الثورة أوسع كثيرا ..


حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4273 - 2013 / 11 / 12 - 10:25
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

الثورة أوسع كثيرا ..
تعليق علي مقال أكرم و ألهام
اليسار و أسئلة الثورة

(المقال الأصلي منقول أسفل الصفحة تسهيلا للقارئ)

يقدم لنا هذا المقال ما يعتبره رؤية يسارية للثورة و تعقيدات الوضع الراهن "الآني" و دور اليسار المطلوب فيها . و أنا هنا أبدأ مباشرة بالقول أن المقال قلص الثورة فعلا و محتوي لصالح القوي الديمقراطية ثم ساوي بين اليسار و بينها ثم اختصرها هي أيضا . نحن أمام ما يسمي سرير بروكست و قد وضعت فيه الثورة . و لأحاول أن ابرهن علي هذه الاتهامات الخطيرة خاصة و أن الكتاب من أبرز المناضلين

كيف نري الثورة؟
يقدم لنا المقال الثورة كفعل واعي للقوي الديمقراطية و يؤكد علي أنها ليست عفوية بل "مغامرة واعية" و لأن الثورات عموما تكون فعل عفوي فمثل هذه التأكيدات من جانب الكاتبين ليست بلا مغزي و سيتضح مغزاها لاحقا. لكن بداية نسأل سؤال بسيط هل هذا التصور عن الثورة واقعي أم خيالي؟ أن كل من شارك في ثورة يناير أو يونيو يعرف أن لا أحد توقع الثورة حقا. ففي يناير كانت القوي الديمقراطية تسعي اقصي ما تسعي ألية للإطاحة بالعادلي. و أن كانت ثورة تونس بعثت الحماسة في نفوس الجميع . و فوجئ الجميع رغم ذلك بالثورة . عنصر أخر خارج "القوي الديمقراطية" هو من جعلها ممكنة . و هم فقراء المدن. أن الكاتبين علي حق فالثورة بدأت مدينية أساسا – 25 يناير – لكن لاحقا لامست تخوم الريف أيضا . و نحن نتذكر انتفاضات المنصورة و المحلة و بورسعيد و عشرات المدن فيما عرفناه باسم انتفاضة المحافظات أيام حكم مرسي. بينما في يناير كان اللاعبين الرئيسيين هم القاهرة و الإسكندرية و السويس و تطورت انتفاضة المحافظات لانتفاضة 30 – 6 رغما عن "القوي الديمقراطية" المتجمعة في جبهة الإنقاذ و التي كانت تنتهج السلوك البرلماني القويم لمعارضة حكم الإخوان.و إذا قبلنا موقف الكاتبين بأن الثورة " هي تكليل لنضال القوى الديمقراطية الطويل" يصبح السؤال هنا من أين جاءت الملايين و تلك القوي الديمقراطية لم تكن قادرة إلا علي حشد المئات قبيل الثورة مباشرة؟أن القضية هنا ليست قضية فقهية في سوسيولوجيا الثورة بل هي متعلقة أشد التعلق بالمهمات المطروحة علي اليسار. و كاتب هذه السطور عارض من أيام الثورة الأولي الفكرة التي روجها البعض عن "الدور الحاسم للطبقة العاملة في الثورة" باعتبارها فكرة تتجاوز الواقع تماما مثل فكرة كاتبينا عن "تكليل النضال الديمقراطي"
أن الثورة لا يجب النظر لها بمعزل عن الصراع الطبقي و تطوره و تعقيداته . و سنري لاحقا كيف أن إهمال الصراع الطبقي أوقع المقال المذكور في أخطاء عديدة. بلغ الصراع الطبقي في مصر حد بعيدا من الاحتدام في السنوات السابقة علي ثورة يناير و الذي تمثل في حركة احتجاجية واسعة المدي هي التي مهدت الطريق حقا للثورة بما أنها ضمت مئات الآلاف و ربما الملايين و ليس بدون دلالة أن أحد أهم القوي الديمقراطية – 6 أبريل – تكتسب أسمها من يوم خاص بالطبقة العاملة.و رغم ذلك فأن الثورة لم تكن من فعل القوي الديمقراطية و الطبقة العاملة فقط بل أن فقراء المدن الذين هم من حارب علي "تخوم الميادين" حقا و الذين هم من كسب المعركة مع الداخلية ببراعة و ذكاء و فدائية و الذين هم من قدم أغلب الشهداء.الثورة إذن هي نتاج هذا التحالف التلقائي بين القوي الديمقراطية – لنقل الطبقة الوسطي المدينية – و الطبقة العاملة و فقراء المدن – أسماء أخري لهم المهمشين أشباه البروليتاريا الخ – لكن كي نكون أمناء مع الواقع هذا الحلف الثوري لم يصنعها منفردا . صنعها بالتعاون مع الشريحة الدينية من الطبقة الحاكمة و الجيش و لكل منهما أسبابا للمشاركة بهذا القدر أو ذاك في الثورة.
و الكاتبين يعترفان بأن الثورة تفتقد للتنظيم – أي عفوية – و لكنهما رغم ذلك يصران علي لا عفويتها.

يقول الكاتبين عن حق عن الثورة "فى مشروع لخلخة بنية السلطة وإعادة تأسيس العلاقة المركبة بين الدولة والمجتمع بل أعادة انتاج المجتمع نفسه فى عملية نقدية هائلة.” رغم تحفظي علي وصف عملية الصراع بالنقدية. لكن كيف تتم هذه العملية ؟ نقابل الآن باختصار جديد للثورة بعد اختصارها للقوي الديمقراطية أختصار نتائجها لما يسميه الكاتبين " وفتحت الطريق لإنتاج مجال سياسي يعبر فيه المجتمع عن تناقضاته وأمزجته السياسية من خلال مشاريع سياسية متصارعة" فلان الكاتبين لا يريان في الثورة سوي القوي الديمقراطية فهما لا يريان من نتائجها سوي "المجال السياسي" مرة أخري بالتجني علي الواقع. و يجب أن نكون واضحين هنا حتي لا تلتبس علينا المصطلحات المجال السياسي هو مجال المجتمع المدني – البرلمان و المحاكم و الجمعيات و الأحزاب – لذا يقول عنه الكاتبين "مشاريع سياسية" و السؤال الأولى هنا هل هذا واقعي أم خيالي؟ هل لم تسفر الثورة حقا إلا عن هذا المجال السياسي؟ أبسط معرفة بالواقع تقول أن الثورة أسفرت عن ثلاث مجالات منفصلة لحد ما أولهم المجال الثوري . و هو المجال الذي يعمل مباشرة من الشارع و أحيانا يعادي السياسية و السياسيين و يهتف ضد الأحزاب – كل الأحزاب – و هذا رأيناه في الإطاحة بحكومة شفيق و في معارك محمد محمود و كذلك في حملة تمرد كلها أفعال ثورية مباشرة رغما عن الساسة و السياسية و عن مجالهما. و المجال الأخر هو المجال الاحتجاجي و كل متابع للإضرابات و الاعتصامات يعرف أنها بلغت ذروة عالية لم تصلها أبدا قبيل الإطاحة بمرسي . الحركة الاحتجاجية هي التي مهدت الطريق للإطاحة بكل من مبارك و مرسي من أضراب المحلة إلي الانتفاضات العفوية لانقطاع الكهرباء و الغاز . لنري الآن من شارك في كل من هذه المجالات ؟ المجال السياسي هو ملعب الطبقة الوسطي المدينية أساسا أما المجال الثوري فبينما يضم قسما من هذه الطبقة الأكثر ثورية ينضم لهم أيضا تقليديا قطاع أساسي من فقراء المدن و حينما تشتد موجته ينضم إليه قطاعات واسعة من الطبقة العاملة و جمهور فقراء المدن و أحيانا أقسام من الفلاحين . أما المجال الاحتجاجي فهو تقريبا قصرا علي الطبقة العاملة و من علي شاكلتها و أحيانا فقراء المدن أيضا و الفلاحين. لكن بينما المجال السياسي يسعى لإعادة بناء المجتمع وفق "مشاريع سياسية" و إعادة تنظيمه – قوانين دستور انتخابات الخ – فأن المجال الثوري يسعى للتغيير المباشر عبر الفعل الثوري في الشارع و هو بذلك "يفرض" علي المجتمع ككل رؤيته و يرغمه عليها أرغاما كما يحدث في أي عملية ثورية. و رغم الفاعلية الشديدة لهذا المجال إلا أنه مؤقت و مرتبط بلحظات معينة علي ألا ننسي أن مثل هذا المجال قد يختفي تماما ثم يعود للظهور بعد سنوات كما عادت قوي ثورة 19 للظهور في انتفاضة 1935 و مرات أخري عديدة. أما المجال الاحتجاجي فهو مطلبي أساسا و لا يحدث تغييرا في المجتمع إلا بالتجزئة و لكن من خصائصه هو أنه يفرز كل يوم أشكالا من التنظيم القاعدي – نقابات – ستتحول مع الزمن لتكون لاعب أساسي في كل صراع اجتماعي بما أنها تستند للملايين.
لنتوقف هنا و لنسأل ما هو حال المجال السياسي الذي يبني عليه الكاتبين الآمال العراض؟ كما قلنا هذا المجال العام يحتوي الأحزاب و البرلمان و المحاكم الخ . و أي نظرة عابرة عليه تكشف كم هو مجال رجعي ففي الانتخابات البرلمانية مثلا اكتسحها اليمين الديني ثم اليمين الحديث و في أخر القائمة تحالف الثورة مستمرة شبه الديمقراطي. و لا يمكن تصور مجال سياسي مغاير في شروط مصر المعروفة . فالسيادة الحاسمة للرأسمالية المتخلفة التابعة علي الاقتصاد تعني سيادتها علي السياسية بل أن الأيديولوجية الرجعية الدينية أكثر انتشارا في الشارع عنها في المجال السياسي نفسه بسبب الانحطاط الاجتماعي العام الذي رافق تحول الاقتصاد المصري لاقتصادي ريعي و تابع. و متابعة لجنة الخمسين التي تضع الدستور تكشف هذا بجلاء . فمازالت الدولة تعرف بأنها دولة دينية و مازال الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الحريات العامة – التي أصبحت قاعدة في دساتير العالم – يتم المراوغة فيها مازلنا باختصار لم نصل لمستوي دستور 1923 . فالكاتبين يختصران المجال السياسي لجزء هامشي منه و هو القوي الديمقراطية.
الكاتبين و المقال حول الثورة لفعل واعي ثم أدعيا امتلاك القوي الديمقراطية له و كان لابد أن توضع الثورة كفعل واعي أذا كان ضروري نسبتها إلي فصيل بعينه. ثم اختصرا نتاجها لمجال واحد هو الأكثر رجعية ثم اختصرا هذا المجال نفسه لقسم هامشي منه. و لنسأل سؤال واضح من يمكن أن يكسب الانتخابات لو عقدت اليوم ؟ يقول الكاتبين "إن استكمال مهام الثورة في تحقيق أهدافها مرتبط باتساع الحركة الاجتماعية وتجذرها وأيضا مرتبط بفتح هذا المجال السياسي ليتحول إلي معبر أكثر اصالة عن تناقضات المجتمع وحركته وشريكا حقيقيا فى عملية الحكم وحاميا للحركة الاجتماعية من البطش،" و في الحقيقة أن هذا المجال الذي تسوده الرجعية فعلا شريكا في الحكم و لكنه طبعا ليس حاميا "للحركة الاجتماعية" لسبب بسيط هو أنه رجعي في اغلبه.لكن المقال يعول علي "إعادة إنتاج التيارات الديمقراطية" رغم أنه نسب أليها الثورة من قبل !!
و من أجل إعادة إنتاج التيارات الديمقراطية و الإجابة علي أسئله الثورة ينتقل الكاتبين لليسار باعتباره مرشحا أو المرشح ل "أن يشتبك مع أسئلة الثورة السياسية والاجتماعية واقتصادية لا أن يختزلها في مجموعة واحدة دون أخرى" و هنا مرة أخري نري الكاتبين يتغاضين عن حقيقة أن "كل" التيارات تقدم إجابات سياسية و اجتماعية و اقتصادية غير أنها في معظمها رجعي و يعيد أنتاج نظام التخلف و التبعية و لا "تختزل" أي شيء فقط علينا أن نقرأ ما تفعله بعين ناقدة منحازة للطبقات الشعبية. ثم يقول المقال أن المطلوب " مشروع للعمل بقدمين: قدم داخل المجال السياسي وقدم في الحركة الاجتماعية" فما يسمي "الحركة الاجتماعية" تظهر الآن فجاءة بعدما غيبها المقال سواء في مشهد الثورة أو في حسابات نتائجها. و هذا طبعا لأنها ضرورية كي يمارس عليها اليسار "الحماية من البطش" كما يقول المقال نفسه. لكن أنتظر هنا كيف "يحمي" اليسار مشتت المهلهل الحركة الاجتماعية؟ المنطقي أن نقول العكس تحمي الحركة الاجتماعية اليسار . لكن هذا له علاقة بالأسباب النهائية للمقال تماما مثل تمليك الثورة للقوي الديمقراطية و سنري هذا واضحا
ينتقل الكاتبين بعد ذلك للحديث عن "الدولة" و رغم أن الحديث عموما مقبول و يحدد الحاجة للحفاظ علي الدولة من عوامل التفكك و الفشل و الحاجة لتحديثها و مقرطتها . رغم أن في ثنايا الحديث تفاصيل مهمة مختلطة إلا أنني سأتجاوز عن هذا للاختصار . مشكلتي الأساسية مع مداخلة الدولة هذه أنها تقدمها لنا باعتبارها لقيطا بلا صاحب. بينما الدولة بمعني جهاز القهر الطبقي أو الدولة بمعني "البلد" يمتلكها و يسيطر عليها طبقة رأسمالية عفنة و من يعملون علي أفشال الدولة – اليمين الديني اللاوطني – هم شريحة من هذه الطبقة و هي التي استدعتهم من مخازنها و جعلتهم سدنة أيديولوجية الرجعية الدينية التي تساهم في الإبقاء علي حكمها الاستبدادي.فلا يحق لنا أن نتحدث عن الدولة كعنصر محايد في المجتمع ببساطة لان هذا غير حقيقي و غير واقعي.. و كما ملك المقال الثورة للقوي الديمقراطية و جعل اليسار الهش مسئول عن حماية الحركة الاجتماعية. فأن تجهيل الدولة يخدم أيضا هدف الكاتبين النهائي رغم قفزه علي الواقع.
يقول الكاتبين "إن كان اليسار يستهدف تجذير الديمقراطية "وتقوية" المجتمع فى مواجهة جهاز الدولة وتقوية الدولة نفسها على حساب أي نظام حاكم، فهذا بدوره يتطلب ترشيد هذه الدولة وغل يد قبضتها الامنية، فلا نمو للمجتمع" و لنتغضى أيضا عن الالتباسات في هذه الفقرة و لنقر مع كاتبينا أن علي اليسار العمل علي مقرطة المجتمع. لنصل للفقرة الأهم في المقال كله "كما أن عملية ترشيد الدولة هى نفسها عملية تبدل مستمرة لهذه الدولة بالضغط عليها من الخارج، فى عملية مستمرة للدفع بها للاعتراف "بالشعب" باعتباره شريك فاعل وأساسي فى عملية "الحكم"، ولهذا فإن تبنى الخطاب الحقوقى والارتكان على المجال السياسي لترشيد هذه الدولة هى مهمة يسارية أساسية لفتح الطريق لحركة المجتمع ونموه.” سندفع – نحن اليسار العاجز – الدولة لتعتبر الشعب شريكا !! و هنا يتضح لما تركت الدولة بلا صاحب لان لو اعترف الكاتبين بأن للدولة صاحب طبقي لأدركا فورا أن المطلوب هو مواجهة هذا الصاحب . لكن لنتجاوز عن هذا أيضا . ما أود أن أسأله هنا كيف قفز الكاتبين بخفة من الضغط من الخارج إلي الخطاب الحقوقي ؟ لو كانا قالا خطاب شعبي أو حتي شعبوي لكن اكثر منطقية. خاصة و الخطاب الحقوقي يستند إلي القانون الذي هو بحد ذاته جزء من الدولة . الزملاء هنا يدعوننا لان ندفع العربة المعطلة للأمام بينما نحن نجلس داخلها! و هكذا تتضح الصورة الثورة ملك للقوي الديمقراطية الثورة انتجت فقط مجال سياسي المجال السياسي تحتله القوي الديمقراطية التي عليها حماية الشعب من تغول الدولة و الدولة مطلوبة لكن ضمن حدود فعلينا كيسار أن نضع هذه الحدود كيف عن طريق القانون . أي وهم حقوقي..
و لأن الزملاء أمناء مع أنفسهم فهم يندفعان بعد ذلك لشرح "قصور" الخطاب الحقوقي . لكن شرحهم هذا – الذي أويده – يفتقد للعنصر الحاسم في قصور هذا الخطاب و هو أن القانون هو قانون هذا المجتمع و هذه الطبقة. الخطاب الحقوقي ضيق الأفق بحكم التعريف .و كي يتغلبا علي هذه العقبة و يحتفظا بالوهم الحقوقي في نفس الوقت يخترعان أن علي " لكن يبقى دور السياسيين (وخاصة من اليسار المؤمن بحقوق الإنسان) ابتكار وسائل وسياسات لاستيفاء المعايير الحقوقية تبعا لظروف المكان والزمان" أي يحيلان العجز المزمن في الخطاب الحقوقي إلي حلا ما مستقبلي مجهول أو للاستعانة بالمواثيق الدولية حين الترافع أمام الدولة لحماية الشعب من البطش.
كتب الدكتور شريف يونس كتابا ضخما في نقد الأيدلوجية الناصرية باسم نداء الشعب و في هذا المجلد الهام شرح كيف أن الناصرية قدمت نفسها كوكيل عن الشعب وكيل لم يوكله أحد إلا عبر نداء غامض صدر من الشعب لم يسمع هذا النداء أحدا إلا الموكل ألية.و في هذا النقد فأن الشعب نفسه – المأخوذ ككتلة واحدة – عليه الالتزام بالسمع و الطاعة أمام الوكيل لأنه – أي الشعب – أصدر نداء للوكيل حتي لو لم يكن قد عرف به و لهذا النداء صفة الأبدية في ذات الوقت فلا يحق للشعب سحب التوكيل الذي لم يصدره أصلا. تذكرت هذه الصورة السريالية – الواقعية رغم ذلك – حينما قرأت مداخلة الكاتبين عن اليسار الذي عليه أن يمارس دور محامي الشعب رغم أن الشعب لم يوكله و رغم هشاشة اليسار و رغم أن الدولة التي سيترافع أمامها اليسار هي مغتصبة حق هذا الشعب و هي في نفس الوقت القاضي المترافع أمامه.
ينتقل الكاتبين بعد ذلك إلي محاولة تأكيد فكرة محامي الشعب عبر القول أن العدالة الاجتماعية لا تكفي فيقولان "لكن التشدق بشعار العدالة الاجتماعية واعتباره "مهمة" اليسار الأولى يبدو لنا أمرا مشوها فمطلب تحقيق "بعض" من المكتسبات الاجتماعية لا يعنى بالضرورة مقاومة "القهر" الاجتماعى،" مرة ثانية نعود للاختصار . من قال أن "العدالة الاجتماعية" تساوي "بعض المكتسبات الاجتماعية" ثم من قال أن أي طريقة لتحقيق هذه المكتسبات تساوي طريقة أخري؟ فالكاتبين يخشيان من أن تكون العدالة الاجتماعية تعني تحقيق بعض المكتسبات و أن يتم هذا عن طريق تثبيت و تدعيم الدولة علي حساب الشعب .أى أن تكون مكتسبات العدالة عبارة عن رشي اجتماعية لترسيخ النظام. لكن في الحقيقة هذا التخوف ليس له ما يبرره لسبب بسيط هو أن عصر الناصرية قد انتهي لغير رجعة و أن كان كثير من اليسار مثلا يدعم "القطاع العام" رغم فساده فأن أي مكتسبات سيتم تحقيقها في مجال إعادة توزيع الثروة – تعبير أفضل من العدالة الاجتماعية – لا يمكن أن تتم إلا عبر الضغط و التنظيم الشعبي . ليس هذا فحسب بل أن ما يتجاهله الكاتبين أن نفس الأمر – الرشي الاجتماعية – تنطبق علي قضايا الديمقراطية أيضا . بل ترتبط بها بدرجة أشد. فالمكتسبات الديمقراطية يمكن أن تكون أيضا لإلهاء الشعب عن النضال الطبقي. كما قال مبارك سياسية "خليهم يتسلوا" و تجارب كثير من الشعوب التي جرت فيها الثورات الملونة – بولندا روسيا الخ – تمت فيها تحديدا سياسية خليهم يتسلوا بعض المكتسبات الديمقراطي التي تمت لذياده القهر الاجتماعي تحديدا الذي يتشكى منه الكاتبين. فأي كان موضوع النضال سواء اقتصادي أو متعلق بالحريات العامة يرتبط بالسياق العام الذي يجري فيه . و لا يصح مناقشته بمعزل عن هذا السياق سواء كان الأمر متعلق بزيادة الحد الأدنى للأجور أو حرية الصحافة و هنا تحديدا يفشل الخطاب الحقوقي فشلا زريعا.
و مجددا يقول الكاتبين "نادرا ما تكون القضايا المتعلقة بإعادة توزيع الثروة محل خلاف بين أطياف اليسار المختلفة، ويتركز الخلاف دائما على المواقف الديمقراطية (ومنها التعددية النقابية مثلا) والموقف من أجهزة الدولة والإسلاميين وحقوق الإنسان فهي الأسئلة التي تتعلق بمواجهة القهر الاجتماعي والسياسي وليس "إجراءات" العدالة الاجتماعية المطلوبة.” و في الحقيقة أن إعادة توزيع الثروة – مثلا الموقف من القطاع العام – محل خلاف كبير و أن حقوق الانسان محل اتفاق كبير . اما الخلاف حول الاسلاميين فهو نابع من انهم جزء من الطبقة فثمة يسار مع الشريحة المسيطرة وسط الطبقة و ثمة فريق من اليسار مع الشريحة الإسلامية. و طبعا لا يعترف لا هذا و لا ذاك بهذا التذيل لهذه الشريحة أو تلك و لكن هذا ما يقود اليه تحليل خطاب كل منهم. أن الموقف من التعددية النقابية مثلا مرتبط بالسياق الذي تتشكل فيه هذه التعددية.
و يؤكد الكاتبين موقفهم "وببساطة، الاقرار بأن تجذير الديمقراطية هو السبيل لمواجهة القهر الاجتماعي وتحقيق قدر ما من إعادة توزيع الثروات لا يعتبر تخلي عن هدف اليسار في تغيير علاقات الاستغلال الاقتصادي في المجتمع وإنما هو اقرار بأنه لا توجد حلول اقتصادية جاهزة" و بالطبع فأن معارضة الديمقراطي بإعادة توزيع الثروة ليس لها ما يبررها و قد ذكرنا من قبل دول الثورات الملونة حيث أذدهرت الديمقراطي مع تشديد القهر الاجتماعية. أن تخلي الكاتبين عن منهج الصراع الطبقي يؤدي لهذه الثنائية دائما حيث يختار من الثنائية ما يراه الكاتبين بشكل انتقائي. و في الحقيقة أن تجذر الديمقراطية لن يتم إلا عن طريق إعادة توزيع الثروة . فالنضال من أجل إعادة التوزيع هو الذي سيخلق الديمقراطية . لكن فصل القضايا عن الطبقات صاحبة المصلحة فيها هو ما يؤدي لهذا الخلط. فمثلا النقابة تنشأ من قلب الأضراب الهادف لتحسين الدخل و هذه الآلية رايناها تعمل مئات المرات منذ الثورة . التعارض المفتعل بين أهداف التحرر الاجتماعي المختلفة ليس له ما يبرره. السؤال الذي يجب طرحه هو السياق الذي يتم فيه تحقيق هذه الأهداف . لا يعنى هذا أن قضايا الديمقراطية لها أولوية ثانية . و انما يعني أن نقطة الانطلاق لا يجب أن تكون القضايا الاقتصادية في مواجهة القضايا الديمقراطي و أنما نقطة الانطلاق يجب أن تكون السياق الملموس لنضال الطبقات الشعبية صاحبة المصلحة في هذا التحرر . لكن لآن الكاتبين انحازا منذ البداية للقوي الديمقراطية – بشكل انتقائي – فقد اصبح عليهم حتما الانحياز لقضاياهم رغم أن الدلائل علي استخدام مثل هذه القضايا لمذيد من القهر الاجتماعي لا مذيد عليها. فعلي سبيل المثال الاحتلال الامريكي للعراق أدي لإطلاق حرية الصحافة . فهل أدي هذا لتقليل القهر الاجتماعي؟ أم انه احد وسائل تشديد القهر الاجتماعي. يسيطر علي الكاتبين هاجس الناصرية و هو هاجس له ما يبرره و لكن في عصر سابق . يجب علي من يريد نصح اليسار في مصر أن ينطلق من الواقع الراهن و ليس من أشباح الماضي سواء لاستعادتها أو للتخويف منها.
يجب أن نتوقف هنا كي نتحدث عما لا يتحدث عنه المقال. يتجاهل المقال تماما التدخل الإمبريالي و التبعية كما لو أن مصر عالما مستقلا. فما هي التوجهات الإمبريالية بخصوص مصر؟ تستند توجهات الإمبريالية في مصر عموما إلي أمرين أولا تنفيذ برنامج التثبيت الهيكلي للصندوق النقد الدولي – أي مذيد من النهب الاقتصادي و نزح الفائض المحلي – و من ناحية أخري تحسين وضع الديمقراطية – كانت كوندلايزا رايس هي التي ضغطت علي مبارك لإقرار انتخابات رئاسة الجمهورية و فرنسا التي ضغطت لعودة دار الخدمات النقابية الخ الخ – و لان الكاتبين لم يطرحا أصلا مسألة التبعية فهم أيضا لم يتعرضا لسؤال لما تبدو توجهات الإمبريالية متوافقة لحد ما مع توجهاتهما الشخصية ؟ طبعا أنا لا ألمح هنا لأي شيء متعلق بالكاتبين فأنا أعرفهما مناضلين صلبين نذرا حياتهما للثورة كما يعترف بهذا كل من يعرفهما. لكن هذا التشابه يكشف حقيقة تغيب عن الكاتبين و هي أن النظام الديمقراطي هو النظام الأنسب للتدخل الإمبريالي. ففي نظاما ديكتاتوريا يكون الديكتاتور هو المدخل الوحيد بينما النظام الديمقراطي تتعدد فيه المداخل . خاصة تتدخل الإمبريالية عبر منظمات المجتمع المدني – جمعيات حقوقية و أحزاب – و أنا استغرب جدا كيف لم يخطر ببال الكاتبين أنه كما أن هناك يسار يذيل الرأسمالية و أخر يذيل (و ليس مبتز ب) جناحها الطائفي الرجعي فأن هناك يسارا يتذيل الرأسمالية العالمية خاصة و أن قدرتها علي الإغواء أكبر بكثير من خطاب حقوق الإنسان إلي الأموال .بل أن الناصرية مثلا كانت تقاوم التعددية حتي لا تفتح الباب للتدخل الإمبريالي – ضمن أسباب أخري طبعا – و من هنا فأن اليسار عليه أن يكون ملتزما بالطبقات الشعبية و ليس مهللا ضمن الجوقة الديمقراطية بل عليه أن يكون شارحا لهذه الجوقة طبيعة الصراع الطبقي المعقد داخليا و خارجيا. لا ينفع في هذا ما يسمي الخطاب الحقوقي أو بساطة أولوية الديمقراطية علي العدالة الاجتماعية. المطلوب من اليسار أن ينتمي فعليا و عمليا للطبقات التي يدعي تمثيلها عضويا و حركيا و سوف نتناول هذا أكثر فيما بعد
يتناول الكاتبين بعد هذا قضية الحركة الإسلامية – أو اليمين الديني حسب التعبير الأكثر دقة فما يسمي "الحركة الإسلامية" هي اكثر فئات الطبقة المالكة رجعية و تخلفا . و هي تستخدم الأيديولوجية الدينية لفرض منظورها الرجعي المتخلف علي المجتمع . لكن المقال بينما يتهم هؤلاء متذيلي الشريحة الحديثة من الرأسمالية يتبني موقف اقل حدة مع هؤلاء الذين يتزيلون الرجعية الدينية و يصفهم "بالمبتزين" و لست أدري من ابتزهم ؟ فأن كانت شعبية اليمين الديني فلم لا نسمي الأخرين المبتزين بحداثة الشريحة المسيطرة من الطبقة. و رغم ذلك يرفض الكاتبين ما يسمياه " المشروع الاسلامي الأكثر اعتدالا" و لست أدري أين هذا المشروع . اخشي أن يكون أبو الفتوح هو رمز هذا المشروع الوهمي . هذا لا يعني عدم أمكانية بروز مشروع إسلامي تقدمي . لدينا فهلا بعض البدايات الصغيرة مثلا سلفيو كوستا و غيرهم لكنهم مازالوا اصغر كثيرا من أن يشكلوا مشروعا . غموض الكاتبين حول هذا المشروع المزعوم يثير الشكوك خاصة مع ميلهم للتساهل مع اليسار المؤيد لليمين الديني.

يقول الكاتبين "كذلك أثبتت معارك الثورة المتلاحقة أنه لا يمكن تجاوز الاستقطاب الهوياتي بالقفز عليه وطرح مطالب العدالة الاجتماعية والتنظيم على أساس المصلحة " و الخلل المنطقي واضح هنا فالأمر لا يتعلق ب "لا يمكن" و أنما ب "لم يحدث" و وضع الأمر علي هذه الشاكلة يكشف تسيد التوجهات الرجعية للمجال السياسي و هو ما أوضحناه من قبل و هو ما يكشف ضعف المنظور الطبقي وسط القوي الديمقراطية و هنا بالذات فأن مقال الكاتبين لا تساعد علي هذا. و نتفق مع الكاتبين تماما في "ومن هنا يجب الحذر من نوايا هذه الدولة رغم عدائها الآنى للإسلاميين فى صراع على مساحات السلطة والنفوذ ، فجوهر مشروع الثورة المصرية هى التخلص من هذه الدولة وبديلها الفاشى، " و هذه نقطة ارتكاز مهمة لتطوير فهم طبقي و خطاب طبقي و ليس حقوقي لليسار

يتناول الكاتبين بعد ذلك قضية الريادة و الطليعية . و لأنني أعتبر هذه القضية ثانوية نسبيا فلن أتعرض لها هنا بالتفصيل . فقط أشير إلي أن الطليعية هي خاصية كل توجه سياسي أي كان لأن أي توجه سياسي لابد و أن يسعي للسلطة السياسية أي الطليعية .

ختاما : يتصدى المقال لقضية حيوية و هي المهمات الآنية لليسار أنطلاقا من الواقع الملموس. لكن لأن المقال يستند لمنهج انتقائي فهو يعجز عن الإجابة عن الأسئلة الملحة التي قدمها بشجاعة. و أن فشل في تقديم الأبعاد الحقيقية لهذه الأسئلة.
ما الذي نريده من الثورة؟ لنكن متواضعين . لا نريد جمهورية ديمقراطية شعبية و طبعا ليس جمهورية اشتراكية لنقول مجرد جمهورية ديمقراطية حديثة. ما هو وضع اليسار في مثل هذه الجمهوريات ؟ في أمريكا و اليونان و فرنسا و البرازيل الخ ؟ في كل مكان اليسار ليس له وجود حقيقي بدون "العمل المنظم" أو النقابات .علي اليسار المصري أذن أن يرتبط بالعمل المنظم . فلما يريد كتابنا إعادة اختراع العجلة؟ لسبب واضح هو أن هناك كتلة كبيرة من الشباب الديمقراطي تتحرك بينما العمل المنظم أو النقابات في أول الطريق. فبدلا من أن نقول لهؤلاء الشباب عليكم أن تنخرطوا في تنظيم العمل نقوم نحن بالانجرار إلي موقعهم. أي بدلا من أن نصبح يسارا نصبح نوعا من الشباب الديمقراطي. و علاوة علي هذا نروج أوهاما عن أمكانية التغيير القانوني للمجتمع بفضل سحر القانون و ليس عبر الصراع الذي يشارك فيه الملايين . أما "الخطاب" فليس لنا إلا "خطاب" اليسار و هو خطاب يجمع ما هو قانوني و ما هو سياسي و ما هو اجتماعي علي أرضية واحدة هي أرضية المصالح الطبقية للطبقات التي ندعي الدفاع عنها . علي أساس هذا الخطاب اليساري علينا أن نعمل مع الشعب كي يمثل لنا نحن اليسار الحماية و ليس العكس كما يقول المقال.

المقال الاصلي
اليسار وأسئلة الثورة - إلهام عيداروس وأكرم اسماعيل

اليسار و أسئلة الثورة...قراءة نقدية
إلهام عيداروس وأكرم اسماعيل

ثورة 25 يناير هى حدث استثنائي بلا شك، فقد احتشدت الملايين فى الميادين لإسقاط الطغمة الحاكمة، احتشاد "سياسي" بامتياز يختزن مشروعا لتأسيس دولة جديدة معترفة "بالشعب" وحساسة لمطالبه ومعاناته. وهى لحظة إعادة تأسيس لعلاقة الجمهور بالدولة، فالجماهير تصارعت مع آلة القمع على تخوم الميادين ونجحت فى هزيمتها واحتلال الميادين. إنها لحظة تاريخية لحضور "الشعب".

لم تكن هذه الثورة عفوية كما يقول البعض بل هي تكليل لنضال القوى الديمقراطية الطويل الذى دفعت به حركة متصاعدة "شابة" "ومدينية" من الهامش للمتن، ليتحول النضال الهامشى إلى نداء واسع لبته قطاعات جماهيرية عريضة لاحتلال المشهد. فمعضلة ثورة يناير لم تكن "عفويتها" بل حجم المشاركة الجماهيرية "بالمقارنة" بحجم القوى المنظمة بل مقارنة بقوة المجتمع نفسه، فهذه ثورة تفتقر لتنظيمات جماهيرية واسعة تدعمها، فى مجتمع يعيش حالة طوارىء مكتملة، لا يعبر عن سخطه إلا بالشغب والانفلات ويفتقر لأى تنظيم قادر أن يحول سخطه الى مشروع واعى لفرض الإرادة، إلا أن الثورة نفسها كانت مغامرة واعية من قطاعات شعبية واسعة - لتجاوز الواقع البائس - وفرض الإرادة وإنتاج واقع جديد مسكون بالبدائل.

الثورة أيضا لم تكن مؤامرة كما يردد البعض الآخر حتى لو التقت مع مصالح بعض القوى الرجعية مثل الجيش المتململ من مشروع التوريث في 25 يناير والساخط على جنون الاخوان في 30 يونيو أو الأنظمة الأجنبية كالولايات المتحدة وقطر في 25 يناير أو السعودية وروسيا في 30 يونيو. والاعتراف بالتقاء المصالح هذا ضروري لمواجهة آثاره السلبية على مسار الثورة بدلا من إنكاره بشكل رومانسي أو تبني أي تصور ساذج عن القدرة على استغلال الأشرار لصالحنا.

إن الثورة لم تنجح فى الوصول للسلطة ولكنها نجحت بالتأكيد فى إنتاج واقع جديد يفتح الباب على مصراعيه للتفاعلات والصراعات الاجتماعية والسياسة والثقافية، فى مشروع لخلخة بنية السلطة وإعادة تأسيس العلاقة المركبة بين الدولة والمجتمع بل اعادة انتاج المجتمع نفسه فى عملية نقدية هائلة. وفتحت الطريق لإنتاج مجال سياسي يعبر فيه المجتمع عن تناقضاته وأمزجته السياسية من خلال مشاريع سياسية متصارعة. وتظل هذه العملية مبتسرة ومحافظة يعيقها الوضع البائس للمجتمع وتنظيماته وحركته المحاصرة فى المدن وبالأساس فى الشرائح الوسطى للمجتمع.

إن استكمال مهام الثورة في تحقيق أهدافها مرتبط بإتساع الحركة الاجتماعية وتجذرها وأيضا مرتبط بفتح هذا المجال السياسي ليتحول الى معبر أكثر اصالة عن تناقضات المجتمع وحركته وشريكا حقيقيا فى عملية الحكم وحاميا للحركة الاجتماعية من البطش، لا يمكن ان يتم هذا سوي بإعادة انتاج التيارات السياسية الديمقراطية التى حرمت من التواصل مع الجمهور أو اكتشاف ذاتها والإمكانيات الموضوعية لنموها فى عصور الركود. لكن الثورة فتحت الطريق لولادة حقيقية لهذه التيارات السياسية، وستولد هذه التيارات وتنمو بقدر ما تنجح في الاجابة عن أسئلة الحركة المتصاعدة وممارسة تحيزاتها واختبار "الممكن" فى عملية مستمرة من التفاعل الحى مع الأحداث والمشاهد السياسية المتلاحقة (وليس الاكتفاء بالرطانة البالية) والتواصل مع قطاعات واسعة من الجمهور من خلال مبادرات تنظيمية وسياسية تفتح للجمهور مساحات العمل الجماعى المنظم واكتساب الأدوات والخبرات اللازمة للنضال.

وفى هذا السياق كانت إعادة تأسيس اليسار سؤالا جوهريا من أسئلة الثورة. فاليسار هو التيار الوحيد الممكن أن يشتبك مع أسئلة الثورة السياسية والاجتماعية واقتصادية لا أن يختزلها في مجموعة واحدة دون أخرى. كما أن هذا المحتوى التحررى العميق للحالة الثورية لا يمكن أن يتكشف بدون يسار جديد قادر على اختزان هذا المشروع والتبشير به وإنتاجه كبدائل سياسية فى عملية جدل مع الواقع لكشف إمكانياته، ولهذا فان اليسار باعتباره التيار المنحاز للفقراء وكل المقهورين طبقيا واجتماعيا ودينيا وجنسيا يمكن أن يكون الصوت الجذري داخل معسكر القوى الديمقراطية، ومشروع لجذب هذه القوى الديمقراطية، بل مشروع المقرطة نفسه، إلى آفاق أكثر ثورية ومواجهة اختزالها في إصلاحات شكلية تافهة، إنه مشروع للعمل بقدمين: قدم داخل المجال السياسى وقدم فى الحركة الاجتماعية، يعمل على تنظيم الحركة ودعمها كما يسعى لإنتاج بدائلها وتمثيلاتها السياسية باعتباره ظهيرا للقوى الحية المناضلة في المجتمع دون أن ينتظر للأبد وصوله للسلطة السياسية.

لكن إعادة تأسيس اليسار كمشروع للإجابة على هذه الأسئلة أمر شديد الصعوية، فاليسار بدوره أسير لأعبائه الذاتية التى تعيق تحققه كإمكانية وطرف فاعل في الواقع. فرغم أن ثورة يناير قد أعطته فرصة تاريخية لإعادة اكتشاف وبناء نفسه، لا يزال اليسار يتصارع مع كل ميراث الركود والعزلة الذى سجنه فى الرطانة الطليعية الفارغة أو مشاريع التذيل، مشاريع الاستسلام لمقاومة الدولة - بل والمجتمع - للحركة التقدمية. وقد آن الأوان أن يبحث اليسار عن نفسه كإمكانية تاريخية تتكشف بالارتباط بالحركة والجدل الحى والشجاع مع الواقع، أن يقبل حضوره "الآنى" "المحدود" ويكتشف دوره الممكن فى عملية مستمرة من الجدل مع الحركة المتصاعدة لاختراق الواقع "البائس" فى عملية كفاحية قاسية وضرورية.

وهنا من الضروري التوكيد على أن الاشتراكية بالنسبة لنا هي الحلم أو البديل بعيد المدى للنظام الرأسمالي لكننا نؤمن أيضا بأنه ليس بديلا جاهزا وإنما سيتكشف مع الوقت وعبر نضالات السنين وعبر تغيرات هيكلية في النظام الرأسمالي قد لا يكون من المعقول أن نتصور أن اليسار المصري يمكن أن ينجزها وحده بوصفة خاصة. فالخلاف ليس على وصفات الاشتراكية كنموذج اقتصادي أو على طبيعة "البرامج المرحلية" المتعلقة بالسياسات الهادفة للسعي إليها (والدليل تشابه برامج كافة الأحزاب والحلقات اليسارية من حيث السياسات)، وإنما الخلاف حول طبيعة الدور الذي يجب أن يلعبه اليسار أو الحركة التقدمية وخاصة في ظل الكشف المتوالي الذي تدفعنا له ثورة 25 يناير بموجاتها المتعاقبة.

المحددات الأساسية للدور المفتقد لليسار: الدولة: بين عبادتها ووهم تفكيكها حقوق الإنسان كمشروع لترشيد الدولة العدالة الاجتماعية لا تكفي الموقف من الحركة الإسلامية التحرر من رطانة التحرر الوطنى التخلص من وهم الطليعية 30 يونيو وانكشاف الأوهام

الدولة: بين عبادتها ووهم تفكيكها

إن قراءة اليسار لقضية الدولة وعلاقته بها هي من أهم أعباءه. يتعلق قطاع واسع من اليساريين بالدولة البرجوازية الحديثة كطوق نجاة من المجتمع المتخلف وقواه الفاشية فى قراءة تخص اليسار العربى بالتحديد ومرتبطة بالعلاقة التى نسجت بين اليسار ودول مشروع التحرر الوطني. لكن هذه المشاريع قد انتهى بها الامر إلى دول فاشلة تحكمها عصابات وطغم حاكمة ترتكز على علاقات زبونية فاسدة وأداة أمنية قمعية مجرمة معادية للجمهور. علاقة التعلق هذه دفعت مجاميع يسارية أخرى لمعاداة هذه الدولة لدرجة التصالح مع المشروع الاسلامي ذي الملامح الفاشية فى مواجهتها باعتباره مشروع ذو ظهير شعبي اى انتاج اصيل للمجتمع.

وجاءت الثورة المصرية - والثورات العربية بشكل عام - كانتفاضات "لإنقاذ" الأوطان من حالة التحلل المستمرة التى طالت كل الدول العربية فى سياق تحلل مشروع الدولة البورجوازية التى تأسست فى حقب ما بعد الاستعمار والتى ارتكزت على تحالف نخبوى عسكرى "أبوى و مستبد وقمعى" تردت تحت حكمه الطويل هذه الدول لتتحول إلى كيانات "فاشلة" تحكمها عصابات فاسدة ومجتمعاتها ارتدت إلى أوضاع ما قبل حداثية، لتتفكك إلى طوائف وعصبيات معادية للمشروع القومى الذى ترك هذه المجتمعات فى حالة رثة و بائسة، وكل هذه العملية تتم تحت رعاية نظام عالمى هو بدورة توحش وتعمقت أزمته بحيث لم يعد يهمه استقرار هذه المنطقة بل أصبح أميل للتصالح مع تفكيك هذه الدول والعمل على تقسيم مجتمعاتها على أسس طائفية وعصبوية واستغلال هذه الأوضاع الاجتماعية الهشة لتأمين عملية النهب المتوحشة. إن هذا الوضع يمكن النظام العالمى من الضغط على شعوب المركز لتمرير اجراءات التقشف لمواجهة ازمتة ، وربما فى هذا السياق يمكن أن نفهم دعم الولايات المتحدة الامريكية لتسليم السلطة للإخوان فى مصر، إلا ان الثورة المصرية لا يمكن قراءتها سوى انها مشروع لمقاومة هذا المصير، مشروع لمقاومة هذه المغامرات الامبريالية المعادية للإنسانية لمصلحة واقع جديد، بل إنها مشروع لإعادة تأسيس هذه الدول بفاعلين جدد وبمشاركة شعبية حقيقية تنقذ هذه الدول وهذه المجتمعات من مخاطر التفكك لمصلحة حكم العصابات والطوائف، مشروع لإعادة انتاج الأمة واعية ومعترفة بالشعب كحصن لمواجهة بدائل الفوضى وخيارات الاستعمار.

ولهذا كان الخوف من تفكك الدولة فى السياق المصري خوفا أصيلا، فغياب الدولة (بسبب تفككها أو فشلها أو غيره) في مجتمع مليء بالتناقضات وتنظيماته السياسية والاجتماعية هشة، يعنى بالضرورة سطوة العصابات وشبكات البلطجة والجماعات الاسلامية المسلحة والسلوكيات الوحشية مثل التحرش والاغتصاب والنهب، أي أن غياب الدولة معناه ممارسة القهر الاجتماعى والطائفي الهمجى بدون أى رادع، ومن هنا فان حضور الدولة يظل ضروريا فى حالتنا، بل فى أى مجتمع ساعي نحو الحرية والنماء. لكن حضور الدولة الامنى الانتقائى أيضا هو حضور "لعصابات" الدولة اكثر منه حضورا للدولة، فأى تغول لعصابات الشرطة واعتباره حضورا للدولة يعنى بالضرورة الحفاظ على حالة المجتمع الرثة، حالة حضور "اللا دولة" ، ولهذا فان ترشيد هذه الدولة وحصار تغول عصاباتها الامنية هو مهمة أساسية لا يمكن أن تُنجز إلا بمجال سياسى حيوى قادر على محاصرة الدولة ومحاسبتها. والمحاسبة تفترض وجود كيان قوي ومتماسك ورشيد.

إن كان اليسار يستهدف تجذير الديمقراطية "وتقوية" المجتمع فى مواجهة جهاز الدولة وتقوية الدولة نفسها على حساب أي نظام حاكم، فهذا بدوره يتطلب ترشيد هذه الدولة وغل يد قبضتها الامنية، فلا نمو للمجتمع ولا تطور لوعيه بدون مساحات حرة للعمل الجماعى والاحتجاج والشغب فى عملية لإنتاج الوعى والتنظيم، كما أن عملية ترشيد الدولة هى نفسها عملية تبدل مستمرة لهذه الدولة بالضغط عليها من الخارج، فى عملية مستمرة للدفع بها للاعتراف "بالشعب" باعتباره شريك فاعل وأساسي فى عملية "الحكم"، ولهذا فإن تبنى الخطاب الحقوقى والارتكان على المجال السياسي لترشيد هذه الدولة هى مهمة يسارية أساسية لفتح الطريق لحركة المجتمع ونموه.

ويأتي هذا الدور على نقيض الدور الذي طرحه قطاع من اليسار العربي على نفسه كما ذكرنا وخاصة في لحظات الصراع بين الدولة ونقيضها الميليشياوي أو الماقبل حداثي المتمثل في الاسلاميين كما حدث في التسعينيات أو ما بعد 30 يونيو 2013، وهو دور الناصح الأمين أو بيت الخبرة الذي يمكن استقدام كفاءات منه لشغل مواقع هنا وهناك. صحيح أن هذه الكفاءات قد تلعب دورا في ترشيد عمل جهاز الدولة وتحسينه وتقديم بدائل أفضل له في قضايا مثل القضايا الاجتماعية أو حقوق النساء إلخ، لكن هذا في الحقيقة دور التكنوقراط وليس دور اليسار كتيار سياسي عليه أن يقدم هذه البدائل الأفضل عن طريق ضغط الحركة الجماهيرية والحضور السياسي. ويمثل تدجين الدولة للحركة النسائية (مرة في عهد عبد الناصر ومرة أخرى في النصف الثاني من عهد مبارك) نموذجا واضحا على مخاطر الانفصال عن الحركة واقتناص بعض المكتسبات (على أهميتها) برضاء الدولة، أبرزها سهولة الارتداد عن هذه المكتسبات واغتراب المدافعون عن تلك الحقوق عن الجمهور وتشويه الإسلاميين لهم، مثلما تم الارتداد عن المكتسبات الاجتماعية الناصرية أيضا في سياق آخر.

حقوق الإنسان كمشروع لترشيد الدولة

واليسار إن تبني تجذير الديمقراطية وتعميقها شعبيا كمحور أساسي في مشروعه فإن تصالحه مع الخطاب الحقوقي يصبح بالغ الأهمية. فالخطاب الحقوقي خطاب "نقدى" يتخذ مسافة من الدولة لكنه يعترف بأهمية دورها ويحملها المسئولية، ويحاصر أي نظام حاكم بالمعايير والضوابط بل يلاحقها مرتكنا –بعد ثورة يناير- على مجال سياسى هش ومركزي (ضعيف في الأطراف) ولكنه مؤثر، قادر على الضغط على الدولة مركزيا وملاحقة عصاباتها الأمنية، وانتزاع مكاسب وترسيخ أعراف فى العلاقة بين والدولة والمجتمع بالقدر الممكن، وهكذا يلعب العمل الحقوقى دورا سياسيا بامتياز فى ترشيد أداء الدولة فى عملية شد وجذب مستمرة.

ذلك برغم اعترافنا بقصور الخطاب الحقوقي في تفسير كل الظواهر ومحدوديته في الاستجابة بحساسية لقضايا الصراع الطبقي والخلل الهيكلي في القوة بين الأغنياء والأثرياء أو بين الرجال والنساء أو الأغلبية والأقلية الدينية وقصوره أيضا في مواجهة أشكال الانتهاك التي تمارسها أطراف مجتمعية على أطراف مجتمعية أخرى مثل الجماعات الإسلامية وظهيرها المجتمعي ضد الأقباط والنساء وخاصة من الفقراء لأنه يوجه خطاب المسئولية للدولة، وهو ما يعزز بشكل غير مباشر مسألة تقوية الدولة مع ترشيدها. جانب من قصور الخطاب الحقوقي يتمثل في كونه قائم على فكرة المعايير وليس الحلول أو السياسات، لكن يبقى دور السياسيين (وخاصة من اليسار المؤمن بحقوق الإنسان) ابتكار وسائل وسياسات لاستيفاء المعايير الحقوقية تبعا لظروف المكان والزمان. ومن ناحية أخرى، لعبت اسهامات القوى التقدمية في جنوب العالم في مواثيق حقوق الانسان الدولية والإقليمية دورا أساسيا في تجذير حقوق الإنسان وطرح فكرة الحقوق الجماعية وحقوق الشعوب لنقل حقوق الإنسان من مجال الحقوق الفردية إلى مجالات أرحب، وهو التوجه الذي تحاربه القوى الرجعية في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة داخل أروقة المنظمات الدولية والإقليمية نفسها.

العدالة الاجتماعية لا تكفي

باعتبار القضاء على الرأسمالية هي الأمل النهائي لليساريين على مختلف تنوعاتهم إيمانا منهم بأن الرأسمالية نظام ظالم وفاشل ويهدد الانسانية ولا يمكن أن تستمر، وذلك سواء كانوا يعتبرون الاشتراكية نظاما اقتصاديا متكاملا وفعليا يتوجب الوصول إليه في لحظة تاريخية معينة أو هدف بعيد نتخذ حياله خطوات تصحح الرأسمالية وتغير من طبيعتها دون انتهاءها تماما من التاريخ. فإن التركيز على قضية إعادة توزيع الثروة ومواجهة الفقر يعتبر أساسي في أي طرح يساري.

لكن التشدق بشعار العدالة الاجتماعية واعتباره "مهمة" اليسار الاولى يبدو لنا أمرا مشوها فمطلب تحقيق "بعض" من المكتسبات الاجتماعية لا يعنى بالضرورة مقاومة "القهر" الاجتماعى، واليسار عليه أن يعمل على مقاومة القهر الاجتماعى وآليات التهميش وليس فقط الدفع بإجراءات العدالة الاجتماعية. لكننا نجد اليسار يدافع عن القطاع العام الخرب بأي ثمن وعن تعيين المزيد من الخريجين على حساب كفاءة أجهزة الدولة ليحافظ على "اجتماعيته"، وهذا فى الحقيقة موروث ناصري مرتبط بالاساس بمطالبة السلطة على اتخاذ إجراءات لتحقيق "بعض" العدالة الاجتماعية فى سياق تأميم "الصراع الاجتماعى والسياسي"، دون الانتباه إلى أن الاستبداد (أى استبداد) لديه مصلحة فى تحقيق بعض العدالة الاجتماعية فلا استقرار لأى نظام بدون "بعض العدالة".

ويبقى الخلاف هل المهم هو المنتج النهائي (حد أدنى للأجر أو إعانة بطالة مقدارها كذا) أم عملية تمكين الطبقات الشعبية والكادحة لتسعى لانتزاع هذه الأمور. نرى أن تمكين وتنظيم الكادحين دفاعا عن مكتسباتهم هو المسعى الأهم من مجرد المطالبة بهذا المكتسب أو ذلك. والوعي بخطورة المطالبة بالمكتسبات وفقط أمر هام، وخاصة في اللحظات التي يلوح فيها إمكانية استجابة السلطة السياسية (ومن ورائها الرأسماليون بالطبع) لبعض هذه المطالب الاجتماعية تحت الضغوط دون تقديم تنازلات حقيقية على مستوى التمكين الديمقراطي للطبقات الكادحة. وتظل مطالبة الدولة بإجراءات العدالة الاجتماعية فى سياق الضغط من أجل انتزاعها أمرا جيدا لتحسين شروط حياتهم المادية وقدرتهم على النضال ضد القهر لكنه يجب لا يرتبط أبدا بدعم إعادة انتاج دولة القهر أو القبول بمكتسبات ما دون حريات التنظيم والتعبير التي تمكن الجماهير من الحفاظ عليها.

نادرا ما تكون القضايا المتعلقة بإعادة توزيع الثروة محل خلاف بين أطياف اليسار المختلفة، ويتركز الخلاف دائما على المواقف الديمقراطية (ومنها التعددية النقابية مثلا) والموقف من أجهزة الدولة والإسلاميين وحقوق الإنسان فهي الأسئلة التي تتعلق بمواجهة القهر الاجتماعي والسياسي وليس "إجراءات" العدالة الاجتماعية المطلوبة.

وببساطة، الاقرار بأن تجذير الديمقراطية هو السبيل لمواجهة القهر الاجتماعي وتحقيق قدر ما من إعادة توزيع الثروات لا يعتبر تخلي عن هدف اليسار في تغيير علاقات الاستغلال الاقتصادي في المجتمع وإنما هو اقرار بأنه لا توجد حلول اقتصادية جاهزة (اللهم إلا بعض الرشاوي الاجتماعية) إلا بتحقيق تنمية حقيقية وتنمية كهذه لن يضعها على عاتقه نظام يحاول تسكين الناس فى عملية الهدف منه بالاساس تهميشهم عن الصراع الدائر، وعلى العكس فإن المكتسبات الديمقراطية تمكن الناس من النضال من أجل حقوقهم وتنظيم أنفسهم اى الدفع بهم كطرف واعى فى الصراعات الدائرة . ويكون مشروع اليسار هنا هو تعبئة الجمهور ضد كل اشكال القهر من خلال التنظيم و"التسييس" ومنها مثلا مواجهة الممارسات الامنية القمعية فى الهوامش ومع القطاعات الفقيرة فى المجتمع، غياب الخدمات عن القرى والأحياء الشعبية، والصراع مع هذه الثقافة الاجتماعية المتجذرة الداعمة لعلاقات القوى المهيمنة التي تؤسس للـ"بؤس". ولهذا فأن يبادر اليسار فى تأسيس مواقع حية ومبادرات وتجارب نضالية نوعية قد يجعل من هذه التجارب بوصلة حقيقية لقطاعات جماهيرية أوسع ونماذج حية للعمل الديمقراطى.

وهذا يعني – بالنسبة إلينا – أن علينا كيساريين التوقف عن الرطانة اليسارية حول التناقض الرئيسي (سواء بين الطبقات الكادحة والبرجوازية أو بين مشروع التحرر الوطني والامبريالية) الذي تصغر مقارنة إليه التناقضات والقضايا الثانوية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. تلك الرطانة التي تتحول في لحظات كالتي نعيشها بعد 30 يونيو إلى مبرر لتذيل السلطة خاصة لو ألقت للفقراء بعض الفتات أو حاربت الإرهاب، وهي الرطانة التي بررت لليسار لسنوات رفض تقديم نقد حقيقي للتجربة الناصرية بسبب المكتسبات الاجتماعية التي قدمها النظام الناصري للعمال والفلاحين رغم أنه انتزع منهم أي قدرة ديمقراطية على الدفاع عن هذه المكتسبات ذاتها والحفاظ عليها.

الموقف من الحركة الإسلامية

مثلت ثورة 25 يناير وخاصة موجتها الأخيرة في 30 يونيو فرصة رائعة لاختبار مقولات فرقاء اليسار بخصوص الاسلاميين. فتذيل الدولة على الطريقة التجمعية خوفا من الاسلاميين ومباركة المواجهة الأمنية لهم ثبت تهافته بدءً بثورة 25 يناير مررا بتحالف أجهزة الدولة مع الاسلاميين، ووصولا لانحسار شعبيتهم مع المواجهة السياسية والشعبية الحرة لهم ورفض قطاعات شعبية واسعة لهم، حتى عودة الأجهزة الأمنية لعادتها القديمة بعد 26 يوليو 2013 ليعودوا يكسبون بعض التعاطف الذي فقدوه خارج كتلتهم المجتمعية الأساسية مرة أخرى. وعلى الجانب الآخر، الابتزاز نحو الاسلاميين باعتبارهم "حركة شعبية" على طريقة الاشتراكيين الثوريين ثبت فشله أيضا حيث رأينا قطاعات شعبية تخرج ضدهم وتعلن رفضها لأصحاب الأيدي المتوضئة وخاصة مع تكشف وجههم الأكثر رجعية وعنفا، وخاصة مع تبين أن التيار الاسلامي في أغلبه "حركة واحدة" تضم الجهاديين والتكفيريين و"السلميين" و"الاصلاحيين" وبالتالي فشل الرهان في التعاون مع الأطراف الأقل تطرفا داخلهم.

ويبقى استثمار بعض أطراف اليسار في التيار الاسلامي الديمقراطي أو الوسطي أزمة كبرى. فإننا – على العكس من قطاعات اليسار الرافضة لرؤية أي إمكانية لبروز هذا البديل – نرى إمكانية بروز تيار إسلامي أكثر ديمقراطية واعتدالا وقبولا لمفاهيم السياسية الحديثة كحقوق الإنسان لكننا نرى أيضا خطورة أن يستثمر التقدميون في هذا المشروع الاسلامي الأكثر اعتدالا باعتباره مشروع صديق أو حليف لأن ذلك تسليم بأن الحركة التقدمية أصلا فقدت مشروعها واستسلام لرؤية استشراقية حول المجتمع المصري فحواها أنه "إسلامي بالضرورة" ومن ثم بناء مشروع إسلامي ديمقراطي هو السبيل الوحيد للتقدم.

والأخطر أن البديل الإسلامي الوسطي هو بالفعل الأقدر على تجميع التيار الاسلامي العام على بديل أكثر حصافة من مرسي وجماعته المجنونة وأكثر قدرة على البقاء والتحالف مع أجهزة الدولة والقوى الدولية (ولهذا نحمد الله أن الإسلاميين – بسبب صلفهم - لم يجتمعوا على خيار ابو الفتوح في الرئاسة). إن تفكيك التيار الاسلامى لصالح تيارات أكثر قبولا للتعددية والديمقراطية لا يمكن أن يحدث بدون حركة تقدمية قوية ومتجذرة قادرة على التعبير المستقل عن نفسها والدفع بالصراع لأرضية أكثر "تقدما".

كذلك أثبتت معارك الثورة المتلاحقة أنه لا يمكن تجاوز الاستقطاب الهوياتي بالقفز عليه وطرح مطالب العدالة الاجتماعية والتنظيم على أساس المصلحة (وإن كان سيفيد بشكل تراكمي بالطبع في المدى الطويل). فالمعركة الثقافية المجتمعية حول سؤال الهوية معركة عميقة ويجب خوضها وكسبها بطريقة شعبية فهذا أكثر قدرة على البقاء من الارتكان على المواجهة الأمنية مع الحركة الإسلامية. ولهذا علينا كيسار أن نعترف بوجود دور هام للدولة في تحجيم ومعاقبة النوازع الرجعية في المجتمع حين تتطرف وتؤذي الآخرين، لكن الدولة وأجهزتها لن تنجز مشروع التحرر الثقافي الشعبي من أوهام المشروع الإسلامي بل أن النظام الاجتماعى القائم والذى ترعاه هذه الدولة يتركز على الاستقطابات الهوياتية والطائفية فى شرعنة هذا النظام وحصار النضالات الديمقراطية. إن دولة يوليو لا تختزن قيما علمانية بل أن لديها احتياج غريزي لهذه القوى الرجعية و للأدوار التى تلعبها فى شرعنة سلطويتها وحصار حركة المجتمع.

ومن هنا يجب الحذر من نوايا هذه الدولة رغم عدائها الآنى للإسلاميين فى صراع على مساحات السلطة والنفوذ ، فجوهر مشروع الثورة المصرية هى التخلص من هذه الدولة وبديلها الفاشى، تجاوز هذه الثنائية البائسة، ولعبة التوافق والصراع المستمرة بينهما المعادية للجمهور والتى تعيق حركة المجتمع وفرص نمو حركته الإجتماعية، إلا أن علينا أن نعى أيضا أن التناقض بين الدولة والتيار الاسلامي ضروري لنمو القوى الديمقراطية وهو ما يجعل ما حدث فى الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو حدثا ثوريا تاريخيا، فتحالفهم كان خطرا داهما على مسار الثورة ومشروع المقرطة. وعلينا كيسار أن نعي أن حضورنا ضمن تحالف ديمقراطى واسع هو السبيل لترشيد هذه الدولة وحصار عصابتها وإخضاعها لإرداة الجماهير المناضلة فى مشروع لإعادة تأسيسها على أسس أكثر عدالة ورشادة. كما علينا أن نعى أنه لا تفكيك للمشروع الاسلامي بدون حركة تقدمية قادرة على النمو والتعبير عن نفسها فى الصراعات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية الدائرة.

أخيرا هناك ضرورة التوقف عن الخلط بين الاسلاميين (كحركة سياسية وإن كانت ذات ظهير شعبي كبير) والشعب (وإن كانت قطاعات كبيرة فيه ذات نوازع إسلامية أو يبتزها الخطاب الإسلامي). وهنا أيضا يأتي الدور الهام للمعايير الحقوقية في التعامل مع الإسلاميين، فيسار يتخذ موقفا صارما من الحركة الإسلامية ويعاديها شعبيا يجب ألا يقبل بأي انتهاكات تمارس ضدها من قبل السلطة كحركة سياسية وأن يلزم السلطة في الوقت نفسه بحماية المواطن من عنف الإسلاميين وإجرامهم عند الضرورة.



التحرر من رطانة التحرر الوطنى

إن خطاب التحرر الوطني المنزوع من سياق مشروع تحرري عام يعلي من شأن الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هو إلا وصفة للاستبداد الشعبوي، وعلينا رفض الرطانة الناصرية – التي صعدت كثيرا بعد 30 يونيو – بخصوص الاستقلال الوطني عن الولايات المتحدة والقبول بالتحول شرقا نحو روسيا والصين مثلا، ورفض المقولات الشوفينية لدى اليسار حول احتكار الدولة للسياسة الخارجية وتوسيع مفهوم الأمن القومي بشكل يحجر على الحريات. فهذه الرطانة تقبل بأن قدرنا هو الخيار بين الاسلاميين والدولة المستبدة وتختار بوضوح البديل الثاني وتروج الأوهام عن إمكانية تحرر مؤسسات الدولة – وعلى رأسها الجيش – من أواصر التبعية مع الولايات المتحدة.

لقد كانت 30 يونيو لحظة كاشفة أيضا عن نظرة "الشمال" أو القوى الاستعمارية في العالم "سواء روسيا أو الولايات المتحدة" لبلادنا، فتلك القوى ترى منطقتنا باعتبارها منطقة منكوبة بثقافتها وستبقى أسيرة لإسلاميتها للأبد وتتنوع بين موقفين. الموقف الأول الذي يتبناه مثلا الديمقراطيون في الولايات المتحدة وبعض اليسار الأوروبي يتمثل في ضرورة أن يحكمنا نسخة معتدلة من الإسلاميين ترضي النزوع الثقافي للجماهير وتوفر للإسلاميين مشروعا محليا يشغلهم عن الهجمات على شمال العالم على طريقة 11 سبتمبر. والموقف الثاني هو معكوس هذا التصور الاستشراقي بالضبط، فهو يعترف أيضا بأننا منطقة منكوبة بالإسلاميين لكنه يرى أن تمكين هؤلاء الاسلاميين من الحكم خيارا مجنونا وبديله هو القبضة الأمنية على الطريقة المباركية.

ونرى أن مد الجسور مع القوى الحرة في العالم وتكشفها أمر هام، وهذا لن يتم بترديد رطانة الاستقلال الوطني والاصطفاف خلف الدولة أمام العدو الخارجي/الداخلي وإنما بالاعتراف بأزماتنا وحقيقة حصار القوى الحية والحركة التقدمية في المجتمع بين حركة اسلامية رجعية (طائفية وميليشياوية) تقدم نفسها بديلا "ثقافويا" للدولة الوطنية حركة ذات رصيد شعبي كبير ودولة استبدادية مصرة على عدم التقيد بأي معايير ديمقراطية. فبعد ثلاثين يونيو وقفت الكثير من القوى الديمقراطية في العالم ضد الحركة الشعبية واعتبرتها انقلابا على الديمقراطية. لا نتحدث هنا عن الدول ذات المصالح الاستعمارية مثل الولايات المتحدة، وإنما موقف الكثير من الدول الأفريقية واللاتينية والجماعات الحقوقية الجنوبية الذي لا يمكن تفسيره سوى بفشل القوى الديمقراطية في شرح أزمتنا. إن اكتساب الأصدقاء من القوى التقدمية والحرة في العالم لن يأتي سوى بالاعتراف بأزمتنا أمام الجميع ودعوتهم لمساندتنا على شق طريق الحرية، أى مد الجسور مع القوى الديمقراطية فى العالم والتى تخوض صراعا مع نظام عالمى يتغذى هو ايضا على منطقتنا "المنكوبة " التى تستعمل أيضا فى حصار حركة القوى الديمقراطية فى العالم فى مواجهة النظام العالمى المستغل، فالحرب على الارهاب الاسلامي والصراع الطائفى فى المنطقة تم استعماله كفزاعة لتمرير السياسات النيوليبرالية والضغط على شعوب العالم وشعوب المركز، فنضال القوى الديمقراطية العربية يجب أن يتم تقديمه باعتباره جزء من هذا النضال العالمى فى مواجهة النظام العالمى ومرتكزاتة التى من اهمها منطقتنا وحالتها الرثة.

التخلص من وهم الطليعية

ربما من المهم أيضا إعادة النظر فى هذه الرؤية الطليعية الذى يتبناها قطاع كبير من اليساريين فى مصر والوطن العربى وهي الرؤية التي تجعل اليسار يظن نفسه الممثل "الطبيعي" والقائد المفترض للجماهير، وبالتالي يكون دوره هو قيادة الطبقات الكادحة وتعبئتها لبناء الاشتراكية. إن هذه الرؤية الطليعية لدور اليسار من أهم الأساطير التى تعيق الدور الممكن لليسار، فهذا الدور الطليعي يبطل الفاعلية السياسية لليسار لمصلحة أوهام مؤدلجة، فالدور السياسى الفعال لليسار يتطلب قراءة حقيقية للظروف الذاتية والموضوعية، قراءة من لحم ودم ترصد الدور الذى يمكن أن يلعبه التنظيم اليسارى فى كل لحظة، أى الكشف عن إمكانيات العمل وليس الإرضاء الزائف "للأيدولوجية" وأوهام "القيادة". فالثورة وضعت اليسار فى مواجهة أسئلة صعبة ولم تأتي وفقا للكتالوج اليساري المحفوظ. وكذلك، اليسار لا يقود الجمهور ولا الحركة ولا قادر على تحقيق نصر انتخابى من اى نوع، لكنه قادر على أن يخلق فى هذا السياق صوتا جذريا قادر على إلهام قطاعات من الجمهور وإنتاج موقع ديمقراطى أصيل داخل المجال السياسي وفى مواجهة هذا المجال السياسى أيضا، قادر على إنتاج أشكال من المبادرات النوعية مرتبطة بتنظيم العمال والفلاحين وقضاياهم وبالقضية الطائفية وبقضايا المرأة. هذه المبادرات النوعية تتحرك فى مساحات ضيقة ولكنها بالقطع قادرة على خلق بؤرة إلهام مستمرة لقطاعات اوسع. فعملية تأسيس النقابات المستقلة، ورغم محدودية تأثيرها إلى الآن، فإنها تلعب دور فى تقديم بدائل للعمل الديمقراطي والنضال الاجتماعى لحركات الاحتجاج العمالية والفلاحية، وتنتج مواقع واعية قادرة على إلهام قطاعات أوسع فى عملية طويلة ولكنها ضرورية فى مشروع النضال الديمقراطى. كما أن المواقف النقدية والشجاعة تجاه القضايا الشائكة مثل العنف الجنسى أو الطائفية أو التنكيل بالمهاجرين السوريين إلخ هى عملية إنتاج لمشروع سياسى قادر على التمايز وخلق التوتر الفكرى والسياسي الضروري لتقديم اليسار كصوت جذري فى المجتمع له موقعه وتحيزاته، ويخوض من هذا الموقع الصراعات السياسية والأيدلوجية ويعمل على الدعم التنظيمى والسياسي للحركة الاجتماعية، وهذا يعنى ان اليسار فى الحقيقة هو منبر الدفاع عن الحرية و مقاومة كل اشكال الاستغلال و القهر فى المجتمع اكثر من كونه مشروعا طليعيا لقيادة الطبقة العاملة او قطارا لبناء الاشتراكية.

القبول بهذا الدور "المحدود" هو في الحقيقة تواضع أمام الظروف الموضوعية لنمو اليسار في مصر وانفتاح على الفرص التي وفرتها الثورة. فبدلا من أن يبقى اليسار في انتظار سرمدي لنمو الطبقة العاملة وتبلور وعيها لتكون القوة الاجتماعية التي يستند إليها يمكنه البدء باحتلال موقعه والتوجه لجمهوره من آلاف المواطنين – وخاصة من الشباب - الذين ألهمتهم الثورة فانحازوا لمواجهة القهر في كافة صوره، فهذه القوة الحية هى بوابة عودته تيارا جماهيريا قادرا على الحضور والتفاعل مع الجماهير فى كل مكان.

30 يونيو وانكشاف الأوهام

كشفت 30 يونيو الكثير من الأوهام التي عرقلت اليسار عن لعب دوره وجثمت على محاولات إعادة تأسيسيه بعد الثورة. فمع انكشاف وحشية وإرهاب التيار الإسلامي وطائفيته وصعوبة بروز تيار ديمقراطي من داخله، انكشف زيف رهان قطاع من اليسار على التحالف معه لمواجهة الدولة الاستبدادية. ومن ناحية أخرى، انقضت الدولة على مكتسبات الثورة ومشروعها بحجة الحرب على الإرهاب، فبدا اليسار عاجزا عن تقديم مشروع أو حتى صوت جذري يؤثر في مسار الأحداث السياسية أو حتى يلهم القطاعات الثورية من الجماهير دون انحياز للإسلاميين في معركتهم الرجعية أو تذيل للدولة في علاقة حب من طرف واحد، ذلك على عكس تجارب يسارية أخرى في العالم كانت مواجهة قوانين الحرب على الإرهاب واستغلالها لمصادرة السياسة في المجتمع من المعارك الأساسية لتشكيلها. وكشفت 30 يونيو أيضا أهمية حماية الدولة من التحلل والانزلاق للميليشياوية والطائفية الصريحة، حيث مثلت بوادر دولة الإخوان الآخذة في التشكل نموذجا يستحيل فيه التأسيس لأي حياة مدنية يناضل فيها الناس من أجل حقوقهم ومصالحهم (ناهيك عن النضال من أجل الاشتراكية) نظرا لهوس الجميع بالهوية والطائفة وخلافه ورعاية النظام الحاكم نفسه لهذا الهوس.

وواجهنا المسار الذي أخذه الصراع بعد 30 يونيو بأن إعادة تأسيس اليسار بعد الثورة لن تقوم بالضرورة على محاولة توحيد فرقاء اليسار المحملين بأعباءه ورطانته، وإنما أساسا ببروز تيار يساري جديد مستعد للتخلي عن أوهامه المذكورة سابقا والاشتباك مع أسئلة اللحظة التي ستمتد لسنوات.