حديث عن إخفاقات منظمة التحرير الفلسطينية ... بعد 20 عام على توقيع اتفاق اوسلو


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4215 - 2013 / 9 / 14 - 19:25
المحور: القضية الفلسطينية     


إن الرؤية الموضوعية للعلاقة بين (م.ت.ف) من جهة، وبين الجماهير الفلسطينية في الداخل والشتات من جهة أخرى ، تفرض علينا جميعا الوقوف أمام احد أهم مظاهر تلك العلاقة التي تتطور في هذه المرحلة باتجاه الهبوط أو الاستجابة للشروط الأمريكية – الإسرائيلية الهادفة إلى إفراغ م.ت.ف من محتواها الوطني ومن ثم تحطيم الجسر الممتد بين الشعب والأرض والمنظمة.
إخفاقات منظمة التحرير الفلسطينية :
1- بسبب بنيتها الطبقية عموماً وبنية وسياسات حركة فتح خصوصاً لم تستطع م.ت.ف التمسك بمنطلقاتها واهدافها السياسية في تحرير كل فلسطين، وفق نصوص ميثاقها (هذه الاهداف سرعان ما تلاشت لمصلحة سياسة، قيل أنها تكتيكية، تهدف إلى الإفادة من الوضع الدولي الذي نشأ عن وجود المقاومة، من أجل القبول بما يمكن أن يسمى "الحدّ الأعلى" الذي يقبل به العالم، و"الحدّ الأدنى" للفلسطينيين. وهي السياسة التي قامت على قبول دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة) ... الواضح هنا أن طبيعة البنية الطبقية القيادية المتفردة لحركة فتح هي التي أدت إلى مسار الهبوط والتراجع في م.ت.ف بصورة تدرجية وبذرائع مختلفة عبر المحطات التالية :
‌أ- المحطة الاولى بدأت مع عقد الدورة (12) للمجلس الوطني الفلسطيني – القاهرة 1/6/1974، حيث نلاحظ التراجع عن بعض نقاط برنامج النقاط العشر التي أقرها المجلس الوطني في تلك الدورة، حيث وافق المجلس على مضمون رسالة ياسر عرفات إلى المستشار النمساوي كرايسكي التي تتضمن " إن منظمة التحرير الفلسطينية على استعداد لعقد معاهدة عدم اعتداء مع إسرائيل". وهنا أصبح الكلام صريحاً ومكشوفاً عن ضرورة السير بحثاً عن (حل سياسي) مع إسرائيل.
‌ب- استمر الهبوط في الدورة (17) للمجلس– عمان 22/ تشرين الثاني 1984، وكانت أهم قراراته : السير سياسياً ودبلوماسياً على إستراتيجية تعتمد على جميع قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ومن ثم بداية نهج التسوية.
‌ج- في شهر تشرين الأول / 1982 أرسلت قيادة م.ت.ف وفداً لزيارة القاهرة بعد خمسة أعوام من انقطاع العلاقات العربية بسبب اتفاقات كامب ديفيد. وفي 18/1/1984 دعا عرفات لإجراء محادثات مع دولة العدو الصهيوني ، وأعاد محاولته في 24/4/1984 بالتأكيد علانية على رغبته في "التفاوض مع إسرائيل وجها لوجه.
‌د- في الدورة (18) للمجلس – الجزائر 20/4/1987، أصدر المجلس بيانان "يؤيد عقد المؤتمر الدولي في إطار الأمم المتحدة وتحت إشرافها". وفي هذه الفترة كانت قيادة عرفات قد فتحت عدة قنوات اتصال بالعدو الصهيوني منها قنوات كل من محمود عباس (أبو مازن) وسعيد كمال، وبسام أبو شريف، ونبيل الرملاوي، ومجموعة من رجال الأعمال الفلسطينيين.
‌ه- الدورة (19) للمجلس– الجزائر 13/11/1988 (دورة الانتفاضة): كان قرار إعلان قيام الدولة ابرز القرارات، وتضمن الفقرة الهامة التالية : "كما تعلن (دولة فلسطين) في هذا المجال أنها تؤمن بتسوية المشاكل الدولية والإقليمية بالطرق السلمية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها وإنها ترفض التهديد بالقوة او العنف أو الإرهاب أو باستعمالها ضد سلامة أراضيها واستقلالها السياسي وسلامة أراضي أي دولة أخرى". وفي ضوء ذلك أكد الرئيس عرفات استعداده للقبول بالشروط الأمريكية، بما في ذلك الاستعداد للتفاوض مع (إسرائيل) على أساس قراري مجلس الأمن 242 و 338 والتعهد بالعيش بسلام مع (إسرائيل) في حدود الأرض المحتلة عام 1967 ، وإدانة العنف والإرهاب وعدم ممارسته.
‌و- أما الدورة (20) للمجلس– الجزائر 23/9/1991 فقد تضمنت قرارات المجلس الوطني الموافقة على إجراء تسوية سياسية مع دولة العدو الصهيوني، تحت غطاء مؤتمر السلام، ثم استمرت عملية التفاوض العبثية منذ مدريد ثم واشنطن وصولاً إلى اتفاق أوسلو التي جسدت مخالفة القيادة المتنفذة في م.ت.ف لجميع الأسس المتفق عليها بين كافة فصائل المقاومة في مقابل قبولها بالشروط الأمريكية الإسرائيلية وانتهاج سياسية الاستسلام المستمرة حتى اللحظة .
2- الإخفاق الثاني لمنظمة التحرير الفلسطينية بدأ مع مغادرة بيروت ، والذي توضح خلال فترة تونس، من العام 1982 إلى 1994 ، وتفاقم خلال مفاوضات أوسلو، وتجذر مع تأسيس السلطة الفلسطينية، حيث رضخت قيادة م.ت.ف – للخروج من أزمتها - بقبولها الصيغة التفاوضية التي فرضها عليها جيمس بيكر في مدريد عام 1991 بطلب من الإسرائيليين، وهي صيغة خططت لأن يجري تناول قضية اللاجئين (وجميع القضايا المهمة) في وقت لاحق، عند التفاوض على الترتيبات المؤقتة للضفة الغربية وقطاع غزة ، عبر ما يسمى بمفاوضات الوضع النهائي ، التي تأجلت لما يقارب العقد ، لحين انعقاد مؤتمر "كامب ديفيد" الاجهاضي عام 2000 ، وتأجل الآن إلى أيلول / سبتمبر 2010 لتبدأ جولة جديدة من المفاوضات المباشرة بالشروط الإسرائيلية الامريكية (وفق رسالة أوباما أواخر تموز الماضي ) التي يبدو ان قيادة م. ت. ف يمكن أن توافق عليها مقابل الاعتراف بدولة شكلية أو قابلة للحياة بدون حق العودة ، وبدون سيادة حقيقية على أرضها ومواردها من ناحية وتكريس الاعتراف بيهودية دولة العدو الاسرائيلي من ناحية ثانية . من الواضح إذن، أن هذه السياسات ليست جديدة علينا ، سوى أنها في تقديرنا ، أسوأ وأكثر هبوطاً من تلك السياسات التي مارسها الراحل أبو عمار طيلة العقود الثلاث الماضية.
3- الفشل في تطوير دوائر منظمة التحرير إلى مؤسسات ديمقراطية حديثة تمهد لترسيخ مشروع دولة فلسطين.
4- المحاباة ، والاستخدام التعسفي للسلطة ، والفساد، وعدم ضبط مختلف فئات منظمة التحرير أفسد أدائها بشكل خطير، وكل ذلك في إطار قيادة فردية مطلقة ، جعلت الحديث عن مسار حركة التحرر الوطني الفلسطينية بكل فصائلها غير ممكن دون تتبع دور وهيمنة القائد الفرد الراحل ياسر عرفات .
ورغم رفض أو معارضة بعض الفصائل الفلسطينية وخاصة الجبهة الشعبية ، إلا أن هذه السياسات جعلت المنظمة في وضعية يرثى لها، حيث جرى تغيير برنامجها بعد أوسلو لكي يتوافق مع الاتفاقات الموقعة، وبالتالي بات برنامجها هو برنامج أوسلو لا غير. بمعنى أن المنظمة لم تعد منظمة للتحرير، بل باتت "خيال مآتا" لا دور سياسي، ولا دور نضالي، ولا دور تمثيلي. وهي محتكرة من قبل قيادة السلطة، وليس فتح، لأن فتح تهمّشت كذلك، لهذا لم يبق سوى الاسم: منظمة التحرير الفلسطينية. هل يفيد؟ الجواب متروك لكم !.
إنني لا استهدف من هذا الاستنتاج إلى الدعوة إلى شطب وتجاوز م.ت.ف أو إيجاد مرجعية بديلة على طريقة حركة حماس و الإسلام السياسي، فهي مازالت –رغم كل شيء - تمثل كإطار وبرنامج سياسي وصيغة تنظيمية جامعة وليس كقيادة ومؤسسات راهنا ، هي "أهم منجز حققته الثورة الفلسطينية المعاصرة" كرد على محاولات طمس وتبديد هوية ووحدة الشعب وحقوقه الوطنية، وهو منجز تبلور وتطور عبر عملية صراعية تاريخية، جعلت من م.ت.ف الإطار الوطني الفلسطيني الجامع الذي استطاع من خلال نضالات شعبنا وقواه المنظمة من فرض ذاته كَمُعَبِّر سياسي قانوني وتنظيمي عن وحدة الشعب وهويته وشخصيته الوطنية وكيانه الوطني. استنادا إلى ذلك فان خيارنا كفلسطين يقوم على أساس أن المنظمة، وبالرغم من كل ما لحق بها، لا تزال تمثل شعبياً وقانونياً ووطنياً إطاراً جمعياً، ومُعَبِّراً معنوياً وكيانياً عن وحدة الشعب الفلسطيني، لان شعبنا لم يحقق استقلاله وسيادته بعد، فان الحفاظ على المنظمة يعتبر ضرورة ومصلحة وطنية عليا تستدعي ايلائها الأهمية التي تستحق الارتقاء إلى ما تفرضه من مهام ومسؤوليات، وجعل هذه المسألة قضية وطنية عامة أو فكرة توحيدية مركزية يجري التحشيد والتأطير على نطاق شعبي واسع من اجل الالتفاف حولها وتطويرها وشطب كافة الاتفاقات المعقودة مع دولة العدو الإسرائيلي باسمها ، حيث بات اليوم أضر مما في أي وقت ماضي تأييد الصيغة المكرسة: "م.ت.ف.، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ارتباطاً بتلك الاتفاقات وخاصة اعترافها بالدولة الصهيونية، إذ إن هذه الصيغة لا علاقة لها بنضالات وتضحيات شعبنا طوال المئة عام المنصرمة من ناحية ، ولا تعبر بالمطلق عن أماني ومصالح شعبنا من ناحية ثانية ، بل هي بكل وضوح شيك على بياض تم تقديمه للعدو الإسرائيلي دون أي مقابل يمكن أن تدافع عنه قيادة منظمة التحرير .
وبالتالي فإن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره يتضمن أيضاً حقه في تعيين ممثليه بشكل حر وديمقراطي، من دون أن يمنح أحد نفسه، بالتعيين أو بحكم المصالح والمحسوبيات ، حق تقرير من هو الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا... وفي هذا السياق فإنه من حق الثوريين، بل من واجبهم،أن يقولوا لها أنها تخطئ وأن يكافحوا أوهامها ، انطلاقاً من أن تأييد نضال شعب مضطهد ضد مضطهديه تأييداً غير مشروط، يعني تأييد هذا النضال بمعزل عن طبيعة قيادته، إنه لا يعني بتاتاً تأييد قيادة م.ت.ف بدون شروط .
إن موقف الثوريين إزاء قيادة النضال يجب أن يستند إلي التمييز بين الخطوات التي ينبغي دعمها والخطوات التي ينبغي فضحها.
وهنا لابد لي من أن أوجه نقداً موضوعياً قاسياً إلى أبعد الحدود إلى كافة القوى الثورية اليسارية ، لأن الاقرار بهذا الواقع الهابط والمرير ، شبه المستسلم ، الذي وصلته قيادة م.ت.ف ، يحيلنا إلى سبب آخر ، ربما كان الأهم بالنسبة لاستمرار هيمنة القيادة اليمينية عليها ، او بالنسبة لما جرى من انقسام خطير في منتصف حزيران 2007 أدى إلى هيمنة اليمين الديني في قطاع غزة، وهذا السبب تحديداً هو تقاعس اليسار الفلسطيني عن أداء دوره وفق ما كان وما زال يتمناه القطاع الأوسع من جماهير شعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات .
فقد كان دور بعض أطراف هذا اليسار ، وبالرغم من إنكار بعض قادته ، لا يتعدى دور شاهد الزور، كما حصل عشية اتفاق أوسلو ، أو دور ذريعة يسارية للسياسة الغارقة في يمينيتها التي تنتهجها قيادة "فتح" البورجوازية، وهذا يشير إلى أي حد الإجماع الوطني الذي يدعي هؤلاء أنهم يستندون إليه في مشاركتهم في هيئات م.ت.ف. هو إجماع وهمي، في مقابل مشاركتهم الحقيقية في حكومة رام الله ووزاراتها.
وفي هذا السياق نستذكر القائد الراحل جورج حبش الذي اعترف بطيبة خلق، في مقابلة مع مجلة الهدف: " كنا نربح المعركة نظرياً على الورق، إلا أن الجناح المهمين على قيادة المنظمة، وبحكم طبيعته البورجوازية، لم يكن يلتزم بما يجري الاتفاق عليه في ممارسته السياسية اللاحقة. وهذا السلوك السياسي هو الذي يفسر في الواقع معارضة هذا الجناح اليميني لإجراء إصلاحات تنظيمية ديمقراطية جذرية في أطر ومؤسسات المنظمة، لأنها ستحد من حركته السياسية باتجاه طرق بوابات الحل الاستسلامي في بعض العواصم العربية الرجعية".
وعند هذه الملاحظة أود أن أشير إلى أن هيمنة "فتح" داخل م.ت.ف منذ عام 1969 إلى يومنا هذا، غير قابلة للزحزحة بأي شكل من الأشكال ، طالما بقيت أنظمة م.ت.ف وآلياتها على ما هي عليه، إذ أن هذه الأنظمة والآليات اعتمدت دوماً - عبر احتكار قرار التعيين - على حلقة مفرغة : مجلس وطني – لجنة تنفيذية – مجلس مركزي ، حيث تضمن هذه الهيئات كل واحدة للأخرى بالتوالي ، إعادة الإنتاج البسيطة أو الموسعة، لهيمنة القيادة الفردية في حركة فتح ، وبالتالي فإن استمرار تمسك الفصائل والقوى بالمنظمة ، لا بد من أن يترافق مع مطلب أساسي يقوم على ضرورة تغيير هذه الأنظمة والآليات بما يضمن تحقيق التطبيق الأمثل للتعددية الديمقراطية في م.ت.ف .
من كل ما سبق، هل ينبغي استخلاص أنه كان يتوجب على اليسار الفلسطيني أن يمتنع، من حيث المبدأ، عن الانتساب إلى م.ت.ف؟ ليس بالضرورة. ولكن مفهومه بالذات لعضوية م.ت.ف. هو الذي كان يجب أن يكون مختلفاً جذرياً. بمعنى ان تكون عضويته في المنظمة لأغراض تكتيكية ، براية مشرعة وبدون مهادنة القيادة اليمينية، وهي السياسة التي اتبعتها -ومازالت- الجبهة الشعبية ، على النقيض من ممارسات بعض أطراف اليسار، إذ أن بوسع هذه الأطراف أن تستخدم المجلس الوطني كمنبر للتحريض السياسي، مع فضح نمط تركيبه اللاديموقراطي بصوت عال، ومع المطالبة بأن يكون الجسم الرئيسي لأعضاء المجلس منتخباً من قبل الجماهير الفلسطينية، وفي حال استمرار تعذر الانتخابات فلا بد من الاتفاق على تشكيل هيئة فلسطينية من جميع الأطراف والقوى السياسية والمجتمعية دونما أي تمييز فيها لفصيل أو أخر بحيث نضمن اختيار أعضاء مجلس وطني جديد بصورة تمثيلية وموضوعية إلى أبعد الحدود .
وبالتالي فإن نقطة الانطلاق الصحيحة صوب الاتفاق على برنامج سياسي مشترك في إطار م.ت.ف ، تفترض من وجهة نظرنا، التمييز بين م.ت.ف باعتبارها كيانا معنويا، وتعبيرا سياسيا عن الشخصية الفلسطينية، التي يجب أن ترتكز سياستنا لحمايتها كمنجز وطني، وبين كونها إطاراً جبهوياً نتصارع فيه وحوله ومن خارجه.
وحتى لا أكون واهماً ، أو داعياً لزراعة الأوهام ، فإنني أقول بصراحة إن معركة الصراع على م.ت.ف ودورها وبرنامجها ومشروعها، لن تحسم بين ليلة وضحاها، فهي تحتاج لجهد ودأب وتحشيد وطني وجماهيري شامل يبقى مُنْشَدَّاً لهدف الحفاظ عليها كضرورة وطنية راهنا وفي المدى المنظور بالاستناد إلى ميثاقها وثوابتها .
وفي هذا الجانب لا يجوز تجاوز أو إغفال المتغيرات الحادة التي أصابت "النظام السياسي الفلسطيني" والقيادة المتنفذة في م.ت.ف التي يبدو أنها لم تعد قادرة بعد غياب الراحل ياسر عرفات على التفاوض مع العدو بشروطها ولو ضمن الحد الأدنى ، حيث يبدو أن المقرر الخارجي وأقصد بذلك العدو الأمريكي الإسرائيلي بات محدّداً رئيسياً لما يسمى بعملية السلام ، ومن ناحية ثانية فإن تحليل جوهر الصراع بيننا وبين العدو الإسرائيلي كصراع عربي إسرائيلي إلى جانب الوضعية الرئيسية لدولة العدو الإسرائيلي التي تحولت اليوم إلى حالة امبريالية صغرى عززت دورها ووظيفتها في تكريس أدوات ومظاهر التبعية والتخلف واستمرار احتجاز التطور في بلدان الوطن العربي بما يضمن حماية وتكريس مصالح نظام العولمة الامبريالي في بلادنا، وبالتالي لم يكن مستغرباً في مثل هذه الأوضاع تمسك التصور الصهيوني بلاءاته الخمسة : لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من وادي الأردن ، لا إزالة للمستوطنات ، لا عودة للاجئين، لا للدولة الفلسطينية كاملة السيادة على الأراضي المحتلة .
من هنا، وفي سياق الدعوة للحوار الوطني و لـ "الوحدة" الوطنية، والمصالحة، وهي دعوة نعتقد أن القسم الأكبر من جماهير شعبنا ، إلى جانب بعض القوى اليسارية من أصدق الحريصين عليها من أجل وحدة الصف الفلسطيني على ثوابت الحد الأدنى، لكننا لابد من أن نطرح هذا السؤال: هل هذه القوى معنية لأن تصبح طرفاً في حوار يستهدف التوصل إلى وثيقة تتضمن استجابتها للشروط الأمريكية الإسرائيلية ، خاصة شروط نتنياهو وأوباما للدخول فيما يسمى بالمفاوضات المباشرة ؟ أم أنها معنية بالنضال من أجل إنهاء الانقسام والتمسك بالثوابت الوطنية والوحدة الداخلية التي تضمن حق الاختلاف والتعدد –كأولوية راهنة وعاجلة- خاصة وأنها تمتلك رؤية وبرنامجاً سياسياً يختلف جوهرياً عما تطرحه كل من حركتي فتح وحماس؟
لقد قامت صيغة م.ت.ف على أساس تحالف قوى مختلفة بهدف تحرير فلسطين. وإذا كانت قيادة حركة فتح تعتبر أنها القائدة لأنها "فجرت المقاومة"، "أطلقت الرصاصة الأولى"، فقد انبنى القبول بقيادتها وبهيمنتها على فكرة أننا نمرّ بمرحلة تحرر وطني تتعايش مؤقتاً مع قيادة "البرجوازية". وبالتالي فقد قبلت قوى اليسار التعامل مع هذه القيادة، رغم أنها لم تستطع وقف آلياتها للسيطرة على القرار السياسي. لكن ظل هدف التحرير هو الموحد والمبرر لهذه العلاقة التي تكونت في إطار م.ت.ف. رغم أن القيادة المهيمنة انتقلت من السعي لتحرير فلسطين إلى الحل المرحلي وفق أوسلو ثم إلى القبول باتفاقات وآي ريفر وشرم الشيخ وتفاهمات "ميتشيل" و"تينيت" وصولاً إلى الشروط الاسرائيلية الأمريكية الراهنة، دون أي أفق للتقدم صوب الحل العادل، بل المزيد من التكيف مع بناء المستوطنات والجدار ومصادرة الأراضي والتوسع الصهيوني في الضفة الغربية ، وكل هذه الخطوات أو التراجعات الخطيرة تمت بالتوافق والتكيف بين قيادة م.ت.ف والبلدان العربية الرجعية والتابعة .
في ضوء ذلك نسأل مجدداً ، هل ظل مفهوم مرحلة التحرر في ظل القيادة الحالية لـ م.ت.ف والأطراف النافذة فيها صحيحاً ؟ وهل ظلت التقاطعات مع هذه الفئة هي ذاتها؟ إن الوضع الراهن يفرض إعادة نظر جذرية فيه من جهة، وفي القوى التي قادته من جهة أخرى. فهل ظلت قيادة السلطة معنية بالتحرير؟ لقد أصبحت سلطة وتمارس على هذا الأساس، لأن مصالحها الخاصة هي التي باتت تحركها وليس القضية الوطنية. واعترفت بالدولة الصهيونية متنازلة عن 80% من فلسطين وأكثر.. وهي خاضعة للولايات المتحدة والدول المانحة ومربوطة مالياً بها ، وهي أيضاً على استعداد للتنازل عن مبدأ العودة كجوهر قضية اللاجئين، وهي مستمرة في سياسة التفاوض التي أعطت الدولة الصهيونية كل الوقت من أجل إكمال السيطرة على الأرض وإكمال الجدار والتحكم بالضفة الغربية، وسمحت –بوعي مع سبق الإصرار- بتشكيل الأجهزة الأمنية في خدمة سياسة الولايات المتحدة والدولة الصهيونية.
أما بالنسبة لحركة حماس، ويمكن أن نتحدث طويلاً عن حماس، لكن يمكن القول بأنها تحمل مشروعاً آخر، يرى الأمور من زاوية أصولية دينية تفرض عليها موضوعياً ، أن تخضع لمنطق أيديولوجي يُغَلّب العقيدة على ما عداه، بحيث تسعى إلى إحلال هوية الإسلام السياسي محل الهويتين الوطنية والقومية ، وكل ذلك في سياق ترابطها العضوي المباشر وغير المباشر مع شرائح وفئات كمبرادورية ومالية وعقارية وطفيلية ، فهي إذن ، في الجوهر لا تختلف عن الطبيعة الطبقية لقيادة م.ت.ف، وان اختلف الشكل السياسي الظاهري بينهما ، بهدف استمرار الصراع والتفاوض علناً وبشكل مباشر، كما هو الحال مع قيادة فتح و م.ت.ف، أو سراً أو بشكل غير مباشر ، كما هو حال حركة حماس، التي يبدو أن الفرصة باتت مهيـأة لها -إذا ما أقدمت على تلك التنازلات- تحت غطاء الإسلام السياسي المعتدل، وعلى قاعدة فقهية تقول إن الضرورات تبيح المحظورات بما يحقق هدف الولايات المتحدة وإسرائيل في إسدال الستار على م.ت.ف لحساب ما يسمى بـ "مشهد الإسلام السياسي المعتدل" إذا ما بقيت أوضاع القوى الديمقراطية واليسارية والقومية على ما هي عليه من جهة وإذا ما توفرت مقوماته وعناصره الخارجية وفق مقتضيات ومصالح النظام الإمبريالي من جهة ثانية.
وإذا كانت حماس قد لعبت دوراً بارزاً في المقاومة، فقد أصبحت معنية اليوم بتعزيز سلطتها بعد أن أصبحت في الحكومة، وأن تجلب الاعتراف العربي والدولي والأمريكي والإسرائيلي بها كقوة سياسية مشروعة قادرة على فرض الاستقرار والأمن بعد أن قدمت البرهان في قطاع غزة .
نستنتج من كل ذلك ، أن التجربة السياسية الفلسطينية منذ مدريد وواشنطن وأوسلو إلى الانقسام الراهن ، أوضحت فشل تلك السياسة، بسبب استنادها إلى وعود أو أوهام الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب أوهام عملية التفاوض العبثي مع دولة العدو الإسرائيلي في ظل نظام عربي ودولي شبه مرتهن لسياسة العولمة والتحالف الإمبريالي الصهيوني، حيث بات واضحاً أن الحل المرحلي -في ضوء هذا الارتهان- أو ما يسمى بالدولة القابلة للحياة، لن يحقق سوى "دولة" فاقدة لمقومات السيادة الفعلية ، ارتباطاً بقبولها بما تقرره الدولة الصهيونية مدعومة من قبل الإمبريالية الأمريكية ، ما يعني بوضوح تخلي هذه "الدولة" عن حق العودة وتقرير المصير والاستقلال الكامل .
لقد أصبح واضحاً اليوم بأن جملة الوقائع التي حققتها الدولة الصهيونية في الضفة الغربية تحديداً لم تعد تسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة، وهو يسمح فقط بأن تبقى السلطة الفلسطينية سلطة إدارة ذاتية مدنية للسكان الذين تقلصت أرضهم إلى النصف تقريباً، على ضوء التوسع المستمر للاستيطان ، إضافة إلى السيطرة على المعابر والتحكم في الأجواء.
أين ستقام "الدولة المستقلة" إذن؟ هذه الواقعة فرضت إعادة التفكير في الوضع. حيث لا دولة مستقلة ممكنة على الأرض، نتيجة السياسات التي اتبعتها ولازال تتبعها الدولة الصهيونية الحريصة على أن تبقى يهودية الطابع، وبالتالي كان هدف السيطرة على الأرض وتوسيع الاستيطان هو حصر السكان الفلسطينيين في غيتوات (كانتونات) صغيرة، تدار ذاتياً، لكي تكون في داخل الدولة الصهيونية، وفي خارجها في الوقت ذاته. ولكي يؤدي الحصار المستمر، والضغط الاقتصادي، إلى هجرة "طبيعية"، ترانسفير "طبيعي". هنا كان اتفاق أوسلو مدخلهم لذلك.
يشير هذا السياق التحديدي إلى أن القيادة الفلسطينية كانت تؤسس على وهم، وهم الحصول على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. بينما كانت الدولة الصهيونية تسرق الزمن من أجل إكمال السيطرة على الأرض وتوسيع الاستيطان.
المسألة المحورية هنا هي أن الدولة الصهيونية تنطلق من أن قوتها، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، لا تتثبت إلا عبر التوسع، وأنها لا تكتمل إلا عبر الهيمنة، ليس على كل فلسطين فقط بل على المحيط العربي كذلك، لأنها تعي (أكثر من كثير من السياسيين الفلسطينيين و العرب) عمق العلاقة بين فلسطين والوطن العربي.
إذن، يمكن أن نقول بأن "عملية السلام" لا تهدف إلى الوصول إلى دولة مستقلة للفلسطينيين، بل أن هدفها الذي باتت يتوضح أكثر فأكثر هو دمج فئة فلسطينية بالمنظومة الأمنية الصهيونية . ولهذا نلمس التشابك الاقتصادي الذي يتحقق، والشراكات التي تحوّل فئة فلسطينية إلى كومبرادور في المنظومة الاقتصادية الصهيونية.
لهذا بات السؤال هو: أية قضية هي قضية الفلسطينيين؟ الدولة المستقلة أو "سلطة الإدارة الذاتية؟ على فلسطين أو على حدود سنة 1967 أو على بضع كانتونات مغلقة بإحكام؟ وما هو وضع اللاجئين؟ وهل قضيتهم هي قضية حقوقية تتعلق بتطبيق القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة؟ وفلسطينيي الأرض المحتلة سنة 1948 ما هو وضعهم ومصيرهم؟ هل هم فلسطينيون؟ وبالتالي لقد طغت التفاصيل وضاعت القضية. حيث يجري تناول فروع لقضية أساسية انطلاقاً من أنها قضايا مستقلة. وباتت تخضع لشرعية هي الداعم الأساس للدولة الصهيونية منذ أن قررت إعطائها شرعية الوجود.
لقد أوضحت تجربة التفاوض التي بدأتها م.ت.ف.، والتي توجت بقيام سلطة الإدارة الذاتية، أن ليس من حل جزئي للفلسطينيين، وأنه ليس من الممكن التعايش مع الدولة الصهيونية إلا بالقبول بكونها قوة مسيطرة، كما الإمبريالية، أو بالترافق معها.
وهو الأمر الذي يفرض التأكيد على أن الصراع مستمر حتى يتحقق التغيير في ميزان القوى الذي يسمح بإنهاء الدولة الصهيونية، وقيام دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية، في إطار التغيير العميق في الوطن العربي.
أمام كل ذلك لم يعد مفهوماً - من وجهة نظري - الحديث عن حلول مرحلية، يعزز هذا الاستنتاج، الفشل الذريع لكافة الاتفاقيات التي عقدتها م.ت.ف لأسباب تعود إلى طبيعة اتفاق أوسلو ومحدداته من ناحية ولأسباب سياسية وطبقية حكمت معظم هيئاتها القيادية ، وبذريعة شعارها الزائف حول ما يسمى "القرار الفلسطيني المستقل" من منطلقها البائس في كون الصراع فلسطيني إسرائيلي وليس عربياً إسرائيلياً .
هنا تتبدى الضرورة لإعادة النظر –بمنهجية موضوعية وعميقة- في كافة المنطلقات السياسية التي ارتبطت بشعار الحل المرحلي ، وصولاً إلى النضال من أجل تحقيق هدف دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية، الذي يتوجب اليوم أن يكون هدفاً استراتيجياً لكافة قوى التحرر العربية عموماً وللقوى اليسارية الديمقراطية في فلسطين بشكل خاص ، دون أن يعني ذلك تقويضاً أو تأجيلاً لعملية النضال والمقاومة بكل أشكالها ضد العدو ، آخذين بعين الاعتبار مسألة جوهرية وموضوعية يتوجب على كافة قوى اليسار الفلسطيني والعربي أن تتبناها للخروج من هذا المأزق الذي وصلنا إليه، والذي يتمثل في محددين رئيسيين يتصارعان لتحقيق هدفهما، الأول: يتمثل في قوى اليمين الكمبرادوري البيروقراطي ممثلاً في السلطة الفلسطينية وفي معظم الأنظمة العربية وأحزابها الحاكمة، والمحدد الثاني: هو التيار الديني أو على وجه الدقة الإسلام السياسي الذي لا يختلف من حيث جوهره الطبقي عن المحدد الأول، إلى جانب ما يمثله من تكريس للتخلف والتبعية ، وما يزعمه من تحقيق الهوية الإسلامية باسم "الخلافة أو الأمة الإسلامية".
أما خط السير البديل الذي يتوجب أن تتقدم من خلاله القوى الوطنية والسياسية بمختلف أطيافها في فلسطين ، فهو يجمع –من منطلقه القومي- بين الخط التحرري المقاوم في المكان المناسب والظرف المناسب، الذي يحافظ على الاشتباك مع العدو بوتائر تتناسب مع إمكانيات الشعب ومتطلبات النضال الطويل الأمد، وفي ذات الوقت ينطلق من برنامج ديمقراطي تعددي يعزز الصمود والمقاومة ، انطلاقاً من محددات سياسية وثقافية واقتصادية وتنموية واجتماعية تلتزم ببناء أسس مجتمع مدني تلتحم فيه الأهداف التحررية والديمقراطية عبر آليات تهدف إلى تطوير البنية الفلسطينية في الوطن والمنافي، لكي تصبح هذه البنية عصية على الانقسام أو الاختراق أو الصراع الدموي، وعلى كل مظاهر الإحباط واليأس التي تتجلى اليوم بصورة غير مسبوقة في أوساط شعبنا ، وأخيراً لكي تصبح هذه البنية عصية على فرض الحلول الاستسلامية .
لذلك كله تتبدى فكرة دولة فلسطين الديمقراطية هي الحل الأمثل بالنسبة لحقوق شعبنا من جهة وبالنسبة للمسألة اليهودية برمتها من جهة ثانية، كحل استراتيجي دون الضياع في تفاصيل حلول وهمية تحت شعار الحل المرحلي ، ودون أن يعني ذلك موقفاً عدمياً يرفض اقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، إذا ما توفرت الظروف الذاتية والموضوعية بالمعنى النضالي المقاوم لطرد المحتل الصهيوني .
إن استعادة هدف الصراع والحل التاريخي ، في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل الأرض الفلسطينية وإدماجها في المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ، هي عملية استعادة لأصل الصراع ، لكن لا ينبغي علينا استسهال الأمر ، فهي ليست عملية ارتجالية ولا ميدانا للمزايدات ، انه تحدي المستقبل الذي يفرض علينا ثورة في الوعي ، وثورة في الالتحام بالجماهير ، وثورة في التوسع التنظيمي وأساليب النضال الكفاحية والديمقراطية ، حيث ستفرض هذه الأهداف نفسها علينا كتحدي تاريخي ، كي نكون بمستوى التحدي والإدراك العميق لآليات التاريخ ونطابق بنانا الفكرية والعملية والعلمية معها، ونصبح بمستوى الغاية الحقيقية المحركة للطاقات والخبرات والضمائر ، وبأننا بمستوى وطن ننتمي إليه ونستحقه ونحن واعون لما نفعل ، بوعي وإرادة .
إن إعادة تأسيس رؤيتنا للصراع ، وما يشبه إعادة التصميم لركائز قضيتا الفلسطينية، وإعادة إنتاجها في الواقع الفلسطيني ، بكل مرتكزاته القومية والوطنية في الداخل والمنافي ، إنما يستهدف استعادة روح القضية من براثن الهبوط والانقسام الفلسطيني الداخلي من ناحية واستعادتها من براثن الهزيمة والخضوع العربي الرسمي من ناحية ثانية .
إننا نطرح هذه الرؤية لكي نطلق من جديد حواراً شاملاً بمستويات فكرية وسياسية وتنظيمية إستراتيجية بين كافة قوى اليسار الماركسي العربي والفلسطيني، من أجل بلورة بديل تحرري وديمقراطي على المستويين الوطني والقومي ، يقطع مع النهج السائد وأدواته ومصالحه الطبقية ورؤاه السياسية الهابطـة.