انفلات غول الطائفية


خالد الحروب
الحوار المتمدن - العدد: 4273 - 2013 / 11 / 12 - 00:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

طالب في الاعدادية يعرف بنفسه في حسابه على «الفيسبوك» بأنه «مسلم سني» في بلد مشرقي يشكل السنة فيه أكثر من 99 في المئة. بنت عمرها 5 سنوات في بلد آخر تعود إلى أمها من روضة الاطفال تبكي وتشتكي بأن زملاءها في الروضة يقاطعونها ولا يلعبون معها لأنهم يقولون إنها «شيعية» وتسأل أمها عن معنى ذلك! على مستوى أعلى يتنافس تكفيريون شوهوا الثورة السورية وحرفوها عن مسارها مع «حزب الله» في قتل آلاف من السوريين. وخلفية المشهد المأساوي للتعبيرات التي لا يمكن حصرها هي التخندق في الهوية الطائفية، إذ تصبح المميز الأهم في فرز تكتلات المجتمعات مذرّية التعايش العفوي الذي ساد قروناً وعقوداً طويلة. وفي البلدان الخليطة طائفياً مثل العراق ولبنان يتحدث كبار السن بألم ممض عن سنوات وعقود عاشوها ولم يكونوا يعرفون من هو سني ومن هو شيعي، حيث يتزاوج الناس ويتعاملون فيما بينهم عفوياً وطبيعياً من دون الفرز الهوياتي. قبل أن يضرب المنطقة هوج التيارات الاسلامية (السنية والشيعية) وخطاباتها التي تزعم مع ذلك التعايش والتسامح وكل الكلام الفارغ! كان الناس في تعايش وتسامح عاديين، وكان الدين بوجهه الأليف وتفسيراته المعتدلة يُمارس في المجتمعات من منطلق العلاقة الفردية مع الخالق والحب مع المخلوق. وفي الحقبة «الإسلاموية» المظلمة صار الدين عنفاً ودماً وسياسة قاتلة وجماعية. وانتشرت التفسيرات الإقصائية والتكفيرية المُستبطنة في المناخ العام وسمّمته، بل تسربت إلى التعليم المدرسي والمساقات التي تُدرس للأجيال الجديدة. صار مسيحيو الوطن «نصارى صليبيين» وصار شيعته «صفويين كفرة»، وانخرط الجميع في حفلة انتحار جماعي يكاد لا يُستثنى منها وطن أو مجتمع.

وفي تحليل جذور ما وصلنا إليه نعرف أنها تعود إلى التنافس والاقتتال المدمر بين السلفية المتطرفة والخمينية المتطرفة الذي استعر منذ قيام الثورة الإيرانية في نهاية السبعينيات وردود الفعل السلفية التي استفزتها. وقد انخرط الطرفان في حرب خطابات مدوية حول من يمثل الإسلام والمسلمين، ووظفت في تلك الحرب كل أساليب الدعاية والهجوم والإعلام، واستنفر كل الماضي البائس وثاراته ودمويته. وتم ترحيل المجتمعات إلى قرون سحيقة وعوض أن نعيش في القرن الحادي والعشرين والعالم يصل إلى المريخ وصلنا بسرعة الضوء إلى الفتنة الكبرى، وأقمنا هناك. ونبشنا كل الدماء التي جفت وأعدنا إليها بعبقرية بالغة ومحطمة لونها الأحمر وحرارتها فصارت كأنها سالت اليوم، وبعثنا فيها حياة دائمة، صارت دماء حارة لا تجف أبداً، وكل يوم تلطخ وجهنا، وتملأ أفواهنا وتخنقنا. وحيث لا يوجد هذا الانقسام السنيـ الشيعي تتحول الطاقة التدميرية إلى المسيحيين كما في مصر، حيث في فترة ما بعد سقوط مرسي وحدها تعرضت أكثر من أربعين كنيسة للحرق والتدمير، إضافة إلى عشرات المحال والصيدليات التي يملكها مسيحيون.

نحن اليوم نقف على حافة هاوية إن تركنا أنفسنا نهوي فيها، فإننا سنحتاج عقوداً طويلة كي نخرج منها، كما يقول لنا درس التاريخ المرير. إنها هاوية الطائفية، حيث يرقد في قاعها الموت الجماعي، وحيث لا أحد ينتصر. غول الطائفية انفلت في بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل يأكل الأخضر واليابس، ويطارد الجميع ويدفعهم إلى تلك الهاوية، يحشدهم جماعات ومجتمعات، ويقودهم منقادين ومنومين إلى حتفهم الكلي. يجب أن ينتابنا رعب جماعي من هذا الغول، وأن نصده بكل الجهد والعزيمة لأن المعركة معه معركة حياة أو موت. ففي الطائفية وحروبها ليس هناك منتصر، بل الكل يخسر والكل يُدمى بالهزيمة. والطوائف والأديان كما القوميات منزرعة في تكوينات البشر وفي الأرض والمجتمعات ولا يمكن خلعها. ولن تكون هناك طائفة أو قومية غالبة ظافرة بالمطلق حتى لو ظنت أنها قد هزمت الآخرين. فنار الطائفية تظل تغلي تحت الرماد، والحل الوحيد لإطفائها هو الإقرار الجماعي بالتعايش والاحترام المتبادل، وليس مواصلة الحرب والاتهام والرغبة البدائية في الإبادة والتطهير.

إن إطار التعايش الذي يمكن أن تتصالح فيه الطوائف والأديان والعصبيات المختلفة من دون اصطراع تبادلي التدمير هو إعلاء الأولوية للانتماء إلى الوطن على الانتماءات الأخرى، وعلى قاعدة المواطنة والمساواة التامة. والأفراد في كل وطن من الأوطان هم مواطنون أتباع للوطن أولاً، ثم لأية انتماءات ثانوية ثانياً. هم مصريون أولا، ثم يأتي بعد ذلك أي ولاء آخر، إسلامي أو قبطي. وهم عراقيون ولبنانيون قبل أن يكونوا سنة أو شيعة، وهكذا. وهذا ما يجب أن يتوافق عليه الجميع كفكرة مؤسسة للجماعة الوطنية التي ينتمون إليها، وتكون حجر الزاوية في الدستور والقوانين، وهي ما يجب أن يؤسس لكل ما يتعلمه طلاب المدارس وتمارسه المؤسسات الرسمية أولاً ويتبناه المجتمع المدني والديني ثانياً. عندما تترسخ فكرة المواطنة وفكرة المجتمع والدولة المدنية لا الدينية نواجه جماعياً غول الطائفية ونبدأ في الهجوم المعاكس.

ومن دون ذلك، فإننا سننخرط في دوامات الصراعات الطائفية، ونستدعي أحقاد الماضي لتكون هي العتاد المسموم في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن دون ذلك نظل ضحايا طوعيين للغرائز البدائية وبكائيات القرون الخالية وتمتص الثارات لأموات قدامى كل ما هو أخضر وحي في حاضرنا. ومن دون ذلك سنغلق بوابات المستقبل في وجه الأجيال القادمة، وندفعها للعيش في الماضي، شباب في عمر الورد ولكن كل الذي يفكرون فيه هو الرحيل بعيداً في ماض سحيق للالتحاق بجيش خيالي، وإعلان الحرب الأبدية التي لا تموت ضد الآخر، حيث نتيجة الحرب وللطرفين معاً هي الموت المحقق والهزيمة المحققة.