التين في ظلال النخيل-3


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 4208 - 2013 / 9 / 7 - 23:49
المحور: الادب والفن     

خفقات المدينة المهاجرة

Jag håller på att reparera min trasiga dröm
Jag tänker inte bli en trött clown åt mig själv
أنا الآن مشغول بإصلاح حلمي المتهرئ،
أنا لا أريد أن أكون مهرجا تعبانا لذاتي.

كنت ُ منذ طفولتي شغوفا بالراديو، ولا أزال أتذكر أننا كنا نملك جهاز راديو بحجم صندوق الشاي المألوف ، يعمل على بطارية كبيرة بحجم آجر البناء. ألقيت ُ مرة بعود ثقاب في الجهاز خلال بطانته الخلفية المشبكة، وفشلت محاولتي لإخراجه ما سبب لي قلقا من أنني قمت بتعطيل الجهاز بعملي ذاك، و سرعان ما زال القلق حين قام شقيقي الأكبر بتشغيله ، و نسيت عود الثقاب نهائيا ، ولا أدري ماذا جرى فيما بعد لجهاز الراديو المذكور ، وقد توالت عليه أجهزة عديدة بعد اكتشاف الترانزستور ، و تصنيع أجهزة بأحجام صغيرة و جميلة يمكن حملها و الذهاب به إلى أي مكان ، كأنه لعبة أو قطعة من المستلزمات المترافقة والضرورية للإنسان .
كان أهلي يروون لي أنهم كانوا يستمعون إلى الأخبار و القرآن و الأغاني ثم بعد الانقلاب على العهد الملكي اعتادوا على سماع خطب الزعيم قاسم، بالإضافة إلى الأغاني و المونولوجات و التمثيليات.
سألت ُ عن كيفية تمضية أوقات الفراغ قبل شيوع التلفزيون و الراديو . وعلمت ُ أن الناس أغلبهم كانوا يكدون ويعملون من شروق الشمس حتى غروبها عمالا مياومين أو فلاحين ومزارعين و مهن كالحدادة و النجارة والخياطة و الحمالة و النقل .. و قلة قليلة منهم في التجارة ، فيعودون إلى مساكنهم متعبين منهكين ، لا يتوفر لهم من وقت الفراغ إلا النزر القليل ليقضوه مع الأولاد أو تبادل الزيارات من المعارف والأصدقاء، كما كانوا يستمعون في هذه الأوقات إلى أناس بارعين في سرد الحكايات و القصص و اللطائف . كان ميسورو الحال مثل التجار و الملاكين و الموظفين الكبار في الدولة تتوفر عندهم أوقات الفراغ ليقضوها في الترفيه و الحفلات و السياحة .
في الفترة التي لم يظهر التلفزيون ويشيع ، كان الرجال يتجمعون حول القصة خون وخاصة في أيام العطل في مقهى الجايلق الذي لم يعد موجودا في عهدي ، أو على شاطئ الوند ، ليحكوا لهم قصصا من الشاهنامه وألف ليلة وليلة و المثنوي و نظامي كنجوي التراث وحكايات الغرام مثل شيرين وفرهاد و خورشيد وخاور و ليلى ومجنون وقصص تاريخية تتمحور حول الملوك و الخلفاء و الأمراء و الخانات وكذلك حكايات الجن و العفاريت . وقد برع في هذا المجال المرحوم يارمراد الذي توفي في أواسط التسعينات من القرن الماضي عن عمر ناهز التسعين ، لكنه كان بكامل قواه الجسدية و العقلية ، ويعيش اليوم أحفاده و أحفاد أحفاده. المرحوم يارمراد يكون عم ّ المربّي الرياضي يحيى بهرام أبو باسل ، معلّم الرياضة الذي بدأ مهنته في مدرستي مدرسة النعمان عام 1966 ( إن لم تخنّي الذاكرة) حين بدأت سنتي الأولى كتلميذ في هذه المدرسة التاريخية ، برموزها التاريخيين مثل مدير المدرسة إسماعيل حبيب ، و أكرم الشيخلي ، و معلم درس الانجليزي احمد حقي . أتذكر أحد المعلمين من أهالي النجف يدعى مهدي الجابري كنا نسميه الأستاذ الجابري ، يلقي علينا دروس اللغة العربية و الاجتماعيات. للاجتماعيات لم يكن ثمة من منهج وكان المعلم يملك صلاحيات إلقاء أي درس يتعلق بالتاريخ و المجتمع. في كل أسبوع كان يلقي علينا درسا عن مأثرة أو شخصية شهيرة من التاريخ العربي. كان يدخل الصف و يكتب اسما، مثلا خالد بن الوليد. ويسأل ماذا يعني عند العرب، فنجيب بمختلف الإجابات، إلى أن يجيب بنفسه - الشجاعة عند العرب و يشرع في وصف خالد بن الوليد.. و في مرة أخرى يأتي فيكتب حاتم الطائي ، ويسأل سؤاله المألوف فيجيب أحد التلاميذ الأذكياء _ الكرم عند العرب.كنا نتقبل هذه الدروس رغم كون معظمنا من غير العرب . و أتساءل اليوم لماذا يفتخر إنسان في هذا العصر ، بشخص لا تلائم أية سمة من سماته الشخصية و أخلاقه معايير هذا العصر ، بل تناقضها جملة وتفصيلا. و من تناقضات هذا المعلم الشيعي أنه كان يحضر كل جلسات العزاء الحسيني ويستمع إلى الاخوند الروضة خون بخشوع، بدون أن يشعر أن الأشخاص الذين يفتخر بهم من قبيل هارون الرشيد و خالد وعبيدة كانوا يستعبدون الرعية و يتخذون لأنفسهم آلاف الجواري و يمكن أن إحدى جداته الشريفات كانت إحدى جواريهم ، مثلما يقول عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي. يعالج فردوسي في ملحمته القيمة ( الشاهنامه) ، إلى جانب القصص التي تمور فيها المحبة والشوق ، القصص التي تتمحور فيها الحرب ُ و الضغن و الأخذ بالثأر. ومما يتضح في أبياته عند سرد معظم قصصه هو مقدرة الفردوسي في استخدام الموسيقى الداخلية ن وأن الكلمات هي أداة بيد الشاعر يعبّر بها عما في ضميره من الأفكار والأحاسيس و العواطف المختلفة، ويطير في عالم الخيال ، وينقل صوره الخيالية التي لا تقيد إلا بالكلمات، إلى الآخرين حتى يشعروا بما شعر. وقد نظم الفردوسي الشاهنامه على وزن المتقارب المثمن أو المحذوف ، أو المقصور واستطاع بحسن تأليفه للكلام أن يستخدم هذا الوزن للحالات النفسية المتنوعة من منطلق تأليف الكلمات التي هي كإيقاعات للفنان الموسيقي الذي يركبها بقدر ثابت لخلق موسيقى جديدة. فالذي يثير الذهن للتفكر والتأمل هو الكلام عن مصير الابطال،التأمل يفتقر إلى الهدوء و السكون ، ثم إن ّ تكرار الحروف المدية يلائم حالة الهدوء. فالتكرار مع ما له من قيمة موسيقية، إذا وقع في موقعه المناسب ، سينتج فوائد مختلفة.
مقتل الأبطال و القصص التراجيدية كانت مؤثرة تأثيرا بالغا بالحاضرين لذلك كان بعض الرجال يهدئ من روعهم بقراءة بيت منسوب للشاعر الفردوسي:
رستم يلي بود در سيستان .. منش كردم ب هرستم داستان
إن رستم كان مقاتلا من سيستان أنا الذي جعل منه رستم الملحمة
وفي روايات أخرى أنه قال إن رستم كان حمارا فجعلته بطل الملاحم ... و يروى إنه أيضا أراد من قرض ذلك البيت الشعري التخفيف من روع عشاق رستم و عاطفتهم الجياشة تجاهه .
وطالما الكلام يجري عن القصة خون و الحكايات التراثية ، فمن الظلم أن لا أمر ّ على ذكرى الطيبين إبراهيم باشا المعروف بإبراهيم فلكي و أشقائه علي باشا و حميد شهواز و محمد المشهور بممي بهلوان.
كان إبراهيم فلكي إضافة إلى كتابته التعاويذ و الشعوذة وتمكنه من لغات عديدة من بينها الهندية و الانجليزية ، كان يحفظ عن ظهر قلب كل حكايات ألف ليلة و ليلة و مئات القصص الرائعة والأساطير المذهلة. والهند مشهورة بالأساطير و القصص المذهلة . في أحد الأيام في 1970 أو 1971 بينما كنت مع أخي الأكبر نعود إلى البيت من السوق ، ظهر أمامنا شقيقه حميد شهواز، وبعد أن سلّم علينا وسأل عن أحوالنا ، أبلغنا أن أخاه الأكبر إبراهيم قد عاد من بغداد التي انتقل إليها قبل أربعين عاما وأنه سوف يسكن معهم في بيت المرحوم والده شهواز ، و أن في جعبته 40 حكاية مطولة و علينا الحضور في جلسات السمر كل ليلة جمعة ليسرد لنا حكاياته ، حكاية في كل ليلة . كم أبهرتني طريقة روايته لهذه الحكايات، وكم جلب انتباهي انفعال المرحومة الضريرة زورا ولطمها الخد و الفخذ حين إلى الراوي إلى نقطة مأساوية لبطل القصة أو أحد شخصياتها المحبوبة. ولا تزال المخيلة الشعبية تحتفظ بالكثير من الصور والحكايات المثيرة , والحوادث النادرة التي تجاوزت أحيانا حدود المعقول إلى عالم من الخيال والأسطورة مع مرور الأيام , من جراء التحديث الذي يجري عليه عادة وبما يكسبه من الغناء الشعبي , بحكم التداول من شخص إلى أخر ليدفع بها نحو آفاق إنسانية ورومانسية رحبة , وخاصة في تلك القصص الدرامية الفطرية المتداولة , و التي حملت في طياتها حوادث مأساوية أو اكتنفتها فواصل مؤثرة ، فقد كانت جدتي أيضا تحكي لنا حكايات جميلة ، وكنا نلتم حولها كالأطفال حتى لو كنا كبارا . و كانت معظم هذه القصص القديمة نابعة من حاجة الناس ليعوضوا ما يفتقرون إليه من أمان و ملئ الفراغ الذين يعانون منه ، ودفعا لملل و الرتابة في حياتهم، و إشباع جوعهم الروحي ، وتهدئة أنفسهم القلقة. وقد كان شقيقه علي باشا يمتلك مواهب التمثيل و الرسم و المحاكاة، إضافة لاتقانه فن سرد الحكايات. وقد كان يقوم مع بعض أولاد المحلة بتمثيل بعض القصص بتسجيلها في جهاز المسجل ، أروع تمثيل.
كما كان حتى قبل سقوط النظام البعثي بسنوات قليلة بعض وجهاء المدينة حولوا محلاتهم ، في فترات الاستراحة إلى اخوانيات للنقاش و قراءة الأشعار الكلاسيكية و الجدل حول مسائل تاريخية و دينية . حين أتذكرهم أتعجب لمخيلتهم الخصبة و ذاكرتهم القوية. كان عمي أي والد منال الراحل نصر الله حسين يحفظ ديوان حافظ مع شروحه ،إضافة إلى قصص من المثنوي و نتف من الشعراء الآخرين القدماء و شيء من الشعر العربي القديم. وكان يجتمع في أوقات الفراغ بعد انتهاء فترة العمل في محله لبيع المواد الإنشائية و قبله كان له محل مبايعات المواد الغذائية الجافة، أو يجلس مع أصدقائه في محل حسين جعفر لبيع الأجهزة الكهربائية. و الجدير بالذكر أنني سمعت من يكبرونني في العمر أن محل الراحل حسين جعفر كان معرضا لسيارات الفورد في العهد الملكي ما يدل على مدى نمو و حداثة مدينتا خانقين في ذلك العهد.
و انبهرت بقابليتهم في الاستشهاد بأبيات شعر تلائم الحالة التي يعيشونها في تلك اللحظة ، من كآبة وحزن و سعادة و أفراح..
وقت را غنيمت دان آنقدر كه بتواني ................ حاصل از حيات اي جان اين دمست تا دانى
اغتنم الفرصة بقدر ما استطعت .. فعاقبة الحياة و محصولها، يا روح، هي هذه اللحظة لكي تدري
البيت أعلاه سمعته من أحدهم ولم افهم معناه يومئذ، ولم أتمكن من حفظه لكنني تذكرته حين اطلعت على ديوان حافظ باهتمام.
كانت تكايا الدراويش المتصوفة تنتشر في كل جهات المدينة ، و كان هناك دراويش يبهرون الحاضرين بدروشتهم و الحال و الجذبة . بيت جارتنا المرحومة فاطمة داني كان تكية و يأتي الشيوخ و الدراويش من أماكن بعيدة لإحماء حلقات الذكر و الدروشة، بقية الطقوس الصوفية.
................................

ثمة فتات من الزمان في راحتك ،
لكي تلملم الأجنحة المتكسرة،
وتوصي العسس أن يودعوا القرية على مهل،
و شهقات السكينة ، لئلا تتكسر قارورة الحنين.
تجري عربة القرية عبر البوابة المتيبسة،
الطوفان يتراءى في الأصيل،
ثمة فتات من الزمان لتلقي على الدار السلام ،
وتبشر الستائر بأن الورود سوف تعود تزدهر في النافذة.
هل يتناهى إلى أذنيك نحيب النخيل في الهجيع الأخير من الليل؟
فقد غدونا كلمات النشيد الليلي العالقة على الجدران مثل اللبلاب التعبان على القبور،
حارت الجدران ،
كيف ينهار الإنسان مثل الزمان على ثرى الذهول،
ويدفن في حطامه أسوار الخلود.
2013-8-30
...................................................
كل عام في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم كنا نقضي كل يوم ساعات مع محاضرات السيد حسن المصباح في الحسينية الكبيرة التي يشرف عليها عائلة شبر، أو مع مواعظ الشيخ مراد زنجنة في حسينية المزرعة. كان السيد حسن المصباح يعمل تاجر أقمشة في كربلاء ، ويلقي مواعظه ومحاضراته بالفارسية و العربية. بينما الشيخ مراد كان يعظ بالكردية،. كلاهما كانا رجلين فاضلين وعالمين قديرين ، نسألهما مختلف الأسئلة فيجيبون عليها قدر المستطاع برحابة الصدر. كنت أسمع أناسا يبالغون في مديات معارف السيد المصباح فيقولون لنا أسالوه في كل فروع العلوم و المعارف . وفي يوم ما وقبل صعوده المنبر سأله أحد الطلاب سؤالا في الفيزياء الحديثة فرد عليه: اسأل معلم مالك. كان الرجلان ملمين في مسائل الفقه و الشرعة وتاريخ ألإسلام أو بالأحرى الأحداث التي مرت بها بلاد الإسلام و الدين الإسلامي و أئمة الشيعة . وكان من السخافة إحراجهما بأسئلة ليست من اختصاصهم. يروى و إنني غير متأكد من صحة الحكاية أن الراحل الشيخ مراد ذكر في موعظة له أن الإمام علي حمل الكرة الأرضية غلى صرته. فيسأله علي كاكل وأين وضع رجليه في هذه الأثناء؟ فيرد عليه : على ... أمك .
................................................
تكاد الحكاية تصل نهايتها ،
ولم ألقَك لكي أهبك صمتي،
الأرض مقبرة الوهم ، والسماء مقبرة الأبصار،
وخفقة نافذتي ملاذ الأوراق الهاربة من الذبول.
........................................................................
احتفالات المولد النبوي المعروفة عندنا بالمولود ومجالس الفاتحة كانت ولا تزال مصدرا كريما لرزق عائلات عديدة . معظم المقرئين كانوا محرومين من نعمة البصر، و كانت حناجرهم وسائل جيدة لاكتساب الرزق و العمل. وكانوا يتميزون بلطائفهم و نكاتهم الرائعة وفي كل مناسبة. كنت ُ أسمعهم ينشدون قصائد ومناقب نبوية من أشعار بأكثر من لغة.
الدبكة كانت تقام في محلتنا أكثر من مرة في الأسبوع و كان الخياط محمود سلطان بقامته القصيرة ، وزيه الكلاسيكي الزبون و الجمداني ، و بيده منديل قيادة الرقصة ، نجم الدبكة دائما . التقيت محمود سلطان في محله ، وقد نال منه الشيب الكثير ، وسألني كيف تتفاهمون في السويد وهم يتحدثون بلغة أخرى . فأجبته أنه حين وصولنا كان هناك مترجمين ، و مع مرور الوقت تعلمنا لغتهم و أصبح بإمكاننا التفاهم معهم ومعاشرتهم.
...........................................
موجات الليل ،
كانت تهدهد صباك،
انحسرت اليوم واستحالت إلى رمال هامدة تتفاداها عيونك ،
تختنق فيها أحجار الوند.
النجوم الرهيبة التي كانت تلمس الفؤاد وتومض مثل الأطفال،
انتثرت في العدم الأبدي العنيد ،
بين سينما النصر ،
و شباك تذاكر الخضراء....
.....................................
يتبع