضي في جزيرة الفياسيين ثم في ليبيا قرب بحيرة تريتوني . وتوجد بواسطة هذه الجغرافيا الثقافية ما يجب تسميته بالشرق ، بمقابل عالم جرماني يكشف عن عقلية أخرى وتتجه السفينة آرغو أخيراً نحو اليونان المميزة بمغامرة الليل الغريبة على كريت" يكتب انجلز: ".. لا يمكن أن يكون ثمة شك بشأن مستوى حضارة الجرمان الذين يصادفهم قيصر. لقد كانوا بعيدين جداً عن كونهم بدواً بالمعنى الذي ينطبق على الشعوب الحالية من الفرسان الآسيويين. فلا بد من السهب (البادية) في سبيل ذلك. وقد كان الجرمان يعيشون في الغابة العذراء . لكنهم كانوا ينؤون بمسافة لا تقل عن ذلك عن مستوى الشعوب الفلاحية المقيمة . يقول سترابون بعد ستين عام من كلام قيصر عنهم: إن جميع هذه الشعوب الجرمانية تشترك بالسهولة التي تهاجر بها ، من جراء بساطة نمط حياتها ، ذلك أنها لا تمارس الزراعة، ولا تكتنز الكنوز ، بل تحيى في أكواخ تبنيها كل يوم وتقتات بصورة رئيسية على الماشية ، مثل الرُحّل الذين تشبههم أيضاً في أنها تنقل ممتلكاتها في عربات وتقصد مع قطعانها حيث يحلو لها." ويتابع انجلز: ويثبت علم اللغة المقارن أنهم جلبوا معهم منذ ذلك الحين معرفة الزراعة من آسيا. ويبين قيصر أنهم لم ينسوها من جديد . لكن كانت الزراعة التي لا تعدو وسيلة عابرة ومصدراً ثانوياً للغذاء بالنسبة إلى قبائل من المحاربين نصف الرحّل، تجتاح على مهل السهول الحرجيّة لأوربا الوسطى. ويترتب على ذلك أن هجرة الجرمان في عصر قيصر إلى وطنهم الجديد بين الدانوب والرين والبحر الأسود، لم تكن قد انتهت بعد ، أو على الأقل كانت في سبيلها إلى الانتهاء . وإذا كان التوتون ، وربما السامبريون قد وصلوا في زمن بيثياس إلى شبه جزيرة جوتلاند ، والجماعات الأولى من الجرمان وصلت إلى الرين .. فهذا لا يناقض ما سبق في شيء . إن أسلوب الحياة الذي لا يتلاءم إلا مع الهجرة المتصلة ، والحملات المتكررة في اتجاه الغرب والجنوب ، وأخيراً حقيقة أن قيصر وجد أيضاً في حالة تحرك السويفيين الذين هم أكبر كتلة يعرفها الجرمان ، هذا كله لا يتيح سوى استنتاج واحد : من الواضح أننا نواجه هنا ، في شكل جزئي ، اللحظة الأخيرة للهجرة الجرمانية العظمى في إقامتها الرئيسية في أوروبا ." ويضيف انجلز: .. إن أسلافنا كما شاهدهم قيصر ، قد كانوا همجيين حقيقيين " فلم يكونوا تجاراً بارعين كأهل فينيقيا ، ولم يكونوا فلّاحين مزارعين كأهل كنعان والرافدين ومصر.
نحن هنا أمام واقعة تاريخية تتكرر بين الحين والآخر: ديانة تنقرض ثم تعود منبعثة من جديد كخليط من عبادات متنوعة . علينا رصد ودراسة الشروط التاريخية والاجتماعية لهذه العودة وما تستجره معها من عنف مميت ماسخ . لقد لوحظ في غالب الأحيان أن ظروف التحلل والانحطاط الحضاري والاجتماعي هي التي تستجر هكذا انبعاث. كما أنه تبين أن ضغط الإيمان بالوحدانية على الدين يبرز في ظروف الانحلال هذه. "يرد انبعاث هذه الأديان (التوحيدية) إلى الاستجابة للتحدي الذي أبرزه انحلال الحضارات... لم تنبعث بين المجتمعات التي تسير في طريق الحضارة ، إلا بعدما انهار عدد من الحضارات وسار في طريق التحلل شوطاً بعيداً"
إن فكرة التنبؤ راسخة في عقلية الشرق الدينية لهذه الرغبة العارمة بالاعتراف .. أما الأمل بالبعث العزيز جداً على إنسانية الشرق والذي حمل تدريجياً إلى أقصى الحدود في الغرب ، فإن القرآن يتناوله بالقول: وإن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور "
لاحقاً تم تدجين هذه الشعائر.. "فأصبحت احتفالات الإله ديونوسوس تتصف بالهدوء النسبي والوقار إلى حد ما كما أصبحت أيضاً ذات طابع اجتماعي أكثر منه ديني" . وحسب بلوتارخوس فمن المحتمل أن يوروبيديس تأثر بما رآه من مظاهر العنف والهمجية أثناء إقامته في مقدونيا حيث نظم مسرحيته.. وحسب رأي دودز فإن يوريبيديس تأثر بالتيارات الدينية الشرقية التي كانت تجتاح أثينا في القرن الخامس (عبادة كوبيلي، بنديس، آتيس، أدونيس سابازيوس ).. . إذا علمنا أن الحضارة الكريتية والقبرصية كانت " من وحي مصري- كنعاني ، وأن ازدهار فينيقيا قد بلغ أوجه بين القرنين السابع عشر والخامس عشر قبل الميلاد . بينما كان أسطول صيدا يتحرر من سلطة الفراعنة . و أن (اليونان ) التاريخية كما تظهر لنا في ضوء أدبها ، تولد مع الفرعون بشماميتيك الذي فتح في منتصف القرن السابع قبل الميلاد موانئه للبحّارة الهلينيين ، وأن صولون أول القانونيين العظام ، الذي صنف حوالي العام 590 قبل الميلاد دستور أثينا ، صولون هذا كان قد تخرج من مدارس مصر" إذا علمنا كل ذلك يغدو السؤال : عن سبب أو أسباب هذا الغزو لأثينا من قبل ديانات شرقية آسيوية ؟ لغواً لا معنى له.
ما يلفت النظر هو التشابه الكبير بين شعائر عبادة الإله سابازيوس وشعائر عبادة الإله ديونوسوس .. تؤكد أغلب المصادر القديمة أن الرأي العام الأثيني كان معارضاً لانتشار هذه الديانات الأجنبية ." ؛ هو الصراع بين الجرمان المتوحشين الهابطين من الشمال وبين ثقافة آسيا القادمة الجنوب والشرق.
في تراجيديا "عابدات باكخوس" يتناول يوريبيديس قصة معارضة الملك بنثيوس لعبادة الإله ديونوسوس والتصدي لها ومحاولة منعها من الدخول إلى مدينته طيبة . فلقد سبق أن روى هوميروس كيف تصدى لوكورجوس ملك طراقيا لعبادة هذا الإله وحاول أن يمنع دخولها إلى طراقيا ، وكيف أنه طارد الإله ديونوسوس وتابعاته فوق جبل نوسا المقدس وألقى بهن جميعاً في البحر ، وكيف فقد الملك لوكورجوس بصره عقاباً لما ارتكبه من حماقة" .
يروي ديودوروس الصقلّي أيضا كيف طارد الملك الطراقي بوتيس تابعات الإله ديونوسوس في منطقة فيثيوتيس وألقى بهن في البحر، وكيف أصاب الإله ديونوسوس بنات مينياس بالجنون عندما عارضن عبادته في مدينة أرخومينوس ، وكيف دفعهن إلى تمزيق والتهام الطفل هيباسوس .. يروي أبوللودوروس كيف أصاب الإله أيضاً بنات برويتوس بالجنون فدفع نساء أرجوس إلى قتل أطفالهن والاندفاع نحو المناطق الجبلية المقفرة كما يروي أيضاً سويداس كيف أصاب الإله بنات إليوثر في مدينة إليوثيرا بالجنون لسخريتهن من فكرة ظهور الإله ديونوسوس .. هكذا نجد أن علينا تفسير عودة ظهور ديانة ديونوسوس .. بالرغم من المعارضة والمقاومة التي ظهرت تجاهها في كل مكان من بلاد الإغريق؛ تفسيرها بالانحطاط الحضاري .
ها أنت بنثيوس: لا تكون محاربة عودة ديانة إلى الحياة من جديد بمحاربة الاعتقاد القديم المتجدد بل، بمعرفة الظروف الجديدة ومعالجة أسباب التحلل و الإحباط التي تلفّ العصر..." فالانطلاق لا يتم مما يقوله البشر ، ويتوهمونه ، ويتصورونه ، ولا هم مما عليه في أقوال الغير وفكرهم وتخيلهم وتصورهم .. بل يتم الانطلاق من البشر في فعاليتهم الواقعية ، وإن تصور تطور الانعكاسات والأصداء الأيديولوجية لهذا التطور الحياتي يتم انطلاقاً من تطورهم الحياتي الواقعي أيضاً..وحتى الأشباح في العقل البشري هي تصعيدات ناتجة بالضرورة عن تطور حياتهم المادية التي يمكن التحقق منها تجريبياً والتي تعتمد على قواعد مادية . ومن جراء ذلك فإن الأخلاق والدين والميتافيزياء ، وكل البقية الباقية من الأيديولوجية ، وكذلك أشكال الوعي التي تقابلها ، تفقد في الحال كل مظهر من مظاهر الاستقلال الذاتي ، فهي لا تملك تاريخاً ، وليس لها أي تطور مستقل ، إن الأمر على النقيض من ذلك، فالبشر إذ يطورون إنتاجهم المادي وعلاقتهم المادية هم الذين يحولون فكرهم ومنتجات فكرهم معاً مع هذا الواقع الذي هو خاصتهم . فليس الوعي هو الذي يُعيّن الحياة بل الحياة هي التي تُعيّن الوعي ... فالوعي لا يمكن أن يكون شيئاً آخر سوى الوجود الواعي " . نعم، ليس للدين تاريخ خاص به بل هو عقائد منبعثة و محمولة على ظروف جديدة. ومحاربة الاعتقاد "المتجدد" من دون رؤية الظروف المعاصرة ضرب من الحماقة.
و ما السلفية الإسلامية (وغير الإسلامية) الجهادية المنبعثة كالفطر في عالمنا اليوم، والعنف غير المؤسس الملازم لها سوى علامة على انحطاط الحضارة البورجوازية؛ انحطاطها كطبقة عالمية مترافقة مع إحباط مشروع البروليتاريا كطبقة عالمية جديدة بديلة.
بنثيوس إذن شخصية تجمع بين عنصري التاريخ والأسطورة . إنه ملك طيبة وحاكمها الذي تصدى لقدوم عبادة الإله ديونوسوس وهو في نفس الوقت الضحية ( القربان ) التي قدمت للإله .
رسم يوريبيديس شخصية بنثيوس في "عابدات باكخوس" رسماً يتفق تماماً مع هذه الصورة المزدوجة . إن بنثيوس ملك اريستوقراطي محافظ ، يحتقر العبادة الجديدة لكونها عبادة أجنبية دخيلة يعارضها لأنها تشجع على الفسق والفساد وتزيل الفوارق بين الطبقات. يجهل بنثيوس أن الفوارق بين الطبقات وتراكم الثروة في جهة سوف يدفع نحو البطر والترف ، بالتالي يدفع بالضرورة نحو استيراد المُجون والفسق والفساد؛ " وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقَّ عليها القول فدمرناها تدميرا" . ويخشى بنثيوس العبادة الجديدة لأنها تهدد النظام الاجتماعي والمبادئ الأخلاقية (أخلاق الحاكمين). من ناحية أخرى .. ففي رواية عزازيل يتم استيراد عزازيل بدلاً من إبليس وتعود بعض الديانات الوثنية القديمة للظهور مقابل مسيحية الإمبراطورية أو الدين الرسمي للدولة (دين سلطة)، ويظهر عنف رهيب مميت تجاه النصرانية الآسيوية الغربية أو منظري الثورة والداعين للخروج على دين السلطة.. إن الخطوات التي تسبق موت بنثيوس تجعل منه ضحية للإله ديونوسوس . .. إن كل ذلك يؤكد أن يوريبيديس قصد أن يرسم شخصية بنثيوس لتصبح شخصية مزدوجة تجمع بين عنصري التاريخ والأسطورة" . أي أن بنثيوس حدث تاريخي في بلاد اليونان وهو قابل للحصول في كل مكان يحدث فيه انبعاث خليط ديانات قديمة بفعل ظروف تحلل حضاري و إحباط اجتماعي معاصر.
يحاول يوريبيديس أن يبني للعمل شكلاً يتناسب مع طبيعة الحدث : "تختلف تراجيديا "عابدات باكخوس " من ناحية الشكل عن باقي مسرحيات يوريبيديس فالبرغم من أن هذه التراجيديا هي آخر ما نظم يوريبيديس في حياته إلا أنها ذات شكل يتفق إلى حد كبير مع شكل التراجيديا المبكرة (ديانة مبكرة عادت للحياة) إنها تتسم بسمات الشكل القديم .. التقليدي ... هذا بالإضافة إلى كثرة المنولوجات التي يلقيها الممثلون . ففي هذه التراجيديا خطابان للرسول : الأول يتكون من ثمانية وتسعين سطراً .. والثاني من مائة وعشر أسطر .. كما يوجد منولوج للتابع يبلغ سبعة عشر سطراً .. ومنولوج آخر للغريب (ديونوسوس) يبلغ ستة وعشرين سطراً جميعها منولوجات وصفية تصف أحداث غريبة لا يمكن تصويرها أمام المتفرجين" هذه الأحداث تظهر على خشبة المسرح كأسرار.
هذه المسرحية ذات شكل تقليدي من ناحية الأسلوب واللغة أيضاً . إنها تمتلئ بالتعبيرات القديمة وتحتوي على عدد قليل من الألفاظ الشائعة والتعبيرات النثرية وهو ما يختلف تماماً مع ما تتصف به مسرحياته الأخرى.. بها عدد كبير نسبياً من الكلمات والتعبيرات الحديثة التي لم يستخدمها كاتب آخر قبل يوريبيديس . لكن من الملاحظ أن أغلب هذه الكلمات والتعبيرات قد استعارها المؤلف من الحديث العادي المعاصر وخاصة من التعبيرات التي كانت تستخدم أثناء تأدية الشعائر الدينية للإله ديونوسوس . هكذا يجمع يوريبيدس في "عابدات باكخوس " بين الشكل التقليدي والمضمون الحديث (مفارقة وازدواج وجمع بين نقيضين).. يقول أرسطو في كتاب الشعر: "إن سوفوكليس يصور البشر كما ينبغي أن يكونو ا بينما يصورهم يوريبيدس كما هم في الواقع"
هوامش
1- من مقدمة المترجم.. ص 41
2- سارتون : تاريخ العلم ، الجزء الثاني ، مرجع مذكور ص 24
3- في طراقيا حيث تربى وتعلم أرسطو - راجع بيير روسي :التاريخ الحقيقي للعرب مرجع مذكور ص 39
4- هذه المواكب الليلية ذات سمة أورفية. وسمي النجم طارقاً لأنه يطلع ليلاً وكل ما أتاك ليلاً فقد طرقك . .. الطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب" الطارق / 2-3 أدب الكاتب ص 90 والطارق كوكب الزهرة ، النجمة الخماسية .
5- الطارق / 2-3 أدب الكاتب ص 90
6- بنات هنا مذكر لأنه قال ثلاثة بنات
7- أدب الكاتب ص 91-92
8- أدب الكاتب ص 93
9- اللاتينية العربية ص 54
10- روسي: التاريخ الحقيقي ص 100
11- يمليخا: فيثاغورث، حياته. فلسفته ترجمة زياد الملا دار الينابيع 2003 ص 123 لاحظ أن كل من امتلك تلك التعاليم الربانية عن العدد فهو فيثاغورث. لاحظ هنا أيضاً التماثل بين أورفيه الذي تعلّم من أمه (الطبيعة) وبين عيسى بن مريم الذي ولد من دون أب.. أيضاً لاحظ أن جوهر العدد الثابت القوة المسيطرة أو القدرة علّة الكلمة؛ هذه الكلمة التي هي أثر الذات (النفس) في الجسم [الكلمة النباتية، الكلمة الحيوانية والكلمة الإنسانية أو الناطقة]
12- أفلاطون: البرمنيدس، حقق النص وقدم له أوغست دييس ، عرّبه عن الأصل اليوناني الأب فؤاد جورجي بربارة الدمشقي ، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1976ص 311
13- فخري تاريخ الفلسفة اليونانية ص 202
14- السحب- 1 تأليف اريستو فانيس ترجمة وتقديم أدبي : د. أحمد عثمان مراجعة وتقديم تاريخي د. عبد اللطيف أحمد علي .. الجزء الأول مخصص للمقدمة التاريخية والأدبية . من المسرح العالمي أغسطس 1987 الكويت ص 18- 19 الاقتطاف مأخوذ من المقدمة التاريخية.
15- مَجَن: كلمة واحدة هي مجن، يقال: إن المُجون : ألا يبالي الإنسان ما صنع. قالوا وقياسه من الناقة المُماجن، وهي التي ينزو عليها غير واحد من الفحولة ، فلا تكاد تلقح. والمَجّان، هو عطية الرجل شيئاً بلا ثمن ". معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (...- 395 ) بتحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون المجلد الخامس ، دار الجيل بيروت 1999 ، ص 299
16- من مقدمة المترجم .. 41 وساتوري: عبدة الإله ساتورن (إله الزراعة عند الرومان أو زحل).. ساتورناليا: عيد الإله ساتورن في روما القديمة ؛ قَصْف؛ لهو ، عربدة ، إفراط ، إسراف.. المورد 2010 ص 1027 .. الباكخيات : عابدات باكخوس. Satyricon: مسرحية هزلية .. في أعياد ديونوسوس يضطر الشاعر لتقديم أربع مسرحيات ؛ ثلاث مآسي وواحدة هزلية.." تاريخ العلم ج2 ص 34
17- بندار من طيبة ؛ أعظم الشعراء الغنائيين التسعة " سارتون ج2 ص 14 يقابله في النحت فيدياس له تماثيل ضخمة للإله زيوس البيثي في ألومبياد مصنوعة من الذهب والعاج . ومجد أثينا يرمز إليه هيكل البارثينون الجديد الذي تم إنشاؤه بين 447-434 ق. م ويقترن ذكره بذكر ثلاثة من الرجال العظام في فخامة ذلك البناء وهم: بركليس الدماغ المفكر ، وأكتينوس البنّاء ، وفيدياس النحّات .. وبارثينون Parthenon معناها غرفة العذراء وهو معبد اثينا بارثينون : الإلهة العذراء للحكمة . م2 17 ، 34 [النفس الكونية أم عيسى وأم أورفيه]
18- الأدب اليوناني في عصر الاسكندرية – شعر الراعاة - درسه وترجم نصوصاً منه دكتور محمد صقر خفاجة رئيس قسم الدراسات القديمة بجامعة القاهرة . الناشر دار الكتاب المصري . من دون تاريخ. ص 6-7
19- من مقدمة المترجم ص 42
20- معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا – 395 هـ . بتحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون رئيس قسم الدراسات النحوية بكلية دار العلوم سابقاً وعضو المجْمع اللغوي . دار الجيل 1999 في ستة مجلدات . المجلد الثاني ص 215-216 . سوف نشير إليه لاحقاً باسم معجم مقاييس مع ذكر المجلد.
21- معجم مقاييس .. المجلد الرابع ، ص 475
22- من مقدمة المترجم ص 42
23- عابدات باكخوس .. هامش 41 ص 56
24- النِّساء نوعان ؛ نوع مؤمن هنّ نساء الكورس ونوع كافر هنّ النساء الباكخيات المايناديات (المجنونات) اللواتي التبس عليهن ديونوسوس الكريتي بـ ديونوسوس الآخي الحربي البربري (تلبيس) فوقعن في الكفر والأبلسة والجنون .
25- من مقدمة المترجم ص 43
26- معجم مقاييس .. المجلد الثاني ص 20
27- من مقدمة المترجم ص 43
28- شفى: يدل على اشراف على الشيء ، يقال أشفى على الشيء إذا اشرف عليه . وسمي الشِّفاء شفاء لغلبته على المرض وإشرافه عليه (المهيمن على المرض؛ له شرف العلو والسيطرة عليه) معجم مقاييس م 3 ص 199
29- من مقدمة المترجم ص 44
30- مثل هذا أنجرا ماينو شيطان الزرادشتية ، وهم يتصورونه على هيئة مسخ مزيج من هيئة الأفعى وهيئة الأسد ، وله عينان جمرتان من نار ، ويجلس على عرش يحيط به معاونون من قوى الظلام المدعويين بالأراكنة (مفردها أركون وتعني باللغة اليونانية : حاكم)...تدعوه نصوص التكوين الغنوصية .. ب سكلاس أي الأحمق ، وب سمائيل أي الأعمى..(سمل العينين) الوجه الآخر للمسيح ، مرجع مذكور ، ص 71 والأراكن؛ حكام الحياة الدنيا أربعة: النار، الهواء ، والماء و التراب. وتتشكل من اجتماع الطبائع المفردة والتي هي الحار والبارد والرطب واليابس . فمن اجتماع الحر مع اليبوسة تكون النار ن ومن اجتاع الحر مع الرطوبة يكون الهواء ومن البرد مع الرطوبة يكون الماء ومن البرد مع اليبوسة تكون الأرض. (أسطوميناس (العناصر؛ الأسس)؛ الرابوع الثالث لأفلاطون).. ركن: أصل واحد يدل على قوة ، فركن الشيء جانبه الأقوى ؛ ركن شديد : ذو عز ومنعة , وركنت إليه : ملت (الشهوة؛ شهوة النفس) " مقاييس ج2 ص 431
31- من مقدمة المترجم ص 45
32- من مقدمة المترجم ص 45 : "وفديناه بذبح عظيم" الصافّات /107
33- مثل ذلك مفردة حمامة قد تكون حمامة ذكر أو حمامة أنثى .
34- زيغ: أصل يدل على مَيَل الشيء. زاغ يزيغ زَيْغاً.والتزيُّغ التمايل (التماثل؛ الشُبْهة)..م3 ص40 الزيغان: الميل والشهوة.
35- عابدات باكخوس، إيون – مرجع مذكور ص 58
36- أرنولد توينبي : مختصر دراسة للتاريخ ..الجزء الأول، ترجمة فؤاد محمد شبل ، مراجعة محمد شفيق غربال . اختارته وأنفقت على ترجمته الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية . الطبعة الأولى 1960 القاهرة . ص 39 ، 40 ص 31
37- "حول نمط الإنتاج الآسيوي": جان سوريه كانال، جان شينو، يوجين فارغا نغوين بيش ، نقله إلى العربية جورج طرابيشي . دار الحقيقة بيروت الطبعة الأولى ، كانون الثاني 1972. ص 26
38- بين نمط الإنتاج الأسيوي ونمط الإنتاج الجرماني القديم
39- روسي ص 102
40- فريدريك انجلز: في تاريخ الجرمان القدماء وهو شذرة من كتابه "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ". أخذ الاقتباس من : في المجتمعات ما قبل الرأسمالية – نصوص مختارة من ماركس وانجلز ولينين، تقديم مورييس غودلييه" ترجمة الدكتور فؤاد أيوب ، مراجعة الدكتور ناجي الدراوشة منشورات وزارة الثقافة دمشق 1994 ص 458-459
41- انجلز : في تاريخ الجرمان القدماء مرجع سابق ص 460
42- تونبي: مختصر دراسة للتاريخ – الجزء الثاني – مرجع سابق ص 40
43- روسي 115 الحج/ 7
44- من مقدمة المترجم ص 46
45- من مقدمة المترجم ص 47
46- بيير روسي : التاريخ الحقيقي للعرب – مرجع سابق ص 44
47- من مقدمة المترجم ص 47
48- من مقدمة المترجم ص 47
49- قارن مع مصير هيبا بطل رواية عزازيل، وكذلك مصير فيلسوفة الإسكندرية هيباتيا
50- كارل ماركس: الأيديولوجية الألمانية ، نقلاً عن "في المجتمعات ما قبل الرأسمالية – مرجع مذكور ص 185-186 "
51- لاحظ ظهور حاجة داخلية في طيبة لاستيراد ديانة توحيدية قديمة آسيوية مخالطة بشعائر دين سلطة مستقاة من وسط أوربا وشمالها.
52- سورة الإسراء/16
53- من مقدمة المترجم ص 48
54-من مقدمة المترجم ص 50
55- من مقدمة المترجم ص 50
56- من مقدمة المترجم ص 54