دروس أكتوبر (*)


ليون تروتسكي
الحوار المتمدن - العدد: 6285 - 2019 / 7 / 9 - 16:54
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

أقبل بحماسة اقتراح فريد زيلير (1) إعطاء مقال لجريدة ثورة، بمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لانتفاضة أكتوبر. الحق يقال، ليست *ثورة* جريدة يومية "كبيرة"، إذ تبذل قصاراها كي تصبح أسبوعية وحسب. قد ينظر إليها بيروقراطيين مرموقون باحتقار. لكن غالبا ما سنحت لي فرصة معاينة كيف آلت منظمات "قوية"، ذات صحافة "قوية" إلى غبار تحت صدمة الأحداث، وكيف بالعكس تحولت في ظرف وجيز منظمات صغيرة، ذات صحافة ضعيفة تقنيا، إلى قوى تاريخية. لنتوخَّ الأمل بصلابة في أن يكون هذا هو المصير الذي ينتظر جريدتكم ومنظمتكم.

في مجرى العام 1917، كانت روسيا تجتاز الأزمة الاجتماعية الأشد خطورة. يمكن فقط القول بكل يقين، بناء على كل دروس التاريخ كلها، إنه لو لم يكن ثمة حزب بلشفي، لتم استنفاذ طاقة الجماهير الثورية الهائلة في انفجارات مشتتة، ولانتهت تلك الأحداث العظيمة إلى أشرس ديكتاتورية مضادة للثورة. صراع الطبقات هو المحرك الرئيس للتاريخ. انه يستلزم برنامجا صائبا وحزبا حازما، وقيادة جديرة بالثقة ومفعمة بالجرأة – ليس أبطال صالونات وجمل برلمانية، بل ثوريين، متأهبين للسير حتى النهاية. هذا هو درس ثورة أكتوبر الرئيس.

البلاشفة، أقلية في البداية

بيد أنه يتعين علينا التذكير بأن الحزب البلشفي لم يكن، في مطلع العام 1917، يقود سوى عددا ضئيلا جدا من العمال. في سوفييتات الجنود، وحتى في سوفييتات العمال، لم يكن التكتل البلشفي يشكل بوجه عام سوى 1 إلى 2 %، وعلى الأكثر 5 %. وكان خلف الأحزاب القائدة للديمقراطية البرجوازية الصغيرة – المناشفة و"الاشتراكيون الثوريون" المزعومون- ما لا يقل عن 95% من العمال والجنود والفلاحين المشاركين في النضال. كان قادة هذه الأحزاب يعاملون البلاشفة في البداية بما هم عصبويين، ثم عملاء ...القيصر الألماني. لكن لا، لم يكن البلاشفة عصبويين ! كان كامل اهتمامهم متجها نحو الجماهير، وفضلا عن ذلك، ليس نحو أعلى شرائحها ، بل نحو أعمقها، ، نحو ملايين وعشرات ملايين الأشد عرضة للاستغلال، التي عادة ما ينساها الثرثارون البرلمانيون. إن اكتساب المقدرة على قيادة بروليتاري وأشباه بروليتاريي المدن والقرى هو بالضبط ما جعل البلاشفة يرون من الضروري أن يتميزوا بوضوح عن كل تكتلات البرجوازية ومجموعاتها، بدءا بأولئك "الاشتراكيين" الزائفين الذي ليسوا في الواقع غير وكلاء البرجوازية.

تمثل النزعة الوطنية العنصر الأساسي لتلك الأيديولوجية التي تسمم بها البرجوازية وعي المضطهدين الطبقي وتشل بها الإرادة الثورية، لأن النزعة الوطنية تعني خضوع البروليتاريا للأمة التي تستقر فوقها البرجوازية. كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون وطنيون، حتى ثورة فبراير، نصف مختبئين، وبعد فبراير على نحو صريح ووقح. كانوا يقولون:"الآن لدينا جمهورية، هي الأكثر حرية بالعالم؛ وحتى جنودنا منظمون في سوفييتات؛ يجب علينا الدفاع عن هذه الجمهورية ضد العسكريتارية الألمانية." وكان البلاشفة يردون:" لا جدال في أن الجمهورية الروسية هي اليوم الأكثر ديمقراطية، لكن هذه الديمقراطية السياسية السطحية قد تتناثر غبارا بين عشية وضحاها لأنها قائمة على قاعدة رأسمالية. طالما لم يصادر العاملون، بقيادة البروليتاريا، ملاكيهم العقاريين ورأسمالييهم، ولم يمزقوا معاهدات قطاع الطرق المبرمة مع دول الوفاق ، لا يمكننا اعتبار روسيا وطنا لنا، ولا الاضطلاع بالدفاع عنها." وكان خصومنا يغتاظون أكثر فأكثر: "إن كان الأمر على هذا النحو، فلستم مجرد عصوبيين، إنكم عملاء لآل هوهنزولرن (2) ! إنكم تخونون لصالحهم الديمقراطيات الروسية والفرنسية والانجليزية والأمريكية !" كانت قوة البلشفية تكمن في قدرتها على ازدراء مغالطات "الديمقراطيين" الجبناء الذي يتسمون اشتراكيين لكنهم في الواقع يخرون سجودا أمام الملكية الرأسمالية.

كانت الجماهير الكادحة حـَكم ذلك النقاش. وبقدر ُمضي الوقت، كان حـُكمها يزداد ميلا لصالح البلاشفة. لا غرابة في الأمر. كانت السوفييتات، آنذاك، تجمع حولها جماهير البروليتاريين والجنود والفلاحين المستيقظة إلى النضال والتي يتوقف عليها مصير البلد. كان "الجبهة الموحدة" للمناشفة والاشتراكيين الثوريين تهيمن في السوفييتات، وكان السلطة في الواقع بين أيديهم. وكانت البرجوازية مشلولة سياسيا كليا منذ اصطف عشرة ملايين جندي، منهوكين بالحرب، مسلحين من القدم إلى الرأس، إلى جانب العمال والفلاحين. لكن أشد ما كان يخشاه قادة "الجبهة الموحدة" هو "إفزاع" البرجوازية، و"دفعها" إلى معسكر الرجعية. لم تكن "الجبهة الموحدة" تجرؤ على المس بالحرب الامبريالية، ولا البنوك، ولا الملكية الإقطاعية، ولا المعامل، ولا المصانع. كانت تراوح المكان وتصب عموميات، فيما صبر الجماهير ينفذ. لا بل أسوأ من ذلك، إذ نقل المناشفة و الاشتراكيون الثوريون السلطة إلى حزب الكاديت (3) الذي كان العمال ينبذونه ويحتقرونه.

كان الكاديت حزبا برجوازيا امبرياليا، مستندا على الشرائح العليا من الطبقات "الوسطى"، لكنه وفي لمصالح الملاكين "الليبراليين" بصدد كل المسائل الأساسية. يمكن، إن شئتم، مقارنة الكاديت بالراديكاليين الفرنسيين: القاعدة الاجتماعية ذاتها، أي الطبقات الوسطى، و نفس السياسة القائمة على تنويم الجماهير بجمل جوفاء، ونفس الخدمة المخلصة لمصالح الامبريالية. وعلى غرار الراديكاليين تماما، كان للكاديت يمينهم ويسارهم: اليسار من أجل تشويش الشعب، و اليمين للسياسة "الجدية". كان المناشفة والاشتراكيون الثوريون يأملون كسب دعم الطبقات المتوسطة بالتحالف مع الكاديت، أي مع مستغلي الطبقات الوسطى والنصابين عليها. بفعلهم ذاك، وقع الاشتراكيون الوطنيون شهادة وفاتهم.

كان قادة المناشفة والاشتراكيين الثوريين، المشدودين طوعا إلى عربة البرجوازية، يسعون إلى إقناع العمال بتأجيل نزع ملكية الملاكين، وفي انتظار ذلك ... الموت في الجبهة من أجل " الديمقراطية" أي من أجل مصالح تلك البرجوازية ذاتها. "يجب ألا ندفع الكاديت الى معسكر الرجعية"، هكذا كان الانتهازيون يرددون، مثل ببغاوات، في اجتماعات عامة لا تحصى. لكن، لم يكن بوسع الجماهير ولا بمشيئتها أن تفهمهم. كانت وضعت ثقتها في الجبهة الموحدة للمناشفة والاشتراكيين الثوريين، وكانت متأهبة في كل لحظة وحين للدفاع عنها، بقوة السلاح، ضد البرجوازية. لكن في غضون ذلك، كانت أحزاب الجبهة الموحدة، وقد نالت ثقة الشعب، تدعو إلى السلطة الحزب البرجوازي وتختبئ خلفه. إن الجماهير الثورية المنتفضة لا تغفر أبدا الجبن والخيانة. في البداية، اقتنعت بروليتاريا بطرسبورغ، وبعدها بروليتاريا البلد برمته، وبعد البروليتاريا اقتنع الجنود والفلاحون من تلقاء أنفسهم، بتجربتهم، أن البلاشفة كانوا على حق. على هذا النحو، في بضعة أشهر، أصبحت حفنة "العصبويين" و"المغامرين" و "المتآمرين"، "عملاء آل هوهنزولرن"، الخ، الحزب القائد لتلك الملايين المستيقظة من البشر. الإخلاص للبرنامج الثوري، وعداء لا توفيق فيه للبرجوازية، والقطع التام مع الاشتراكيين الوطنيين، والثقة العميقة في قوة الجماهير الثورية، تلكم هي دروس أكتوبر الرئيسة.

قامت الصحافة كلها، حتى جرائد المناشفة والاشتراكيين الثوريين (تفاديا لكل سوء تفاهم، نؤكد أن لاشيء يجمع هذا الحزب المعادي للماركسية بالاشتراكية الثورية)، بحملة خداعية، لا مثيل لها على الإطلاق، ولا سابق لها في التاريخ، ضد البلاشفة. كانت آلاف وآلاف أطنان ورق الجرائد مليئة بتقارير مفادها أن البلاشفة كانوا مرتبطين بالشرطة القيصرية، ويتلقون شحنات ذهب من ألمانيا، وأن لينين كان مختبأ في طائرة ألمانية، الخ. وفي الأشهر التالية لفبراير فاض سيل الأكاذيب هذا على الجماهير. وهدد بحارة وجنود، ما من مرة، بطعن لينين والقادة البلاشفة الآخرين بالحربة . وبلغت حملة الافتراء ذروتها في يوليو 1917. وارتعب العديد من المتعاطفين اليساريين، أو أنصاف اليساريين،، لا سيما لدى المثقفين، بضغط الرأي العام ذاك. كانوا يقولون:" أكيد أن البلاشفة ليسوا عملاء آل هوهنزولرن، لكنهم عصبيون، وتعوزهم اللباقة، ويستفزون الأحزاب الديمقراطية، ويستحيل العمل معهم". هكذا كانت، على سبيل المثال، نبرة الجريدة اليومية الكبيرة لمكسيم غوركي (4)، التي التفت حولها كل ضروب الوسطيين وأنصاف البلاشفة وأنصاف المناشفة، اليساريين جدا نظريا، لكن الخائفين أشد خوف من القطع مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين. لكن من يخاف الاشتراكيين الوطنيين يصبح حتما وكيلا لهم، هذا قانون.

في غضون ذلك، كانت تجري داخل الجماهير سيرورة معاكسة تماما. فبقدر ما تتبدد أوهامها حيال الاشتراكيين الوطنين الخائنين مصالح الشعب باسم صداقتهم للكاديت، بقدر ما ُتنصت باهتمام لخطابات البلاشفة، وتقتنع بأنهم كانوا على صواب. كان يغدو جليا، بنظر العامل في مشغله، والجندي في خندقه، والفلاح الجائع، أن الرأسماليين وخدامهم كانوا يفترون على البلاشفة بالضبط لأن هؤلاء كانوا مخلصين بثبات لمصالح المضطهدين. تحول غيظ الجندي والبحار ضد البلاشفة إلى تفان متحمس وإلى عزم منزه على نهج طريقهم حتى النهاية. وبالعكس، انتقل حتما بغض الجماهير لحزب الكاديت إلى حلفائه المناشفة والاشتراكيين الثوريين. لم ينقد الاشتراكيون الوطنيون الكاديت، بل اضمحلوا معهم. جعلت القطيعة النهائية في ذهنية الجماهير، والتي حدثت في ظرف شهرين أو ثلاث (أغسطس-سبتمبر)، انتصار أكتوبر أممرا ممكنا. كسب البلاشفة السوفييتات، وظفرت هذه بالسلطة.

قد يقول السادة المتشككون:" لكن ثورة أكتوبر افضت، في نهاية المطاف، إلى انتصار البيروقراطية. فهل يستحق هذا العناء؟" يجب تكريس مقال خاص، وربما مقالين، لهذه المسألة. نقول هنا باختصار: التاريخ لا يتقدم في خط مستقيم، بل بالمداورة. فبعد وثبة هائلة إلى أمام ثمة دوما، كما بعد طلقة مدفع، ارتداد إلى وراء. ومع ذلك، يسير التاريخ ُقدما. لا شك بتاتا أن البيروقراطية قرحة بشعة تهدد في الآن ذاته مكاسب ثورة أكتوبر والبروليتاريا العالمية. لكن، فضلا عن حكم البيروقراطية المطلق ، يملك الاتحاد السوفييتي شيئا آخر: وسائل إنتاج مؤممة، واقتصادا مخططا، وتجميع الزراعة، التي تقود كلها البلد، رغم المصيبة المسخية المتمثلة في البيروقراطية، إلى أمام على الصعيد الاقتصادي والثقافي فيما تتقهقر البلدان الرأسمالية. لا يمكن أن تتحرر ثورة أكتوبر من آفة البيروقراطية إلا بتطور الثورة العالمية، التي سيؤمن انتصارها فعلا بناء مجتمع اشتراكي.

أخيرا، وهذا لا يخلو من دلالة، تكمن أيضا أهمية ثورة أكتوبر في ما أعطت من دروس نفيسة جدا للطبقة العاملة العالمية. فليستوعبها بعزم الثوريون البروليتاريون بفرنسا وسيصبحون ممتنعين على الغلب.

ليون تروتسكي (4 نوفمبر 1935)

المصدر: سلسلة أعمال ليون تروتسكي بإشراف بيار برويه ، الجزء السادس (أكتوبر 1935-ديسمبر 1935) ؛ صفحات 62 إلى 67

باريس / دار نشر EDI ، باريس

تعريب المناضل-ة

إحالات: *- صدر هذا المقال بجريدة *ثورة*، 7-14 ديسمبر 1935. كانت *ثورة* جريدة الشبيبة الاشتراكية في السين Seine ، التي غدت الشبيبة الاشتراكية الثورية.

1- فريد زيلير Fred Zeller : (ولد عام 1912)، طالب فنون جميلة، كان أمينا لوفاق الشبيبة الاشتراكية في السين، ومحرك اتجاه الشبيبة الاشتراكية الثورية عندما طُرد في كونفرانس ليلLille مع اثني عشر من رفاقه. زار تروتسكي في هونيفوس مساعدا إياه في عمله، ومواصلا معه نقاشات مديدة. كان تروتسكي يخشى تفجر الأزمة في الفرع الفرنسي، ويبحث عن عناصر جديدة يستند عليها. نلاحظ الجهد التربوي الخاص في هذا المقال لتفسير تطور الثورة الروسية، ومن خلال هذا التحليل، استخلاص استنتاجات حول الوضع آنذاك، لا سيما ضرورة فهم الثوريين للدلالة المضادة للثورة لسياسة الجبهة الشعبية.

2- آل هوهنزولرن كانت السلالة البروسية التي سادت ألمانيا منذ 1871 و كان آخر ممثليها على العرش غيوم الثاني الذي تنازل عنه في العام 1918.

3- الكاديت: الحزب الدستوري الديمقراطي في روسيا

4- مكسيم بيشكوف المدعو غوركي (1868-1936)، روائي روسي، كانت بلشفيا ثم ابتعد عن لينين أثناء الثورة، وكان يدير في أكتوبر 1917 جريدة نوفايا جيزن (الحياة الجديدة) المنشفية اليسارية الساعية إلى "التجميع"