هل الدم والحرب طريق العقلانية؟


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4306 - 2013 / 12 / 15 - 14:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


تتجمع في المنطقة اعاصير حروب دموية وتاريخية محتملة يحتاج تفاديها إلى قادة وسياسيين ذوي نظرة مستقبلية ثاقبة, وكذا شعوب واعية غير غرائزية ونخب ثقافية نقدية وطبقات عريضة وعميقة من المجتمع المدني المعادي افتراضا لفكرة الحرب. تنخرط دول اقليمية ودول كبرى وجماعات عابرة للحدود في تسعير احتمالات تلك الحروب بشكل اعمى وبإنجذاب الهوام إلى النار القاتلة. نرى ذلك في سوريا الآن التي تلتقي فيها كل انواع القوى والتنافسات والصراعات, وعلى حساب الشعب السوري المسكين طبعاً. بيد ان فيضان الحرب المدمرة والطاحنة عن الجغرافيا السورية يكاد يكون مسألة وقت وحسب. الحرب كائن خرافي غامض يسيطر على البشر ويجذبهم إليه بطرق رهيبة, فيتقدمون إليه بكامل رغبتهم وإرادتهم ويقدمون انفسهم وشعوبهم إليه قرابين من اجل تحقيق ما يرونه مصالح وغرائز نفوذ ورغبات توسع دفينة وقاتلة. بعد انتهاء الحروب الطاحنة والمدمرة والتي تستمر لسنوات ليس هناك شيء مؤكد, إذ يبدو "النصر" مثخنا دمويا ومثخنا بالاكلاف, ولا تدري عوائل ملايين الضحايا لماذا سقط ابناؤها وهم في ريعان العمر. الشيء الوحيد المؤكد في الحروب الطويلة هو الكلفة الهائلة. الحرب الايرانيةـالعراقية استمرت ثماني سنوات وسقط جراءها ما يقارب من مليون ونصف المليون من الايرانيين والعراقيين, فماذا كانت نتيجة تلك الحرب؟ من الذي انتصر ومن الذي انهزم, وهل استحق اولئك المساكين الذين قضوا ان تطحن اجسادهم في ذلك الجنون المتبادل بين حكام نزقين ومستبدين وتنقصف اعمارهم بتلك السرعة؟ هل تحتاج كل منطقة من مناطق العالم ان تسقط في هاوية حروب طاحنة وطويلة حتى تتأكد من عدمية الحرب, ومن وحشية هذا الكائن الجبار, ثم تؤوب إلى عقلانية ورشد تقودها إلى تسوية صراعاتها وتنافساتها بطرق اخرى؟ والسؤال الاكثر إلحاحا وإدهاشا هو لماذا لا يتعلم القادة والشعوب من دروس التاريخ المتاحة على امتداد قرون سحيقة ومنذ فجر البشرية, وهي تعرض سلاسل الحروب الوحشية والمدمرة واحدة إثر الاخرى امام الجميع, وكل واحدة من تلك الحروب يزنرها الحطام وملايين القتلى؟ ما هو السر الدفين في جاذبية الحرب القاتلة التي تخرج البشر عن عقلانيتهم ورشدهم وإمكانية توصلهم إلى حلول وسط توفر عليهم اكلاف الدم. أم ان كل هذه التساؤلات ساذجة في وجود نزعة الشر الدفينة عند البشر, وان الحرب هي سمة من سمات وجودهم الشقي التي عليهم ان يتعايشوا معها الى الابد؟
سقط في الحرب العالمية الثانية ومسرحها الرئيسي اوروبا ما يقارب من سبعين مليون قتيل, وفي الحرب العالمية الاولى ازيد من ستة عشر مليون قتيل. وقبل ذلك بقرون ثلاثة, وتحديدا ما بين الربع الاول من القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن السابع عشر انخرطت اوروبا في سلسلة حروب دينية طاحنة لو وجدت فيها ذات الاسلحة المتقدمة التي توفرت في حروب القرن العشرين لربما ابادت اوروبا ذاتها. لماذا لم تتعظ اوروبا الحداثية من اوروبا القروسطية وتتفادى الحرب والثمن المخيف الذي دفعته في القرون التالية؟ ليس هناك جواب على هذا السؤال المحير, كما ليس هناك اجوبة مكتملة على قصة ديمومة الحرب في التاريخ الانساني واستمرار هذا النزعة الانتحارية الجماعية في قلب ممارسات الجنس البشري. من السهل الإحالة إلى دوافع المصالح وطموحات السيطرة وجنون العظمة عند القادة, لكن هذه الاجابات المباشرة لا تفسر لنا بالعمق المطلوب السؤال الوجودي حول جاذبية الحرب القاتلة وانقياد البشر والشعوب لها بعماء مدهش خاصة بعد ان اثبتت عبر التاريخ دمويتها وإرثها المدمر. في الحروب الطويلة ليس هناك منتصر بل الكل مهزوم ومُدَمر, واثمان الانتصارات الكبيرة في الحرب واكلافها في جانب الطرف المنتصر لا تقل كثيرا عن ما تكون عليه في جانب الطرف المهزوم. يبقى لغز الحرب وارتباطه العضوي بالجانب المتوحش من الإنسان واحدا من الالغاز الكبرى التي واجهت فلاسفة ومفكرين ومنظومات قيم ويوتوبيات حاولت ان تطرح بديلا سلاميا لبشرية منزوعة الحرب.
اوروبا والغرب بعد الحروب العالمية الدموية تعقلنت ولو مرحلياً. دموية حروبها المخيفة وانهار الدماء التي لطخت جغرافيا القارة بطولها وعرضها دفعتها إلى شن حرب جماعية تعاونية ضد فكرة الحرب العسكرية. بمعنى ما, عقلانية اوروبا والغرب الراهنة في إدارة العلاقات الداخلية (وليس العلاقات الخارجية لأن الحرب مع الخارج بقيت إلى يومنا هذا) هي نتاج الكلفة الفلكية التي دفعتها شعوب القارة ودولها في حروب الدم. اوروبا “المنتصرة” في الحرب الثانية (دول الحلفاء), لكن المحطمة اقتصاديا وبشريا وعمرانيا, قررت التعاون مع اوروبا “المهزومة” (دول المحور), وحجر الزاوية في ذلك التعاون إحتواء المانيا التي كانت على الدوام العدو الاشد على الجبهة الشرقية. في آسيا ايضا وبعد هزيمة اليابان تم احتواؤها, وكما كان الحال مع المانيا, فإن جوهر الاحتواء كان تحويل الطاقة العسكرية الجبارة لدى المهزومين والمنتصرين معاً إلى طاقة اقتصاد وتنمية, ونقل المعارك العسكرية والتنافس الدموي على النفوذ والسيطرة إلى ميدان التجارة والاستثمار والتقدم التقني. لا يستطيع احد ان يتكهن في ديمومة هذه العقلانية ومدى نفوذها الى المستقبل وهل ستستمر قرونا قادمة ام تعود اوروبا لحروبها الداخلية؟ لكن الرعب الذي يكمن تحت السطح من عودة تلك الحروب هو الذي يدفع إلى بناء خطوط دفاع متتالية ضد بروز اية نزعات عسكرية. فهناك ابتداء خط الدفاع الاول وهو الديموقراطية والتي تعبر سياسيا وثقافيا عن إرادات الشعوب, وهي إرادات في مجملها العام وتياراتها العريضة تكره الحرب وتقف ضد استبداد القادة السياسيين والعسكريين وغطرستهم ممن تقودهم شهواتهم العسكرية إلى حروب مدمرة. وهكذا فإن التخلص من الاستبداد ومن القادة المستبدين المهووسين بالعظمة هو اول واهم ضمانة ضد الحرب. ثم هناك التعاون البيني الوثيق والعضوي على مستوى الاقتصاد والانتقال بين الدول والفن والتبادل التجاري والمتجسد في هيئات ومؤسسات الاتحاد الاوروبي والتي تهدف إلى تعزيز العلاقات السلمية وتعظيمها بحيث تنعدم احتمالات العودة للحرب. صحيح ان التنافس والغيرة والصراع في مجالات الاقتصاد والتجارة هو اساسا سبب رئيس من اسباب الحروب, لكن مأسسة تلك الصراعات ضمن اطر تعاونية جوهرها وجود تسويات سلمية قائمة على مبدأ “الكل رابح” هو ما يقلل احتمالات الحرب.
هل بالإمكان ان يقدم التاريخ الاوربي بالغ الدموية وبالغ الاكلاف والذي انتقل الى التعقلن والعقلانية درسا لتفاديه برسم الاستفادة من قبل بشر منطقتنا وللمتطفلين فيها والقوى التي تريد تحويلها إلى ساحة حرب كونية جديدة؟ هذا هو السؤال الكبير الذي تحدد الاجابة عليه مصائر ومصير مئات الملايين الآن وهنا.