اللحظة الراهنة من عمر الثورة المصرية


محمد حسن خليل
الحوار المتمدن - العدد: 4219 - 2013 / 9 / 18 - 15:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

اللحظة الراهنة من عمر الثورة المصرية
على العكس من روح التفاؤل والإحساس العارم بالانتصار الذى ساد بين الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى فى أعقاب الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، يسود فى اللحظة الراهنة بين قطاعات ليست بالقليلة من الشعب شعور بالحيرة والتشاؤم والإحساس بالقلق على الثورة، بل والإحساس بسرقتها! ولكن استنهاض الهمم ومواصلة طريق الثورة الطويل يقتضى تحليلا دقيقا للحظة الراهنة وتوازن القوى الخاص بها.
كانت مسيرة الإخوان المسلمين فى تعميق سياسات التحرير الاقتصادى والخصخصة التى ورثتها عن مبارك والمجلس العسكرى قد وصلت إلى أبعاد غير مسبوقة: لقد تفاقم الغلاء، وتقلصت القيمة الشرائية للأجور، وأيضا طرحت مشروعات بيع البلد من خلال قانون الصكوك، وسلخ قناة السويس وسيناء كلها عن مصر بدعوى تحويلها إلى إقليم خاص لا يخضع للدستور والقوانين المصرية ويملك رئيس الجمهورية كل ما يتعلق بشأنه.
كما استمر الإخوان على مسار حكومة المجلس العسكرى فى إضافة قوانين همجية إلى ترسانة القمع بتغليظ العقوبات ضد الإضراب وأشكال الاحتجاج الجماهيرية، وزيادة الممارسات القمعية حتى قتل الثوار فى أحداث الاتحادية وغيرها. ولهذا تطورت الحركة الجماهيرية ضدها حتى بلغ عدد الاحتجاجات الجماهيرية خلال عام حكم مرسى أكثر من سبعة آلاف احتجاج، وكسبت الحركة الثورية المعادية للنظام القديم والإخوان اتساعا غير مسبوق ومستوى من عمق التسييس أيضا غير مسبوق.
ولكن ممارسات الإخوان لم تثر عداء القوى الشعبية وحدها، فقد كسب الإخوان عداء جهاز الدولة القديم بأكمله لإصرارهم على أخونة الدولة بمنتهى السرعة، بإحلال أنصارهم عديمى الكفاءة فى كل الأجهزة حتى بلغت تعييناتهم نحو 13 ألف موظف. كما استهدف الإخوان مؤسستان بارزتان من مؤسسات الدولة: القضاء والإعلام. لقد وقف القضاء فى وجه مخططات أخونة الدولة، ولم ينس له الإخوان قيامه بحل أول مجلس للشعب يحوزون فيه الأغلبية. كما وقف الإعلام ضدهم بشكل واضح، حيث لم يقتصر هذا على الأصوات الثورية فى الإعلام، بل حتى إن ما عرف بإعلام الفلول من الجرائد شبه الرسمية وقنوات التلفزيون العامة والخاصة وقفت بأغلبها ضدهم وعملت على فضح مخططاتهم.
بل ثبت أن الإخوان المسلمين، من بعض الحقائق الجزئية التى كانت معروفة، ومن خلال كل ما تكشف مؤخرا عن تفاصيل اتفاقاتهم مع أمريكا، ثبت تورطهم فى جريمة الخيانة العظمى، ليس فقط باتفاقاتهم مع حركة حماس بدءا من إخراجهم من السجون أثناء ثورة 25 يناير وحتى المساهمة فى حمايتهم الشخصية، بل باتفاقاتهم مع الأمريكيين على مخطط الشرق الأوسط الجديد بما يتضمنه من التفتيت الإقليمى لمصر وغيرها من الدول العربية، ولموافقتهم على التنازل عن أجزاء من سيناء من أجل توطين الفلسطينيين بها!
ونحن نذكر أن بداية تفجر الموجة الضخمة من العداء الواسع للإخوان قد أتت بعد الإعلان الدستورى الذى استهدف بوجه خاص الإعلام والقضاء فى نوفمبر الماضى وما صاحبه من حصار للمحكمة الدستورية العليا ولمدينة الإنتاج الإعلامى. وكان الرد هو تصاعد المعارضة من خلال تفجر الحركات الجماهيرية، وتشكيل جبهة الإنقاذ، وانتفاضة القضاه ضد الأخونة.
حاول الإخوان أيضا أخونة الشرطة، كما حاولوا بحذر النفاذ للجيش رغم عدم وجود اختراقات لهم فيه على مستوى قيادى، وأطاحوا خلال ذلك بالمجلس العسكرى فى أعقاب حادثة رفح المدبرة من قبلهم غالبا، وعينوا السيسى الذى توسموا فيه الاقتراب منهم.
نخلص من هذا إلى أن أعداء الإخوان انقسموا إلى معسكرين كبيرين: معسكر الثورة بكل أنصارها، ومعسكر النظام القديم بجيشه وبوليسه وقضائه وجهازه البيروقراطى. لم تلجأ القوى الثورية للتحالف الصريح بالطبع مع أنصار النظام القديم الذى كانت مازالت تصارع ضده، ولكن نشأ فى الشارع تحالف موضوعى بين القوتين: فكل منهما تضرب فى اتجاه نفس العدو: الإخوان المسلمون وأنصارهم من القوى الإسلامية.
لهذا، وفى هذا الوضع الأصيل (بمعنى غير المسبوق) تاريخيا، كان الوضع قبل وأثناء الحلقة الثورية الخاصة ب30 يونيو هو الجيش والشعب والشرطة وجهاز الدولة ضد الإخوان، وهذا بالطبع وضع نادر، فالمعتاد أن الثورات تقوم ضد النظام القديم وشرطته، وضد جيشه إذا ضرب الثورة أيضا!
ولعل أصالة ذلك الوضع التاريخى كانت وراء بعض التفسيرات اليسارية التى جانبها الصواب، فالمبالغة فى دور الجيش وأنصار النظام القديم فى صنع 30 يونيو تتجه إلى نظرية المؤامرة وإعداد الجيش وحلفائه "لمسرحية" 30 يونيو، وهو إنكار فج للعنصر الشعبى الواضح فى تلك الحلقة الثورية المجيدة. ولكن الأكثر انتشارا هو العكس: المبالغة فى وضع الآمال على نظام 30 يونيو فى تحقيق أهداف الثورة بدون ممارسة ضغوط شعبية هائلة من أسفل.
وترينا دروس الثورات حتمية الصراع التاريخى الذى ينشأ فى أعقاب كل ثورة بين أنصار النظام القديم وبين القوى الثورية. ولا ننسى بالطبع أن النظام القديم فى بلادنا كما فى كل المجتمعات يمتلك أدوات هائلة للقوة، ليس فقط من جيش وبوليس وبيروقراطية، ولكن أيضا من الوعى والخبرة بفن التصدى للثورات بكل الأشكال بدءا من القمع وحتى الخداع بممارسة فنون تبريد الثورات ومط الحبال وتقديم بعض التنازلات أحيانا من أجل الحفاظ على أركان النظام القديم الذى حاولت الثورة الإطاحة به.
كيف أثر هذا التوازن على الوضع الراهن بعد النجاح فى تنحية الإخوان من السيطرة على الدولة المصرية؟ واضح بالطبع أن القوة التى حسمت صراع السلطة بين قوتين من قوى الثورة المضادة هى الجيش، وبتأييد واضح من الشعب المصرى. وواضح أن القوى الثورية وحدها كانت قد عقدت العزم على التخلص من الإخوان المسلمين رغم علمها بأنهم تنظيم إرهابى يمتلك ميليشيات مسلحة، وبدأت مجموعات شعبية من الشباب مثل البلاك بلوك فى تسليح نفسها، ولكن بدون مساهمة الجيش فى مواجهة إرهاب وميليشيات الإخوان والإسلام السياسى كان سينقضى وقت طويل جدا حتى تنجح القوى الشعبية وحدها بالإطاحة بالتنظيم الإرهابى الذى أعد جهازه السرى المسلح خلال عقود من الزمن، لهذا قبل بقيام الجيش بهذه المهمة. وواضح أيضا أن الجيش، بعد أن أخذ دروسا ثمينة من أخطاء حكم المجلس العسكرى السابق، وأيضا نتيجة للوضع الدولى، قد قرر ألا يحكم بنفسه بشكل صريح، وظل هو القوة المسيطرة وراء الستار. لقد أسفرت الثورة عن تشكيل حكومة حازم الببلاوى من خلال تفاوض مع جبهة الإنقاذ الوطنى.
إلا أن جبهة الإنقاذ الوطنى ليست كيانا منسجما: فقد تشكلت كجبهة موحدة ضد أخونة الدولة فى أعقاب الإعلان الدستورى كما سبق القول، حيث اشتملت على قوى من النظام القديم مثل حزب المؤتمر وعمرو موسى، كما اشتملت على قوى ليبرالية مثل أحزاب الوفد والمصريين الأحرار والدستور والديمقراطى الاجتماعى، واشتملت أيضا على قوى ثورية بشقيها القومى واليسارى. بالطبع كان تحالفا غير منسجم للنهاية، ولكنه كان تحالفا مفيدا كتحالف مؤقت من أجل هدف محدد هو توحيد الضربات ضد دولة الإخوان. حقا إن نفوذ القوى اليمينية به طالما حاولت مغازلة الإخوان والوصول لصفقات معهم، ولكن استمرار السلوك الهمجى للإخوان من ناحية والضغوط الهائلة من القوى الشعبية من ناحية أخرى لم تعط الجبهة فرصة لصفقات. وبهذا نجحت جبهة الإنقاذ فى أن تحافظ على نفسها داخل معسكر المعارضة، وإن كانت، بسبب ترددها نفسه، قد احتفظت لنفسها بموقع الذيل فى هذا المعسكر، حيث تأخرت مواقفها بحيث عجزت عن المشاركة الفاعلة فى الدور القيادى، وهو ما لمسه الشعب بوضوح.
لم تشترك جبهة الإنقاذ كلها فى مفاوضات وتسوية أوضاع ما بعد 30 يونيو، بل اقتصر الأمر على وسطها: حزبى الدستور والديمقراطى الاجتماعى الليبراليين، والتيار الشعبى الناصرى. واستقر ميزان القوى هذا على مسئولين ووزراء محسوبين على التيار الليبرالى (البرادعى، زياد بهاء الدين، البرعى) ووزراء محسوبين على التيار القومى (حسام عيسى وكمال أبو عيطة)، مع أغلبية تنتمى للنظام القديم. وواضح طبعا سيطرة مجموعة ليبرالية على المجموعة الاقتصادية بدءا بالببلاوى وحتى بهاء الدين وأحمد جلال. ولكن، وعلى عكس حكومات السنوات العشر الأخيرة على الأقل، لم تشتمل الحكومة على وزراء مشهورين بالفساد الصارخ مثل سابقيهم!!
وعلى نفس الغرار جاء تشكيل لجنة صياغة مشروع الدستور، وجاءت بمشروع به بعض التنازلات للشعب، ليس فقط فى مواجهة أخونة الدستور مثل حذف المادة 219 وحذف كلمة الشورى إبقاء على الديمقراطية وحدها، ولكن أيضا فى الاستجابة إلى عدد من المطالب الشعبية والديمقراطية مثل إلغاء مجلس الشورى والاعتراف بحق جميع المواطنين فى الرعاية الاجتماعية من خلال معاش التأمين الاجتماعى لكل المؤمن عليهم، ومن خلال معاش التضامن الاجتماعى لغير المؤمن عليهم، وكذلك بمسئولية الدولة عن صحة المواطنين من خلال تعميم نظام تأمين صحى على جميع المواطنين. ولكن تتضح محدودية تلك التغيرات فى غياب تقنين الحريات بإطلاق حق تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات بالإخطار وحده فى إطار ضوابط القانون المدنى وحده، كما سمح بحق الإضراب أيضا "فى حدود القانون" المقيدة كما خبرناها دائما.
أما السلوك الفعلى للحكومة فواضح أنها لم تخف اتجاهها الليبرالى، ونفت اللجوء للسياسات الانكماشية السابقة رغم عجز الموازنة، وتحدثت عن سياسات توسعية محدودة فى حدود الموارد المؤقتة من منح وقروض الخليج. وحاولت الحكومة مغازلة طموح العدالة الاجتماعية من أطراف الأطراف عن طريق تقديم تنازلات محدودة من نوع تخفيض أسعار السلع بالمجمعات الاستهلاكية 10-15%، وإلغاء المصاريف المدرسية بالحكومة وإقرار وجبة مجانية بالمدارس، وزيادة بعض المقررات التموينية. ولكنها أكدت فى نفس الوقت على أن خطة الطوارئ الاقتصادية تشتمل على خصخصة المستشفيات والمرافق المدرجة بخطة العام (الإخوانية طبعا) من خلال المشاركة مع القطاع الخاص.
ولكن الواقع عنيد كما يقولون، فليس من السهل خداع الشعب، وخصوصا بعد ثورة متواصلة لأكثر من ثلاثين شهرا علمته دروسا ثمينة، ولسان حاله يقول: أين أهداف الثورة؟ أين العدالة الاجتماعية؟ أين الحد الأدنى والأقصى للأجور؟ فى كل هذا تكرر الحكومة رطانة النظام القديم، المباركى العسكرى الإخوانى المشترك، حول غياب الموارد، واعتراض رجال الأعمال على رفع الأجور والتأمينات، والخوف من تفاقم البطالة!
حقا إن استمرار المواجهة مع الإرهاب ومع بقايا الإخوان يلقى بظله على الموقف ويلجم إلى حد ما من استعداد الشعب للخروج الصريح على الحكومة فى أشكال احتجاجية جماهيرية لابد وأن يستغلها الإخوان، ولكن بالطبع للصبر حدودا لا يمكن تجاوزها فى ظل شعب يعيش بين نصفه وثلثيه تحت خط الفقر!
ورغم أن محدودية التسييس جعلت قطاعات شعبية تفكر أحيانا فى مخرج البطل الفرد، وألبست السيسى رداء عبد الناصر الذى سيجئ لها بالعدالة الاجتماعية وبمواجهة الولايات المتحدة، إلا أن ساحة الاختبار الأساسية هو كيف تنعكس سياسات الحكومة على معيشة الناس؟ والإجابة حاليا: ليس إلا أقل القليل ما تحقق. ولقد استن شعبنا سننا ثورية عظيمة منها مثلا الخروج لمحاسبة النظام بعد مرور مائة يوم على توليه، إن لم يخرج قبل ذلك. وواجبنا أن نثق بأنفسنا وبشعبنا الذى أثبت، ليس فقط صبره وتحمله، ولكن أيضا استمرار عزيمته الثورية ومخزون سخطه الذى لا ينفذ على كل أعدائه، وإن غدا لناظره قريب!
محمد حسن خليل
الحزب الاشتراكى المصرى
18 سبتمبر 2013