الإعلام العربي: بين الإنجاز وفقدان البوصلة (١ من ٢)


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4360 - 2014 / 2 / 9 - 09:07
المحور: الصحافة والاعلام     

يمكن التأريخ للإعلام الجماهيري في المنطقة العربية في عقود ما بعد الاستقلال الوطني بثلاث مراحل: مرحلة الإعلام الرسمي المُوالي وتمتد من تواريخ الاستقلال حتى منتصف التسعينات، ومرحلة انطلاق الفضائيات، في حقبة التسعينات وتحديداً عام 1996 وتأثيراتها، ثم مرحلة إعلام الربيع العربي وما بعده. يتضمن هذا التحقيب الزمني اعتبار عام 1996، أي عام انطلاق قناة «الجزيرة»، مفصلاً زمنياً أغلق مرحلة طويلة ومديدة من الإعلام العربي، وفتح الباب للمرحلة التالية. امتازت مرحلة ما قبل «الجزيرة» بسيطرة الإعلام الرسمي الاحتفالي والبروتوكولي على الفضاء العربي، وهو الإعلام الخاضع للنخب الحاكمة والذي يستهدف تعزيز الوضع القائم، وبناء هوية وطنية محلية، والمساهمة في بناء الدول الناشئة حديثاً. وقد اتسم ذلك الإعلام بانخفاض سقف الحريات وغياب النقد وخضوعه التام للأنظمة السياسية القائمة، وابتعاده عن التابوات التقليدية الثلاثة: السياسة والدين والجنس. وتحت العنوان العريض لـ «الإعلام الموالي» الذي يصف تلك الحقبة نجد هناك عناوين فرعية مثل «الإعلام الموالي المحافظ» و «الإعلام الموالي الثوري»، تبعاً للدولة التي نتحدث عنها، وتوجهها السياسي. فإن وجدنا خلال حقبة مصر الناصرية، وسورية الأسدية، والعراق الصدّامي، إعلامياً ثورياً (وموالياً في طبيعة الحال)، فإننا نجد في المقابل في دول الأنظمة الملكية، في الأردن ودول الخليج والمغرب، إعلاماً محافظاً وموالياً أيضاً.

في الحقبة الزمنية الثانية، يُحسب لإعلام الفضائيات الكثير من الإنجازات في المنطقة العربية منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، بخاصة في ما يتعلق برفع سقف التعبير وتحطيم الكثير من «المحرمات الإعلامية» وبخاصة تلك المتعلقة بالتابو السياسي. وبعد أكثر من عقد ونصف من انطلاق قناة «الجزيرة» التي دشنت مرحلة جديدة في الإعلام العربي لحظة انطلاقها عام ١٩٩٦، عادت إحدى بديهيات السياسة تؤكد نفسها، ذلك أن التغيير السياسي الذي أحيلت مسؤولية القيام به، بوعي أم من دونه، على الإعلام الجديد، يظل مُحتاجاً إلى قوى وحوامل سياسية تشتغل على الأرض، وأعيد اكتشاف حقيقة أخرى وهي أن الإعلام وحده لا يحقق التغيير المنشود. الإعلام يساند ويساعد على تعميق النقاش السياسي، وعلى تسريع الاتجاه نحو هدف معين، لكنه وحده لا يستطيع القيام بالمهمة. بل على العكس من ذلك، تبين لكثير من الأنظمة والحكام في المنطقة أن رفع سقف الحريات الإعلامية وترك المجال للنقد السياسي حتى لو كان في أقصى حدوده إنما يقوم بعملية تنفيس للاحتقان المتراكم عند الجمهور، وبالتالي نُظر إلى أن ما تقوم به الفضائيات من نقد بل وتجريح وفتح لكل الملفات ليس بالضرورة شيئاً مطلق الضرر, بل فيه إيجابيات هنا وهناك. ولئن بدا أن الإعلام الفضائي الجديد الذي افتتحته وقادته قناتا «الجزيرة» و «العربية» تحديداً، ثم تلتهما عشرات ومئات القنوات، وكأنه يلعب دور السلطة الرابعة، فإن حقيقة الأمر كانت أكثر تعقيداً وتركيباً. إذ لم تكن هناك سلطات ثلاث في أي نظام سياسي تشتغل وفقاً لفصل السلطات، ليأتي الإعلام الحر ويساندها عن طريق اشتغاله كسلطة رابعة. فمثلاً كل القضايا التي يمكن أن يفتح الإعلام الحر ملفاتها تبقى معلقة في الهواء لأنه ليس هناك برلمان مستقل أو سلطة قضائية مستقلة تستلم القضايا التي تم فتحها عن طريق الإعلام وتتابع عملية المحاسبة والملاحقة. خلاصة ذلك أننا صرنا أمام ظاهرة غريبة ووضع غير متوازن: إعلام حر نسبياً ويناقش كل شيء، وسياسة غير حرة ولا تناقش أي شيء! وانتهى الأمر إلى نوع من الجمود السياسي المحير.

خلال حقبة «الجمود السياسي» تلك حيث التناقض والمفارقة الكبيرة بين الفعالية الخطابية والنقدية للإعلام التلفزيوني العابر للحدود من جهة، وعدم انعكاس ذلك على إحداث نشاط وتغيير سياسي على الأرض كانت هناك جيوب لقوى اجتماعية/ سياسية/ إعلامية تتكون عفوياً وتشتغل بعيداً عن العيان. أهم هذه القوى الشباب والإعلام الاجتماعي. وهاتان القوتان كان لهما الدور الأكبر في ريادة الانتفاضات الشعبية في الربيع العربي وإنجاحها. الشريحة الشبابية وهي الأعرض ديموغرافياً في كل بلد عربي نمت مهمشة من قبل الأنظمة، ومن قبل الإعلام الجماهيري أيضاً بما فيه العابر للحدود مثل «الجزيرة». ومع تزايد معدلات البطالة في صفوفها، وتزايد مشاعر الاغتراب عن المجتمع، وجدت في الإعلام الاجتماعي بيئة حاضنة وتواصلية، ليس فقط مع الشرائح الشبابية في مجتمعاتها، بل وأيضاً في العالم. وعلى خلفية التسارع في وتائر التواصل الإنترنتي والاجتماعي تبلورت شريحة شبابية عربية ناشطة لكن في واقع افتراضي، وواعية على محيطها وعالمها، ومسيسة إزاء الحقوق التي تفتقد إليها ومجتمعاتها، لكنها غير مؤدجلة وكانت أداتها المباشرة في النشاط والنقد والتواصل مع العالم هي الإعلام الاجتماعي. في خضم هذه اللحظة، الشبابية الإنترنتية، التي ولدت في قلب الربيع العربي دخل الإعلام العربي مرحلته الثالثة على رافعة الإعلام الاجتماعي والطليعة الشبابية.

بطبيعة الحال لا يمكن أن تقوم ثورة إلا ووراءها أسباب عميقة وذات منعكسات وضغوط تراكمية تقود الناس إلى درجة الانفجار. ومن هنا لا يمكن، ولا يجوز، اختزال الثورات العربية بالوصف التبسيطي: «ثورة الفايسبوك». فالإعلام، مرة ثانية، لا يخلق ثورة ولا يخلق تغيراً سياسياً راديكالياً، بل هو عامل مساعد، يقف، وتبعاً للأدوات التي يوفرها في اللحظة المعنية، في أتم الجاهزية للانخراط في المعركة وليكون أداة بيد المنتفضين. هذا ما شهدته الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات من القرن الماضي حين اعتمدت على أشرطة الكاسيت الصوتي التي كانت وسيلتها الإعلامية الأكثر فعالية، لنقل الخطب التحريضية للخميني وسواه. وهو ما رأيناه في ثورات الشعوب في أوروبا الشرقية حين كان التلفزيون الذي يبث من بلد مجاور في بعضها هو الوسيلة الإعلامية الأكثر نفاذاً وتأثيراً. وهو ما رأيناه في ثورات الربيع العربي عندما وظفت هذه الثورات وشبابها الإعلام الاجتماعي في الحشد وتأمين الميادين وتغطية كل المناطق بشكل مدهش. لو كانت انتفاضات الربيع العربي «ثورات فايسبوك» فلماذا لم نرَ ذات الثورات في بلدان أخرى في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية حيث معدلات استخدام الإنترنت والفايسبوك أعلى بكثير من المنطقة العربية؟

الإعلام الاجتماعي لعب الدور المساعد الرئيس في التعبئة والحشد والتنظيم، لكن لم يكن بمقدوره توصيل أخبار هذه الثورات إلى كل الشرائح الشعبية والعالم أيضاً من دون تدخل الإعلام التلفزيوني العابر للحدود. وما حدث في أرض الواقع وفي ميادين الانتفاضات الشعبية كان عملية تكامل لحظية وعفوية ومدهشة، حب وزواج من أول نظرة، بين الإعلام الاجتماعي والإعلام التلفزيوني، حيث اشتغل الأول على تزويد الثاني بمادة إخبارية متواصلة على مدار الأربع وعشرين ساعة، ومن دون أن يضطر الثاني لإرسال فرق تلفزيونية وكاميرات في كل مدينة فيها انتفاضة أو تظاهرات، وعمل بدوره على بث وتوزيع ما يأتيه من الأول على أوسع نطاق ممكن. والخصائص الاستثنائية للإعلام الاجتماعي هي عملياً التي أنجحت عملية التكامل مع الإعلام التلفزيوني، وهو التكامل الذي خدم وساهم في إنجاح الثورات العربية. وهي خصائص تحتاج إلى تأمل معمق تقاربه المقالة المقبلة.