تبدّل موقع الإسلاميين في الحقل السياسي السوري


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4331 - 2014 / 1 / 10 - 12:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

طوال أكثر من ثلاثة عقود شغل الإسلاميون السوريون موقعا تغييريا من الأوضاع العامة في البلد. هذا الموقع يشهد اليوم تغيرا كبيرا، يرجح أن يكون مديدا أيضا وكثير العواقب.
كان الإخوان المسلمون هم تيار "الإسلام السياسي" الرئيس بين ثمانينات القرن العشرين ومطلع الثورة السورية، وإن ضم في ثناياه مجموعات جهادية، كان من أبرزها "الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين" التي جرّت الإخوان، ليس دون تردد من طرفهم، إلى مواجهة مع النظام في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات، وآل الأمر بمن نجوا من قادتها إلى الانخراط في حركة الجهاد الإفغانية والعالمية.
بين مطلع ثمانيات القرن العشرين والثورة السورية كان الإخوان في موقع المعارضة للنظام الذي تحكم بالقوة بسورية (ولبنان والفلسطينيين). في العقدين الأخيرين من حكم حافظ الأسد ضمت سجون نظامه الإسلاميين مع يساريين وقوميين عربا وكردا، وفلسطينيين ولبنانيين، هذا وقت كان المجتمع السوري كله يسحق وتستبيحه المخابرات والنهب. عبر هذه الخبرة العامة الكبيرة، برز ضرب من شراكة في معارضة النظام الأسدي بين الإسلاميين والطيف المعارض العلماني. شراكة موضوعية، إن جاز التعبير، تنال منها في كل حين الفوارق الكبيرة في الحساسية والمخيلة ونمط الحياة والمثال الاجتماعي الذي يجري التطلع إليه. بعد عام 2000، وكان جميع السجناء اليساريين والقوميين قد خرجوا من السجون، وأكثر من بقي حياً من الإسلاميين، ظهرت علائم على التحول نحو ضرب من الشراكة الذاتية، أي التوافق في المنظورات والتفكير. على خلفية "ربيع دمشق" القصير العمر، وتراجع وزن المحددات الإيديولوجية في تفكير المعارضين العلمانيين، وهيمنة طرح ديمقراطي مجرد في أوساط المعارضة العلمانية، أصدر الإخوان المسلمون في أيار 2001 وثيقة باسم "ميثاق الشرف الوطني"، نصوا فيها على التزامات بشكل الدولة ونظامها السياسي تقربهم من الطيف المعارض العام داخل البلد، وتفكر في الإسلام بوصفه "مرجعية حضارية". وعبر مواقع إنترنت ناطقة باسم الإخوان أو قريبة منهم، وبرامج تلفزيونية قليلة، ولقاءات خارج البلد بين معارضين معروفين من الداخل وقياديين في الإخوان، تشكلت شبكة من التفاعلات بين عموم المعارضين والإسلاميين غير مسبوقة في تاريخ سورية منذ بداية الحكم البعثي. في أواخر عام 2004 أصدر الإسلاميون وثيقة موسعة بعنوان المشروع السياسي لسورية المستقبل، تجمع بين التزامات "ميثاق الشرف"، و"تؤصلها" فكريا وشرعيا، وتزكي مفهوما إجرائيا للديمقراطية متمركزا حول صندوق الاقتراع وحكم الأكثرية. وبعد حين أصدروا وثيقة حول الطائفية، تجمع بين المركزية الإسلامية وبين مساواة قائمة على: لم ما لنا (نحن المسلمون السنيون، ضمنا) وعليهم ما علينا. وفي خريف 2005 انضم الإخوان المسلمين إلى ائتلاف "إعلان دمشق" بعد الإعلان عنه بساعات، فيما شكل ذروة التقارب السياسي بين المعارضة في الداخل والإخوان المسلمين.
ثم بعد نحو شهرين من انضمامهم إلى "إعلان دمشق" أسهم الإخوان المسلمون مع عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري الذي كان انشق حديثا عن النظام وقتها، في تأسيس ما سمي "جبهة الإنقاذ الوطني".
ورغم أن الإخوان أعلنوا "تجميد" معارضتهم للنظام، بالتفاعل مع العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر 2008 ومطلع 2009، إلا أن النظام ذاته تكفل ببقائهم ضمن الطيف المعارض، وفي موقع الفاعل التغييري من حيث المبدأ. وعلى كل حال، عاد الجماعة إلى المعارضة بعد الثورة.
الملمح العام لأزيد من عقد من السنين هو محاولة الإسلاميين الدخول في الحقل السياسي السوري بالمشاركة مع غيرهم، ومن موقع معارض وتغييري غالبا.
بعد الثورة عرض عنصران جديدان فيما يتصل بشراكة الإسلاميين مع غيرهم من المعارضين.
أولهما تذمر متواتر ومسموع الصوت من محاولة الإخوان الهيمنة على مؤسسات المعارضة الجديدة التي تشكلت أثناء الثورة، "المجلس الوطني السوري"، ثم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" السورية. لا وجه لحصر اللوم بالإخوان عن محاولة الهيمنة، لكن يبدو الأمر محققا، وهو مصدر توتر وثقة متراجعة بين الشركاء.
العنصر الثاني والأهم هو صعود مجموعات إسلامية مقاتلة من خارج إطار الإخوان، تحمل إيديولوجية سلفية، وبعضها تشكيلات جهادية، تعتبر الإخوان أنفسهم علمانيين، وقد تُكفِّرهم. بعض هذه المجموعات، مثل داعش ("الدولة الإسلامية في العراق والشام") تكفر كل من خالفها، وتشكل قوة فاشية تعمل على السيطرة على الموارد العامة والحياة الاجتماعية في مناطق تواجدها، وتعمل على تحطيم المجموعات المدنية والعسكرية الأخرى المرتبطة بالثورة. بعض آخر مثل "جبهة النصرة" و"أحرار الشام" و"جيش الإسلام" ليس في سجلها جرائم مثل داعش بعد، لكن منظوراتها الفكرية والسياسية لا تبعد عنها كثيرا. والمشترك بين هذه التيارات أن قادتها كانوا في سجون النظام على خلفية ظهور مجموعات جهادية بارتباط مع الصراع العراقي، وبارتباطات متناقضة مع الأجهزة السورية. لسنا هنا حيال تيارات سياسية جرى تهميشها وقمعها فاتجهت قطاعات منها نحو التطرف، بل حيال مجموعات لا سياسية جوهريا، تشبه أجهزة المخابرات أكثر مما تشبه الأحزاب السياسية. العالم الفكري لهذه المجموعات لا يتعدى الأدبيات التحريضية والتعبوية الركيكة للسلفية الجهادية، وسمتها المشتركة الضمور التام للبعد الروحي والإيماني للتدين الإسلامي ذاته، فضلا عن كل ما له علاقة بالعالم الثقافي والأخلاقي الحديث.
تبدو هذه التحولات خطوة ثانية في التطور النكوصي للدولة والسياسة في سورية، بعد الخطوة الكبيرة الأولى المتمثلة في نشوء المملكة الأسدية. شكل تعثر الثورة السورية مناخا ملائما لخطوة نكوصية ثانية تتمثل نشوء إقطاعيات عسكرية دينية، تشكل مملكة الأسديين نموذجا قياسيا لها.
في المحصلة هناك تحول في موقع الإسلاميين من فاعل تغيير من حيث المبدأ إلى عبء وطني واجتماعي كبير، وإلى قوة تفتت وتجزؤ تكمل الفعل التحطيمي الأساسي للفاشية الأسدية. وهو تحول مترافق مع إعادة تشكل الخريطة الإسلامية ذاتها لمصلحة التيارات السلفية، المجاهدة منها والجهادية، وعلى حساب التيار الإخواني.
ماذا يحتمل أن يكون تفاعل الإخوان مع هذا الوضع؟ واضح اليوم أنهم ليس متن القوى الإسلامية، ولا هم مظلتها الجامعة العريضة، ولا في موقع قيادتها. وبينما لا يبعد أن "يتسلّفوا" على نحو كان المرحوم حسام تمام قد شخص ما يشابهه قبل سنوات بخصوص الإخوان المصريين، فإنه لا يبعد أيضا أن ينقسموا بفعل عملية التجذر السياسي النفسي الكبيرة الجارية في بيئات سنية سورية، وإعادة التشكل الواسعة في أوساط الإسلاميين. سبق لعملية تجذر سابقة بعد الانقلاب البعثي الأول أن تسببت في تمايز الإخوان الشوام (الدمشقيين) بقيادة عصام العطار عن الإخوان الحلبية والحموية (مروان حديد، عبد الفتاح أبو غدة وآخرين)، ومن طبائع الأمور أن تتسبب تحولات برية وزلزالية، غير مستوعبة وغير متحكم بها، في إعادة تشكل واسعة في إطار الإخوان أنفسهم، وقد يكون الانقسام بين حلبية (بقيادة المراقب العام السابق علي صدر الدين البيانوني) وحموية (بقيادة المراقب العام الحالي رياض الشقفة) أحد تجلياتها.
ختاما، لن يتأخر هذا التغير الكبير في موقع الإسلاميين، في سياق إعاة التشكل الواسعة الجارية في البلد، عن حفز تفاعلات فكرية وسياسية مناسبة، مغايرة ومعاكسة لمسار العقود الثلاثة الماضية، وفي اتجاه علماني تحرري (مقابل العلمانية الفاشية للأسديين ووكلائهم الإيديولوجيين). لا ريب أن المواجهة المستمرة مع النظام الأسدي تضعف إمكانات التمايز الفكري والسياسي على المستوى الوطني، وضمن الإسلاميين أنفسهم، إلا أن المعركة مفروضة من قبل المجموعات الفاشية المتشددة، والصراع لم يعد خيارا.