لله درّه من دستور .. أطلق عنان الذوات


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 4348 - 2014 / 1 / 28 - 19:24
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

المدّاحون فى هذه اللحظات المفصلية من تاريخ تونس صنفان: صنف يهلّل ويكبّر زاعما أنّ صياغة الدستور التونسى، والتصويت عليه مساران يثبتان بما لا يدع مجالا للشك، أنّ حزب النهضة حزب معتدل نجح فى تحويل مقولة «الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية» من حيّز الفكرة والشعار إلى الممارسة السياسية التى طبّقت بالفعل، على أرض الواقع. وبذلك استطاع قياديو الحزب أن يؤكدوا أنّهم نجحوا فى الاختبار بامتياز، وارتقوا من «السنة الأولى ديمقراطية» إلى السنة الثانية، بل إنّهم كتبوا عهد الأمان والوفاق وعلّموا سائر البلدان كيف تنسج خيوط الديمقراطية على الطريقة التونسية.

هذا دأب الفيلق الأول الذى ما انفكّ يردّد فى كلّ محفل أنّه «صانع الدستور والتغيير فى تونس» ينسب لنفسه فتوحات وعنتريات ناشرا سرديته مُبديا إعجابه بما كُتب من مقالات تُمجّد نجاحات حزب النهضة. أمّا الفيلق الثانى فقد انخرط فى نظم المدحيات جاعلا ذاته تحتل المركز مفتخرا بإنجازاته مادحا ما حقّقه من انتصارات. فالعلمانيون، الديمقراطيون، الحداثيون، المستنيرون، والحقوقيون وغيرهم من ممثلى المجتمع المدنى هم الذين «أجبروا النهضة» على التراجع، و«علّموا» قيادييها «أبجديات الديمقراطية» و«دفعوهم» إلى التفاعل مع مطالبهم، و«لقّنوهم» دروسا فى ثقافة حقوق الإنسان وفكر الحداثة، وهم الذين ما انفكّوا عن ممارسة الضغط، وهم الذين ناضلوا من أجل السير بتونس إلى برّ الأمان، وهم الذين «تعبوا» وأضناهم الاعتصام أمام المجلس التأسيسى فى البرد والقيظ.


وبقطع النظر عن «حقّ» كلّ طرف فى أن يصنع تاريخ بطولاته وفق تمثّله الخاصّ للأدوار التى اضطلع بها خلال سنوات الانتقال الديمقراطى، وتقديره لحجم التضحيات التى قدّمها والتنازلات والخسائر، وما تكبّده من متاعب فإنّ الإغراق فى مدح الذات والانتشاء بما حقّقته من مكاسب، والتمادى فى الإشادة بالانتصارات توجُّه يفضح نرجسيّة مفرطة، وهو أيضا مسلك غير مضمون العواقب لأسباب:

إنّ بناء الذات لا يتم بمعزل عن الآخر فلولاه لما اكتشفت القدرات وما أمكن ابتكار استراتيجيات المقاومة وعقد الإيلافات، ولولاه ما تحقّقت الانجازات ومعنى هذا أنّ التزحزح من موقع التمركز والاعتراف بإسهام كلّ طرف فى صياغة الدستور أمر لا مفرّ منه حتى لا نستطيب العيش فى كنف الاستقطاب ونعمل على إقصاء الآخر ونزيّف التاريخ.

إنّ تصنيف الفاعلين السياسيين وفرزهم على أساس الثنائيات المتقبلة: هم/ نحن، الممثلون للرجعية / الحداثة، الإسلام الحق/ الكفار، الزنادقة، الملاحدة، الأصيلون/ المتغربون، المدافعون عن الهوية العربية الإسلامية/ أيتام الاستعمار.. لا يعكس ما عاشه التونسيون خلال هذه الأشهر، وهم يعاينون عملية التصويت ويتعرّفون على هويّة المصوّتين ذلك أنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت فلم تعد كتلة النهضة على سبيل المثال، تصوّت بالإجماع على الفصول التى ترغب فيها بل تفتّت الأصوات وعبّر الفاعلون عن قناعاتهم بكلّ حريّة أعلنوا أمام الجمهور أنّهم ضدّ التناصف وضدّ حرّية الضمير وتحجير التكفير.. وصوّت عدد من المنتمين إلى الكتل الديمقراطية ضدّ التناصف، وتمكين التونسى / ة حامل الجنسية التونسية والجنسية الثانية من الترشّح للرئاسة، وصوّت البعض الآخر لفائدة الفصل الـ 38 الداعى إلى تجذير الناشئة فى الهوية الإسلامية عبر تعزيز مكانة اللغة العربية.. وهكذا ما عاد بالإمكان التصنيف وفق منطق التعارض إذ إنَّ المواقف ليست ثابتة ونهائية إنّما هى متغيّرة وفق اعتبارات مختلفة ومن ثمّة فإنّ التنسيب أمر ضرورى.


إنّ تجربة العمل معا لبناء «الجمهورية الثانية» اقتضت تعلّم فنّ المحاورة واكتساب مهارات التفاوض، واستعمال استراتيجيات متعدّدة من مكر وخداع ومراوغة وتراجع عن الوعود وغيرها، وهى مسائل تشترك فيها جميع الأحزاب ومختلف الفاعلين فى المجتمع المدنى وهذا يعنى أنّه ليس بإمكان أى طرف أن يدعى «أبوّة الدستور» وأنّه امتلك زمام القاطرة وكان فى موضع المسيّر والزعيم والمناضل والمعلّم والمحتكر للمعرفة والممارس للثقافة الديمقراطية والحقوقية بكلّ صرامة...

واهِمٌ من ينسب لنفسه كلّ العقلانية والطهرانية والكفاءة والقدرات والمهارات... واهِمٌ من يعتقد أنّه كان بلا أخطاء وأنّه كان صانع التاريخ بلا منازع. تاريخ الإقصاء ينطلق من لغة «علّمناهم»، «أجبرناهم»، ضغطنا عليهم.. وتاريخ مدح الذات يبدأ بـ«ناضلنا» و«تعبنا» و«بحّت حناجرنا» من أجل الديمقراطية والدولة المدنيّة.

لسنا بحاجة لخوض حروب حول «أبوّة الدستور» فأبجديات صياغة مجتمع العيش معا تفترض نسج خطاب مغاير وسرديّة نبرز فيها معا جنبا إلى جنب...وباختلافاتنا نبنى الغد لبنة لبنة.