المؤسسة الإعلامية السورية: ما لها وما عليها!


سلام عبود
الحوار المتمدن - العدد: 4343 - 2014 / 1 / 23 - 10:24
المحور: الصحافة والاعلام     

غُزيَ العراق تحت ذريعة أسلحة الدمار الكاذبة، ثم أُعلنَ دولة «محتلة»، من دون سند قانوني يجيز الاحتلال ويلزم المحتل تحمل تبعيات الاحتلال، لكن الأمر نفسه لم يكتب له النجاح، حتى هذه اللحظة، في سوريا، على الرغم من شدة الضغوط وتعاظم المخاطر. ما الذي حدث في مجال استخدام الذرائع؟ في سوريا، تنبه النظام السوري، منذ اللحظات الأولى، إلى موضوع الذرائع باعتباره العصب الحساس في تطوير مسلسل الغزو.
إن الذرائع ليست سبب الحروب، إلا في نظر المغفلين، وإلغاء الذرائع أو تغييرها، ليس دليلاً على تغيير نيات أو قرارات الحرب المبيتة. لقد أولى الاعلام السوري، والسياسي منه، بدرجة أولى، مهمة مواجهة الذرائع إعلامياً، وربطها بحركة تقدم مشروع الحرب. لذلك أعلنت الحكومة السورية مبكراً، على لسان أعلى مراجعها الحكومية، وبنسب وجرعات متفاوتة، أن سوريا لا تنفي امتلاك أسلحة كيميائية. ومع تصاعد الضرب على طبل «وجود وعدم وجود السلاح»، شرعت الحكومة السورية بإعلان موقفها بلغة صريحة وتامة، لكي تـُفهم معانيه بدقة بالغة، لا تترك مساحة ما للتأويل: نعم، لدينا مخزونات من السلاح الكيميائي. لفت فيصل المقداد، نائب وزير الخارجية، في حديث لوكالة «فرانس برس»، إلى أن تقرير الامم المتحدة عن استخدام السلاح الكيميائي في الغوطة، «لم يحمل جديداً لسوريا؛ لأن الحكومة السورية منذ البداية اكدت استخدام غاز السارين وسلمت تقارير مع ادلة ملموسة مصدقة من طاقمها الطبي وخبرائها في المواد الكيميائية». وأضاف: «لا أريد أن احكم على التقرير، لكنني أؤكد مرة جديدة أن سوريا لم تستخدم ولن تستخدم الاسلحة الكيميائية ضد شعبها» («المستقبل»، 17 أيلول 2013، العدد 4808، الصفحة الأولى).
المفاجأة الكيميائية الكبرى جاءت حينذاك من دولتي فرنسا وبريطانيا. فقد طور إعلامهما الرسمي ذريعة تكميلية، تسمح بمواصلة استمرار اللعب على موضوع الكيميائي، حتى في حال الاعتراف بامتلاكه وثبوت عدم استعماله. في هذه الحقبة انتقل الفرنسيون والبريطانيون إلى معادلة ذرائعية جديدة، عنوانها السيطرة على مخزونات الأسلحة، بحجة ضمان عدم وقوعها في أيد مجهولة، بما أن الحكومة السورية غير قادرة على السيطرة على نحو تام على أراضيها. أما الجرعة العملية من لعبة الذرائع، فقد أوكلت، كما هو مقرر في جدول أعمال الثورة، الى المعارضة السورية، التي بادرت فوراً إلى تأمين - تأسيس - الوجود الحسي للذريعة على الأرض السورية، من طريق إعلانها الاستيلاء على مواقع ذرية! ورغم طبيعة الخبر الفكاهية، لما ينطوي عليه من عبثية عسكرية وعقلية واجتماعية، إلا أن مؤتمرالقاهرة للمعارضة، الذي تزامن مع حادث الاستيلاء على مواقع الكبر الذري في دير الزور، وضع تلك المنشآت «الخطيرة عالمياً» تحت سلطة الحكومة المؤقتة، المكلفة إدارة المناطق المحررة، برئاسة غسان هيتو في 18 مارس/ آذار 2013. (نلاحظ هنا طبيعة التوليف الإعلامي الفني، الهادف إلى صناعة واقع افتراضي، لكنه منطقي في ظاهره: المواقع النووية في المنطقة الشرقية والرئيس هيتو كردي! كل شيء تحت السيطرة) (المستقبل 23 شباط 2013). لذلك تصاعدت مطالب فرنسا وانكلترا باقامة مناطق عازلة أو بتدخل يحمي البشرية من خطر هذه الأسلحة. ثم قامت فصائل من المعارضة بالإعلان غير مرة، عن أنها هي، لا إسرائيل، من هاجم مواقع الأسلحة الكيميائية. أما ضربات إسرائيل الجوية والصاروخية، التي نسبت الى المعارضة أحيانا، فتثير إشكالات قانونية دولية كبيرة، تتعارض في جوهرها، مع أخيلة صانعي ذريعة الغزو لحماية الأسلحة من الوقوع بأيد مجهولة. كيف جرؤت إسرائيل على ضرب مواقع يحتمل وجود سلاح كيميائي أو جرثومي فيها؟ ما الأثر البيئي والبشري الذي يحدثه عمل عسكري من هذا النوع؟ وإذا كان السلاح، بذاته، خطراً على البشرية، ألا يعدّ تدميره صاروخياً عن بعد تأكيداً عملياً على وقوع هذا الخطر العالمي الكبير؟ وهل حقاً لمثل هذا الفعل تأثير على قدرات النظام العسكرية يوازي حجم الخطر البشري والبيئي على المجتمع السوري؟ إنّ الإعلام الذرائعي لا يسأل. إنه يجيب فحسب من طريق إنتاج الذرائع، الكاذبة ونصف الكاذبة.
ذرائع متعددة الرؤوس
ولأن الحرب لم تنته بعد، فإن تطور سلسلة الذرائع لن تنتهي. بعد المخاوف من سقوط السلاح الكيميائي بيد مسلحين غير منضبطين ظهرت أخبار «موثوق بها» عن «نقل السلاح إلى حزب الله»، أي جرّ الحرب إلى بقعة أخرى (في العراق، الذي لا يملك جواراً مؤيداً، جرى اختراع ذريعة وجود عربات متنقلة لنقل السلاح الكيميائي). وحينما خمدت، لأسباب فنية خالصة، ذريعة حزب الله غير المنطقية، ظهرت أخبار «موثوق بها» جديدة عن السلاح الذي جرى تناسيه حتى الآن: الجرثومي. تقول صحيفة «الأخبار» في 26 تشرين الأول: «نشرت صحيفة لوتان السويسرية تقريراً عن إمكانية وقوع الاسلحة البيولوجية بيد «جبهة النصرة» في سوريا، بعدما جرى الاستيلاء ــ بحسب مصدر وصفته الصحيفة بـ«الموثوق به» ــ على احد المختبرات الضخمة التي تنتج اسلحة بيولوجية في حلب».
وتشير الصحيفة إلى أنه «في الوقت الذي ركّز فيه المجتمع الدولي على تدمير الأسلحة الكيميائية في سوريا، جرى تجاهل الأسلحة البيولوجية على نحو كامل، على الرغم من انها تمثّل تهديداً أخطر على العالم».
الآن يستطيع المرء تذكّر العبارة الشهيرة للناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ثم ما كرره جون كيري، عقب ظهور صور قتلى الكيميائي في الغوطة: إن هدف لجنة التحقيق هو البحث عن «وجود» السلاح، لا إثبات هوية من استخدمه. وهذا يعني أن استخدام السلاح من قبل النظام يجيز للولايات المتحدة ضرب سوريا. أما عدم ثبوت استخدامه أو استخدامه من قبل معارضين أو قوة ثالثة، فإنه يثبت ما ذهب اليه الفرنسيون والبريطانيون: ضرب سوريا ووضع السلاح بأيد أمينة. لذلك قال وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ، بعد يوم من القصف الإسرائيلي: «إن ضرب إسرائيل لسوريا لو صح، فهو يعني أن السلام العالمي في خطر، وعلى المجتمع الدولي الاسراع في حماية السلام، من طريق ايجاد حكومة في سوريا لا تعرض السلام للخطر!»، أي إن سوريا ستـُضرب عسكريا إذا استعملت السلاح الكيميائي، أو إذا استُخدم ضدها، وإذا امتلكت سلاحاً، أو إذا فقدت هذا السلاح!
هذه الحقيقة المتعددة الرؤوس يؤكدها ما جاء في صحيفة «المستقبل» (23 آذار 2013، العدد 4640): «حذر وزيرا خارجيتي بريطانيا وفرنسا ويليام هيغ ولوران فابيوس نظراءهما اﻷ-;-وروبيين من أن أداء دور المتفرج على ما يجري ميدانياً سيؤدي الى سقوط المزيد من القتلى، وقد يفجر الوضع في المنطقة بأكملها».
لقد فشلت خطة ضرب سوريا، ولم توافق سوريا على وضع السلاح بأيد أمينة، بل وافقت على تدمير وسائل إنتاجه، ونقله خارج أراضيها، لكي لا تحتاج اليد الأمينة الى حمايته بالقوة والغزو والضربات العسكرية. بهذا جرى استبعاد ذريعة حربية من قائمة ذرائع الغزو. قد يرى البعض في هذا التفسير ذريعة إعلامية أيضاً. ربما، لكن ذريعة إيقاف حرب، لا تشبه ذريعة إشعالها، في الحساب الأخلاقي على الأقل.
هذه المعادلات الذرائعية الدولية نستطيع أن نجد ما يشبهها في صور متنوعة، لكن بأحجام أصغر. بعد غزوة معلولا، ظهرت نداءات تطالب الشباب المسيحي بتجنب حمل السلاح للدفاع عن الأحياء والبيوت. ما السبب؟ لأن حماية الأوطان مسؤولية الجيوش وحدها. أمّا إذا أخفق الجيش في تقديم الحماية اللازمة، فيجب عندئذ طلب حماية عسكرية دولية. هذه وجهة نظر القمامين السياسيين المسيحيين، وعلى رأسهم رئيس القوات اللبنانية، الذين يرون في تعاطم نفوذ التكفيريين الاسلاميين مصدر رزق لهم. إن دائرة الذرائع تتسع وتضيق، طبقاً لمساحة وحجم ومكان صناعة الذريعة، لكنها تظل في النهاية مجرد ستر لغرض إصابة هدف محدد، مرسوم سلفاً.
من يراقب تطور الإعلام السوري في مجال التعامل مع موضوع الأسلحة الكيميائية، الشديد التعقيد، يسجل نقطة تفوق لمصلحته، مكنته من إدارة المعركة الدعائية بنجاح ملحوظ، لكن لم يكن الإعلام كله على هذه الدرجة من حسن التصرف. هذه المقدمة المسهبة توصلنا الى استنتاجين جوهريين، هما: أولاً، إن الاعلام الرسمي يتماسك حينما يدار مركزياً من أعلى، بحكم العادة. وثانياً: أنه يفقد تماسكه في الملفات الداخلية، وفي التعامل الأقل مركزية. وهذا في تقديري الملمح الجوهري لآليّة تشغيل الاعلام الرسمي.
نقد الأداء الإعلامي الحكومي
ليس من باب الاكتشاف القول إن إعلام السلطة السورية لا يعيش حالة صحية تامة، تتناسب مع حجم الخطر، الذي يعيشه المجتمع السوري عامة، وحجم الحاجات التاريخية المراد انجازها، من أجل حلّ الأزمة الراهنة، ومن أجل فتح أفق تاريخي مضمون وواعد لتطور المجتمع السوري ديموقراطياً.
ما انفكت معضلة النظام الاعلامية تكمن في أنه يحقق انتصاراته عسكرياً، من طريق إثبات عجز وفشل مشروع المعارضة الحربي. وهنا نرى أن الحقيقة الوجودية هي التي تقرر مفهوم الانتصار، لا التحول البنيوي في نمط التفكير والسلوك. إن المنظومة الحكومية والحزبية تنتصر بمقدار فشل الطرف الآخر، لا بمقدار تقدمها الفكري وتطور نشاطها الاجتماعي النوعي على أرض الواقع. هنا تكمن نقاط ضعف الإعلام الرسمي، فهو يرتكز على إنجازات المؤسسة العسكرية، التي تعتمد هي بدورها، بدرجة أساسية، مبدأ البقاء باعتباره الشرط الحاسم لإثبات فشل الآخر، وتالياً لتجسيد الصورة «العيانية» الواقعية للانتصار: الصورة الميدانية الحربية، لكن، ربما يعكس هذا الأمر بعضاً من معضلات اللحظة السورية المعقدة، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم العداء الدولي الذي واجهته السلطة، وشراسة الهجوم المسلح الذي واجهته المؤسسة العسكرية، لكنّ ذلك لا يجيب عن الدور الإعلامي، الذي يجب أن يكون مداه أبعد من معادلة الانتصار - البقاء، وأن يكون سباقاً، وريادياً، من طريق تقديم الانتصار على أنه تقدم في الميدان العقلي والاجتماعي والحقوقي والدستوري، قبل أن يكون انعكاساً أو صدى للمواجهات العسكرية. إن الإعلام الحكومي لم يزل عاجزاً عن أداء دور خلاق وتفاعلي يوازي حجم الخطر التاريخي الذي تتعرض له سوريا، وحجم الخطر الذي يواجهه مستقبلها، وحجم المسؤولية الملقاة على عاتق الإعلام، وهو يواجه مشروع الآخر، من خلال مشروعه الخاص، لا من خلال ضعف مشروع العدو. إنّ الإعلام الحكومي يقف موضوعياً في مرتبة أدنى من المتوقع في تقديم واجباته العقلية والروحية والثقافية والتوجيهية على نحو استراتيجي، متكامل، كمشروع للمستقبل. هذا الأمر نلحظه بوضوح عندما نقارن السياسة والإعلام بالمعارك الحربية. ففي جبهات الحرب مالت موازين القوى وحسابات الربح والخسارة الى ايجاد تحالفات أرضية عسكرية، ناجحة ومفيدة حربياً، مع مقاتلين، بعضهم يدرجون في عداد القتلة، لكن لم يجرِ، بنفس القدر والجرأة، التقدم نحو معارضي الرأي، ممن ثبتوا على مواقفهم الناقدة للنظام، وجاهروا في الوقت عينه، على نحو حازم، برفض التدخل الأجنبي والحل العنفي، والتكفيري خاصة. إن ما تحقق من خطوات في مجال توسيع الحقوق المدنية ربما يحسب على أنه جزء من عمليات ضغط الواقع، كما يرى الناقدون والناقمون، لكن، حتى لو جرى اعتباره كذلك، فهو تقدم أيضا، وهو تقدم نسبي إلى أمام، مقارنة بحجم التأخر والتدني في مشاريع وممارسات المعارضة. بيد أنه تقدم يجب أن يقرن بخطوات واسعة، ذات أفق بعيد المدى، ليضمن حرية حقيقية للمعارضة الديموقراطية، التي تؤمن بقيام نظام تعددي، مدني، يضع المواطنة، وحرية الرأي، وحرية التنظيم والمعتقد، في أعلى سلم أولوياته، ويرفض الحلول العسكرية والمشاريع الأجنبية.
الممثل السوري: قميص عثمان
لقد ظهرت تغييرات دستورية وحقوقية وسياسية ووعود بخطوات انتقالية أوسع، ظلت موضع تشكيك من قبل المعارضة وأعداء النظام. لكنها تشي جميعها بأن تغييراً ما قد طرأ على موازين القوى مارس تأثيره السياسي والثقافي أيضاً. وفي مجال الإعلام ظهرت فسحة لم تكن معروفة من النقد، ومن حرية إبداء وجهات نظر لا تتطابق مع وجهات نظر المؤسسة الحزبية الحاكمة. ولم يكن من غير دلالة ثبات موقف الإعلام من الفنانين – العاملين في مجال التمثيل التلفزيوني تحديداً - الذي أريد له أن يكون الفخ الأكبر المنصوب للاعلام السوري. فقد كان المرجح أن يقوم النظام بإعداد قوائم العار والمنع والتجريم لمن يبدي نقدا، وبذلك يغدو «الممثل المغدور» قميص عثمان جديداً، لا يستطيع أحد إنزاله من على سيوف المقاتلين، لكن ذلك لم يحدث، وبدلاً منه اندفع إعلام المعارضة الى الوقوع في الفخ نفسه، فنشأت صفحات طوال من قوائم «فناني العار»، وضع فيها كل من لم يقدم نفسه نصيراً لجبهة النصرة. بيد أن هذا القدر من التخطيط الإعلامي السليم والصبور لم يشمل حملة الفكر، الذين لبثوا يُنظر اليهم كمريبين، وربما مجرمين محتملين، على الرغم من وضوح فكرهم. هذه الخشية، سياسياً وإعلامياً، هي نوع من الخوف الايديولوجي، الذي يؤكد أن التغيير في هذا الجانب أصعب حتى من التغيير العسكري. فالمعروف للجميع أن المؤسسة العسكرية السورية لم تتمكن من امتلاك زمام نفسها إلا في الأشهر الأخيرة. وقد ترافق هذا مع تغيير كبير في أساليب القتال، مكنت المؤسسة من تحقيق نجاح ملموس في مواجهة المسلحين المعارضين، رافقتها اختراقات وتفاهمات وتسويات، قادت الى تثبيت بعض جبهات القتال وتقوية أخرى لمصلحة المؤسسة العسكرية. وهو دليل على أن التغيير عسكرياً قد يكون أسهل من التغيير فكرياً وعقائدياً، لأسباب ايديولوجية خالصة. لقد أشاع الاعلام الحكومي حالة من الفصام الروحي في نفس المواطن، من خلال رسم صورة خالبة، خالية من التوازن، تنقل من جهة أخبار المعارك قرية قرية، وشارعاً شارعاً، وتتحدث عن هجوم «كوني»، لكنها من جهة ثانية تبرز على نحو مبالغ فيه حالة الاسترخاء في الأماكن التي لا يصل إليها الإرهاب، حتى تبدو كأنها صور من عالم آخر. إن العالم السوري واحد تماماً، على الأقل في وحدة مشاعره وفي قلقه المصيري ومخاوفه الحياتية. لم يتمكن الاعلام من خلق معادلة تجمع بين تحدي الإرهاب وسبل تعبئة المجتمع المدني في حالة الحرب. فقد ضاع بين قطبين متنافرين من دون أن يجد توازناً منطقياً يوحد الصورة المتناقضة، وتالياً يضع المواطن في المناطق الآمنة في مواجهة المسؤولية الحقيقية الملقاة على عاتقه، التي يتطلبها الموقف الخطير. فمن برنامج يُسأل فيه المواطن: هل تحب سوريا؟ إلى برنامج يسأل في ليلة التهيئة الأميركية للضربة العسكرية: هل يتوافر الفروّج بكميات كبيرة في الأسواق؟ إلى مسؤول حزبي أو حكومي يتفقد دمار الأحياء المحررة ببدلة سهرة وربطة عنق، بينما يحيط به أطفال ونساء لم يغتسلوا منذ تسعة أشهر! نحن هنا أمام عالمين، لا يحترمان مشاعر بعضهما بعضاً، وفي الأقل يزرعان مشاعر عدم الاحترام والريبة. إنه إعلام مصنوع، يفتقر الى الخيال الضروري، الممكن، والى ردود الفعل الجذرية، لأنه يستمد قوّته من غيره، ولا يملك حرية الإبداع والجرأة الذاتية على مواكبة اللحظة الآنية القاسية وامتداداتها المستقبلية. إعلام يرسم صورة مشطورة الى نصفين، لكي يقابل بها الصورة الفصامية البشعة، التي صنعها الإعلام المعارض، المكونة من ثورة في الخيال وجحيم في الواقع