مدخل إلى الفلسفة الماركسية .. المادية الجدلية والتاريخية


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4244 - 2013 / 10 / 13 - 17:03
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

تقديم...
لم يكن انهيار الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية حدثاً طارئاً في تاريخ البشرية المعاصر، بل حمل في طياته مقدمات وعوامل انهياره عبر تراكمات بدأت مفاعيلها طوال عقود طويلة سبقت لحظة الانهيار.
لقد جاء ذلك الانهيار في لحظة تطورية علمية واقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة من لحظات التطور المعاصر لكوكبنا تم تتويجها في نظام العولمة الذي جاء بدوره انعكاساً لوصول النظام الرأسمالي الإمبريالي مرحلة الذروة في تطوره ومحاولاته الهيمنة على مقدرات شعوب العالم عموماً والشعوب الفقيرة في بلدان العالم الثالث ومن بينها بلدان وطننا العربي خصوصاً.
وفي مثل هذه الظروف والمتغيرات خلال العقدين الماضيين ، كان من الطبيعي أن تتعرض القوى والأحزاب الشيوعية واليسارية العالمية إلى حالة من التراجع والارتباك الذي وصل إلى شكل من أشكال الفوضى الفكرية ، خاصة تجاه الموقف من الماركسية ، لكن بشاعة الاستغلال الرأسمالي في مرحلة العولمة الراهنة، أكدت من جديد على عودة الماركسية ليس فقط كنظرية ثورية تلبي تطلعات ومصالح العمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين ، بل أيضاً عودتها كنظرية علمية متجددة قابلة للتطور وفق ظروف عصرنا الراهن ومتغيراته بما يخدم خصوصية هذا الواقع الاجتماعي الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك ، من هنا يبرز أمامنا سؤال  ما هي الفلسفة الماركسية ؟ الذي ما زال متداولاً – بهذه الدرجة أو تلك من الجدية والوعي أو التراجع أو الارتباك – بين معظم رفاقنا في جميع أحزاب وفصائل اليسار العربي ، وما زال النقاش حول هذا السؤال محمولاً بالشكوك او اليقين العاطفي البعيد - بمسافة نسبية بين هذا الرفيق او ذاك– عن امتلاك الوعي بالفلسفة  وبالنظرية الماركسية وقوانينها ومقولاتها وجوهرها المادي النقيض للفلسفة المثالية ولكل الأفكار والمفاهيم الغيبية أو الميتافيزيقية، ما يعني ان أحزاب وفصائل اليسار العربي  تعيش عموماً حالة من الارتباك الفكري أو فوضى الأفكار، عززت وكرست – حتى اللحظة – نوعاً من التفكك أو التراجع في هويتها الفكرية، لحساب "هويات" أو أفكار طارئة توفيقية وملتبسة أو شكلانية ذات طابع وطني أو قومي مبسط أو مبتذل أو ديني أو ليبرالي مشوه ، على الرغم من  ان الماركسية ، نظرية علمية لا تحتمل أي شكل من أشكال التوفيق مع "الهويات" الأخرى المشار إليها.
ولذلك فإن دروس وعبر الالتزام الخلاق بالماركسية ، كهوية فكرية ناظمة لأحزابنا وفصائلنا، تتجلى في ضرورة الوعي بالنظرية والتفاعل معها من خلال وعي مكونات الواقع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي والثقافي في هذا البلد العربي أو ذاك ، كعملية جدلية في إطار المنظومة الفكرية والسياسية والتنظيمية المتكاملة، بحيث لا يجوز للكادر أن يكتفي فقط بقراءة العديد من الكتب الماركسية دون أن يتعاطى مع القضايا الأخرى ، السياسية والتنظيمية ، والمجتمعية ، والجماهيرية برؤية شمولية مترابطة ، فالقراءة أو التثقيف الحزبي ، على أهميته وضرورته وأولويته القصوى ، إلا أنه يظل طريقاً أو بعداً أحادياً لا يمكن ان يحقق تأثيره أو نتائجه المأمولة بدون التفاعل مع كافة القضايا الأخرى بصورة شاملة ومترابطة ، بحيث يمكن عندئذ الحديث عن تحول النظرية الماركسية إلى منهج عمل ، وإلى سياسات وأوضاع وهياكل تنظيمية متلائمة ومتطلبات وأهداف هذا الحزب أو الفصيل أو ذاك، وبدون ذلك تظل الماركسية مجرد لافتة حمراء أو شعاراً مرفوعاً محكوماً للشكل أو المظاهر بعيداً عن الجوهر الحقيقي الذي توخته أو استهدفته.
وهنا تتبدى أهمية طرح السؤال مجدداً: ما هي الماركسية؟ وجوابنا الصريح والواضح رغم كل ما يدور من نقاشات موضوعية او مقترحة حول هذا الموضوع، ان الماركسية هي نظرية علمية، بمعنى انها تتكون من مجموعة من القوانين والمقولات والفرضيات، وهي أيضا – وهذا هو المهم- تنطوي على المنهج: أي الطريقة أو الأسلوب ، وهما الأداة الأساسية لكل علم من العلوم، وفي هذا الجانب نؤكد على  "أن الماركسية ليست "علماً" بالمعنى المعتاد للكلمة، وإلا لكفى أي انسان –كما يقول الصديق البروفيسور جيلبير الأشقر- أن يدرسها في مدرسة أو جامعة ما ويتخرج بشهادة في "الماركسية" وهو أبعد ما يكون عن الماركسية الجوهرية".
ومن ذلك المنطلق الثوري بامتياز تتبنى الماركسية وجهة كافة المضطهَدين: الطبقة العاملة بوصفها الطبقة المنتِجة غير المالكة، والنساء باعتبارهنّ الجنس المضطهد والأمم والشعوب المقهورة، وهلمّ جرّا... وهذه نقطة أساسية في التثقيف الثوري لسبب بديهي هو التالي: قبل أن يتعلّم المناضلون الماركسية كعلم، ولكي يستوعبونها حقاً، لا بد لهم بادىء ذي بدء أن يتلقنوا منطلقاتها الأخلاقية ويجعلونها منطلقاتهم، وإلا فما قيمة "المناضل" الذي يدعي الثورية وحفظ الشعارات الماركسية عن ظهر قلب ولا تزال عادات التعالي الإجتماعي إزاء الأتعس منه حظاً، والذكورية والعنصرية والشوفينيه تخيّم على أطباعه. فما نفع "المادية الديالكتيكية والتاريخية" إذا درسها ذاك "المناضل" وهو لم يتخلص من رواسب سلبيات تربيته الإجتماعية التي تتناقض مع مبادئ ومفاهيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة ؟
إن المنطلقات والمفاهيم التربوية والأخلاقية الماركسية لا يمكن دراستها كأي"علم" بل فقط كمبادىء أخلاقية يجب التحقق من فهمها ليس عن طريق المسابقات الخطّية، بل في الممارسة داخل الحزب أو الفصيل، وعلى مستوى الحياة اليومية .
 وهنا لا بد من التأكيد على الكيفية التي نتعاطى بها مع المنهج[1] الجدلي الماركسي في الممارسة الحياتية، ليس من أجل التخلص من الرواسب الاجتماعية الرجعية السائدة، بل أيضاً من أجل مراكمة ووعي منطلقات أخلاقية تتفاعل بصورة جدلية خلاقة مع إستراتيجية أحزابنا وفصائلنا اليسارية في الوطن العربي، ورؤيتها الثورية التغييرية من أجل التحرر الوطني والديمقراطي والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية الوطنية والقومية والأممية ، ما يستدعي بالضرورة تعميق الوعي في صفوف الرفاق بالنظرية الماركسية وأدبياتها ومسارها التطوري المعرفي والسياسي منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا .
 فالمنهج الجدلي المادي شانه شأن منهج العلم، يهدف لتطوير النظرية لكي توجه الممارسة الحياتية  التي بدورها تطور وتغني النظرية، وهذا بالضبط ما قصده "كارل ماركس" بقوله "إنني لم أضع إلا حجر الزاوية في هذا العلم " ما يؤكد على أن نظرية المعرفة الماركسية هي جزء من صيرورة حركة الحياة ومتغيراتها التي لا تعرف الجمود او التوقف، وهو ما يعني بوضوح شديد رفضنا التعاطي مع الماركسية في إطار منهج أو بنية فكرية مغلقة أو نهائية التكوين والمحتوى، بل يتوجب علينا ان نتعاطى معها كمنهج او بنية فكرية تتطور دوماً مع تطور الانجازات والاكتشافات العلمية في جميع مجالات الحياة وحقائقها الجديدة، إذ أن الماركسية تكف عن ان تكون نظرية جدلية إذا ما تم حصرها في إطار منهجي منغلق أو في ظروف تاريخية محددة.
إذن الماركسية لها منهجها ، الذي هو اداة لكشف وتحليل الظواهر الاجتماعية والطبيعية، يفرض على كل ماركسي ان يتابع بروح نقدية استكشافية عقلانية كافة التطورات والصراعات الاجتماعية، لتقديم الرؤى والبرامج وآليات العمل الهادفة الى تغيير وتجاوز الواقع المحكوم من قبل الطبقات المستغلّة في هذا البلد او ذاك لحساب تحقيق أهداف المضطهدين وكل الكادحين والفقراء في الانعتاق والتحرر والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
وفي هذا السياق، فإننا نشير  إلى  أن أياً من قوى اليسار العربي، لم تنجح تاريخياً بتعميم  وتكريس منهاجها الأيديولوجي ومنطلقاتها التربوية الأخلاقية، وثقافتها العقلانية على قواعدها التنظيمية من الناحية الجوهرية، وبالتالي ظلت الايديولوجيا بوجه عام غير ممأسسة تنظيمياً ومتناثرة ومحصورة أو محاصرة او هامشية مهملة  ، ولم ترتق بأفضل أحوالها لتشكل ناظماً للحياة التنظيمية او حالة فكرية جماعية أو قاعدة واسعة لوعي نظري منظم، الامر الذي يستدعي من هذه القوى ، أن تبدأ جدياً بتفعيل البعد الأيديولوجي باعتباره أحد أهم مرتكزات الحزب وصيرورته الراهنة والمستقبلية، عبر الالتزام بمأسسة النشاط الفكري في  الاذهان بما يضمن إحياء وتجديد إطار التفاعل الجاري بشأن إعادة الاعتبار للنشاط التثقيفي لمنظمات الحزب القيادية والكادرية والقاعدية، كبوصلة ومرجعية اولى ومترافقة ضمن مسيرة النضال الشاملة ولتحقيق أهداف الثورة الوطنية الشعبية التحررية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية في كل بلدان وطننا العربي. 
 

********************************************
لانزال النسخة الكاملة من الكتاب نرجو النقر على الرابط ادناه:

http://www.ahewar.org/debat/files/382302.pdf

********************************************


[1]  تعريف المنهج : المنهج هو الطريق الذي يؤدي بنا إلى الهدف، والمرتكز على مجموع القواعد المنبثقة من التجربة الحياتية والمعارف العلمية ، فالمنهج الجدلي للمعرفة يتطلب تناول كل الظواهر في العالم المحيط بنا في ترابطها وتفاعلها وتطورها الدائم ، أما المنهج الميتافيزيقي فيتناول كل ظاهرة بصورة منفردة وبمعزل عن ترابط وتفاعل الظواهر فيما بينها، وعند تناول التغير والحركة يغفل المنهج الميتافيزيقي أبعاد التطور الحقيقي الموضوعية، ويفسر العمليات أو الحركة في الطبيعة والمجتمع تفسيراً غيبياً." الدائرة الثقافية"