مدينتان مدينتا ومستقبل واحد/ نجاحات اليسار الأمريكي.. هل ستؤدي الى ولادة رموز جديدة؟


رشيد غويلب
الحوار المتمدن - العدد: 4346 - 2014 / 1 / 26 - 23:01
المحور: اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم     

في الانتخابات البلدية التي جرت في الخامس من تشرين الثاني الفائت في الولايات المتحدة الأمريكية، حقق الاشتراكيون نجاحا لافتا في سياتل، وفي مينيابوليس. وكان الحدث الأبرز في السباق الانتخابي هو فوز الشخصية الليبرالية والمرشح الديمقراطي بيل دي بلاسيو بمنصب عمدة مدينة نيويورك، بحصوله على 73,3 في المئة من اصوات الناخبين، اي ما يساوي 752 الف صوت، وتحقيقه فوزا ساحقا على غريمه الجمهوري مايكل بلومبيرغ، المليادير الذي تقدر ثروته بـ 27 مليار دولار، والذي احتفظ بالمنصب لثلاث دورات متتالية، كما انهى فوز دي بلاسيو 20 عاما من تسلط الجمهوريين على المدينة.
ولم تتعد نسبة المشاركة في التصويت 25 في المئة ممن يحق لهم التصويت، وهذا يعكس ضعف قناعة مواطني الولايات المدينة في قدرة الانتخابات على احداث تغيرات سياسية جذرية. وقد اعتمد المرشح الديمقراطي برنامجا انتخابيا هو الأكثر تقدمية، بالنسبة للديمقراطيين، في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة الأمريكية، ووصف نفسه في كل مكان تواجد فيه بـ "رجل اليسار"، وتضمن برنامجه مطالبات الأغلبية، باعتماد سياسة اخرى في المدينة، سياسة قائمة على رؤية يسارية. كما ان حياته اليومية سهلت له طرح نفسه على انه مرشح الاوساط الشعبية، فهو لا يسكن كسلفه في احياء الاثرياء، وانما يسكن في حي بروكلين شديد الكثافة السكانية، والذي يسكنه تنوع عرقي واسع. ولا يذهب اطفاله لمدارس الاثرياء الخاصة، وانما يتعلمون في المدارس العادية العامة.
وفي انتخابات المجالس البلدية استطاعت القوى التي تقف الى اليسار من الحزب الديمقراطي تحقيق نتائج طيبة، ففي مدينة سياتل حصلت كاشاما ساوانت على 46 في المئة من الأصوات متخطية رئيس البلدية الحالي ريتشارد كونلين من الحزب الديمقراطي. وكانت كاشاما قد ترأست البلدية للمرة الأولى عام 2010. وقد خاضت الانتخابات ببرنامج يدعو لتحديد حد أدنى للأجور 15 دولارا في الساعة، وفرض الضرائب على الأثرياء، وإجازة العمل النقابي في الشركات الكبيرة العاملة في حدود بلديتها. وتمكن الاشتراكي تاي مور من الحصول على 37 في المئة من أصوات الناخبين، وهو ناشط في حملة "حركة لنحتل" المطالبة بتعزيز الحريات الشخصية. وفي صباح يوم الانتخابات قامت الشرطة بالإخلاء القسري لمنزل المرشح اليساري جيمي كيلي، وهو متقاعد. وقد ساهم في الحملة الانتخابية لكل من ساوانت ومور، اللذين ينتميان الى منظمة "المبادرة الاشتراكية"، مئات الشباب المتطوعين.
ويواجه دي بلاسيو مدينة مليئة بالصراعات والتناقضات. وتعود هذه الصراعات أولا الى عدم المساواة الاجتماعية، التي تشابه في نيويورك الظلم الاجتماعي القائم في البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. ان نسبة 1 في المئة الأكثر ثراء من سكان المدينة، التي تضم العديد من كبار المديرين والمسؤولين التنفيذيين في القطاع المالي وكذلك قطاع التأمين والعقارات، تكدس مبالغ خيالية، وتحول المدينة إلى أكبر متنزه في العالم للأثرياء، وفي نفس الوقت، يزداد عدد الملايين المهشمة من المواطنين، وترسل على نحو متزايد المزيد منهم إلى الفقر والفاقة. ويعيش حاليا ثلث اطفال المدينة تحت خط الفقر، وهناك 50 الف مشرد على الاقل منهم 20 ألف طفل، وهو اعلى مستوى منذ البدء بالإعلان عن هذه الإحصائيات.
وقد وضع دي بلاسيو، في خطبه الانتخابية، النقاط على الحروف، عند وصفه الاستقطاب الاجتماعي المتزايد في المدينة بـ "قصة مدينتين". ومع هذا الوصف الرمزي الماخوذ من رواية الكاتب البريطاني الناقد تشارلز ديكنز، يتماثل دي بلاسيو مع خطاب حركة "لنحتل الوول ستريت". ومن المفيد ان نشير الى وجود 400 الف مليونير مقيمين في نيويورك، وهو اكبر عدد تحويه مدينة في العالم، مقابل 7 ملايين انسان يشكلون نسبة 21 في المئة من سكانها، ويعيشون تحت خط الفقر . وطرح دي بلاسو بحيوية مقترحات ضد التباين الاجتماعي، والتي تضمنت ضريبة الاغنياء لتمويل دور حضانة مجانية للجميع، بناء او تجديد 200 الف مسكن اجتماعي، وانهاء التحقيق عن الهوية بناء على الشبهات، والتي تمارسها الشرطة في الشوارع ضد السود، اللاتينو، والمعدمين. الامر الذي دفع وسائل الاعلام اليمنية بوصفه بـ "الاشتراكي"، لغرض تخويف الناخبين، ولكن هذه المحاولة لم تات أكلها. وليس هناك شك ان مقترحات دي بلاسيو مرحب بها، ولكن العبرة في إمكانية تنفيذها على ارض الواقع.
اولا: توضع تحت تصرف عمدة نيويورك ميزانية تبلغ قيمتها 70 مليار دولار، ويمكن التصرف بجزء صغير من المبلغ ، اما حصة الاسد فتدفع لتسديد الديون ولتغطية مصاريف الادارة المركزية، ولتمويل برامج حواضر المدينة، والتي لا يمكن تقليص نفقاتها. وبالإضافة إلى ذلك تخضع لضوابط غير عادية تتعلق برفع الضرائب ، او تخصيص نفقات جديدة، تحتاج لموافقات صادرة من عاصمة الولاية. وارتباطا بهذه العقبات، ستصطدم وعود دي بلاسيو بواقع القيود المالية.
ثانيا: سيصطدم العمدة الجديد مع مجاميع اللوبي، التي كانت المستفيد الاول من سياسات سلفه، والتي مارست تاثيرا على السياسات التي كانت نافذة في المدينة. وعلى الرغم من النتائج الانتخابية التي حصدها دي بلاسيو، الا انه لم يستطع تحقيق اكثرية في أوساط مجموعة سكانية محددة، وتحديدا في أوساط الذكور البيض. والتي ما تزال خاضعة، كما في السابق، لهيمنة الرجال البيض، وهؤلاء غير مستعدين اطلاقا للتخلي عن امتيازاتهم. وسوف لا يكترثون بالعمدة الجديد وسياسته، ولم يحيدوا عن مسارهم المعروف.ومن المتوقع ان يلجأ دي بلاسيو الى حلول وسطية غير سارة، لمواجهة هذه النخب، التي لا ترحم، وهو امر يضع تنفيذ برنامجه الانتخابي التقدمي في خطر.
وعلى الرغم من ان دي بلاسيو يواجه تحديات كبيرة، ولكن عليه ان لاينسى ان نتائج الانتخابات الاخيرة تمثل في الواقع حدثاً ونتيجة تاريخية. وان دي بلاسيو ليس فقط اول عمدة خلال نصف القرن الاخير لا ينحدر من مانهاتن، وانما ايضا فاز في الانتخابات بفارق كبير عن منافسه، وهو المؤشح الوحيد في تاريخ المدينة الحديث، الذي حقق مثل هذه النتائج،على الرغم من انه لا يتقلد منصباً حكومياً. ويأتي نجاحه، نتيجة قدرته على اقناع طيف واسع ومتنوع جدا من الناخبين، غطى كل أجزاء المدينة، وانحدر معظمهم من الفئات الاجتماعية الدنيا والمتوسطة. و تاثر بحملته الانتخابية 2 مليون من الأمريكان - الافارقة، الذين صوت 96 في المئة منهم لصالحه، وقد عززت حملته، ولعبت دورا مركزيا فيها زوجته السوداء وأبناؤه منها. لقد هاجمت الصحافة هذه التعددية الثقافية، وادت الى تصويت السود والملونين الآخرين لصالحه، لقد صوت 87 في المئة من اللاتينو، و 70 في المئة من الآسيويين - الامريكان لصالحه، لانهم ركزوا على خلفية شخصية المرشح، وليس على محتوى برنامجه الانتخابي.
ومن الثابت ان نجاح دي بلاسيو في حكم نيويورك، وتنفيذ وعوده الانتخابية مرتبط باعطائه الاولوية لاحتياجات ناخبيه المتنوعة. وتبقى هذه الحقيقة اهم من كل الخطوات السياسية الملموسة، لتحقيق تحول نحو اليسار في السياسات المطبقة في المدينة عمليا. وبالتأكيد، فإن إصلاحا قانونيا ناجحا، سيكون مفيدا، من أجل البرهنة على امكانية العمدة الجديد، على فرض تحسينات ملموسة. و فيما يتعلق بالأزمة الهيكلية، التي تعيشها نيويورك ، فان المهمة الأكثر إلحاحا ، هو الاستماع الى الفئات الاكثر تضررا منها، هذه هي مهمته الرئيسية، ومهمة القوى والمنظمات اليسارية، هي تذكيره بأن عليه أن يرتقى إلى مستوى هذه المسؤولية.
كان ومازال الحديث يدور حول إمكانية ظهور يسار جديد يتمتع بشعبية في الولايات المتحدة. وفي مقالته التي نوقشت كثيرا، والموسومة "صعود يسار نيويورك الجديد"،يصف بيتر بينارت العمدة الجديد، بالشخصية الرئيسية في هذه الحركة. انه يشير لسوء الحالة الاقتصادية، خيبة الأمل السياسية وتغيير التركيب الديموغرافي للسكان، ليتحدى وجود الحزب الديمقراطي. ولكن هل يرتقي منصب عمدة نيويورك حقا، لمهمة بهذا الحجم ؟
ويؤشر الناشط اليساري المعروف توم هايدن بحق، في مقال له في صحيفة "الغارديان" البريطانية أن كلا من سلفي دي بلاسيو، رودولف جولياني ومايكل بلومبرغ، كانا قادرين على التأثير في السياسات على الصعيد الوطني. ولهذا لا يوجد سبب للتشكيك في قدرة بلاسيو للقيام بالشيء نفسه. ويذكر ديفيد كالاهان، احد مؤسسي حركة Think-Tanks »Demos« اليسارية ، إن عمدة نيويورك الأسطورة فيوريلو لاغوارديا، نجح في سياسته "الصفقة الجديد"، اعتمادا على علاقاته الوثيقة مع شخصيات سياسية اتحادية، وعلى قدرته في الحصول على موارد مالية من الحكومة الاتحادية. وهناك امثله على رؤساء لمدينة نيويورك استطاعوا التأثير على سياسة الاتحاد، وبالمقابل توظيف هذا التاثير، لاعطاء الاصلاحات التقدمية في نيويورك الزخم اللازم.
إن التنفيذ الواقعي لهذه الرؤية الجيدة، يتطلب من دي بلاسيو مواجهة خصومه السياسين ولوبي المصالح، بوضوح وعلى اساس قناعته السياسية. وفي نهاية المطاف كان دي بلاسيو مدير ناجحاً عام 2000 لحملة هلاري كلينتون لانتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك، وان أنصارها سيدفعونه باتجاه العمل المشترك مع النخب والشركات الكبرى. ومن الضروري العودة بالذاكرة الى هذا السياق، وكذلك الى مشاركة دي بلاسيو في الحركات الاجتماعية. وستكشف الاشهر القادمة، اي جزء من ماضيه سيطبع سياسته كعمدة لمدينة نيويورك.
وكثير من السياسيين قد وعدوا بتقليص الفجوة المتنامية بين الفقراء والاغنيا، الا ان الجزء الاكبر من هذه الوعود بقيت شفاهية، ولم تأخذ طريقها في التنفيذ. وفي الوقت نفسه تنتشر سياسة التقشف في جميع انحاء البلاد، التي يحاول أبطالها حمل الناس على الاعتقاد بأمكانية انقاذ انفسهم، اذا ما تركوا الناس الاشد فقرا يواجهون مصيرهم بمفردهم.
فهل سيوظف دي بلاسيو نجاحه الانتخابي التاريخي لتنفيذ اصلاحات تقدمية؟ ان ذلك يثير مخاوف الكثير من اصحاب الثراء الفاحش. وعلى اليسار ان يعمل كل ما بوسعه، لجعل العمدة الجديد امينا لصورته التي رسمها خلال الحملة الانتخابية.، واذا ما فشل اليسار في ذلك، فستظل نيويورك منقسمة على نفسها بين مدينة للاثرياء، واخرى لبقية السكان.
لقد ادى فوز دي بلاسيو الى خسارة اليمين لمدينة نيويورك، وهي خسارة كبيرة، وتعكس تآكل قاعدة الحزب الجمهوري الانتخابية في المدن الكبيرة، فمن بين 30 مدينة كبيرة في الولايات المتحدة الامريكية، هناك اليوم مدينتان فقط يحكمها الجمهوريون هي: انديانابوليس (انديانا) وفورت وورث (تكساس).
وفي الختام لا بد من الاشارة الى ان الحديث عن اليسار في الولايات المتحدة الامريكية، ينطلق من خصوصية التجربة التاريخية، والدور السياسي والاقتصادي، الذي تلعبه عالميا، وتوازن القوى السياسية، والاجتماعية السائدة، والجذور العميقة لمعاداة الشيوعية واليسار فيها، ووجود تيارات يمينية متطرفة، وحتى فاشية مؤثرة في الحزب الجمهوري، وهو ما دفع الحزب الشيوعي الامريكي، ضمن امور اخرى للدعوة للتصويت لصالح باراك اوباما في الانتخابات الرئاسية الاخيرة. وبالتالي فان المعايير السائدة في تقييم دور اليسار في اوربا، وفي قارات وبلدان اخرى في العالم لا تتماثل مع المعايير التي يعتمدها المتابعون في تناولهم لجديد اليسار في الولايات المتحدة الامريكية.
هل سيحقق بيل دي بلاسيو آمال ناخبيه؟
ـــــــــــــــ
المصادر:
,Zwei Stä-;-dte, eine Zukunft Ethan Earle, ND ، 18.11. 2013
-dir-k Grobe Aus UZ vom 15.11.2013
*****