سميرة


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4341 - 2014 / 1 / 21 - 15:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

طوال أكثر من عامين منذ بداية الثورة، كانت سميرة تتحرك بين بيتنا المستأجر في ضاحية قدسيا وبين واحد من خمسة بيوت أقمت فيها متواريا في دمشق. كانت تسير أمور حياتنا المشتركة، وتشارك في أنشطة الثورة ومبادراتها منذ البداية. خرجت سميرة في مظاهرة المثقفين، ونجت من الاعتقال. وقبل ذلك كنا في دوما في مطلع نيسان 2011، نشارك في تشييع ثماني شهداء سقطوا على يد قوات النظام، لكن دون علم أي منا بالآخر. كانت رزان زيتونة هناك أيضا، ودون تنسيق مع أحد منا أيضا.
لسميرة سيرة خاصة مع دوما. كانت قضت نحو 4 سنوات في سجن النساء في المدينة بين عامي 1987 و1991، ثم عاشت منذ أيار من العام الماضي نحو 7 شهور في المدينة والغوطة الشرقية، تشاطر رزان التعاون مع نساء المدينة وبناتها في إنتاج ما يعول إسرهن. هذا قبل أن تختطف في دوما نفسها في التاسع من الشهر الأخير من العام المنقضي.
في ذكرى خروجها من السجن في 26 تشرين الثاني الماضي قصدت سميرة المبنى الذي قضت فيه سنوات. كان تحت سيطرة جيش الإسلام بقيادة زهران علوش، المشتبه به الرئيس في اختطافها أو تسهيل الاختطاف. قالت للحراس إنها كانت محبوسة هنا قبل عقدين، وأنها تريد أن ترى المكان الآن وهي حرة. سمحوا لها أن تلقي نظرة من داخل البناء، لكن ليس أن تتجول في داخل السجن، وتبلغ المهجع الذي كان سجينة فيه.
كانت سميرة بدأت بكتابة يوميات عن الحياة في المدينة ونشرت بعضها على صفحتها على فيسبوك. بإحساسها المتفرد كانت تلتقط تفاصيل الحياة اليومية وما يتصل منها بمعيشة الناس، بلغة بسيطة وأسلوب مباشر.
سميرة مضادة للتجريد. وهي تحوز تلك الهبة العظيمة في الإصغاء إلى الآخرين، ومساعدتهم على البوح بمكنونات قلوبهم. كانت سمور موضع محبة كل من يعرفها لهذا السبب الخاص، ولكرم قلبها. كانت قادرة دوما على صنع أشياء كثيرة من أي قليل موجود.
أول مرة التقينا فيها في منزل أصدقاء مشتركين عام 2000 كانت سميرة تتكلم بصوت خافت. قلت شيئا متسرعا عن ميلها إلى التواري. تزوجنا بعد ذلك بعامين، ولم أكن أقدر وقتها كم أن هذا صحيح. خلال 12 عاما من الحياة المشتركة كان ظاهرا أن سمور تفضل ألا ترى، لا تحب إظهار نفسها، وإن كان يسعد قلبها أن يُعتَرف بما حققت.
كنت أدفعها دفعا إلى الخروج من البيت، إلى السفر إلى حمص والرقة واللاذقية...، لكن تفضيلها الأول كان أن تجعل من منزلنا المستأجر بيتا، لنا ولأصدقائنا.
كانت تحب أن نشاهد الأفلام السينمائية معا، وقراءة الروايات، وتعجبها... مقالاتي!
سمور كانت سعيدة جدا بما تقوم به في دوما من مساعدة الناس حولها. كانت تحبهم ووجدت في العيش بينهم ومساعدتهم بما تستطيع واجبا ورسالة.
في شريط قصير صوره صديق شاب لها في حزيران الماضي كانت سميرة تقول إنها تنام الآن دون خوف من الاعتقال، إن شباب الثورة هم الذين هروبها من مشق إلى الغوطة. كانت قطعت المرحلة الأخيرة من رحلتها إلى الغوطة على دراجة نارية خلف شابين من شباب الثورة.
حين تركتُ الغوطة متجها إلى الرقة في تموز الماضي انقطع الاتصال بيننا أياما. كتبت سميرة على صفحتها على فيسوك إني وعدتها أن أكون بخير، وأنها تتوقع أن ألتزم بوعدي. كانت تخشى عليّ مخاطر طريق مجهول، وبضغط وإلحاح منها كان شاركني الرحلة صديقنا الشاب المصور زياد حمصي، على غير ما كان يخطط حينها.
كنت خرجت لتوي من سورية، بضغط مستمرمنها، حين جرت محاصرة الغوطة تماما. صار خوفي من انقطاع الاتصال بيننا بفعل غلاء وشح الوقود الذي تعمل عليه المولدات الكهربائية الضرورية للاتصال بالانترنت كابوسا يوميا. لكن سميرة كانت مطمئنة طوال الوقت، وتقول إنه سيمشي الحال وتنضم إلي قريبا.
لم يكن في البال أن يتحقق ما هو أسوأ من الكابوس، فتختطف سميرة مع رزان ووائل وناظم من قبل ملثمين في دوما، المدينة التي تنام سمور فيها وهي غير خائفة من الاعتقال.
لا أتخيل فعلا أكثر خسة من اختطاف سميرة ورزان ورفيقيهما. لا شيء يداني هذه الخسة غير الخسة العريقة للنظام الأسدي.
وما أجده مؤلما على نحو خاص هو أن تكون سميرة اليوم مطالبة بتبرير نفسها أمام من تحيط بهم، تكوينا وتاريخا ودورا، علامات استفهام كثيرة، وهم أدعى إلى تبرير أنفسهم.
سمور وعدتِني أن تبقي بخير، ووعد الحرة دين!