لم يصل -نجم- امستردام ... تجازوها


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4299 - 2013 / 12 / 8 - 19:17
المحور: الادب والفن     


منذ ازيد من ثلاثة شهور اتصلت فريبا الهولندية الايرانية الاصل من مؤسسة الامير كلاوس في امستردام وزغردت لي النبأ: احمد فؤاد نجم فاز بالجائزة السنوية الرفيعة للمؤسسة الرصينة, ويتسلمها في الحفل المهيب يوم 11 ديسمبر 2013. تخبرني فريبا بالنبأ لعلاقتي المباشرة بالموضوع, وتريد رقم تلفونه او تلفون "نوارته" كي تعلمه بالقرار. رغم فرحي الطفولي الهائل لم يكن مسموحاً لي إبلاغه النبأ بكوني من رشحه للجائزة ومن دون علمه. كان الورد كله قد "تفتح في جناين صدري" وشعرت بهواء طازج يملؤه. تفكك في داخلي مباشرة ودفعة واحدة شبح ذنب كان قد تراكم خلال السنوات الماضية, وانا افاتح اصدقاء كثيريين بضرورة ترشيح "نجم الدنيا وامها” لجائزة امستردام المخصصة لمبدعين من العالم الثالث. في كل عام وفي الحفل البهي الذي تنظمه المؤسسة ويرعاه القصر الملكي اعاتب نفسي وانا ارى الجائزة تجوب العالم من افريقيا, الى امريكا اللاتينية, إلى الصين, الى آسيا الوسطى. كنت أرى نجمه يطوف في سماء المدينة, ويلتف حوله مثقفون وفنانون من كل رياح الارض. الآن انفكت عقدة التأثيم السنوي وفاز "نجمنا" من بين عشرات المرشحين. عندما انفتح عقد الثمانينات في عمره زاد قلقنا. قد يسبقنا الموت إليه, فلا يمر بأجواز سماء المدينة الغنية بالثقافة, ويوقع على هوائها قبلات ابدية من شفاه "بهية". اردناه نجماً صاخباً بالحياة هناك, قبل ان يتحول إلى نجم صامت في السماء. كان نجم السماء اسرع!
كانت امستردام وبردها الدافيء وضيوفها المتجمعون بعد غد الاربعاء ١١ ديسمبر في انتظار عاشق الارض وبهية والناس والثورات. كان النيل قادماً إلى المدينة العريقة, بكل عنفوانه وهدوءه, بحكمته وطيشه, بغضبه وحزنه, برصانته ونزقه. كانت المدينة وبعد الإعلان عن فوز النجم بالجائزة تنتظره "بسبع وسائد محشوة بالسحاب الخفيف, وبرائحة البخور النسائي ملأ المكان", وأغنيات تركها نجم آخر لنا معلقة هنا في سقف المدينة يوم فاز بذات الجائزة عام 2005.
هنا دار ميريت للنشر: محضن الكلمات هنا, عين النص هنا تحارب مخرز السلطان. هنا هو, على المقعد الجلدي المتشقق, فوق الأرضية التالفة, وسط جدران هرمة حولنا كالهرم ... لكن فيها صموده الأسطوري أيضا. هنا محمد هاشم وفوضاه ... يدخن ويحترق, يتحدث ويعشق. يقول لي ولزميلاتي من القناة الرابعة البريطانية نحن لا نكره الغرب, نكره حروب الغرب, ونكره تغطرسه. هنا, كما ترون على الأرفف, الغرب كله يتبختر واقفاً وجالساً: أدبكم, مسرحكم, قصتكم, روايتكم: من بريطانيا وأيرلندا, إلى فرنسا وألمانيا, نتابع كل ما تكتبون, ونفرح به. لكن عندما نرفع رؤوسنا من بين دفات الكتب, يرتطم نظرنا بدباباتكم. نعاود القراءة في نصوصكم, ونعاود التطلع في دباباتكم: محاصرون ومشطورون نحن بين نصكم ورصاصكم!
عن محمد هاشم ونجم وميريت كنت قد نقلت وشماً من من أوشام المدن كتبت عن ذلك السحر يوما ما: “محمد هاشم دمعته سريعة, ربما كهزائمنا! قبل أن نأتي إلى هذا المقهى تبادل وعبد المعطي الجعبة أحاديث عابرة. مازحة بضحكات نادرة كانت الآه الساخرة سرعان ما تخرج بهلع حاسد فتفصم عمر الضحكات البريئة وتشطره بنصلها اللئيم الذي لا يتركنا وشأن ضحكاتنا. قال عبد المعطي في واحدة منها: أتعرف كيف صمد أخي معاذ في التحقيق مع الإسرائيليين؟ لقد تذكر أحمد فؤاد نجم. معاذ يحب شعر نجم, كما يحبه عبد, وتذكر الأرض الطيبة التي كان يتغنى بها نجم ويقسم بالدفاع عنها. كان المحقق الإسرائيلي يسأله سؤالاً ويتبعه صفعتين, ومعاذ في عالم آخر. كان يتجلى مع أغنيات الشيخ إمام, ويصنع لنفسه وجسده درعا واقيا, فما عاد يحس بضرب المحقق. دمعت عيون محمد هاشم, وبكى, وأحب معاذ على الفور. مسح دموعه من تحت النظارتين, وأقسم لعبد أن يرسل له نسخة من الأعمال الكاملة لأحمد فؤاد نجم, وعليها إهداء نجم نفسه موجهاً إلى معاذ. كما العادة, عندما يفتح صديقي عبد جعبة احاديثه, تخجل الرواية والخيال من نص الواقع, هنا الحياة وقصصها أغرب من الرواية, هنا عبد ومحمد هاشم إجتمعا.
احمد فؤاد نجم ينظر بعيني صقر إلى زميلتي الشقراوتين. يقيس زوايا أجسادهن ويتأملها. أرى بريق شباب يعود إلى عينيه فأبتسم. يلمحني أراقبه فيبتسم. ينقل نظره بيني وبينهن, ويسرب لي بنظراته وإبتساماته تساؤلاً حاسداً. أهز رأسي مبتسماً لكن نافيا ما مر بخاطره. يقلب يديه الإثنتين إلى أعلى زاماً شفتيه, يقول لي بحركاته "وليه لأ يا أهبل؟", عندها نطقت بكلمتين إثنتين وأنا أداوم الإبتسام, زميلاتي وحسب!
أقتربت منه, وقلت له لي عندك أمر آخر. قال, قل. فأخبرته عن معاذ شقيق صديقي عبد المعطي. قال لي "خليني أتكلم مع عبد". أحترق الهاتف وأصيب عبد بخشوع الصدمة, فأنعقد لسانه:
- إزيك يا ود يا عبد
- مين؟
- أنا أحمد فؤاد نجم
- .....
- خالد قلي عن أخوك معاذ, هو أحواله أيه؟
- ..... كويس, كويس, هو .... هو لو يعرف إنك إنك ...
- سلملي عليه, وقوله أنا بعتلو نسخة من أعمالي عليها إهدائي, وخالد قللي عن السجن وعن صموده, دا ود جدع بصحيح. سلملي عليه أوي.
- شكرا, والله شكرا, هو رايح ينبسط كتير.
في لندن, شتمني عبد على المفاجأة الجميلة وقال لي أنعقد لساني, ولم أعرف بماذا وكيف أرد. ينفرط عقد النص في الرواية يا صديقي, وتتكوم الكلمات خاشعة امام وجع الحياة وحقيقتها.”
قبل ان يصير نجم امستردام كما كان نجم كل مكان قرر هذا الاسطوري ان يظل اسطوريا ويلتحق بأوزيريس, ويغادر كما يليق بالاسطوريين ان يغادروا. ترك عشاقه وحيدين يحاولون تجميع اجزاءه وبعثها من جديد: تركهم في عهدة صديقه الصدوق محمد هاشم في "دار ميريت", في شارع قصر النيل ... على بعد بيتين من الشعر من ميدان التحرير, حيث انتصبت قامة النجم واعلن بعثه من جديد في 25 يناير المجيد. يرحل فوق سفينة فرعونية من قلب ميدان التحرير, يلقي ابتسامة وسلاماً على امستردام وهو يحلق بعيداً, يعتذر ويغادر. يترك الحفل والمدعويين ... وأنا مشدوهين امام هزيمة الذنب الكبير, لقد تأخرنا في تكريمك هنا, تأخرت انا في ترشيحك, ...., في ضفاف اللامكان حيث عبرت سوف يعانقك الشيخ الامام وينقل إليك اعتذاري السري والمفضوح, ودمعتين.