شهدي عطية : ثلاثية الوطن والفكر والاغتيال


محمد دوير
الحوار المتمدن - العدد: 4264 - 2013 / 11 / 3 - 00:00
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية     

في هذه الورقة أحاول أن أتخلص من وجعي الخاص لسيرة درامية لمناضل أخلص متفانياً وأحب عاشقاً ودافع مقاتلاً عن كل ما اعتقد وآمن بصدق تام وصل إلي حد الموت. وأبحث في ثنايا الأفكار والرؤى التي تكشف عن عقل منظم ومفكر منتمي للحق والخير والجمال وباحث التزم بقواعد المنهجية العلمية في تناول أو تحليل الظواهر، إنها محاولة لإعادة اكتشاف شهدي عطية المفكر والمثقف العضوي أو الملتزم .
سيرة مناضل
شهدي عطية عبد الله الشافعي ، ولد في 20 نوفمبر 1911 بالإسكندرية وحصل علي ليسانس الآداب من جامعة فؤاد الأول ، ودبلوم المعلمين العليا في عام 1931 ثم إبتعث علي نفقة الحكومة المصرية إلي جامعات فرنسا وجامعة أكسترا بانجلترا.وحينما عاد إلي وطنه شغل منصب مفتش اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف.وأدار دارا للأبحاث العلمية ونشر الثقافة " مكتبة مصر للترجمة والنشر"
اعتقل شهدي بتهمة تأسيس خلايا شيوعية، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات مع الأشغال الشاقة ، في يوليو 1949. ووصفته النيابة أثناء المحاكمة بأنه الشيوعي رقم 1،ثم اعتقل مرة أخري عام 1959،تزوج عام 1957 من السيدة روكساني بتريدس وله ابنة" حنان".له من الأعمال الأدبية قصتان قصيرتان " من الجامعة إلي الوظيفة " و " جمال رخيص " 1936، ورواية " حارة أم الحسيني "1956 ومن الأعمال الفكرية : تطور الحركة الوطنية- ماذا تريد أمريكا من الشرق الأوسط - نحو حزب من نوع جديد - تاريخ الحركة الوطنية - أهدافنا الوطنية.شارك في العديد من معاركنا الوطنية كتأميم القنال والعدوان الثلاثي وأسهم في تأسيس الاتحاد الدولي للعمال العرب والاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وشارك بفاعلية في مظاهرات 1946 وانتخابات 1957وكافة الفعاليات المصرية الوطنية التي كان فيها خارج السجن.اغتيل علي يد زبانية العهد الناصري في 15 يونيو 1960.
أي نوع من الاغتيال ؟
تنزوي أفكار المناضلين أحيانا خلف عبق نضالاتهم اليومية وكفاحهم المستمر ومسيرتهم المليئة بالمظاهرات والاجتماعات والمناقشات والبيانات والاعتقالات..الخ فننسي أن لهم من وجهات النظر والأفكار والكتابات والتحليلات ما يستحق النظر والتأمل والدرس، فسيرة المناضل ليست مسيرته فحسب بل هي أفكاره أيضا. وشهدي واحد من هؤلاء الذين سجلهم التاريخ علي جبينه بأحرف من نور ودم، وبكلمات صهرها الوجع والألم والحسرة والفخر أيضاً، هو حبة من عنقود المناضلين الذين خاصموا حياة الترف والدعة وتجاهلوا عيشة الاستقرار البرجوازي فأبي إلا أن يبسط يديه لوطن استعارته الأمكنة المزيفة والاستعمار والإقطاع، ولطبقة نزفت عقوداً وسنيناً تحت نير الظلم والطغيان والاستبداد. شهدي – بحق – واحد من هؤلاء الذين بنوا مصر الحديثة فدافعوا عن وطنيتهم وإيديولوجيتهم وعقيدتهم السياسية ودفعوا في مقابل ذلك أثمانا باهظة هي فداء لتراب وطن آمن به عماله وفلاحوه ومثقفوه فواجهوا بصدورهم وقلوبهم وعقولهم موجات الاحتلال والكبت والفساد وتغييب الثقافة الوطنية.جيل قتل الخنوع والذل والمهانة والجهل والتخلف في وضح النهار وتحت كبد الشمس ، ولكن من اعتقلهم أو عذبهم أو اغتالهم إنما قام بأفعاله تلك تحت جنح الظلام خفية وخوفاً وجبناً ورعباً ، ثم حينما فعلوا فعلتهم الشنعاء هذه قالوا كذبا وادعوا افتراءات . وليس منا من صدقهم لأنهم اعتادوا تزييف كل شيء. الذين اغتالوا شهدي هم من اغتال حلم الوطن وجغرافية الحياة البسيطة الحالمة بمجتمع اشتراكي لطالما دعا إليه شهدي ورفاقه. إن شهدي لم يمت.. بل علقت نسخ من روحه في عقولنا وقلوبنا وعلي جبيننا. ولم ينجح مغتالوه سوي في مواراة جسده التراب فحسب، لم ينجحوا في أكثر من ذلك. أما نحن فقد نجحنا في أن نبقيه حيا بيننا نشعر به في كل انتصار نحققه وفي كل قيمة ندافع عنها.
ثلاثية الفكر والوطن والموت
ظهر شهدي عطية ( 1911- 1960 ) في مرحلة تاريخية خصبة من القرن العشرين في ظل مشهد دولي تتقاسمه ثلاث مناطق :
1- التكتل الرأسمالي الغربي وامتداده في المستعمرات التي تشكلت بداخلها جذور للمقاومة والتحرر.
2- القوي الاشتراكية الصاعدة التي تنامت قوتها بعد الانتصار السوفيتي في الحرب العالمية الثانية ثم قيام الثورة الصينية 1949.
3- قوى التحرر الوطني التي نشأت في معظم مستعمرات الجنوب كقوي مقاومة للاستعمار من أجل التحرر قادتها تيارات وقوى شعبية كانت الحركات الشيوعية والماركسية مكون رئيسي فيها ,وربما كانت ثورة يوليو ذاتها – التي أصبحت فيما بعد قلب قوى التحرر الوطني في خمسينيات القرن العشرين- هي الصورة المعبرة تماماً عن تحالف القوي الوطنية في الكفاح ضد الاستعمار ونتاج في الوقت نفسه لقوة الدفع الإيديولوجي والسياسي للنظام الاشتراكي الناهض.
كان شهدي ابناً لهذه المرحلة وتلك الثقافة التحررية التي هيمنت على النخبة في العالم الثالث متسلحة في بعض الأوقات بالاشتراكية العلمية ومنتمية إلى الطبقة العاملة ومستندة لتنظيمات شيوعية أو تقدمية أو قومية.فظهرت قدراته في تفهم الوضع الدولي والدور الواجب على القوى الثورية في مصر، وأن هذا المجتمع المصري في حاجة إلى تغيير جذري يعيد صياغة الواقع بما يتوافق مع قواه المنتجة الحقيقية. يتم ذلك بواسطة سلسلة طويلة من النضالات للقوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير من العمال والفلاحين والمثقفين وبعض قطاعات البرجوازية المتوسطة. كان إيمان شهدي بالطبقة العاملة ودورها في إحداث التغيير لا حدود له ،لكن إيمانه الحقيقي بمبادئه وقناعاته جعل وطنيته أكثر وضوحاً والتزامه بقضايا أمته أكثر عمقاً. فكما وقف شهدي عطية كغيره من المناضلين داخل ثلاثية " الاشتراكية - الرأسمالية- التحرر الوطني" على الصعيد العالمي، وقف أيضا على الصعيد المحلى داخل ثلاثية " حزب الطبقة العاملة - التحرر من الاستعمار- التنظير الإيديولوجي." وكأن شهدي عطية المثقف الثوري يهرب من آفة الفكر العربي المعاصر وهي الثنائية التوفيقية بين الأصالة والمعاصرة أو التجديد والتقليد أو العقل والنقل أو ما إلى ذلك من الثنائيات التي هدمت الفكر العربي وقوضت بذور انطلاقه.
وبينما كان كفاح الشيوعيين المصريين يتواصل ضد الاحتلال والقصر وضد كبار الملاك والرأسماليين, كانت تمور تحت الجلد صراعات تنظيمية وخلافات نظرية شديدة حول طبيعة الطبقة العاملة المصرية والموقف من الإقطاع وأصحاب رأس المال والخصوصية المصرية في إطار المنظور الاشتراكي العلمي عبر اجتهادات كثيرة متنوعة بعضها في محاضرات التثقيف الحزبي وبعضها في مناقشات الرفاق داخل المعتقلات وبعضها الآخر جاء من خلال كتابات ومؤلفات ومن بينها بالطبع كتابه الهام " تاريخ الحركة الوطنية المصرية".
وقف شهدي معارضاً للبرنامج السياسي الذي طرحه هنرى كورييل بعد الحرب العالمية الثانية حول المشروع الفكري الجديد للشيوعيين الذي جاء كوثيقة بعنوان"خط القوات الوطنية الديمقراطية "وفحوى هذا التصور الجديد هو إمكان استيعاب الحزب الثوري لطبقات اجتماعية مؤهلة لأن تكون ثورية بجوار الطبقة العاملة, مرتكزاً في ذلك على فكرة لينينية حينما اعتقد أن الفلاحين هم امتداد للطبقة الثورية العمالية وحيث ذهب كورييل إلي أن بعض فئات البرجوازية الصغيرة التي شاهدت الانتصار السوفيتي وتطلع قوي التحرر الوطني إليه كمخلص للشعوب كفيل بأن يجعل منها طبقة ثورية داخل الحركة الشيوعية.ولم يعتقد شهدي تماما في هذا التحليل فعارضه وواجهه متضامنا في ذلك مع عبد المعبود الجبيلي ومنظراً لهذا التصور المعارض بأنه لا بديل لثورية الطبقة العاملة ولا يجب أيضا الخلط بين حزب الطبقة العاملة والتحالفات المتغيرة التي قد تتضمن البرجوازية الصغيرة وقد نتج عن هذا الموقف النظري أمران :الأول الدعوى إلى "حزب من نوع جديد" يؤكد على ثورية الطبقة العاملة والثاني كتاب تطور الحركة الوطنية المصرية" وهذا ما يدفعنا الي تناول أفكار ذلك الكتاب تمهيدا لدراسات مستقبلية حول تلك التحليلات.
إن أفكار شهدي عطية وغيره من منظري الحركة الشيوعية المصرية تستلزم تتبع أبحاثهم ودراساتهم ومقالاتهم المتنوعة في أكثر من مصدر أو إصدار,وهي مسألة رغم صعوبتها إلا أنها ستكشف لنا بالضرورة عن الكثير من القضايا والتصورات الهامة التي كانت تدور في رواق الفكر الاشتراكي المصري في مرحلة تاريخية مضيئة من حياته .وربما استدعت هذه الحاجة أيضا المطالبة بتجميع الأعمال النظرية الكاملة المتوفرة من كتابات ومؤلفات ومقالات شهدي وغيره. وإنني على ثقة بأن هذه الأعمال ستكون مرشداً لنا في كثير من القضايا.