خواطر من وحي الانتفاضات العربية والصراع مع قوى التخلف والرجعية والاسلام السياسي........


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4257 - 2013 / 10 / 27 - 17:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


(1)
منظور للعلاقة بين أحزاب وفصائل اليسار وحركات الإسلام السياسي
في إطار حديثي عن علاقة اليسار العربي مع حركات الإسلام السياسي ، فإنني أود التوضيح هنا أنني لست في وارد تناول موضوعة " الدين" من زاوية فلسفية , في إطار الصراع التاريخي بين المثالية والمادية, فهذه المسألة ليست بجديدة, كما أنها ليست ملحة, كما أن عملية عدم الخلط بين الدين كعقيدة يحملها الناس، وبين الجمهور المتدين تعتبر مسألة مهمة وحساسة , فان يكون لنا موقف فلسفي من الدين، لا يعني على الإطلاق سحب ذلك الموقف على الجمهور المتدين , بل على العكس، فان التحليل الموضوعي ، إلى جانب الوعي والشعور بالمسئولية والواجب، يفترض منا الاقتراب من ذلك الجمهور واحترام مشاعره الدينية، والتفاعل مع قضاياه وهمومه وجذبه إلي النضال من اجل الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وإنهاء كافة أشكال الاستغلال والقهر والاستبداد، انطلاقاً من فهمنا للماركسية بأنها ليست نظرية مضادة للدين – كما يروج دعاة الإسلام السياسي والقوى الرجعية والامبريالية – بل هي طريقة تفكير لفهم الوجود بكليته ، فالماركسية تنظر إلى الدين بوصفه جزءاً من تطوّر الوعي البشري في محاولتهم فهم واقعهم، وصوغ الرؤية التي تكيفهم معه، وأنه شكّل –في مراحل تاريخية معينة- تطوّراً كبيراً في مسار الفكر، وانتظام البشر في الواقع.
أما بالنسبة للعلاقة الخلافية بين اليسار وحركات الإسلام السياسي، فهي تستند – من وجهة نظري - إلى التحليل الموضوعي الذي يؤكد على أن الأساس في هذه الحركات هو دعوتها إلى معالجة القضايا المعاصرة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية...، عبر منطق غيبي تراجعي عاجز عن بلورة برنامج سياسي ديمقراطي اجتماعي تنموي ، يتناقض مع جوهر النظام المخلوع في تونس ومصر أو مع أي نظام استبدادي ، ما يعني إعادة إنتاج أنظمة ليبرالية رثة، وتابعة ومحتجزة التطور، مع استمرار النظام الاقتصادي الاستغلالي على ما هو عليه أسيراً وتابعاً لشروط الصندوق والبنك الدوليين وللسياسات الأمريكية .
وعلى الرغم من كل ما تقدم ، علينا أن ندرك في ضوء المستجدات والمتغيرات المتلاحقة راهناً، إلى أننا سنواجه –مع حركات الإسلام السياسي- ظروفا وأوضاعاً معقدة, ما يفرض على قوى اليسار العربي أن تتمسك برؤيتها الموضوعية إلى أبعد الحدود في العلاقة الديمقراطية وقضايا الصراع الطبقي والسياسي، ومفاهيم الاستنارة والعقلانية مع هذه الحركات بمختلف مذاهبها، كما عبر عنها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد وأحمد أمين .. وغيرهم، بحيث نحرص على أن لا تصل الاختلافات معها ، إلى مستوى التناقض التناحري، وأن تظل الخلافات محكومة للعلاقات الديمقراطية.
الانفصام السياسي الاقتصادي الاجتماعي، سيظل سمة رئيسية من سمات المرحلة الحالية، أو مرحلة "الإسلام السياسي" وهي مرحلة قد تطول ، لكن الجماهير الشعبية ستتكشف تدريجياً حقيقة التيارات الدينية وسياساتها وممارساتها التي لن تختلف -في جوهرها- عن سياسات النظام المخلوع، ما يفرض على القوى الديمقراطية الوطنية والقومية، والقوى اليسارية أن تكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها ونضالها في أوساط الجماهير، بما يمكنها من أن تتخطى حالة الانفصام المذكور ، وذلك من خلال امتلاكها لرؤية سياسية مجتمعية اقتصادية ، تنطلق من استمرار النضال لاستكمال مهمات الثورة الوطنية الديمقراطية، عبر التوسع في صفوف العمال والفلاحين والشباب وكافة الأطر والجمعيات المهنية والنقابات ، لكي تدخل معترك الانتخابات القادمة واثقة من انتصارها، خاصة وأن أسباب الانتفاضة الثورية لن تتلاشى أو تزول، بل ستتراكم مجدداً لتنتج حالة ثورية نوعية، تقودها القوى الديمقراطية، المدنية ، العلمانية واليسارية لكي تحقق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها.
(2)
بالرغم من نضالنا من أجل تكريس الحريات الفردية والحريات العامة والديمقراطية السياسية ، إلى جانب إيماننا العميق بأولوية العلمانية في سياق التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في مجتمعاتنا العربية، إلا أننا نرفض الوقوف عند حدود الديمقراطية السياسية ، بمثل ما نرفض استخدام العلمانية بدون الديمقراطية ببعديها السياسي والاجتماعي معاً، ، فهما مفهومان مترابطان لا يجوز فصل أحدهما عن الآخر، لان استخدام العلمانية وحدها يفتح الأبواب مشرعة أمام الاستبداد والتفرد بالحكم، وبالتالي فإن التطبيق الإكراهي للعلمانية ، لا يعدو كونه مظهراً بشعاً من مظاهر الاستبداد الدكتاتوري الفردي والشمولي ، كما أن استخدام الديمقراطية بدون ربطها بالعلمانية والقضايا الاجتماعية، يعني إتاحة كل الفرص أمام قوى الثورة المضادة، وقوى التبعية والتخلف والإسلام السياسي والطوائف، لاستغلال عفوية الجماهير الشعبية الفقيرة وتوجيهها لحساب الرؤى والسياسات الاقتصادية الرأسمالية التابعة بصورة ديماغوجية، كما حصل في تونس ومصر وليبيا والعراق واليمن وسوريا .الأمر الذي يؤكد على أن النضال التحرري الثوري والديمقراطي ، في إطار الصراع الوطني والطبقي ، من أجل نشر وتعميم فكرتي العلمانية والديمقراطية في أوساط الجماهير ، يحتاج بالضرورة إلى أحزاب ثورية توفر الأسس السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في قلب البنية التحتية للجماهير الشعبية.

(3)
عن أوهام الربيع العربي وضرورات التواصل الثوري ..بمناسبة مرور عامين على الانتفاضات العربية في تونس ومصر.....
بعد حوالي عام من فوز جماعة الإخوان المسلمين ووصولها إلى سدة الحكم في مصر وتونس ، بات من الواضح أن حركات الإسلام السياسي وكافة القوى الرجعية والبورجوازية الرثة والبيروقراطية العسكرية والمدنية (المدعومة من الامبريالية الأمريكية) يتحركون داخل حلقة دائرية تعيد إنتاج التبعية والتخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتجدده بأساليب وشعارات ديماغوجية، والعودة إلى تراث انتقائي موهوم استطاعت التيارات الأصولية إعادة زراعته وإنتاجه باسم وأوهام ما يسمى بــ" الربيع العربي " عبر شكل " جديد "من أنظمة الاستبداد والاستغلال الطبقي ، في قلب عفوية الجماهير الشعبية، وبالتالي ، فإن ما يسمى بالربيع العربي لم يجلب للجماهير الشعبية العربية سوى مزيد من الاستبداد والاستغلال والتخلف ، لإعادة تشكيل بلدان النظام العربي في إطار أشكال جديدة من التبعية للسياسات الأمريكية والنظام الرأسمالي العالمي من خلال القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤثرة ، رجال الأعمال والكومبرادور وبقية أشكال الرأسمالية الطفيلية المعادية لتطلعات الشباب الثوري و جماهير الفقراء من العمال والفلاحين وكل المضطهدين، وهو أمر غير مستغرب عبر قراءتنا لدورها السياسي ومصالحها الطبقية ، إذ أن هذه القوى الطبقية كانت وستظل حريصة على إعاقة ربيع الثورة وتعطيل و تبهيت الصراع الطبقي ، وهي بالتالي تعمل دوماً على إرجاع مسيرة الثورة الشعبية إلى الوراء، فهي ضد التنوير وضد الحداثة وضد الديمقراطية وضد الاشتراكية والصراع الطبقي الثوري، ما يؤكد استعداداها لمهادنة الامبريالية والتعاطي معها ...لكن صيرورة الثورة الشعبية لن تنطفئ ، بل ستشتعل من جديد معلنة بداية ربيعها الثوري الديمقراطي القادم لا محالة .
(4)
انظمة الاسلام السياسي بقيادة جماعة الاخوان المسلمين تعمل في مصر وتونس وغيرهما من بلدان الوطن العربي على تحويل الديمقراطية من مهد للتغيير والتقدم الى لحد تدفن فيه كل طموحات الجماهير الشعبية....
ان قوى الإسلام السياسي التي تتصدر المشهد السياسي في اللحظة الراهنة، تحاول إفراغ الانتفاضة الثورية في مصر وتونس من مضمونها الطبقي –الاقتصادي والاجتماعي- الذي كان السبب الأول لانفجارها جنباً إلى جنب مع مطلب الديمقراطية والحريات الفردية والكرامة والعدالة وتحديد الحد الأدنى والاقصى للاجور ، حيث نلاحظ أن حركات الإسلام السياسي حرصت منذ أن قررت الالتحاق بالانتفاضة ، على إزاحة شعارات الشباب الثوري والعمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين التي تؤكد على مطالبهم في الخلاص من كل أشكال الاستبداد والاستغلال الطبقي والإذلال الاجتماعي، إلى شعارات تؤكد على أن المعركة هي بين القوى الديمقراطية العلمانية واليسارية والقومية ، وبين الإسلام الذي تدعي تمثيله، وتقدمه على أنه "الحل المنشود" وذلك تعبيراً عن رؤيتها ومصالحها الطبقية التي لا تختلف في طبيعتها وجوهرها الاستبدادي عن طبيعة النظام المخلوع… من اجل تكريس تخلف وتبعيةمصر وتونس واحتجاز تطورهما .... لذلك كان من الطبيعي ان تنفجر الثورة الشعبية معلنة رفضها للديكتاتورية والتفرد والقمع والاستبداد بعد اكتشفت الجماهير حقيقة التيارات الدينية وسياساتها وممارساتها التي لن تختلف -في جوهرها- عن سياسات النظام المخلوع، وبالتالي فان القوى الديمقراطية اليسارية والوطنية والقومية، يجب أن تتوحد في هذه اللحظة وتكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها في أوساط الجماهير لكي تستمر في النضال الديمقراطي لاستكمال مهمات واهداف الثورة الوطنية الديمقراطية التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها.

(5)
المجتمعات العربية بين هيمنة التخلف وآفاق عصر التنوير ...
المجتمعات العربية حتى هذه اللحظة من القرن الحادي والعشرين لم تدخل بعد الى عصر التنوير..بسبب استمرار سيطرة وهيمنة الانظمة الرجعية التي تجسد أبشع المصالح الطبقية وتفرز يوميا أبشع الافكار الغيبية المتخلفه في اطار من القهر والاستبداد والاستغلال للجماهير الشعبية الفقيرة التي بدأت في الانتفاضة والتمرد ومواصلة الثورة من اجل الحريه والانعتاق والعد...الة وسيادة مفاهيم التنوير والعقلانية والديمقراطية بعد ان تكشفت زيف مشهد الاسلام السياسي ومحاولاته في اعادة انتاج التخلف والتبعية والاستبداد والقهر، النقيضة لمفاهيم الحرية والديمقراطية والعدالة التي يستحيل انتشارها وتكريسها طالما بقيت مفاهيم وأدوات التخلف وثقافته الرجعية سائدة مهيمنة على مجتمعاتنا .... وهنا تتبدى الحاجة الى وعي مفاهيم التنوير ودمجها مع مفاهيم الثورة التحررية الديمقراطية ...تلك المفاهيم التي انتشرت في القرن الثامن عشر في اوروبا فيما عرف بعصر التنوير الذي لم يكن مجرد حقبة متميزة أو تغير حاسم في التاريخ الإنساني فحسب ، بل كان حركة سياسية وعلمية ، وأخلاقية هائلة ...قادها صفوة رواد عصر النهضة من الفلاسفة والمفكرين : فولتير ، وموننتسكيو ، وديدرو ، وروسو ، وهولباخ، ودالمبير، وديفيد هيوم .... جون لوك ، وفرانسس بيكون ، وتوماس هوبز ، وقبل هؤلاء جميعا اسحاق نيوتن .
كان التنوير- كما يقول ليود سبنسر وزميله كروز في كتابهما " عصر التنوير" - تياراً عقلياً حرك أوروبا كلها إبان القرن الثامن عشر ، وتركز في باريس ، ثم انتشر منها في كل أرجاء أوروبا ومنها إلى المستعمرات الأمريكية فكانت هناك شبكة من الكتاب والمفكرين ، أعطيت للقرن الثامن عشر تماسكاً عقلياً ملحوظاً مهد لانتشار الثورات الديمقراطية والاجتماعية الاشتراكية .
(6)
المذاهب والفلسفة الإسلامية
مارس المفكرون الإسلاميون نوعاً شجاعاً من الاجتهاد على نطاق واسع خلال القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة هذا الاجتهاد بروز المذاهب التي يتوزع المسلمون بينها إلى يومنا هذا، ومن المعروف أن الاجتهاد قد توقف منذ القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً، أو ما يمكن أن نطلق عليه حالة الانقطاع الفكري، حيث تجمد الفكر في مدارس المذاهب المذكورة وضاق هامش التفسير الحر للشريعة، فلم يعد من الممكن الخروج عن حدود المذاهب المعترف بها ، وفي هذا السياق ، يقول د.الجابري في كتابه الهام " تكوين العقل العربي " ، إن " الثقافة العربية الاسلامية تنقسم إلى ثلاث مجموعات : 1. علوم البيان من فقه ونحو وبلاغة – 2. علوم العرفان من تصوف وفكر شيعي وفلسفة وطبابه وفلك وسحر وتنجيم –3. علوم البرهان من منطق ورياضيات وميتافيزيقيا . ويتوصل إلى أن الحضارة الاسلامية هي حضارة فقه ، في مقابل الحضارة اليونانية التي كانت حضارة فلسفة ، لقد تجمدت الحضارة العربية عند الفلسفة اليونانية ، وغاب عنها العنصر المحرك : التجربة ، بعد أن غلب عليها اللاهوت أو علوم العرفان أو اللامعقول " . ثم يستطرد د.الجابري بالقول " إن العقل البياني العربي لايقبل بطبيعته التجربة لأنه يحتقر المعرفة الحسية ويترفع عن التجربة ويتعامل مع النصوص أكثر من تعامله مع الطبيعة وظواهرها ، ويعود السبب في ذلك كما يقول إلى "أن الفلسفة اليونانية التي أخذها العرب عن الإغريق كانت فلسفة تؤكد على مجتمع السادة والعبيد ، ولاتؤمن بالتجربة لأنها من أعمال العبيد ( وكذلك جميع الحرف ) ، أما السادة فهم من نوع " أعلى "ومهامهم تنحصر في التفكير والنظر وانتاج الخطاب " وكانت المحصلة أن "إنجازات العرب في اللغة والفقه والتشريع شكلت قيوداً للعقل الذي أصبح سجين هذا البناء من الركود والتخلف" وهي قيود يتم الآن اعادة صياغتها في مشهد الاسلام السياسي الراهن.

(7)
عن تخلف المجتمعات العربية وتقييم حركات الاسلام السياسي...
منذ القرن الرابع عشر : " دخل الفكر الإسلامي - كما يقول المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد - في مرحلة الركود بحكم الظروف الداخلية والخارجية التي أدت الى الجمود الاجتماعي والسياسي " وتقلصت المساحة النقدية منذ ذلك القرن ، " عندما راح الإعلان الرسمي للمذاهب يفرض بالتدريج ممارسة " أرثوذكسية " للفكر الديني بعيداً عن العلوم الدنيوية ، واستمر هذا الحال حتى نهاية القرن التاسع عشر ، وظهور ما عرف بحركة الإصلاح الديني الحديث، التي أطلقها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، ولم تفلح -كما يقول الجابري- في " بلورة مشروع نهضوي تتجاوز به الإشكالية التي تطرحها في التجربة الحضارية العربية منذ اندلاع النزاع بين علي ومعاوية أو العلاقة بين الدين والسياسة " ، كما لم تفلح الاتجاهات العلمانية ، المادية والعقلانية التي ظهرت في تلك المرحلة وبداية القرن الماضي ، في بلورة مشروعها النهضوي عبر اتجاهاتها الفكرية المتعددة ، المادية والتنويرية التي عبر عنها أبرز مثقفي هذا التيار شبلي شميل ، وفرح أنطون وسلامة موسى وعلي عبد الرازق وطه حسين ولطفي السيد .
والسؤال الآن : كيف وصل العرب في العصر الحديث الى هذه الحال ، وأين يكمن الخلل ؟ يرى المفكر جورج طرابيشي، أن الخطر في هذا الزمن القطري ، ليس تراجع فكرة الوحدة العربية بحد ذاته ، حيث أن مثل هذا التراجع قد يكون مؤقتاً ، وإنما تراجع فكرة القومية بالذات " ، أماالمفكر الراحل د. هشام شرابي ، فيرى أن " ما جرى في المائة سنة الأخيرة من الحياة العربية التي سادتها " الأبوية " أفضى الى تحديث القديم دون تغييره جذرياً " ، ويضيف د. هشام شرابي "أن الأصولية الإسلامية لن تقوى على توفير علاج ناجح للفوضى التي تتحكم بالمجتمعات العربية ، وذلك لأنها " مثالية " ستكون حلولها بالضرورة سلطوية ومرتكزة الى عقيدة وسبل جبرية مطلقة ، وستلجأ الى فرض نظام أبوي سلطوي يقوم على أيدلوجية غيبية دينية . أما وجهة نظر المفكر الماركسي د.سمير أمين فتتلخص في أن حركات الإسلام السياسي ، "تجسد اليوم اتجاه رفضي سلبي لا يقدم بديلاً إيجابياً على مستوى التحديات العالمية ، حيث يقوم المشروع الذي تتبناه على ثلاثة أعمدة هي أولاً : إلغاء الديمقراطية وثانياً : إحلال خطاب أيدلوجي شمولي محلها ( ينتهي الى ) خضوع شكلي لطقوس دينية لا غير وثالثاً : قبول الانفتاح الكومبرادوري الشامل على الصعيد الاقتصادي .
(8)
نلاحظ أن حركات الإسلام السياسي حرصت منذ أن قررت الالتحاق بالانتفاضة ، على إزاحة شعارات الشباب الثوري والعمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين التي تؤكد على مطالبهم في الخلاص من كل أشكال الاستبداد والاستغلال الطبقي والإذلال الاجتماعي، إلى شعارات تؤكد على أن المعركة هي بين القوى الديمقراطية العلمانية واليسارية والقومية ، وبين الإسلام الذي تدعي تمثيله، وتقدمه على أنه "الحل المنشود" وذلك تعبيراً عن رؤيتها ومصالحها الطبقية التي لا تختلف في طبيعتها وجوهرها الاستبدادي عن طبيعة النظام المخلوع… من اجل تكريس تخلف وتبعيةمصر وتونس واحتجاز تطورهما .... لذلك كان من الطبيعي ان تنفجر الثورة الشعبية من جديد معلنة رفضها للديكتاتورية والتفرد والقمع والاستبداد بعد اكتشفت الجماهير حقيقة التيارات الدينية وسياساتها وممارساتها التي لن تختلف -في جوهرها- عن سياسات النظام المخلوع، وبالتالي فان القوى الديمقراطية اليسارية والوطنية والقومية، يجب ان تتوحد في هذه اللحظة وتكرس كل جهودها من أجل مراكمة توسعها ونضالها في أوساط الجماهير معلنة استمرار النضال لاستكمال مهمات واهداف الثورة الوطنية الديمقراطية التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها.
(9)
رفاقي واصدقائي ......ان رفضنا لمنطق ما يسمى بأطر المعارضة وقياداتها من امثال ما يسمى الجيش الحر والمجلس والشيخ معاذ الخطيب رئيس ما يسمى الائتلاف الوطني وغيرهم من العملاء امثال غسان هيتو او رموز الليبرالية الرثة أوالاخوان المسلمين والاسلام السياسي هو في جوهره رفض للقوى اليمينية التي لجأت الى الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الاوروبي وحلف الناتو وركيزته تركيا في بلادنامن اجل تفكيك الدولة السورية بذريعة البحث عن الديمقراطية .. وارتمت في احضان ابشع رموز الاستبداد والتخلف والعمالة ملوك وامراء السعودية وقطر والخليج .. ، انه رفض ينبع من قناعتنا وإدراكنا بصورة موضوعية ، بأن ذلك المنطق بكل تحالفاته الطبقية ، لن يؤدي في بلادنا سوى الى مزيد من الخضوع للتحالف الامبريالي الصهيوني ، والى اعادة تهميش الجماهير الشعبية وفقدانها لتحررها الذاتي والسياسي على المستويين الوطني والقومي ، والى مزيد من اعادة انتاج التبعية والاستبدادوالاستغلال والمعاناة والحرمان في صفوفهم بما يدفع الى الاعتراف الاكراهي بمشروعية اللامساواة ، وغياب مفاهيم وآليات الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحريات الحقيقية. وبالتالي فان الموقف ضد انظمة الاستبداد والاستغلال والتخلف والقمع في أي نظام عربي تابع ومستبد، يجب أن يتوحد مع الموقف ضد القوى الامبريالية وركيزته الحركة الصهيونية ، وضد أي تدخل خارجي مهما كانت ذرائعه ، وضد العملاء العرب مما يسمى بملوك وامراء ومشايخ ،وهذا هو المقياس الاول -من وجهة نظري – لمصداقية قوى المعارضة الوطنيةالديمقراطية الثورية في قلب نضال جماهير الانتفاضات العربية من اجل اسقاط انظمة العمالة والاستغلال والاستبداد....
(10)
الوضع الراهن، الذي تعيشه شعوبنا العربية ، لم يكن ممكناً تحققه بعيداً عن عوامل التفكك و الهبوط الناجمة عن تكريس وتعمق خضوع وارتهان الشرائح الحاكمة في النظام العربي للنظام الامبريالي حفاظا على مصالحها الطبقية النقيضة لتطلعات ومصالح الجماهير ، لدرجة أن ربع القرن الأخير حمل معه صوراً من التراجع لم تعرف جماهيرنا مثيلاً لها في كل تاريخها الحديث، فبدلاً مما كان يتمتع به العديد من بلدان الوطن العربي في الستينات من إمكانات للتحرر والنهوض الوطني والقومي الديمقراطي ، تحول هذا الوطن بدوله العديدة وسكانه إلى رقم كبير ، يعج بالنزاعات الداخلية والعداء بين دوله وطوائفه، لا يحسب له حساب أو دور يذكر في المعادلات الدولية، وتحولت معظم أنظمته وحكوماته إلى أدوات للقوى المعادية، فيما أصبح ما تبقى منها عاجزاً عن الحركة والفعل والمواجهة، في إطار عام من التبعية على تنوع درجاتها وأشكالها السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والسيكولوجية، في ظروف فقدت فيها القوى والأحزاب اليسارية روحها وإرادتها الثورية وهويتها ، وفقدت قدرتها على الحركة والنشاط والنمو، وتراجع دورها في التأثير على الناس أو على الأحداث من حولها، الأمر الذي أفسح المجال واسعا لتيار الإسلام السياسي بمختلف تلاوينه ومسمياته في بلداننا العربية بذريعة منطلقاته الدينية أو الإيمانية التي لا تشكل تناقضا جذريا مع البرامج والسياسات الإمبريالية عموما وبرامجها الاقتصادية والمجتمعية خصوصا. ، ما يعني بوضوح شديد أن بلدان الوطن العربي أمام خيارين ..إما البربرية أو الثورة الاشتراكية .

(11)
السمات الرئيسية للمرحلة على الصعيد الفلسطيني.....
أولا : السمة الاولى على الصعيد الوطني تتمثل باستسلام الجناح القيادي البيروقراطي المتنفذ في م.ت.ف والشريحة الكمبرادورية المتحالفة معه والداعمة له في داخل الوطن وخارجه، الى جانب تراجع حركة حماس عن جوهر ثوابتها الوطنية وتقاطعها بمساحة واسعة مع برنامج ابو مازن والسلطة بعد فوز الاخوان المسلمين في مصر وبروز مشهد الاسلام السياسي .
ثانيا : على ضوء الواقع الجديد وعلى ضوء صيرورة المخطط المعادي، سيشهد المجتمع الفلسطيني وقواه السياسية جملة من التغيرات والتفاعلات السياسية والمجتمعية والثقافية التي سيكون لها دورا مباشرا في صياغة اتجاهات الصراع ( مع استمرار الانقسام جوهريا رغم المصالحات الشكلية في القاهرة او الدوحة !!) ، ويمكن تلمس هذه التحولات من خلال:
أ‌- دفع المشروع التصفوي باتجاه تشويه وتفكيك بنية المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع والشتات اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا الى مجتمعين او عدة مجتمعات، ونشر ثقافة قيم الهبوط والتطبيع والخضوع او الاستسلام للامر الواقع ، جنبا الى جنب مع ثقافة NGO,s وقيم الاستهلاك الباذخ ، الطفيلي ، من ناحية واستمرار مظاهر الافقار والبطالة من ناحية ثانية ، في اطار تكريس ربط الاقتصاد الوطني بالاحتلال .
ب‌- تنامي الميل لنقد تجربة المقاومة ومواثيق م.ت.ف بأكثر من اتجاه، فجزء سيتجه لاستخلاص الدروس والعبر والامساك بمقدمات النهوض ، وجزء سيعتبر ان هذا هو نهاية المطاف ويندفع للقبول بما هو قائم والرضوخ له .
ت‌- الميل لإنشاء وولادة أحزاب وحركات سياسية، ذات طابع طبقي يميني انتهازي تابع ومشوه ، تمثل المعادلة السياسية الجديدة كتعبير عن حالة التراجع الحاصل وكاستجابة لمحاولات التدجين للحركة السياسية ولتطبيع العلاقة مع الاحتلال والقوى الرجعية العربية العميلة في الخليج وقطر والجزيرة العربية " السعودية ".
إن صيرورة هذه العملية سترتبط بمسألة الاتجاه الذي ستنتهي إليه عملية الحراك الاجتماعي _ الطبقي في المجتمع الفلسطيني، والى إعادة صياغة لوحة التناقضات والاصطفافات السياسية ...اخيرا ،إن هذا الواقع الذي يتشكل يفرض علينا التمسك مجددا بثوابتنا في الصراع والتناقض التناحري ضد العدو الصهيوني من جهة والتوقف أمام عنوان هام وهو ما بات يعرف بالإسلام السياسي- في اطار التناقض الديمقراطي - الفكري والاجتماعي والسياسي - لتحديد رؤية واضحة موضوعية وعلمية منه من جهة ثانية.

(12)
رؤية يسارية حول مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية 1/3
لا شك أن الحديث عن دولة مدنية ديمقراطية أو مجتمع مدني، في أي بلد عربي في ظل استمرار بقاء أنظمة الاستبداد والتبعية والتخلف أو في ظل مشهد الاسلام السياسي من جهة ، وفي إطار هذا المزيج أو الشكل المرقع من "الجماعات" ما قبل الحداثة أو المدنية في المجتمعات العربية من جهة ثانية، مسألة تحتاج إلى المراجعة الهادئة التي تستهدف تشخيص الواقع الاجتماعي العربي، وأزمته المستعصية الراهنة، تشخيصاً يسعى إلى صياغة البديل الديمقراطي القومي وآلياته وصولاً إلى تفعيل مفاهيم وأدوات الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية ومؤسسات المجتمع المدني في إطار النضال الوطني والقومي التحرري والديمقراطي من ارضية الصراع الطبقي وفق رؤية وبرامج ماركسية واضحة، ونقيضة لمفهوم المجتمع المدني والديمقراطية الليبرالية الذي تروج له بعض القوى السياسية والمنظمات غير الحكومية، عبر " نخب" تخلى رموزها عن مواقفهم اليسارية السابقة، ولم تنجح في الوصول أو التغلغل بأي شكل من الأشكال إلى الأوساط الجماهيرية الشعبية، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على غربة هذه المفاهيم بطابعها وجوهرها الليبرالي عن الواقع من جهة، وغرابة صيغها وعناوينها الفرعية المتعددة، مثل : "التمكين في المشاركة" "الشراكة الجديدة بين الدولة والأسواق"، "تنمية قدرات الإنسان"، "تقدير الفقر بمشاركة الفقراء في وضع استراتيجيات تخفيف فقرهم!" "تنمية المبادرات المحلية"، " والتنمية المستدامة"، "دور المنظمات الأهلية مع القطاع الخاص"، "التنمية البشرية من منطلق الأطفال"، "الجندر"، "عمليات التشبيك"، "الليبرالية والخصخصة واقتصاد السوق".. الخ حلت محل المفاهيم المعادية للإمبريالية والصهيونية ومفاهيم التحرر القومي والوحدة والاشتراكية، وأضيفت إلى مفردات اللغة والخطاب السياسي الهابط، الذي حدد النظام الرأسمالي المعولم الجديد، أسسه ومنطلقاته الليبرالية، الفكرية والسياسية العامة ، بما يؤكد تقويم المفكر العربي سمير أمين لهذه المنظمات بقوله "إن الطفرة في المنظمات غير الحكومية، تتجاوب الى حد كبير مع استراتيجية العولمة، الهادفة الى عدم تسييس شعوب العالم، وهي انسجام أو إعادة تنظيم لإدارة المجتمع من قبل القوى المسيطرة".
تابع /رؤية يسارية حول مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية 2/3
إذا كنا نتفق على أن رفيقنا المفكر الماركسي الثوري الشهيد مهدي عامل ، قد قدم نظرية للثورة ، فإن من واجبنا –كأحزاب وفصائل يسارية عربية- في هذه المرحلة التفاعل والتواصل المعرفي مع أفكاره ومقولات نظريته الثورية ، وإغنائها والإضافة عليها عبر دراسة وتحليل وتفكيك واقعنا الاجتماعي والسياسي في إطار الصراع الطبقي الداخلي ، والصراع ضد الوجود الامبريالي الصهيوني في بلادنا، عبر انطلاقنا من الفكرة المركزية التي أكد عليها المفكر الراحل مهدي في الترابط بين التحرر الوطني والصراع الطبقي من جهة ، وعبر انطلاقنا من الوحدة الجدلية بين الماركسية والرؤية القومية التحررية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية من جهة ثانية ، الأمر الذي يستوجب تداعي جميع أحزاب وفصائل اليسار الماركسي ، إلى البحث الجاد على قاعدة الحوار، من أجل مراجعة ونقد تجاربها السابقة وتجديد وتطوير أحزابها والاتفاق على الرؤى السياسية والمجتمعية ، وعلى الأهداف والأسس الفكرية والتنظيمية التوحيدية المشتركة فيما بينها لكي تستعيد مصداقيتها ودورها الطليعي ، بما يسمح بأن تتحوّل إلى قوّة قادرة عبر بناء وتفعيل البديل الشعبي الديمقراطي التقدمي- في كل قطر عربي-على مجابهة الاستقطاب اليميني ، وتأسيس مقدرتها على تفعيل الانتفاضات أو الحالة الثورية العربية وصيرورتها الراهنة، وتحقيق أهدافها للخلاص من كل أشكال ومظاهر وأدوات الاستغلال الطبقي والاستبداد، واثقين من انتصارها، خاصة وأن أسباب الانتفاضة الثورية لن تتلاشى أو تزول، بل ستتراكم مجدداً- بعد أن تكتشف زيف الليبراليين وقوى الإسلام السياسي لتنتج حالة ثورية نوعية، تقودها جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين وفي طليعتهم أحزاب وقوى اليسار الماركسي الثوري جنبا إلى جنب مع القوى الديمقراطية المدنية ، العلمانية الوطنية والقومية لكي تحقق الأهداف التي انطلقت الانتفاضات الشعبية من أجلها .
تابع /رؤية يسارية حول مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية الديمقراطية 3/3
في هذا المشهد الملتبس داخلياً، في إطار النظام العربي المأزوم والمهزوم، وخارجياً على الصعيد العالمي، وخاصة في ظل مشهد الاسلام السياسي الراهن وما يعنيه من تكريس التبعية واعادة انتاج التخلف والاستبداد والاستغلال الطبقي في مجتمعاتنا العربية يصبح الحديث عن الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية عنوانا رئيسيا وأولويا في برامج قوى واحزاب اليسار العربي في هذه المرحلة ، انطلاقا من ادراكنا أن الحديث عن الدولة المدنية والمجتمع المدني العربي، هو حديث عن مرحلة تطورية لم ندخل أعماقها بعد، ولم نتعاطَ مع أدواتها ومعطياتها المعرفية العقلانية التي تحل محل الأدوات والمعطيات المتخلفة الموروثة ، وبالتالي فان مجتمعنا العربي اليوم، هو "مجتمع بلا مجتمع مدني"، فطالما كانت بلادُنا في زمنٍ غير حداثيٍّ / حضاريٍّ ولا تنتسب له، بالمعنى الجوهري، فإن العودة إلى القديم أو ما يسمى بإعادة إنتاج التخلف سيظل أمراً طبيعياً فيها،خاصة في ظل مشهد الاسلام السياسي .
أمام هذا الواقع المعقد والمشوه، وفي مجابهته، ندرك أهمية الحديث عن الدولة المدنية والمجتمع المدني وضروراتهما في سياق النضال من اجل استكمال مهمات الثورة الوطنية الديقراطية الشعبية بافاقها الاشتراكية ، بعيداً عن المحددات والعوامل الخارجية والداخلية، المستندة إلى حرية السوق والليبرالية، لأننا نرى أن صيغة مفهوم المجتمع المدني وفق النمط الليبرالي، فرضية لا يمكن أن تحقق مصالح جماهيرنا الشعبية، لأنها تتعاطى وتنسجم مع التركيبة الاجتماعية-الاقتصادية الكومبرادورية التابعة والمشوهة من جهة، وتتعاطى مع المفهوم المجرد للمجتمع المدني في الإطار السياسي الاجتماعي الضيق للنخبة ومصالحها المشتركة في إطار الحكم أو خارجه.
وفي هذا السياق، فإن رؤيتنا لمفهومِ المجتمعِ المدني وتطبيقاته في بلادنا، تتجاوز التجزئة القطرية لأي بلد عربي، تتجاوزها كوحدة تحليلية قائمة بذاتها (مع إدراكنا لتجذر هذه الحالة القطرية ورسوخها)، نحو رؤية اشتراكية ديمقراطية قومية -تدرجية- تنطلق من الضرورة التاريخية لوحدة الأمة -المجتمع العربي، وتتعاطى مع الإطار القومي كوحدة تحليلية واحدة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، في بنيتها التحتية ومستوياتها الجماهيرية الشعبية على وجه الخصوص..... من هنا أهمية التركيز على حقل المعرفة كحقل مميز من حقول الصراع الطبقي" ذلك إن وحدة المفاهيم أو الإطار المعرفي السياسي، ووضوحها لدى احزاب اليسار الماركسي، ارتباطاً بوضوح تفاصيل مكونات الواقع الاجتماعي -الاقتصادي-الثقافي العربي، ستدفع نحو توليد الوعي بضرورة وحدة العمل المنظم المشترك، وخلق "المثقف الجمعي العربي" عبر الإطار التنظيمي الديمقراطي الاشتراكي الموحد من ناحية وبما يعزز ويوسع إمكانيات الفعل الموجه نحو تحقيق شروط "الهيمنة الثقافية" في أوساط الجماهير الشعبية من ناحية ثانية .
بهذا التصور، يصبح تعاملنا مع مفهوم المجتمع المدني، مرحلياً، وبعيداً عن المشروع الرأسمالي وحرية السوق والليبرالية الجديدة، وبالقطيعة معها، دون أن نتخطى أو نقطع مع دلالات النهضة والحداثة في الحضارة الغربية من الناحية المعرفية والعقلانية والعلمية والديمقراطية وجميع المفاهيم الحداثية الأخرى، وتسخيرها في خدمة أهدافنا في التحرر القومي والبناء الاجتماعي التقدمي بآفاقه الاشتراكية كمخرج وحيد لتجاوز أزمة مجتمعاتنا العربية المستعصية ، ومن أجل الإسهام في بناء النظام السياسي العالمي الجديد الرافض لسلطة رأس المال الاحتكاري. لقد حانت اللحظة للعمل الجاد المنظم في سبيل تأسيس عولمة نقيضة من نوع آخر عبر أممية جديدة، ثورية وعصرية وإنسانية.

(13)
عن التنوير وموقف حركات الاسلام السياسي.......
يقول الفيلسوف العربي صادق جلال العظم ..."بعد فشل المشروع القومي الشعبوي واليساري سنحت الفرصة لحركات الاسلام السياسي لاسترجاع الخسارة التاريخية التي لحقت بهم و استعادة المواقع التي ما زالوا يظنون انها من حقهم وحق أمرائهم ومشايخهم. من هنا رفضهم أعظم شعار رفعه التاريخ العربي الحديث:"الدين لله والوطن للجميع". ويضيف قائلا في تفسيره للهجوم الذي لا يهدأ، في هذه الأيام على أفكار التنوير وعلى المفكرين التنويريين " أعتقد أن مصدر المشكلة ليس الأفكار التنويرية نفسها بالضرورة. يكمن مصدر المشكلة في ارتباط أفكار التنوير بمشروع سياسي اجتماعي تحرري كبير الذي نسميه بالمشروع القومي أو النهضوي أو حركة التحرر العربي أو الثورة العربية وما شابه، وانتهاء هذا المشروع إلى أزمة وانهيار وانسداد وإخفاق. أعتقد أن هذه الواقعة هي التي تجعل حركات الاسلام السياسي تتجرأ على مهاجمة المشروع كله أحياناً، والأفكار التي رافقته أو أتت معه أو ارتبطت به بشكل من الأشكال في أحيان أخرى.
كنا في الستينات، كتيار يساري، لا ننتقد أفكار التنوير ذاتها وإنما أوجه القصور في عصر النهضة. وذلك من مواقع بدت لنا يومها أكثر راديكالية وتقدماً وتقدمية. أي أننا كنا نرى أن عصر النهضة لم يكن جذرياً كفاية، ولم يكن ثورياً تماماً، وننتقد التعلق المرضي به. كنا نضيق بهذا الترداد الدائم لأسماء محمد عبده والكواكبي والأفغاني وغيرهم وكأن شيئاً مهماً لم يطرأ على حياتنا منذ أيامهم ، وكنا نطالب بانتاج فكر ملائم ومطابق وأكثر تقدماً من فكر عصر النهضة. تبين أننا كنا ضحية تفاؤل كاذب إذ دمرت هزيمة حزيران 1967 الفرضية التي أوهمتنا بأننا تجاوزنا، أو تمكنا من تجاوز، عصر النهضة ومشكلاته وأفكاره. الآن، يبدو لي أن هناك تراجعاً إلى خط الدفاع الثاني أمام الهجوم الآتي من اليمين، وخصوصاً اليمين الديني. علماً بأن هجوم أعضائه لا يتركز على التنوير وقيمه فقط وإنما على عصر النهضة برمته. وهم صريحون في التعبير عن هذا النقد ويعتبرون أن مصائبنا كلها أتت بسبب عصر النهضة ومعه ومنه، وكان يجب ألا يكون هناك نهضة ولا من ينهضون. والغلاة منهم يمجدون الحقبة العثمانية " ويضيف قائلا " أنا أجد نفسي الآن، مع آخرين كثيرين، في موقع الدفاع عن عصر النهضة وإنجازات عصر النهضة وأفكار التنوير. كما أعتقد أن قيم التنوير جديرة بأن يدافع عنها، ويدافع عنها بقوة، ولا سيما أن هناك خطأ آخر ارتكبه اليسار يتمثل في إهماله القيم المرتبطة كلاسيكياً بالتنوير. أعني استخفاف الخطاب اليساري والممارسات اليسارية بأمور مثل المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطن والحريات العاملة والعلمانية ... إلخ. وكلها أصبحت موجودة الآن على جدول أعمالنا بقوة. لم يدرك المشروع اليساري (وأصحابه) بأنه كان عليه أن يستوعب هذه الأفكار والقيم والممارسات بحيث تصبح جزءاً من حياتنا الفكرية والعملية إذا كان جاداً حقاً في تجاوزها إلى ما هو أرقى. وهنا أقول أن ياسين الحافظ كان المفكر اليساري الأبرز الذي سبق الجميع وأشار إلى هذه المسألة ووعي أهميتها ونبه إلى خطورتها، في الوقت الذي كان اليسار يعتبرها إما مسائل جانبية أو إنها ستأتي بشكل عفوي مع انتصار الثورة.


(14)
من اقوال المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد :حول الاستخدام النفعي للاسلام
من أهم التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية الآن, ذلك الاستخدام الإيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية محلية عاجلة. وسواء تم هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها, أو من جانب أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية, فالنتيجة واحدة, هي تحويل الإسلام إلي أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية. ولننظر مثلا في مقولة أن الإسلام دين شمولي, من أهم أهدافه ووظائفه تنظيم شئون الحياة الإنسانية الاجتماعية والفردية في كل صغيرة وكبيرة, بدءا من النظام السياسي ونزولا إلي كيفية ممارسة الفرد لنظافته الذاتية في الحمام. هذه المقولة تفترض أن دخول الفرد في الإسلام بالميلاد والوراثة أو بالاختيار الواعي يعني تخلي الإنسان طواعية أو قسرا عن طبيعته الإنسانية الفردية التي تسمح له باتخاذ القرار بشأن كثير من التفاصيل الحياتية التي من شأنها أن تتضمن اختيارات عديدة ، وهذا يتناقض كليا مع حديث نبي هذا الدين - الذي لم يجد غضاضة, حين لم ينجح اقتراحه في تأبير النخل - أن يعلن موقفه الصريح والصحيح قائلا أنتم أدري بشئون دنياكم ...وهو حديث يتوافق مع مفاهيم وشعارات التطور والتقدم بما فيها شعار " فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع. وبالتالي فان خطر مقولة " الاسلام دين شمولي" يكمن في ذلك الفهم السقيم للإسلام, الذي من شأنه أن يرسخ سلطة رجل الدين والمؤسسات الدينية, لتصبح سلطة شاملة ومهيمنة في كل المجالات. ومن شأن هذا الاستفحال والامتداد السلطوي أن يخلق وضعا نعاني منه الآن أشد المعاناة اجتماعيا وسياسيا وفكريا. فبرغم كل الادعاءات والدعاوي العريضة, والفارغة من المضمون, عن عدم وجود سلطة دينيه في الإسلام تشبه سلطة الكنيسة في المسيحية, فالواقع الفعلي يؤكد وجود هذه السلطة, بل وجود محاكم التفتيش في حياتنا. والسلطة هذه تجمع السياسي والديني في قبضة واحدة, فيصبح المخالف السياسي مارقا خارجا عن الإجماع ومهددا لوحدة الأمة, وبالمثل يقول رجل الدين إن من يغير دينه يجب التعامل معه بوصفه خائنا للوطن. إن اتحاد الدين والوطن يجد تعبيره في كل الدساتير السياسية التي تحصر الوطن في دين, وتختزل الدين في الوطن. وهنا يختزل الوطن في الدولة, وتختزل الدولة في نظامها السياسي, ويجد المواطن نفسه حبيس أكثر من سجن. إن مقولة الشمولية تبدأ من الفكر الديني لتخترق مجال السياسة والمجتمع, أو تبدأ من الفكر السياسي لتأسر الدين في إيديولوجيتها, والنتيجة واحدة. فأي خطر أشد من هذا وأي بلاء!
(15)
التحدي الكبير الذي يواجه شعوب امتنا العربية اليوم يجب أن يبدأ بعملية تغيير سياسي جذري وديمقراطي من منطلق الصراع الطبقي ضد أنظمة الإسلام السياسي وكل أنظمة الاستبداد والاستغلال والفساد التي تحكمها، وذلك انطلاقاً من وعينا بأن هذه الأنظمة شكلت الأساس الرئيسي في تزايد واتساع الهيمنة الامبريالية على مقدرات وثروات شعوبنا العربية، كما شكلت الأساس الرئيسي لتزايد واتساع عنصرية وصلف وهمجية "دولة" العدو الإسرائيلي.
إن إيماننا بآفاق المستقبل الواعد لشعوبنا العربية كلها، في هذه اللحظة الثورية ، لا يعني أننا نؤمن بحتمية تاريخية يكون للزمان والمكان دوراً رئيسياً وأحادياً فيها، بل يعني تفعيل وإنضاج عوامل وأدوات التغيير الديمقراطية الحديثة والمعاصرة ، والبحث عن مبرراتها وأسانيدها الموضوعية الملحة من قلب واقعنا الراهن.
(16)
المشهد الراهن والصراع ضد قطبي اليمين الليبرالي والإسلام السياسي
في فلسطين كما في بلدان وطننا العربي، في هذه المرحلة، يبدو أننا أمام مشهد معقد، ومأزوم، يكاد يصل بنا إلى أفق مسدود، بسبب تعمق وتكريس مظاهر التبعية والتخلف والخضوع لشروط آليات العدو الأمريكي/الصهيوني عبر النظام العربي الرسمي –بدرجاته المتفاوتة، وبسبب الانحسار الشديد في بنيان الحركات الوطنية والقومية واليسارية وتراجع دورها السياسي في الشارع العربي، بصورة غير مسبوقة في كل تاريخنا الحديث، وفي مقابل هذه الصورة، تتجلى حركات التيار الديني عبر تنوعها عبر ما يسمى ب "الإسلام السياسي" لتشكل العنوان الأبرز في الشارع السياسي العربي كما في الذهنية الشعبية العربية، إلى جانب العنوان الرئيسي الآخر، المتمثل في الأنظمة العربية بمختلف درجات استبدادها وتبعيتها وتخلفها سواء فيما يسمى ببلدان الصحراء المحكومة حتى اللحظة لأكثر مظاهر التخلف والانحطاط المجتمعي عبر العشيرة أو القبلية أو المشيخات .
وفي ظلال هذا المشهد المأساوي المهين، عبر قطبيه المتصارعين، اللذان لا يمكن لأي منهما أن يحمل أو يشتق برنامجاً مستقبلياً لمجابهة هذا الوضع المأزوم والخروج منه صوب التحرر والنهوض والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، لذلك فان وعينا في كل حركات اليسار العربي –بدورنا، ورؤيتنا صوب إعادة بناء الحركة الماركسية القومية العربية، كمخرج وحيد لكل أزماتنا، يجعلنا نؤكد على أهمية إعادة عملية البناء التنظيمي والفكري والسياسي لاحزابنا كأولوية تعلو على ما عداها، انطلاقا من أن هذه المرحلة السوداء، المحكومة لقطبي الصراع في فلسطين والبلدان العربية، ليست مرحلتنا من حيث المشاركة أو التحالف مع أي منهما، دون أن يعني ذلك تغييب حضورنا وفعالياتنا في النضال الوطني والديمقراطي في اوساط الجماهيرمن جهة ودون أن تغيب عبر أذهاننا رؤيتنا وبرنامجنا المستقبلي من ناحية ثانية.