التين في ظلال النخيل- الجزء 2


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 4189 - 2013 / 8 / 19 - 01:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

خفقات المدينة المهاجرة

الشيوعيون بالفطرة من أمثال محمد علي و الملا عيسى أركوازي لم يتصوروا أن الرفاق في موسكو وبلدان المعسكر الشرقي فترتئذ لا يذكرونهم أو يفكرون في وجودهم وهم غارقين في ملذات العيش من راحة وأمان و مختلف النعم . وليس من السهل القيام بتعداد أو ذكر جميع من ضحوا في حياتهم لأجل تحقيق مجتمع العدل و المساواة ، واضعين كل ثقتهم في قادة وكوادر لم يتوقفوا لحظة عن ترديد مقولتهم الشهيرة " ليس الوقت مناسبا لتحقيق الأهداف الاشتراكية " أو " أن لنا مهام وطنية برجوازية يجب تحقيقها أولا" ما كنا نجهل نحن القاعدة و هؤلاء الشهداء و الضحايا أن كل تضحياتنا و نضالنا كانت لأجل سلطة المستغلِّين و المعادين للاشتراكية و الشيوعية.
وقد كان يجري تسويف وتسفيه الفكر الأممي باطلاق نعت كوزموبوليتي على كل من يفكر تفكيرا أمميا يتجاوز الأفق القومي الضيق ، تلك العبارة التي أبدعها ستالين لاطلاقها على المعارضة اليسارية لتحريفيته و البيروقراطية ورأسمالية الدولة المسماة زورا و ظلما بالاشتراكية. ففي مدينتنا كانت مختلف التيارات الشيوعية التقليدية حاضرة ، و كان يمكن تمييز عناصرها عن بعضها بسهولة.
لكل مرحلة حماقتها و جنونها إلى حد ارتكاب جرائم بحق المخالف للرأي والموقف السائدين ، تصل إلى مستوى التصفيات الدموية . هذه الظاهرة لا استوعبها إلى اليوم .فكيف يمكن تفسير أن يقوم جماعة من " الشيوعيين" و أفراد المقاومة الشعبية بمظاهرة ضد رجل قومي كردي لمجرد الاشتباه أو الظن بأنه معادي لانقلاب 14 تموز ، وهم يهتفون أمام محله للعقاقير و العطور:
يا حكام المحكمة !
وقسم منهم يردّ: اعدموا ملا حمه !
وقد قام أفراد القيادة المركزية بتصفية بعضهم بعضا جسديا لأسباب يجهلها جلّ أهل المدينة.
وفي ليلة سوداء عام 1970 ( حسب تقديري) و بعد بيان آذار اذ أصبح البارتي بقيادة البارزاني السلطة الفعلية في المدينة ، سمعت ُ صوت اطلاقة من مسدس في سطح البيت الذي خلف دارنا أي بيت دلال العقارات الملا محمد وكمال وايرمن ، ولم نعر لها أهمية لكثرة ما نسمع من أصوات الاطلاقات النارية. لكننا في الصباح سمعنا أن الرجل المريض الهزيل جلال سراج قد أغتيل بطلقة في فمه. و قد فسر الناس بسهولة سبب مقتله ، الا وهو أنه كان عضو القيادة المركزية ، و ترك صفوفهم لينتمي إلى حزب البعث فحُكم عليه بالموت ( لخيانته) حزبه ( المقدّس) . و بعد فترة سمعنا بأن منفذّ العملية هو جمال رحمن الشهير بجمال راج كابور لشبهه بالممثل الهندي راج كابور ، و خاصة شعر رأسه . كما سمعنا بعد سنوات قصة هذا الشخص المأساوية .
حَكم عليه رفاقُه بالسجن لمدة ، و عملية اخصاء وحشية لقيامه بجريمة اغتصاب . و بعد فترة من المعاناة و اليأس و العار ينهي حياته بيده.
نصر الدين مجيد القيادي في القيادة المركزية ، تعرض إلى الاعتقال و التعذيب على يد انقلابيي شباط1963 . كنت ُ أشاهده على النهر يتمشى ، أو يسير إلى أسفل النهر حيث البساتين و الحقول ليلتقي عناصر من مقاتلي حزبه من بينهم زوران عزيز بشتيوان ، و يعطيهم توجيهات و يزودهم بالأخبار التي تعنيهم .
تحدث لي أخي الأكبر أن بعد انقلاب البعث الثاني 1968 قام نصر الدين بتوضيح من يكون هؤلاء الانقلابيين ، و كيف توصلوا إلى الحكم ومن يحتمل أن يكون وراءهم ، وما هي أهدافهم .
رأيت يوما في محلتنا مجلس فاتحة أقامته عائلة خليفة ياسين ، وسمعت أنها لنصر الدين مجيد حيث تم اغتياله على يد النظام البعثي و عثر على جثته مرمية في ريف الصويرة . و اليوم يشاهد المرء له تمثال نصفي في مدخل مقر محلية خانقين للحزب الشيوعي الكردستاني. أمر غريب أن يقيم الحزب الشيوعي اللجنة المركزية تمثالا لتكريم عضو منشق عنه .
و لا أدري بالضبط درجة قرابة المرحوم خليل ياسين من الشهيد نصر الدين لكنني أعرف أن أحد أخوة خليل وهو عباس استشهد في كردستان في الستينات ، و ان شقيقه الراحل الخياط كمال ياسين كان أحد كوادر الحزب الشيوعي اللجنة المركزية.
من المضحك أن أذكر في هذا السياق أن أحد البعثيين من أهل المدينة ، وبعد انهيار الحركة الكردية عام 1975 بعد اتفاقية الجزائر تعارك مع كمال ياسين وأراد أن يضربه ، وحين سألوه عن السبب قال إنني أشتم الملا مصطفى وهذا ( قاصدا كمال ياسين) وهذا ينزعج ولا يقبل . رغم أن المرحوم كمال لم يبدي أي موقف منه ، لكنه ( أي البعثي) كان يعلم و يشعر بدواخل الشيوعيين و تفكيرهم وموقفهم من البارزاني و الحركة الكردية.
ذكرت اعلاه أن كثرا من السياسيين بتاع 14 تموز و الزعيم و الحزب الشيوعي فقدوا صوابهم و مارسوا سياسة استبدادية بحق مخالفيهم ، و قد جرى ذات الجنون لعناصر من القوميين الكرد بعد بيان آذار 1970 ، حيث لم يقبلوا من غيرهم دينا غير دينهم و كان الخارج عنهم من الخاسرين.
في خانقين لم تقتصر الساحة السياسية على الشيوعيين التقليديين و القوميين الكرد فحسب، بل كان ثمة عناصر قومية عربية ، و ناصرية ( على الأغلب عاطفيا) كانت مسالمة و يبدو ذلك بسبب صغر حجمهم و قلتهم ووجودهم في بيئة غير عربية تماما.
أتذكر احمد سلمان ابن المعمار سلمان، و كان بائع التذاكر في سينما النصر ، و يحب جمال عبد الناصر . تحدث لي حمه نوري المضمد الصحي الذي يعمل الآن في السليمانية، أنه كان يحصل على بطاقة الدخول من أبو شهاب مجانا حين كان جمال عبد الناصر في الليلة السابقة قد ألقى بخطبة. يقول حمه نوري : فور أن أصل الشباك و التقي ابو شهاب وجها لوجه ، كان يسألني إن سمعت ُ خطاب الرئيس، فأجيبه كيف لم اسمع ، إنه بطل.. فيكون الجواب : تفضل هاي البطاقة ادخل !.
انتقل الصراع بين الشيوعيين و القوميين ، أو بين العراق ومصر في عهد عبد الكريم قاسم من بغداد إلى خانقين بشكل كوميدي حيث كانت يخرج أنصار انقلاب تموز و اليسار التقليدي مسيرات تأييد للزعيم و معادية للجمهورية العربية المتحدة . و الظريف أنني سمعت عن أن أحد الاقطاعيين المعروفين في المدينة ، كان غالبا ما في مقدمة المسيرات ،يردد شعارات ضد الاقطاع و الرجعية و الملكية.
كان خالو بيركه المرحوم يعمل غي مختلف المهن و الأعمال منها القصابة و البقالة وكان يملك موهبة التمثيل في شبابه . و سمعت من والدي أنه كان يمثل الشمر بن ذي الجوشن في معركة الطف في ساحة تتم تهيأتها لهذا الغرض على نهر الوند. كما أنه قام بالتمثيل ضد مصر تأييدا لعراق عبد الكريم قاسم ، اذ خرج في يوم في مسيرة لعناصر المقاومة الشعبية ، يقود حمارا عليه لافتة مكتوب عليها اسم جمال عبد الناصر ، وينادي:
هذا جمال جبناه ... ع المشنقة علقناه
علقناه من راسه.. نلعن أبوه و أساسه
وسمعت أنه اختفى لشهور في البساتين بعد انقلاب شباط 1963 خوفا من انتقام الحرس القومي ثم عاد للظهور بعد أن تم نسيانه وسط الصخب و الفوضى السائدة آنذاك بسبب الاعتقالات و التصارع السياسي و التوافق و الخطابات الصاخبة .
يتبع