أنتهاك ثوابت الدين بمتغيرات السياسة


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4292 - 2013 / 12 / 1 - 18:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

“الاسلام دين ودولة” هي المقولة السياسية الاكثر رواجا ووطأة وتأثيرا في اوساط جماعات الاسلام السياسي التي نشأت خلال العقود الماضية وتستمر معنا إلى الآن في المشهد السياسي العربي والاسلامي, وقد سك هذه المقولة واطلقها حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين في عشرينات القرن الماضي. ورغم انها مقولة سياسية بإمتياز وليست مبدءا دينيا إلا انها تطورت خلال العقود الماضية وانتقلت من جيل حركي إلى اخر في اوساط الاسلامويين لتتحول إلى قناعة دينية. الترداد المتكرر لها في الأدبيات الاسلاموية ودفاع منسوبي الجماعات الاسلامية عنها رفعها إلى مصاف ما هو مُقدس مما لا يُناقش فيه ولا يفكر في نقده او الاعتراض عليه. والآثار العميقة والمدمرة لهذه المقولة خلال العقود الماضية تجاوزت بطبيعة الحال القناعات النظرية لتُترجم عمليا في شكل محاولات مُستمية لتطبيقها على الارض, بما عناه ذلك من إطلاق لصراع دموي مرعب على السلطة بإسم الدين ولتطبيق جانب الدولة فيه. من ناحية نظرية وتاريخية ونصية, وكما يجادل الصديق رضوان السيد, فإن هذه المقولة لا أساس تأصيلي لها, بل هي مُستحدثة وجديدة, انتجها الاسلام السياسي السني والاسلام السياسي الشيعي, كل لأهدافه الخاصة به, لكنها لا تقوى على الوقوف أمام اي نقاش ديني ونصي حقيقي, وفي احسن الاحوال (بالنسبة لمناصيرها) لا تتعدى ان تكون فكرة سياسية خلافية, لكنها بالتأكيد ليست من صلب الدين ولا من اركانه.
عندما صاغ حسن البنا هذه الفكرة, اي “الاسلام دين ودولة”, كان في العشرينات من عمره, ولم يكن عالماً في الدين او متضلعا في سجالات الشريعة والسياسة, واغتيل وهو في النصف الثاني من اربعينات عمره. كل الكتب والترجمات التي سجلت تاريخ الرجل تكاد تتفق على قدرته التنظيمية والخطابية الهائلة, والكاريزما التي تمتع بها في الحشد والتعبئة, لكنها كلها تتفق ايضا على تواضع علومه الدينية وبكونها لم تؤهله لأن يكون عالماً او مجتهداً فضلا عن ان يكون “إماماً” ومجدداً. معنى ذلك انه استنزف جل وقته وحياته القصيرة نسبيا في الانشغال في بناء تنظيم الاخوان المسلمين وادارة الصراع السياسي مع الخصوم الحزبيين, ومع حكومة الملك فاروق, وايضا في إدارة التوترات الداخلية مع بروز اجنحة مختلفة داخل التنظيم نفسه. في كل ما نشره حسن البنا ليس هناك تأصيل شرعي وديني عميق لأي مسألة من المسائل الشائكة التي واجهت علوم السياسة الشرعية, مثل اصول الحكم وعلاقة الدين بالسياسة. بل معظم ما تركه يدور حول مقولات وشعارات مصوغة بأسلوب خطابي شديد التأثير, قابل للحفظ وغير قابل للنقاش, والقصد منها التعبئة والحشد وتأهيل الاعضاء والمنتسبين وفق منظومة تربوية وحزبية محددة. والغريب المدهش لاحقا ان معظم ان لم يكن كل تلك المقولات رددتها اجيال الاخوان المسلمين بشكل اعمى وغير نقدي ومن دون تمحيص واختبار. وتجد كثيرين من قيادات الاخوان ممن هم في الثمانينات من عمرهم وممن مرت عليهم تجارب طويلة, وشهدوا تغير الظروف, والزمن, والسياسة, وهم يقتبسون بكل إقرار وشبه تقديس من “الامام البنا” ويكررون مقولاته وكأنها خارقة للمكان والزمان وتتسم بالتأبيد المعرفي.
بطبيعة الحال من حق كل حزب وكل قائد حزبي ان يسطر اية مقولات ايديولوجية وتعبوية تهدف إلى حشد الانصار وترويج برنامجه السياسي. بيد ان الامر يختلف عندما يحدث هذا في إطار حزب ديني يركب الطروحات السياسية التي يتبناها على روافع دينية. ففي هذه الحالة تتمثل الخطورة الشديدة والمدمرة في تحول المقولة السياسية او الفكرية (الاسلام دين ودولة مثلاً) إلى قناعة دينية. ويمكن القول هنا انه لو اتيحت وسيلة ما لإجراء مسح بحثي وعلمي على قناعات شرائح عريضة من القواعد والاعضاء للإخوان المسلمين وغيرهم وسؤالهم حول هذه المقولة لكانت النتيجة مدهشة لجهة اعتقاد كثيرين منهم بأن هذه الفكرة هي جزء من الدين ومبادئه. ونعرف جميعا ان تأثير هذه المقولة امتد ليتجاوز فكر الاخوان ومناصريهم وليطال كل تشكيلات الاسلام السياسي, بل وليصل إلى بعض مناهج التعليم الرسمية في بعض الدول العربية والاسلامية.
الخطورة التي لا ينتبه لها حتى اشد المتدينين في اوساط الاحزاب الاسلاموية تتمثل في ان المقولات التي تصوغها احزابهم, مثل “الاسلام دين ودولة”, تتسرب تدريجيا وخلال المسيرات والمصائر الحزبية الطويلة وعبر آليات التعبئة الداخلية, والتأهيل المغلق وغير النقدي, إلى وعي الافراد والقيادات وتحتل مواقع مجاورة للقناعات الدينية. وانطلاقا من تلك المواقع والقناعات, اي القناعة بأن الاسلام دين ودولة, يتم خوض السجالات والمعارك السياسية ثم الانتخابية إن اصبحت الظروف مواتية. وعلى رافعة الشعبية واتساع رقعة المناصرين ثم الفوز في الانتخابات وما يتلوها من مشاركة في الحكم او تغلب فيه, يُصار إلى ترجمة تلك القناعة على الارض: عملياً, وسياسياً, ودستورياً إن امكن, وتلبيسها ثوبا دينياً. وهكذا تتسلل مقولة سياسية عبر العمل الحزبي الدؤوب, ثم الفوز على الخصوم السياسيين انتخابيا وديموقراطيا, إلى مبدأ ديني يترجم على شكل مبادىء دستورية, بكونه قاعدة لا نقاش فيها. معنى ذلك ان الاحزاب السياسية التي تستخدم الدين في السياسة تسير في مآلات تقودها إن اجلا ام عاجلا إلى التلاعب في طبيعة الدين نفسه وإقحام سياساتها في قلبه ومبادئه, وكأنها تغير طبيعة الدين ذاته.
على ذلك فإن ما يجب ان يدركه الإسلاميون قبل غيرهم هو ان ما يقومون به عبر تديين السياسة وتسييس الدين إنما يعمل على تشويه الدين فضلا عن تدمير السياسة. وتشويه الدين يتجاوز هنا ما هو منُاقش ومعروف من آليات التوظيف المباشر للدين لخدمة السياسة, ونقل الصراع السياسي إلى ساحة الدين, وساحة الصواب المطلق والحق, مقابل الخطل المطلق والضلال. إنه تشويه يصل الى العبث بالجغرافيا القيمية والمعيارية للدين وإدخال معايير جديدة اصلها وفصلها هو الحركية الاسلاموية ونظرتها للسياسة واساليبها.