منظورات ضيقة في التفاعل السوري التركي


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4327 - 2014 / 1 / 6 - 15:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

باستثناء مجموعات تروتسكية صغيرة، للطيف الأوسع من اليسار التقليدي التركي موقف يترواح بين التشكك والعداء حيال الثورة السورية منذ بداياتها. التنظيمات الشيوعية ذات الأصول الستالينية معادية كلها للثورة، وكذلك ما يسمى هنا "اليسار القومي"، وهم مجموعات يسارية موالية لمشروع أتاتورك التحديثي.
والانطباع الذي يكونه الشخص المهتم أن جذور هذا الموقف تعود إلى أمرين.
أولهما النظر إلى الصراع السوري من منظور الموقف من حكومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وفي هذا يشارك حزب الشعب الجمهوري أيضا، الحزب المعارض الرئيسي. في مناسبتين مختلفتين كان أول ما يقوله محدثونا عن الشأن السوري هو شيئا عن... رجب طيب أردوغان. يلزم الإلحاح كثيرا على أننا نتكلم عن سورية، وليس عن أردوغان وتركيا، كي يستقيم النقاش، وقلما يستقيم. في حالة ثالثة كان عليّ الاستماع إلى شروح عن الوضع السوري، تشابه ما يقوله الفاشي مهراج أورال، بطل مذبحة بانياس.
الشيء الثاني هو الموقع القيادي في اليسار في تركيا الذي تشغله مجموعات يتركز تفكيرها بقدر كبير حول سياسات الهوية، الكرد من جهة والعلويين من جهة ثانية. كانت المجموعتان، وكل منهما تمثل نحو خمس سكان البلد، ضحية السياسات القومية الأتاتوركية النزاعة نحو محو الفوراق الثقافية، وصنع تركية حديثة متجانسة وموحدة اللغة والثقافة والتفكير والإرادة. ومنذ قيام الجمهوررية عام 1923 حتى وقت قريب كان في تهميش الهوية عنصرا طبقيا، يتضمن هامشية اجتماعية وفرصا للترقي الفردي والعام أقل من المتوسط الوطني، بخاصة فيما يتعلق بالكرد.
لكن للانفتاح السياسي النسبي للنظام التركي في العقد الأخير تأثيرا متناقضا على سياسات الهوية هذه. فمن جهة توفرت لها مساحة متسعة للتعبيرعن نفسها، والظهور في الفضاء العام وصولا إلى إشغال موقع مهيمن في الطيف اليساري التركي؛ ومن جهة ثانية ظهورها كحركات هوية متمركزة حول مطالبها الخاصة، وغير مؤهلة لقيادة حركة تغير اجتماعي تعيد النظر في أسس الجمهورية الأتاتوركية من منظور تحرري. وقد يمكن القول أيضا إنها تسهم في تغذية الاستقطاب المتصلب في الساحة السياسية التركية، بين حزب العدالة والتنمية الذي يتابع سياسات هوية خاصة به، ويتكلم على "نحن" و"هم"، وبين طيف معارض متنوع، يستنفر بعضه الجمهورية الأتاتوركية التقليدية في وجه العدالة والتنمية، ويتطلع قسم آخر منه إلى تجاوزها، ودخول تركيا طورا سياسيا واجتماعيا جديدا، بعد قومي وبعد أتاتوركي، لكنه لا يبدو قردا على كسر الاستقطاب المتصلب المشار إليه. كان لافتا في مظاهرة علويين في اسطنبول في 3 تشرين الثاني 2013 أن رفع بعض المتظاهرين العلم التركي وقد طبعت عليه صورة أتاتورك. وكان ظاهرا أن صورة "الغازي مصطفى كمال" عنصر رمزي في حقل سياسي إيديولوجي، يشغل فيه موقعا "علمانيا" مضادا لإسلاميي حزب العدالة والتنمية. العلمانية التسلطية المفتقرة إلى مضمون تحرري، على نحو يذكر بـ"علمانية" بشار الأسد، لا تفيد إلا في تثبيت البنية الاستبدادية الموروثة للجمهورية التركية. حزب العدالة والتنمية ليست تجاوزا للأتاتوركية، إنه بالأحرى أتاتوركية مقلوبة، "إسلامية".
تبدو تركيا اليوم في حالة حرب أهلية باردة، قد تتفجر حربا ساخنة، إن لم تتجاوز شرط الاستقطاب المتصلب الحالي، في سياق ينفتح على تجاوز الجمهورية الأتاتوركية ككل.
منبع التشوش الأساسي عند المعارضة في تركيا حيال الصراع السوري هو مقاربته من منظور متمركز حول تركيا وصراعاتها واستقطاباتها (فضلا عن محدد بنيوي مديد، هو الصورة السلبية للعرب في الثقافة والإعلام التركي على نحو ما أظهره المثقف اليساري التركي تنل بورا في مقالة ترجمت إلى العربية مؤخرا). سورية نفسها غير مرئية. المجتمع السوري غير مرئي. تاريخ سورية الاجتماعي والسياسي غير مرئي وغير معروف. والمشكلة أنه إذا كان من هم ضد الحكومة مناهضون للثورة السورية في معظمهم، ويتبنى غير قليلين منهم الخطاب الأسدي حيالها (مؤامرة امبريالية، صراع ضد الإرهاب والقاعدة)، فإن من الموقف المساند لمن هم مع الحكومة يفتقر، بحكم الموقع، إلى مضمون قيمي مستقل، وتقيده اعتبارات سياسية محلية ودولية ضيقة، تجرده من أي بعد تحرري.
وهكذا تدفع الثورة السورية غرم مناهضة المعارضة التركية لها، دون أن تستفيد كثيرا من غنم مساندة الحكومة.
لكن ضيق المنظور لا يقتصر على الجانب التركي. في الجهة السورية نعاين الضيق نفسه ولأسباب سياسية ضيقة بدورها، يغيب عنها البعد القيمي، وكذلك أية معرفة جدية بالمجتمع التركي كذلك.
لا يقتصر الأمر هنا على ميل عام إلى موقف سلبي من طرف المعارضين السوريين حيال احتجاجات تركية نشطة على الحزب الحاكم وسياساته، بل إلى ما يقارب التجاهل التام لما يجري في المجتمع التركي من تيارات سياسية وفكرية، ومن حركات اجتماعية، يحتاج مئات ألوف السوريين المقيمين في تركيا حاليا إلى معرفة المزيد بشأنها. هنا أيضا يجري تحكيم منظور ضيق متمركز حول ما يفترض أنها مصلحة الثورة بالموقف من الشؤون التركية. سيكون مساندو الثورة إلى جانب الحكومة التركية استنادا إلى اعتبار سياسي نفعي بالغ الضيق، وهو ما يضعهم خارج وضد حركة الاحتجاج التركية، وفي موقع أسوأ لطلب التفهم والمساعدة من المعارضة وقطاعات من المجتمع في تركية. ليس هناك ما يوجب على المعارضين السوريين استعداء الحكومة التركية أو الاستخفاف بحساسياتها، لكن من باب التضييق على النفس أن تمر علاقة السوريين بتركيا حصرا عبر الحكومة، وعبر حزب حاكم اليوم، وقد لا يكون حاكما غدا. إن لم تكن أية اعتبارات قيمية، الحصافة وحدها تقتضي مد اليد إلى المجتمع التركي وإلى القوى الاجتماعية السياسية والثقافية التركية. هناك ناشطون ومثقفون في تركيا مساندون لكفاح السوريين ومعارضون لحكومة أردوغان، وهم يجدون أنفسهم في وضع صعب ضمن الطيف المعارض التركي، وضع لا يسهله عليهم السوريون الذين يكادون يقولون لهم: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا معنا إن لم تكونوا مع أردوغان أيضا!
آخر ما يحتاجه السوريون توسع دائرة خصومهم. إن مزيجا مرنا من التعاون مع الحكومة التركية، ومن الانفتاح وتوسيع مجالات التعاون مع المجتمع التركي المتنوع، هو ما يمكن أن كون أساسا لسياسة ملائمة للثورة في هذا البلد الكبير والحيوي. هذا فوق أن فرصتنا أكبر في الاعتراض على سياسات المعارضة التركية حين نحن لا نحصر محاورينا الأتراك في الحكومة وحدها.