البناء العقلاني في معالجة التطرف


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 4191 - 2013 / 8 / 21 - 16:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



ثمة مؤشرات كثيرة تشير إلى تموقع سياسة الفوضى الخلاقة و اقترانها بظاهرة التطرف خاصة أن الرؤية الضيقة حولها تغلب عليها عاطفة الكراهية التي لا تفسح مجالا لمعالجتها على المدى البعيد، مما يفرز دائما استحضار الأساليب القمعية و الاقصائية في كل مرة تصديا للمتطرفين. لكنها أساليب ظلت عاجزة عن استئصال نواة التشدد و التوجه المتطرف لدى الأفراد.

لمعالجة هذه القضية يتوجب التوجه نحو محاولة الحد من تصنيع العقليات المتطرفة طالما أن انتهاج العنف و القمع سواء كان ماديا أو فكريا اثبتا فشلا. فالحلول الوقتية بدورها تؤشر إلى قصور في الرؤية الاستباقية و اعتماد الوسائل الحمائية وانعدام رؤية استشرافية للحفاظ على مكتسبات الأجيال القادمة، مما يدفعنا إلى مراجعة عقلانية بعيدا عن الأساليب القمعية التي تطغى عليها عادة العواطف أكثر من إعمال العقل مما يفرض علينا اعتماد طريقة ممنهجة فيها الكثير من الموضوعية و الرأي السديد و البحث في آليات تصنيع العقول المتطرفة بدل البقاء حائمين حول العلة من دون اختراق للأسباب الحقيقية.

باعتماد نظرة شاملة على دول العالم الثالث نلحظ انعداما لسياسة المراحل التي بإمكانها إعادة تأهيل العقل المتشدد. فمعظم هذه الأنظمة تعتمد أساسا على الحلول الحينية المستسهلة ولا تولي اهتماما للرؤية المتوثبة نحو المستقبل. فالأنظمة الفاسدة لا يقلقها انتشار التعصب المفرط و التطرف اللذان يفرزان إرباكا للمجتمع طالما الحل هو اللجوء للعنف في آخر المطاف إذا أمسى التطرف عنيفا، عكس الأنظمة المتقدمة التي تعتمد الأسس العلمية في مسارها الحضاري وتتبع منهجية عقلانية. يجب علينا مهاجمة الأوكار التي تستبطن العقليات المتطرفة. وهو ما يعني أساسا ايلاء المنظومة التعليمية الأهمية القصوى و مراجعة كل المناهج المتبعة لزرع التفكير المنطقي والعلمي ونشر ثقافة الاختلاف عبر السماح بالنقاشات العقلانية و عدم قمع حس السؤال واعطاء المعرفة و الجانب المعلوماتي أهمية قصوى. و هو طريق صعب ومضن ويتطلب نفسا طويل الأمد ولكنه اثبت نجاعته.

ما يؤسفنا اليوم هو حالة التهريج و الصخب التي تعلو منابر الحوار و التي لا تزيد شيئا عن عقلية المتطرف وينم عن غياب الوعي والحجة لدى اغلب الأطراف. فالنقاش الذي يتحول إلى استعراض للشتائم المتبادلة يؤدي إلى تهميش القضايا الأساسية. مما يؤكد أن التعليم الجيد مسألة محورية في تغيير العقليات مما ينتج بدوره تغيرا في حال المجتمع. ولا يفوتنا هنا التمييز بين التمدرس والتعليم.

الوسائط السمعية و البصرية لها أيضا دورها في التوعية. فلا أحد ينكر تأثير البرامج الدينية التي تطغى عليها أساليب التلقين و الدمغجة و بالتالي وجب مراقبتها طالما اقترن التطرف بالدين و محاولة الحد من ثقافة امتلاك الحقيقة الكاملة التي لا تصنع فكرا بل كتلة إسمنتية يصعب التعامل معها فيما بعد. فطالما لم تقم الدولة باعتماد سياسات توعية في المجال الديني يرتكز أساسا على قبول الاختلاف و ثقافة الإنسان لن نقطع شوطا إلى الأمام بل المزيد من توالد العقليات المتطرفة.

إن توالد العقلية المتطرفة غدا سلوكا جماعيا نشهده خاصة في المناطق المهمشة أو التي لا تتمتع بثقافات متنوعة. فالسلوك البيئي لهذه المناطق لا يسمح لا بالاختلاف ولا بتطوير آليات الفكر، كما أن في إهمال الناشئة تأصيلا و توريثا للعقليات المتعصبة التي بدورها تنتج التطرف.

إضافة للدور القيمي للاعلام و التعليم هناك قصور واضح في جمع المعلومة لبناء الرؤى الاستباقية و اهمال للدورالمركزي الذي تساهم به في الإحاطة بجميع الجوانب التي تهم انتشار الظواهر الجديدة.فالدول المتقدمة تلجأ إلى الأخصائيين في جميع أنواع المعرفة لفهم الظواهر التي تنشأ في المجتمع ودراستها بشكل علمي من جهة ومن جهة أخرى مجابهة كل التغيرات التي يرصدونها في بقية العالم واستباقها في معظم الأحيان بل وتوجيهها وذلك بطرح جميع الافتراضات الممكنة عن طريق التنقيب في سائر زوايا المعلومات حتى تتسع دائرة الفهم في الظواهر الجديدة مما يضفي صبغة وقائية برؤية معمقة فيها الكثير من التوثب خاصة إذا كانت ظاهرة تبعث على الخطر. وهذا ما يفسر تعدد مراكز البحوث الإستراتيجية في الغرب والأهمية التي تلعبها المعلومة في الاستقرار و التي تحظى بها لدى صانعي القرار.

على نقيض المشهد في المجتمعات العربية أين يتم رصد حالات الاحتقان عند بزوغها وعدم محاولة الحد من ممارسات التصعيد أمام الخطابات التعصبية التي تنشر للعنف و إدخال الهلع في وسط المجتمع المدني. زيادة على الفوضى و الارتجاج و التشويش و التجاذبات السياسية التي تفرز بدورها عدم الاستقرار و الذي من شأنه أن يؤدي إلى الانقسامات وإفساح مجال إفراز عقليات متطرفة وصولا لتشكيل جماعات تكفيرية . وهو ما لم يستوعبه العالم العربي في غياب الضوابط و الأسس الثابتة في السياسات المعتمدة.

إن استقراء الماضي و إدراك المأزق الحضاري الذي نتخبط فيه مرحلة أساسية لنتمكن من تجاوز محنتنا. إذ يجب علينا السعي لخلق وعي عام أساسه ثقافة الحداثة والتقدم بالابتعاد عن الحلول الجاهزة التي أثبتت ليس فقط فشلها بل تعميقها لانهيارنا الحضاري. نعي جيدا صعوبة البناء العقلاني وما يتطلبه من جهد ووقت وتضحيات. لكنه مكسب على المدى الطويل يجهض انتشار التطرف.