الاستفتاء .. مشاركة بنعم أو لا أم مقاطعة؟


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4296 - 2013 / 12 / 5 - 11:59
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

1: ليس لدى الثوريِّين أىّ إدمان من أىّ نوع لمقاطعة الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية فى كل الأحوال وفى كل المناسبات. وقد مارس الثوريون فى العقود الأخيرة فى مصر كلا التكتيكين. وكانت المقاطعة شبه معدومة قبل ثورة يناير 2011، وبعد تلك الثورة كانت المقاطعة موقفا لأقلية من اليسار إلى جانب المشاركة التى كانت موقفا لأغلبية اليسار. وكانت حجة المشاركة هى عدم ترك ساحة الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية لقوى الثورة المضادة التى كان يقود قسما منها الدولة السابقة على ثورة يناير بقيادة المجلس العسكرى للقوات المسلحة المصرية، فيما كان يقود الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين قسما آخر منها يمثل مشروع الدولة الدينية. وربما أثبتت المقاطعة، التى رأت فى تلك الاستفتاءات والانتخابات المتكررة وصفة معتمدة عالميا للتصفية التدريجية للثورات بالابتعاد بها عن الفعل الثورى، الذى يقوم على النضال الإضرابى لتحقيق الأهداف الشعبية الحقيقية للثورة ؛ وكانت النتيجة المنطقية والفعلية للمشاركة مفزعة: دستور أسوأ، مجلس شعب إخوانى، مجلس شورى إخوانى، رئيس إخوانى كان الأفق المفتوح أمامه ينطوى على احتمالين: خضوع الشعب والثورة لمشروع الدولة الدينية من خلال أخونة الاقتصاد والمجتمع والدولة؛ أو الحرب الأهلية التى يشنها الإخوان ضد الشعب والثورة ودولة ما قبل ثورة يناير جميعا.
2: ويقال الآن إن مشاركة اليسار ستكون سيد الموقف من جديد، حيث يختفى احتمال عودة الإخوان بأصوات اليسار وجهودهم، على أن المشاركة ضرورية للضمان التام لهزيمة الإخوان والإسلام السياسى بأغلبية ساحقة كاسحة. ووفقا لوجهة النظر هذه فإن أىّ مكاسب پرلمانية أو رئاسية ستقلب الطاولة على قطاعىْ الرأسمالية المتصارعين على السلطة حيث يجد اليسار وقوى الديمقراطية مكانا فى الپرلمان الجديد، أو الفوز بالرئاسة فى حالة مجيئ حمدين الصباحى بالذات رئيسا، أو حتى السيسى باعتباره بطل ضرب مشروع الدولة الدينية. وعلى هذا يبدو أن الوضع العادى، السابق للثورة، قد عاد حيث تم توجيه ضربة قاصمة وإنْ كانت غير نهائية فى ضوء تقاعس الحكم الجديد، خوفا من أمريكا وأوروپا وشباب الثوار الذين يصبّ سعيُهم العاطفى الساذج فى مصلحة الإخوان والإسلام السياسى والإمپريالية الأمريكية والأوروپية، لماذا؟ لأن الثوار الشباب رغم مبادرتهم وتفانيهم وإخلاصهم ونقائهم وكل كلام جميل يمكن أن يقال عنهم ليسوا سياسيِّين حقيقيِّين فهم بلا معرفة نظرية بالثورات وبلا تجربة سياسية حقيقية، وهذا ما جعلهم ينحرفون بالثورة منذ اندلاعها عن أهدافها الحقيقية. وكانت أهداف الشعب فى الثورة، مثل كل شعب فى كل ثورة مماثلة أو غير مماثلة، تحقيق ديمقراطية منتزعة من أسفل، تبدو لهم إصلاحية، على حين بدا لهم إسقاط حاكم لصالح حاكم وراء حاكم لصالح حاكم لاحق، إلى حد أنهم والشعب المصرى وراءهم بحكم قلة وعيه يعصرون الليمون للتخلص من حكم المشير طنطاوى للمجيئ بمشروع الحكم الدينى إلى الحكم، بدلا من توظيف جهدهم الهائل فى تحقيق شيء كبير قابل للبقاء للشعب والثورة.
3: والحقيقة أن النظرية التى سيطرت خلاصتها على رؤوس اليسار كله بما فيهم من ماركسيِّين مخضرمين، لم تكن سوى الأناركية التى تقوم فكرتها فى أغلب تنويعاتها على تركيز العداء للدولة ومؤسساتها بعد فصل الدولة عن أساسها الطبقى الرأسمالى. ولهذا ارتفع فى أغلب الأوقات الشعار الذى اختلقه الإخوان المسلمون ضد عبد الناصر وهو يسقط حكم العسكر. ولا أعفى نفسى من خطأ التورط فى فترة ما عن ترديد هذا الشعار الإخوانى. فلا علاقة تحليلية بين عبد الناصر و السادات و مبارك من ناحية وحكم العسكر من ناحية أخرى. وإذا كان ما يقصده شباب وشيوخ اليسار بحكم العسكر هو الحكم العسكرى المباشر فإن هذا المفهوم لا ينطبق إلا على الحكم العسكرى المباشر لمجلس قيادة الثورة فى الخمسينيات إلى أن تبخر، وعلى الحكم العسكرى المباشر للمشير طنطاوى. ولم يكن حكم عبد الناصر أو السادات أو مبارك حكما عسكريا مباشرا فهذا سلوك سياسى له مفهوم دقيق فى العلم السياسى.
4: وأعتقد أن ما يقصده هؤلاء الشباب والشيوخ هو الديكتاتورية العسكرية أو الپوليسية، وهما نفس الشيء فى العلم السياسى، ويكونون هنا صادقين بحكم مقصدهم المستنتَج وليس بحكم تعبيرهم المباشر غير الموفَّق. وهم ينطلقون ليس من معرفة نظرية بل من الاحتكاك المباشر بالجيش والشرطة اللذن يتصديان لهما فى كل فعل جماهيرى ثورى. ولكنهم لا يكادون يعادون الرأسمالية التابعة وطبقتها بل حتى لا يكادون يدركون وجودهما. فالموجود الوحيد وفقا لتجربتهم الحسية الملموسة ليس سوى الجيش ودباباته والشرطة وأسلحتها. وبالطبع فالشرطة والجيش هما مؤسستا قمع الشعب فى كل وقت وخاصة فى زمن الثورة. ولكنْ هل يمكن إسقاط الديكتاتورية العسكرية أيها الشباب وأيها الشيوخ؟ هذا مجرد وهم يا سادة، ولكنْ ما العمل فى مواجهتها: مقاومتها وتخفيف قبضتها؛ ولم يسمع أحد أن شعبا أسقط ديكتاتورية عسكرية مع دولتها وطبقتها. ولكنْ أين لا توجد ديكتاتورية عسكرية فى العالم كله؟ يجب أن يعلم هؤلاء الشباب والشيوخ أن أكبر وأعتى ديكتاتورية عسكرية فى العالم هى تلك القائمة فى الولايات المتحدة، ويمكن الرجوع إلى مقالات سابقة لى شرحتُ فيها هذا بالتفصيل؟ وتنطبق سيطرة الديكتاتورية العسكرية على الدولة والمجتمع فى البلدان الأوروپية الكبرى، مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها. فكيف لا تدركون هذه الحقيقة التى لا يمكن التخلص منها إلا فى مجتمع لاطبقى فى رحم مستقبل غير قريب فى سياق التخلص من النظام الاقتصادى الاجتماعى الرأسمالية: الطبقة والدولة ومختلف مؤسساتها وليس الجيش والشرطة فقط؟
5: ويقول شباب وشيوخ إن الحكم الجديد الذى يتعامل اليوم مع الإخوان بكل هذه القوة المفرطة، سوف تستخدمها ضدنا غدا بعد الانتهاء من قصة الإخوان. والشباب سذج والشيوخ يزايدون. فهل صار الشباب حتى المثقفون نسبيا منهم يدركون ما هى الثورة وما مستويات صراعاتها وما هى القوة المفرطة أو غير المفرطة فى هذا السياق؟ لقد تركتم الميدان من قبل للمشير طنطاوى ثم أجبرتموه على المجيئ بالإخوان إلى الرئاسة بمليونيات كان ينبغى توظيفها فى تحقيق الأهداف الحقيقية للثورة، مع مزاعم واسعة عن زواج كاثوليكى بين الحكم العسكرى المباشر للمشير فيما كان التحالف الفعلى فى سياق خطة محكمة وضعها الجيش للتخلص من الإخوان فى الوقت المناسب فيما كان تحالفهما المرحلى ضروريا للجيش. ثم لماذا تعتقدون أن الجيش سوف يستخدم نفس الوسائل ضد الثورة فى سياق تصفية تدريجية سلمية للثورة تفاديا للحرب الأهلية التى من المرجح أن تكون مدمرة للجيش والدولة والطبقة، كما نتعلم من حروب أهلية أخرى؟ والحقيقة أن مستويات من العنف وحتى المذابح لا يمكن استبعادها حتى فى سياق التصفية التدريجية السلمية للثورة، كما شهدنا فى ظل حكم المشير طنطاوى.
6: وأعتقد أن الحلقة الرئيسية للنضال الثورى تتمثل فى القضاء تماما على مشروع الدولة الإسلامية الذى يفرض الإخوان حربهم من أجلها ليس على الجيش والشرطة وحدهما بل ضد الشعب والثورة. إننا فى بدايات حرب أهلية؛ يتضح مؤخرا أن أكثر المثقفين يستبعدون أن يسمح الشعب المصرى بها. وهذه نتيجة منطقية لكتّاب اليسار الذين يوظفون موهبتهم التى لا شك فيها فى مديح الشعب والثورة بشوڤ-;---;--ينية ممجوجة ترفع شعبنا وثورتنا إلى عنان السماء، بدلا من الاهتمام بمصالح الشعب فى ديمقراطية شعبية من أسفل سيفوت أوان تحقيقها إنْ لم تتحقق هنا والآن.
7: والأخطر فيما يتعلق بالموقف الذى أدعو إليه وهو موقف المقاطعة لهذا الاستفتاء الذى أراد الحكم الجديد أن يكون الدستور المستفتى عليه مجرد تعديل لدستور الإخوان.. الأخطر هو (بالإضافة إلى أن الاستفتاء والانتخابات الجديدة تقوم بنفس ما قامت به الاستفتاءات والانتخابات السابقة) أنه يتم الآن دمج بعض الثوار إلى الحكم الجديد وسوف تتسع هذه الظاهرة ليزعم ثوار الأمس أن الثورة وصلت إلى السلطة بوصولهم؛ مع بداهة أن الشعب لا يصل إلى السلطة فى أىّ ثورة. والغريب أن الشباب والشيوخ اعتقدوا أنهم سيقيمون فى مصر دولة ديمقراطية مع أن الدولة الديمقراطية ليست سوى وهْم كبير ولا مكان لها فى مجتمع طبقى رغم ترويج أبواق الدعاية الغربية لها. وبهذا تتبدد فرصة أخيرة فيما يبدو لخروج الثورة من مأزقها عن طريق الفعل الثورى وليس من خلال انتخابات لن تأتى إلا باستعادة واستقرار طبقة ودولة وجيش وشرطة ما قبل ثورة 25 يناير. وسيرى الجميع بمجرد ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية والپرلمانية كم هى بعيدة عما كانوا يأملون!