إنهيار امبرطورية الخوف/ تركيا .. الحركة الاحتجاجية ومصير حكومة أردوغان


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 22:14
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية     

يجمع العديد من المتابعين لتطورات الوضع في تركيا على ان حكومة اردوغان قد دخلت خريفها، وانها غير قادرة على الصمود، والاستمرار لفترة طويلة،وكانت الاحتجاجات الواسعة، التي اجتاحت العديد من المدن التركية، والتي شارك فيها مئات الآلاف من الشبيبة والناشطين الاجتماعيين، مدعومة من اكبر الاتحادات النقابية العمالية في البلاد، اتحاد نقابات العاملين في القطاع العام، وتشارك فيها ايضا الاحزاب السياسية المعارضة للحكومة، اليمينية و اليسارية على حد سواء، شكلت محطة اولى هامة كشفت الطابع الاستبدادي والمعادي للديمقراطية، والذي يمثل في الواقع الوجه الحقيقي للنسخة التركية من حكم ?لاخوان المسلمين.
وتزامن ذلك مع الفشل الذريع الذي منيت به السياسة الخارجية التركية، التي كانت تسعى لتحويل تركيا الى لاعب اقليمي اساسي، سواء من خلال تدخلها السافر في الصراع المعقد الدائر في سوريا، بالضد من تطلعات الشعب السوري لدولة المدنية الديمقراطية، التي تضمن للانسان حقوقه الاساسية، وعيشه الكريم في وطنه، وفي التدخل التركي سيىء الصيت في شؤون العراق الداخلية، الذي يشجع الانقسام الطائفي - القومي القائم في العراق، ويسعى لتكريسه، من خلال ادعائه الدفاع عن سنة العراق حينا وعن تركمانه حينا آخر. في الوقت الذي يسعى فيه أولا وقبل ?ي شيء الى تعزيز مصالحه الاقتصادية المتسعة في العراق، وتوظيف ذلك في صراع دول الجوار الدائر في وحول العراق، والذي ياخذ شكله الطائفي مناحي خطيرة. ولم يغير من هذا الفشل كثيرا، المساعي التي تبذلها الحكومة التركية لتحسين علاقاتها الثنائية مع ايران مستفيدة من اجواء الانفراج بين ايران والولايات المتحدة، على خلفية مفاوضاتهما بشأن الملف النووي، ومحاولة الاستفادة من علاقات اقتصادية مع ايران للحد من التدهور الذي يعيشه الاقتصاد التركي، وتداعي قيمة الليرة التركية. وجاءت فضائح الفساد التي طالت وزراء هامين في حكومة اردوغ?ن، وشخصيات مقربة منه بضمنهم نجله بلال، لتشكل محطة اخرى هامة على طريق انهيار امبراطورية "الخوف الاسلامية"، وما تزال تفاعلات انفصام التحالف بين حزب العدالة والتنمية، وجماعة رجل الدين، المقيم في الولايات المتحدة الامريكية، فاتح كولن تتفاعل ويتسع الصراع بين حلفاء الامس، ليصبح ربما المحطة الاخيرة لمسيرة اردوغان وبداية لبديل سياسي تسعى له اكثرية متنوعة المشارب الفكرية، والسياسية في المجتمع التركي.
لاتغطي هذه المساهمة جميع جوانب ازمة النظام السياسي القائم اليوم في تركيا، وانما تركز على محاور وموضوعات هامة فيها، والبدائل والاهداف الممكنه، لتحقيق بديل يلبي مصالح الاغلبية العظمى من سكان تركيا، ويصبح عامل تهدئة واستقرار في المنطقة.

الحركة الاحتجاجية طابعها واشكال استمرارها

فمنذ الحادي والثلاثين من ايار الفائت اجتاحت اغلب المدن التركية حركة احتجاجية جماهيرية واسعة. وكانت خطط الحكومة المحافظة لتدمير الطابع الحضاري والتاريخي لمدينة اسطنبول، وهدم عدد من احياء المدينة الفقيرة لصالح مشاريع سكنية وبناء جسور واسواق تلبي نهم الليبراليين الجدد لتحقيق الارباح وتكديس الاموال، قد فجرت الحركة الاحتجاجية، وخصوصا توجه الحكومة لازالة حديقة "غيزي" القريبة من ساحة "تقسيم" الرئيسية في اسطنبول،ولكن طابع الحركة واتساعها واستمرارها يعكسان الاسباب الحقيقية التي ادت الى اندلاعها والتي لايمكن حص?ها في السعي لازالة حديقة عامة.
وتؤكد قوى اليسار في تركيا على ان الحركة الاحتجاجية المتواصلة، لم تبدا في الصيف الماضي، ولم تات من فراغ، وليست مقطوعة الجذور، فهي امتداد لحركات الاحتجاج، والنضالات السابقة، التي شهدتها البلاد، ويشيرون على وجه الخصوص الى تظاهرات عام 1970، والى تظاهرات الاول من ايار في عام 1977في ساحة التقسيم في اسطنبول، والتي استشهد خلالها 37 متظاهراً برصاص السلطة، وفي عام 1978 احتضنت ساحة التقسيم من 5 – 7 آلاف متظاهر. ولهذا فهم يعدون الساحة رمزا ومكانا للنضالات الاجتماعية والعمالية.
وان الطابع العفوي للحركة الاحتجاجية يعبر عن غضب جماهيري مكبوت، ويعلن عن "ربيع تركي" متأخر نمت بذوره ببطء، ومنذ وقت طويل. لقد جاء حزب العدالة والتنمية الاسلامي الى السلطة بعد الازمة الاقتصادية المدمرة في عام 2001 . واستطاع الحزب من خلال تبنيه سياسة الليبرالية الجديدة الصارمة معتمدا على تدفق الاموال الاجنبية المستمر، وخصوصا من السعودية وقطر، في كسب دعم جماعات رأسمالية محلية مختلفة. واستطاع اردوغان وحزبه الحفاظ على الاكثرية البرلمانية للمرة الثالثة، من خلال اطلاق وعود سياسية لحل القضية الكردية حلا سلميا، وا?تصعيد في مواجهة الجنرالات الكماليين في المؤسسة العسكرية.
وادت المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني، وحكومة اردوغان الى تحجيم مساهمة قوى حركة التحرر الكردية، والجماهير الكردية في الفعاليات الاحتجاجية، بسبب مخاوف انتابت قواها الرئيسية، من ان تؤدي مشاركة واسعة الى تعريض محاولات الوصول الى اتفاقية سلام مع الحكومة، تنهي الصراع المسلح المستمر منذ اكثر من 30 عاما. ومن الضروري الاشارة الى ان هذه المفاوضات تعثرت بسبب عدم جدية الحكومة، التي حاولت استمالة الطرف الكردي، وضمان تصويته في البرلمان، لصالح خطط "الاصلاح" الدستوري، التي اراد منها اردوغان تحويل النظام السياسي من ب?لماني الى رئاسي، لكي ينصب نفسه رئيسا - خليفة -جديداً وبصلاحيات واسعة. ومن المعروف ان "مؤتمر الشعوب الديمقراطية"، وهو تحالف سياسي قوامه الاساسي حزب السلام والديمقراطية، الذي يمكن وصفه بالذراع العلني لحزب العمال الكردستاني المحظور، مؤتلف مع تنظيمات يسارية وشيوعية. وللتحالف كتلة برلمانية تمتلك 36 نائبا، منهم مقعدان للحزب الشيوعي التركي، احد ابرزالتنظيمات الماركسية، والشيوعية في تركيا، والتي تعاني من تعددية قائمة على الانقسام، وليس التنوع، وتعد واحدة من اهم المشاكل التي تواجه اليوم اليسار في تركيا.
تعلمنا التجربة التاريخية صعوبة التنبؤ بالحركات الاجتماعية والاحتجاجات الكبيرة، ولهذ لم يستطع احد ان يقدر حجم وابعاد الحركة الاحتجاجية. لم تستطع الحكومة ذلك، ولاحتى قوى المعارضة السائدة، وكذلك هو الحال مع قوى اليسار.ربما كانت هناك بعض المؤشرات، التي استطاع البعض تلمسها، بان الاحداث يمكن ان تتصاعد، ولكن ليس هناك من كان يتوقع ما حدث ويحدث. وهذا يعني ان الاجواء السياسية في تركيا، لم تعد كما كانت عليه قبل اندلاع الاحتجاجات، وهذه مسالة مهمة لا يجوز التقليل من اهميتها.

اسباب آنية

ان تصاعد الاحتجاجات واستمرارها يعود في جانب منه الى الرفض، الذي يصل الى حد الكراهية لحكومة حزب العدالة والتنمية واردوغان شخصيا، وان هذه المشاعر ضد اردوغان وحكومته، تصاعدت ونمت، بما يتناسب مع غطرسة اردوغان وانفلات اهوائه. ان مشاعر الرفض، يجب ان ينظر اليها باعتبارها امراً عادياً، ولكنها عندما تجد متنفساً تنفجر بطريقة استثنائية. ويبدو ان على اردوغان ان لا يكون فخوراً بنفسه، فلقد تسبب في تفجر الوضع بطريقة لم يستطع احد قبله تحقيقها.
وهناك من المحللين من يحصر الحركة الاحتجاجية بالطبقة الوسطى، وعلى الرغم ان دورها واضح ولا يمكن نكرانه، لكن الطيف الاجتماعي المشارك في الاحتجاجات، ضم ويضم جموع من العمال والفقراء، من سكان الاحياء الفقيرة في المدن الكبرى مثل انقرة واسطنيول. ولا يمكن اغفال عمليات التعبئة التي شهدتها هذه الاحياء، ويجب ان لا تنسى التجارب الملموسة التي تراكمت، والجهود التي بذلت، فليس هناك شيء ما يهبط من السماء على حد تعبير احد المحتجين.
لقد سعت مؤسسات وابواق الاعلام القريبة من السلطة كالعادة الى توظيف نظرية المؤامرة، وحصر الحركة الاحتجاجية، بمحاولات جهات تسعى للبلبلة، واشاعة الفوضى، ولوكان الامر كما يدعون، لما اخذت الحركة الاحتجاجية صفة الاتساع، ولما كانت شعاراتها الاساسية واضحة وعميقة: الدفاع عن الديمقراطية، الدولة المدنية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية. ان ما حدث هو انفجار للغضب، بالتاكيد حاولت بعض قوى المعارضة التقليدية، التي تملك شبكات وهياكل منظمة، تجيره لخدمة اهدافها الحزبية المحدودة، ولكن هذه المحاولات لم تغير من جوهر الطابع الاجت?اعي للحركة الاحتجاجية، ولن تلبسها ثوب اليمين، كما يحلو لاصحاب هذه المحاولات. من جانب آخر تسعى قوى مشاركة في الحركة الاحتجاجية الى عدم جعل الحركة، حركة للمستقبل، وافراغها من محتواها الاجتماعي، ولكن هذه الحركة لا تريد التوقف، او الدخول في حالة من السكون.
وفي السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الاستفتاء على الدستور عام 2010، أصبح الوجه القمعي لهيمنة الحزب الحاكم واضحا على نحو متزايد، فالى جانب الخصخصة للاقتصاد، واسلمة نظام التعليم، و الحرب اليومية في المناطق الكردية، والاعتقالات ومحاكمة المئات من ممثلي الشعب المنتخبين باتهامات باطلة، تكررت حملات المداهمة والاعتقال ضد النقابيين، وناشطي مختلف المنظمات السياسية والاجتماعية ذات التوجهات اليسارية، واحتواء السلطة القضائية ووسائل الاعلام، وكان هذا كله مصحوبا بقضم تدريجي للحريات الشخصية وملامح الدولة المدنية ضمن خطة تهدف?لأسلمة الدولة، بما في ذلك العمل الجاد لتغيير الدستور بما يتلاءم مع محاولات اردوغان وحزبه احكام قبضته على جميع مناحي الحياة في تركيا. وكان العنف الذي استخدمته الشرطة ضد المحتفلين في الاول من ايار، ومنع النقابات العمالية من تنظيم تجمعاتها في ساحة "تقسيم"، الحدث الذي مهد الطريق لاندلاع الانتفاضة الحالية.
واليوم يستمر مئات الآلاف بالاحتجاج ضد سياسة الحكومة الاستبدادية و من اجل السلام والحريات والحقوق المدنية. ويحاول الحزب الجمهوري اليميني المعارض احتواء ألاحتجاجات وهو امر صعب التحقيق اذا ما تعزز التعاون بين جموع الشبيبة المحتجة، والحركة النقابية، والقوى اليسارية، وحركة الشعب الكردي التحررية، وجميع الساعين حقا الى السلام والديمقراطية، لتنظيم مقاومة مجتمعية تفوت الفرصة على اليمين المعارض، والحكومة الاسلامية، والسير بالحركة الاحتجاجية الى اهدافها المرجوة.

اشكال احتجاجية جديدة

ومنذ اقتحام ساحة "تقسيم" وسط اسطنبول في حزيران الفائت، بدا الهدوء وكأنه السائد في الساحات والشوارع التي كانت ميدانا للتظاهرات الحاشدة والصدامات بين قوات الشرطة والمحتجبن. التي ادت في ذروة الاحتجاج الى استشهاد 6، وجرح 4 آلاف متظاهر 16منهم فقدوا ضوء عيونهم. ومع بداية أيلول الفائت، بدات مجددا التظاهرات، والمواجهات، وهذه المرة بدءا من أنقرة ومحافظة هاتاي على الحدود السورية، وأيضا في اسطنبول، التي شهدت تظاهرات وأعمال عنف ادت الى سقوط قتيل وعدد كبير من الجرحى. وفي بداية تشرين الأول الفائت نشطت وحدات مكافحة الإر?اب في اسطنبول. ويقول نشطاء يساريون: لقد توزع المحتجون على 60 حديقة وموقعاً في اسطنبول، حتى قبل ان يتم اقتحام ساحة "تقسيم" من قبل قوات الشرطة، وارتفع عدد الساحات التي سيطر عليها المحتجون بعد اقتحام مركزهم الرئيسي، الى المئات، وبهذا فان الحركة الاحتجاجية اعادت تنظيم نفسها وانتشرت في جميع احياء اسطنبول الكبرى. والمدن التركية الاخرى، واتبعت اشكالا جديدة لمواصلة الاحتجاج منها المنتديات الشعبية، التي تسمى " منابر الشعب"، او "برلمانات الشعب"، والتي يطرح الشيوعيون القضايا الاجتماعية، واسئلة المجتمع الآنية والملحة? وتتشكل في هذه المنتديات حلقات ماركسية، جل اعضائها من الشبيبة، وتساهم في اعطاء زخم مطلوب في تعبئة العناصر النشطة. وأصبحت وسيلة جديدة من النضال لم تكن موجودة من قبل. لقد تعلم الناس من التجربة التي اكتسبوها خلال المقاومة في حديقة غيزي، وتوصلوا الى وسائل احتجاج بسيطة، ولكنها فاعلة، أعطت الحركة الاحتجاجية صفة الديمومة. وتحولت هذه المنتديات إلى مراكز للحوار وتبادل الخبر واتخاذ القرارات.
وخلق الشكل الجديد صعوبات لاجهزة القمع الحكومية، التي كان بامكانها ملاحقة واعتقال لجنة التضامن المركزية، اما الآن فان هذه الاجهزة تجد صعوبة في رصد وملاحقة تجمعات احتجاج لامركزية. وشكلت المنتديات ايضا هيكليتها الخاصة، ففي اسطنبول هناك منتديان كبيران لأحدهما 173 فرعا ومجموعة عمل، وهذه التجمعات الصغيرة هي التي حافظت على الحركة الاحتجاجية واكسبتها مضامين جديدة، ففي منتديات المحلات السكنية هناك عدد من المطالب المحلية تضاف الى مطالب الحركة العامة. وتضم المنتديات في الاحياء ما بين 50 – 100 مشارك، وتتسع المشاركة ف?ها خلال أشهر العطلة الصيفية، ولكنها تصبح اقل نشاطا مع بدء الموسم الدراسي في المدارس والجامعات، فضلا عن متطلبات المعيشة والحياة اليومية، التي تجبر الكثيرين على عدم المشاركة المتواصلة.
وتبحث حركة المنتديات حاليا عن أشكال ووسائل جديدة، منها عدم الاقتصار على اللقاء بالحدائق، وانما البدء باحتلال بعض المباني، وبناء اشكال تقترب من المجالس الشعبية. ويجري البحث عن طرق تجعل الحركة اكثر تأثيرا.
لقد حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية تمزيق الحركة الاحتجاجية من خلال تبني استراتيجيات مختلفة، ولكنها لم تنجح، وسوف لن تنجح في المستقبل ايضا، لان منتديات الحركة الاحتجاجية تأخذ أشكالا متعددة، وتتبع اساليب متنوعة تمتد من النضالات السلمية الى المواجهات المباشرة مع شرطة النظام . وكان التخويف أقوى سلاح في يد الحكومة، وكان الخوف ينتاب الناس لفترة طويلة وبالتالي لم يتحركوا. ولكن حركة الاحتجاج اطلقت قطار المحاصرين الطويل، ولم تعد الحكومة تمتلك هذا السلاح. لقد تحقق تقدم ملحوظ "ولا عودة الى الوراء".
طبيعة النظام السياسي وانقسامات قواه الرئيسية

ان الانشقاق بين حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب اوردغان، وجماعة فاتح كولن الاسلامية المحافظة، اصبح منذ السابع عشرمن كانون الاول 2013 حقيقة واضحة، تؤشر التناقض بين المنطلقات الفكرية لحكومات اردوغان، والواقع الحقيقي لطبيعة المجتمع التركي، ويرى متابعون ان بداية النهاية انطلقت مع بداية الحركة الاحتجاجية. وتشير آخر المعلومات الواردة من اسطنبول ان كولن اعلن انفصاله رسميا عن اوردوغان. وقال كولن في تصريح له للنسخة التركية لجريدة "وول ستريت جورنال"، ان أردوغان قد غادر مسار الإصلاحات الديمقراطية. كما انتقد كول? عمليات النقل الجماعي لضباط الشرطة، والعاملين في الادعاء العام، بعد التحقيقات الاخيرة في فضائح الفساد التي عصفت بالحكومة. ويأتي الصراع بين حلفاء الامس في سياق عملية البحث التي تسعى الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها، لبديل عن تجربة حزب العدالة والتنمية، ويمثل انفصال الحلفين الاسلاميين جانبا من ازمة النظام الشاملة. والصراع بين الحكومة وحزب العدالة والتنمية، وجماعة كولن من جهة اخرى، يؤشر الى تسارع انهيار تجربتهما، وان كلا جناحي السلطة يحاول ان يحمل الطرف الآخر المسؤولية عن ما حدث في السنوات الاخيرة، لإض?اء الشرعية على موقفه، وليضمن له دورا في سلطة المستقبل. ومن هنا فان اتهامات اوردوغان للجماعة بانها خدعته، او وظفت حكومته لتحقيق اهدافها الخاصة، تعد كذبة كبيرة، والطرفان يتحملان مسؤولية سياستهما المعادية للشعب. وعلى قوى الانتفاضة فضح هذه المحاولات، واضعاف موقف الفريقين المتصارعين والتعجيل بانهيارهما.
أصبح واضحا ان تركيا الحديثة لا تنسجم مع شكل ومحتوى التجربة الاردوغانية، المبنية على قراءة سياسية - دينية متعصبة، معادية للشعب، وساعية لتقديم خدمات مفتوحة لسياسات الليبرالية الجديدة، بعيدا عن المصالح الحيوية لعموم الشعب في تركيا، وبعيدا عن تطلعاته وأمانيه الوطنية، ولهذا قوبلت هذه السياسة برفض واسع من الاوساط الحيوية من المجتمع التركي.

الولايات المتحدة تبحث عن بديل

ان الرفض الشعبي للحكومة التركية، وفشل التدخل التركي في الازمة السورية، واصرارها على دعم التدخل الخارجي في سوريا، وفضائح الفساد التي عصفت بالحكومة. بالاضافة الى فشل التوجه الامريكي لـ "أسلمة" بلدان المنطقة وحشرها بموديل اردوغان، والهزائم التي تلقتها هذه الاستراتيجية في مصر وتونس، دفعت الولايات المتحدة، وحلفاءها داخل تركيا وخارجها الى ا لبدء بعملية البحث عن بديل، يضمن مصالح المراكز الراسمالية، التي بدات تعتقد ان دور حزب العدالة والتنمية وزعيمه اردوغان استنفد امكانياته لتلبية هذه المصالح.
ان هناك ثلاثة عوامل رئيسية ستحدد مستقبل تركيا السياسي وهي: الصراعات الداخلية في معسكر الحكومة وحلفائها التقليديين من قوى وجماعات الاسلام السياسي، عملية البحث من قبل مراكز الرأسمال العالمي، وحلفائهم الداخليين، عن بديل للحكومة الحالية شكلا ومحتوى. ومن الجهة الاخرى مواقف القوى الاجتماعية - السياسية المتنوعة المشاركة في المقاومة الواسعة للحكومة في الداخل التركي.

اليسار في تركيا - التطورات المتسارعة والاهداف

تفاجأت قوى اليسار بحجم وعمق حركة الاحتجاج ولم تكن مهيأة لتمارس دورا قياديا فيها، ولكن هذه الحركة ليست بالغريبة على اليسار، ولهذا كانت هناك مشاركة ملموسة لقوى اليسار، في الكثير من مواقع الاحتجاج. ولم يكن مستغربا ان نجد من يعارض، ويتحسس من اشتراك قوى اليسار المنظمة في الاحتجاجات، انطلاقا من الطابع العفوي للحركة، وهناك من يطالب بايجاد اطر تنسيقية، وعندما ناخذ في الحسبان سعة وعمق الحدث، فان المساهمة العددية لليسار تبقى محدودة، ولكن جذرية الحركة واستمرارها مرهون في جانب منه بمشاركة اليسار وموضوعية قراءته للتطور?ت. وعلى اليسار ان لايهتم كثيرا ببعض المثقفين، الذين يعانون من حساسية مفرطة اتجاه اليسار المنظم، سعيا منه لاحتكار المسرح السياسي. وهو مدعو لتوثيق الصلة بالمثقفين الذين يعارضون النظام السياسي الحالي، ويعملون جادين، ومن دون تحفظات من اجل الوصول الى تغيير يضمن الثوابت الاهم التي اشرنا اليها.
ونرى ان على قوى اليسار ان تركز على تحليل عواقب ونتائج هذه العمليات المعقدة والفوضى المحتملة،على اهميها، بل يجب عليها أن توجه جهودها، لوضع سياسة وطرح البدائل، التي يتمثل جوهرها في تجسيد حاجات ومصالح العاملين واوسع الفئات الشعبية، وتجاوز حالة التشظي التي تعيشها، وتعمل على تفعيل عملها المشترك، وتوسيع قاعدتها الجماهيرية. وان اكبر الاخطاء التي يمكن ان ترتكبها قوى اليسار هي المراهنة على هذا الطرف،او ذاك من القوى المتصارعة داخل المعسكر الحاكم. وعليها ان لا تبتعد عن اهداف الحركة الاحتجاجية.
وعلى اليسار ايضا تفنيد الافكار المضللة التي تجد لها صدى بين قطاعات من المجتمع، والتي تعتتقد ان حكومة اوردوغان، قد ضايقت وحجمت دور جماعة كولن، وكذلك ان حزب العدالة والتنمية بدون اردوغان سيفتح طريق المستقبل للبلاد. ولا يجوز ترك مستقبل تركيا للتنافس بين خيارين محافظين يدوران في فلك استراتيجيات الاسلام السياسي، والتجربة التاريخية لجماعة الاخوان المسلمين. ويجب فضح الاهداف التي تقف وراء الترويج لمثل هذه الطروحات، وتحديد الجهات المستفيدة منها، والتي تقوم بنشر هذه الاكاذيب. والعمل على مواجهة المشروع المحافظ بكل مح?وره، وعدم بعثرة الجهود في التعامل مع محور منفرد دون غيره.ان القوى المنظمة قادرة على مساعدة الشعب للخروج من دائرة الاختيار بين اهون الشرين، وطرح بديلها، الذي تطلب تعبئة اوسع فئات الشعب، ومن جميع التيارات السياسية صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير من وطنيين ويساريين. وهناك ضرورة لتعزيز دورة جبهة اليسار في المواقع التي اسست فيها، ودفعها بهمة الى امام، باعتبارها قوة جديدة، تحتاج الى التوسع والانتشار في عموم في البلاد

اهداف اليسار المرحلية

ويجمع متابعون وناشطون يساريون في تركيا على حزمة من المطالب والاهداف الانية، التي يمكن ان تكون مقدمة اساسية ومطلوبة للتقدم خطوات هامة على طريق تحقيق الاهداف الاستراتيجية الكبرى، منها:
– المطالبة والعمل على اجبار الحكومة الحالية على الاستقالة
- حل المنظمات والجماعات، التي تتبنى قراءات دينية متطرفة، والتي لا علاقة لها بحق الافراد بممارسة معتقداتهم الدينية بحرية كاملة.
– اصلاح السلطة القضائية، ومحاسبة القضاة، الذين اصدروا قرارات ادانة خدمة لمصالح الحكومة الحالية، وبالضد من نزاهة القضاء وحياده السياسي.
– تحميل رئيس الجمهورية الحالي مسؤولية لعب دور المنسق بين حزب العدالة والتنمية، والجماعات الدينية، بالضد من واجباته ومهامه الدستورية واقالته.
– تقديم المتهمين بملفات الفساد الى المحاكم، والوصول بالمحاكمات الى نهاياتها والغاء جميع قرارات الخصخصة، التى اتخذت في سياق عمليات الفساد.
– اطلاق سراح المعتقلين والسجناء السياسيين، في سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، واجراء المحكمات المطلوبة، من قبل قضاة مستقلين، ونزيهين.
– فتح ملفات الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب، واتخاذ الاجراءات القانونية والسياسية ضد المؤسسات والافراد المسؤولين عنها.
– اعادة هيكلة المجلس الاعلى للانتخابات، واشراك جميع القوى السياسية في عملية اختيار اعضائه، ودراسة المقترحات بشأن ايقاف التزوير والتلاعب بنتائج الانتخابات. والغاء العمل بالعتبة الانتخابية وشمول جميع الاحزاب بالمعونات الانتخابية، وتوزيعها بشكل عادل.