متى يتحرر العقل العربي من سلطة التقليد ؟


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 4342 - 2014 / 1 / 22 - 02:45
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

من تابع الحلقة التي خصصها برنامج "مباشرة معكم" لموضوع التكفير ، لا شك أدرك الطبيعة الوثوقية للعقلية العربية والذهنية التي شكلها فقه البداوة على مدى قرون خلت حتى غدت الأعراف دينا من الدين ، بل صارت جوهر الدين وأسّه . فعلى مدى القرون الماضية التي ميزها الانحطاط والجمود وإغلاق باب الاجتهاد وصار كل تجديد بدعة وضلالة ، ظل العقل العربي ينسج حوله شرنقة التقليد والاجترار فلا يفكر إلا من خلال ما أنتجه السابقون ولا يضيف إليها إلا ما تسمح به هوامش النصوص وحواشيها . لقد رسم هذا العقل حدود نشاطه وحدد طبيعة إنتاجاته ، وحقّر إسهاماته التي حكم عليها بالدونية حتى قبل البدء ، مقارنة مع ما أنتجه السلف ، لما كبّل قدراته وحجزها بمقولات أخطرها " ليس في الإمكان أحسن مما كان" . مقولات لا تكتفي بإشاعة روح الإحباط في النفوس ،بل تتجاوزها لمناهضة كل محاولة تتطلع إلى الندية ومزاحمة السابقين في "الإبداع" . مقولات تحكم بالفشل على كل المحاولات اللاحقة وتصادر حق الإبداع والقدرة على التفكير من كل الأجيال القادمة كما لو أن ملكة التفكير والإبداع خص الله بها أهل حقبة زمنية دون سواهم ، أو أنها زاد استنفذه السابقون فلم يفْضل عنهم شيء للاحقين . وما يثير الاستغراب والدهشة وفي نفس الوقت الامتعاض، هو أن الانتماء للقرن الواحد والعشرين انتماء بالجسد والمكاسب التقنية ، بينما الذهنية تظل نفسها تلك التي جاء الإسلام ليجبها فجبّته ، بل تلبست بتعاليمه لتكريس الأعراف وشرعنة البداوة في قيمها الحاطة لكرامة المرأة والمستهجنة لكينونتها . لا شيء تغير في متون الفقه وزوايا التعامل مع المرأة ، بل ظلت صورة المرأة العورة ، القاصر ، الفتنة هي نفسها تلك التي جاء الإسلام ليجبها فرسختها تلك الذهنية باسم الشرع والشريعة . ويظهر تسلط الذهنية الذكورية بخلفية فقهية كلما طالبت المرأة بحق من حقوقها الإنسانية أو سعت إلى إظهار كفاءاتها الفكرية والإبداعية ، حيث تتحصن هذه الذهنية بكل الأعراف وفقه البداوة للتصدي لمطالب النساء ومناهضتها ، بل ولتسفيهها . فالعقل المسلم عموما عقل ماضوي تكراري ، يقبل بالوصاية ، ويخشى السؤال والنقد والفحص . وهذا يضع العقل المسلم في تناقض مع العقل الغربي الناقد الذي ورث عن العقل اليوناني ملكة "الفحص" .
الإنسان الأوربي مارس وتمرّس على الفحص والنقد ، وواجه فكر الإكليروس بمنطق وشجاعة وانتهى إلى التحرر من التشريع البشري باسم الدين وبالتوقيع عن الله ؛ فيما العقل المسلم يواصل تجديد شرنقته الفقهية ويغلق منافذ الانفتاح على مكتسبات الحضارة الإنسانية . فهذا العقل المسلم يفرض على المسلمين أن يتحركوا في حقل ألغام ، حقل المحرمات ، ويقيس إبداعاته ويحاكم إنتاجاته بمقياس واحد ووحيد ، هو المقياس الفقهي ذو الحدين : الحلال والحرام . مقياس ينوء به العقل كلما تنقل بين الحقول المعرفية ( علوم ، فنون ، آداب ، حقوق ، رياضة ، اقتصاد الخ) . وخطورة هذا المقياس أن العقل المسلم يمارس الرقابة القبلية على إبداعاته ويخنع لسلطة فقهاء السلف بعد أن يبعث فيهم الروح داخل القبور فيخر لهم خضوعا وتبعية. بسبب هذا الأسر ، تصير للمؤسسة الفقهية، أيا كان الذي يمثلها أو يتطاول على سلطتها وإن لم يكن له من الفقه حظ إلا ما ندر بحكم المجالسة أو المصاحبة أو التنطع ، تصير لها سلطة الرقابة وتجسيد الضمير الفقهي الذي يتجسس على النفوس والقلوب والأفكار حماية للمحراب الفقهي الذي جعلت منه الإطار المرجعي الذي يحاكم الأفعال والأقوال وحتى النوايا . عقل يسمح بسمو سلطة الفقه على سلطة العقل والمنطق ، ويقبل بسيادة المشيخة على سيادة الشعب ، ويصر على قدسية العرْف وإبطال ما تعارض معه من حقوق ومطالب . فيكفي أن يرفع آخر متفيْقه عقيرته بتكفير إبداع فني أو عمل أدبي أو مطلب حقوقي أو اكتشاف علمي حتى يهتز وجدان غالبية المواطنين وتثور حميتهم وتفور دماؤهم في عروقهم حقدا وبغضا وكراهية لا تطفئ نارها سوى مقصلة السلطان أو طعنة غادر ( في موريتانيا احتج عشرات المواطنين أمام القصر الرئاسي مطالبين بإعدام كاتب بعد تكفيره ) . لا شيء يشفع لمن أفتى فيه متفيقه بالكفر والزندقة ، وإن حاور أو ناقش أو حتى اعتذر . فالتشدد والتكفير ملة واحدة وهما سواء على الفكر الحر والعقل المنفتح والمجتمع التواق إلى التغيير والارتقاء . فالزمن ثابت متوقف عند اللحظة التي أفتى فيها شيوخ القرون الغابرة في قضية ما ، بحيث لا تدور الفتوى مع علتها وجودا وعدما ، بل المجتمع هو المطالَب بأن يطابق فتوى السلف وإن غبر . وبهذا تظل مفاهيم : الكفر والإيمان ، دار الحرب ودار السلام ، الولاء والبراء ، أهل الذمة والجزية هي المحددة للإنتاج الفقهي وللإفتاء . أما فقهاؤنا المعاصرون فلا يزيد دورهم عن تطويع المجتمع ليطابق فتاوى السلف. وهذا ما يفتي به الدعاة والمشايخ في مواضيع عديدة تخص الدولة والشعب والأفراد والمؤسسات والقوانين والعلاقات الدولية . فلم يعد القرآن يفسره زمانه ولا لكل زمان رجاله .