الانقلاب على الشرعية بين الشكل والمحتوى


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4181 - 2013 / 8 / 11 - 10:48
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

1: لم يهدأ إلى الآن الجدال المحتدم الذى يدور مصريا وعربيا وإقليميا وعالميا حول ما إذا كان، أو لم يكن، قيام الجيش المصرى فى 3 يوليو 2013 بالإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسى انقلابا عسكريا. ولأن تدخُّل الجيش فى 3 يوليو سبقته عاصفة شعبية هائلة فى 30 يونيو فى نفس اتجاه تدخُّل الجيش أىْ بهدف الإطاحة بالرئيس السابق، دون تطابُق على الإطلاق فى كل الأهداف، كان من المنطقى أن يؤدى هذان الواقعان الفعليان المتزامنان إلى تفسيريْن ممكنيْن. والحقيقة أن طريقة فَهْم كل طرف من الطرفيْن المتصارعيْن لمصالحه هى التى تحسم اعتماده لهذا التفسير أو ذاك.
2: ولأن فوضى المفاهيم، وبالتالى فوضى فَهْم الأحداث، تَعُمَّان المشهد السياسى المصرى وتُعْمِيان الفهم المصرى، فإنه يغدو من المهم أن نحاول الربط بصورة أدقّ بين مفاهيم بعينها، من ناحية، والأحداث وتفسيرها وطريقة فهمها؛ بما يؤثر بقوة فى طبيعة المواقف المتخذة، من ناحية أخرى. ولا بد من التنويه بأن الثورات السياسية الشعبية شيء جديد تماما علينا فى تاريخنا الحديث، رغم الاستثناء البارز المتمثل فى ثورة 1919 بكل خصوصيته الاستقلالية فى المحل الأول إلى جانب ما ترتب عليها من تطور ديمقراطى لاحق.
3: ويفسر كلٌّ من الطرفيْن ما قام به الجيش فى 3 يوليو وفقا لموقفه من الحكم الإخوانى السلفى. فهو انقلاب عسكرى مرفوض يفتح الباب أمام الحكم العسكرى من وجهة نظر الإخوان والسلفيِّين وأصدقائهم مصريا وعربيا وإقليميا وعالميا، ولكنه، من وجهة نظر الجيش وقوى المعارضة والثورة باستثناءات، "تدخُّل" وطنى وغير سياسى من جانب الجيش لإنقاذ البلاد مما يقود إليه الحكم الإخوانى السلفى من خراب اقتصادى وإدارى وأمنى، وحتى صراع داخلى مسلح أو حرب أهلية. وبالمقابل فإن 30 يونيو كان من وجهة نظر قوى الثورة والمعارضة والجيش والطبقة الحاكمة موجة جديدة هائلة من موجات ثورة 25 يناير ضد الحكم الإخوانى السلفى، أو "ثورة ثانية"، كما يحبّ بعضهم أن يقولوا ضمن فوضى المفاهيم، على حين أنه كان من وجهة نظر الإخوان والسلفيِّين مؤامرة تُحَرِّك الدولة العميقة بفلولها وجيشها بلطجيتها من وراء ستار.
4: ورغم أنه لا يمكننا أن نتجاهل دور الجيش، بوصفه ممثلا بارزا منذ ثورة يناير للطبقة الحاكمة ودولتها ومؤسساتها وفلولها وأموالها الموظفة فى خدمة ثورتها المضادة وكذلك الإعلام الخاص، ضمن وسائل متعددة، مع صلات مهمة محتملة بل مرجَّحة مع قيادات فى الثورة والمعارضة، إلا أن من الابتذال تفسير خروج عشرات الملايين من المصريِّين بحكم معاناتهم وفقرهم وشقائهم على خلفية ثورة التوقعات التى أطلقتها الثورة، وألهبتْها وعود وعهود الحكم العسكرى (طنطاوى) ثم الحكم الإخوانى السلفى(مرسى)، وذلك بهدف التخلص من الحكم الدينى وبالتالى تغيير أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
5: ويتركز الجدال على طبيعة ما قام به الجيش فى 3 يوليو. وينظر إليه الإخوان والسلفيون على أنه انقلاب عسكرى على الرئيس الشرعى المنتخب. ولأنهم لا يستطيعون أن يتجاهلوا تلك الموجة الثورية الكبرى ذات المليونيات التسونامية التى تزامنت مع إجراء الجيش فسبقته وأعقبته، فإنهم يفسرون هذه المليونيات على أنها جزء لا يتجزأ من مؤامرة الجيش وأجهزة الدولة العميقة ضد مرسى، ويرون أنها لم تكن المليونيات الوحيدة فهناك أيضا مليونياتهم التى يزعمون أنها أكثر عددا، وأعزّ نَفَرا.
6: ويتناسى التفسير الإخوانى أن المليونيات المطالبة برحيل مرسى كانت عفوية من الناحية الأساسية، على حين أن مليونياتهم المؤيدة للرئيس المعزول ليست عفوية بل تنظمها جماعتهم الإرهابية التكفيرية والجماعات الإرهابية التكفيرية الأخرى التى نشأت حولها وتحيط بها. كما يتناسى أن المليونيات الرافضة للحكم الدينى سلمية حقا وصدقا، وأن مليونياتهم المؤيدة للحكم الدينى مدججة بالسلاح وعدوانية وتأتى فى سياق التهديد بالحرب الأهلية التى لا يخفى أنهم أعدُّوا لها ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل يرهبون به عدو الله وعدوهم؛ أىْ كفار مصر من مسلمين ومسيحيِّين.
7: ويمكنهم أن يحتجوا بمزاعم تشدد على أن بلطجية الدولة العميقة هم الذين يعتدون على تجمعاتهم ومسيراتهم، كما يمكنهم أن يحتجوا بفكرة أن المليونيات الرافضة للرئيس المعزول لا تحتاج إلى تسليح لأن الجيش هو سلاحها. غير أن هذا ليس سوى مغالطة تخلط بين حركة الجيش وحركة الشعب المتزامنتيْن وتعتبرهما حركة واحدة بصورة عضوية تآمرية وليس بحكم اتجاه واحد يجمع مؤقتا بين الحركتين اللتين لا يدل تزامنهما على السير معا، أو البقاء معا، مهما كان الاتجاه أو الهدف المباشر لضرباتهما المتزامنة.
8: فهل هناك حقيقة موضوعية تختفى وراء التفسيريْن المذكوريْن معا لحركة الجيش: تدخُّل وطنى غير سياسى لإنقاذ الوطن، وفقا لتفسير الجيش نفسه وأنصاره، أم انقلاب عسكرى كما يؤكد تفسير الإخوان المسلمين وحلفائهم وأصدقائهم المحليِّين والإقليميِّين والعالميِّين، وإلى جانبهم بعض شباب الثوار، رغم موقفهم المعادى للحكم الإخوانى السلفى؟
9: والتدخل الوطنى، أىْ لوجه الوطن، من جانب الجيش، وفقا لزعم الجيش وأنصاره وعملائه، بعيد كل البُعد فى الحقيقة عن الحقيقة. ولا يمكن أن يقوم مثل هذا التفسير إلا على زعم أن الجيش مؤسسة وطنية نزيهة ترتفع محلِّقةً فوق الطبقات فلا تعبِّر عن مصالح الطبقة الرأسمالية الحاكمة التى يشكل الجيش مكوِّنا مهمًّا من مكوِّناتها. وهذه فرضية لا أساس لها من الصحة. ولا يكفى اللجوء إلى حقيقة أن الجيش المصرى، كغيره من جيوش المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة بصورة عامة، اختلفت نشأته فى سياق الاستقلال الوطنى عن الجيوش الاستعمارية التى نشأت على الوطنية أو القومية الشوڤ-;-ينية الاستعمارية المستعدة لغزو بلدان أخرى وإخضاع شعوبها بالحديد والنار. والحقيقة أن الجيش "الوطنى" كمكوِّن رئيسى من مكوِّنات الدولة الطبقية شريك دائم فى الاستغلال الاقتصادى والاضطهاد والقهر والاستبداد من جانب الطبقة الرأسمالية الكبيرة وحلفائها الطبقيِّين ضد الطبقات العمالية والشعبية والفقيرة والكادحة. كما أن تفضيل الجيش "الوطنى" إلقاء سلاحه بدلا من توجيهه إلى صدر شعبه شيء تشترك فيه كل جيوش العالم ومنها الجيوش الإمپريالية رغم عدوانيتها الوحشية ضد شعوب خارج الحدود. وفى الحرب الأهلية وحدها يمكن أن ينقسم الجيش الإمپريالى أو "الوطنى"، على السواء، فيشهد الاقتتال الأهلى داخل الجيش المنقسم وداخل الشعب المنقسم.
10: ولا شك فى أن الجيش بجنوده وضباط صفه والمستويات الدنيا والمتوسطة من ضباطه ليسوا سوى العمال والفلاحين والمهنيِّين وعامة الشعب فى زى الجنود، وليسوا سوى أولادنا وبناتنا فلذات أكبادنا. غير أن قيادة الجيش والمؤسسة العسكرية تختلف عن الجيش، فهى قطاع عسكرى من الرأسمالية الكبيرة يتشابك مع مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، ويتميز بمصالحه وامتيازاته الخاصة. وكان من سذاجة شبابنا الثوار، بالمناسبة، أنهم أكثروا الحديث زمنا، أيام الحكم العسكرى المباشر (طنطاوى)، عن "خروج آمن" يسعى إليه قادة الجيش؛ كأن "الفتوة" الكبير جدا جدا جدا يحتاج إلى "خروج آمن" يطلبه متذلِّلا من المستضعفين فى الأرض!
11: ولا شك فى أن "فلذات أكبادنا" هؤلاء لا يسهل عليهم استخدام السلاح ضد أبناء الشعب فهم أبناء وبنات الشعب، فى كل جيوش العالم، كما سبق القول. غير أن هناك حقيقة أن هؤلاء يخضعون للأمر العسكرى ويلتزمون به، وهى حقيقة ترتبط بمجموعة كبيرة من الحقائق التى تسمح أو لا تسمح باستخدام الجيش ضد شعب أو قسم منه. وعلى كل حال فإن الشرطة هى سلاح الطبقة الحاكمة ضد الشعب فى الأوضاع العادية، حيث لا يظهر الجيش إلا فى المواجهات المسلحة الكبرى وبصورة خاصة فى الحرب الأهلية بين الثورة والثورة المضادة. وكما أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى، كما تعلَّمنا من المنظِّر العسكرى الپروسى كلاوزيڤ-;-يتس، فإن الجيش امتداد للطبقة الحاكمة ودولتها بوسائل عسكرية. فلا ينبغى أن نُضفى على الجيش طابع الاستقلال والنزاهة والحياد الطبقى.
12: وفى التمييز بين الجيش وقيادته، ما لم نكن إزاء حرب دفاعية عادلة من جانب هذا الجيش ضد غزو أجنبى، يكون الجيش أقل وعيا وقيادته أكثر وعيا، وهذه القيادة هى التى تعرف الهدف الحقيقى للمواجهة المسلحة أو الحرب الخارجية أو الأهلية أو غيرها. وإذا كانت أهداف الحرب عدوانية فإن من المتوقع أن يلتزم الجيش بأوامر القيادة ولن يُلقى السلاح لأنه لا يعرف لماذا يُحارب على وجه الدقة فتتلاعب به القيادة، وفى حالة مواجهة عسكرية داخلية واضحة الأهداف لأفراد الجيش فإن الجيش قد ينقسم، ولكن قد تظل النواة الصلبة للجيش متماسكة لزمن طويل.
13: وحتى لا نذهب بعيدا فإن الجيش المصرى المعاصر حديث للغاية. وهناك انقطاع طويل بين ثورة عرابى والاحتلال البريطانى 1881-1882 وبين معاهدة 1936 (أكثر من نصف قرن) وبالأخص منذ حركة 1952 والخمسينات، حيث يبدأ تاريخ جديد للجيش المصرى، فى سياق مواجهة طويلة مع إسرائيل ودول استعمارية أخرى، ولكنْ أيضا فى سياق التسليح والتدريب الخارجى السوڤ-;-ييتى ثم الأمريكى، الأمر الذى يضع قيودا ثقيلة على "وطنية" الجيش. كما أن الحكم المباشر للجيش (إنْ لم يكن مؤقتا منذ بدايته مثل حكم طنطاوى) يحمل معه ليس فقط تدمير الديمقراطية والحريات والحياة السياسية بل يحمل معه خطر النهب الاقتصادى للمجتمع من خلال ملكية الدولة ورأسماليتها البيروقراطية كما حدث فى فترة العسكرة الشاملة للدولة والمجتمع أثناء الحكم العسكرى لمجلس قيادة الثورة، فى الخمسينات وبدايات الستينات.
14: وبعيدا عن تقديس الجيش وتنزيهه فى سياق التغنِّى الوطنى أو القومى الشوڤ-;-ينى بمصر وعظمتها وتاريخها والشعب المصرى ومصر فوق الجميع، وهذه متلازمة سمات فترات التدهور والانحطاط فى حياة الشعوب، ينبغى تقييم عمل الجيش ليس عن طريق مجرد الحديث الكسول عن سماته النظرية أو حتى التاريخية بل عن طريق التحليل العينى للواقع العينى؛ لتطورات بعينها. ويكون المهم هنا هو الحدث الفعلى وسياقه وشروطه وحدوده.
15: وبالإضافة إلى تنزيه الجيش وتقديسه هناك تقديس للشعب وتقديس لثورته، حيث يتمثل التعويض النفسى عن غياب منجزات قابلة للبقاء للثورة والشعب فى الإمعان فى تقديس الثورة والشعب بدلا من إرشادهما؛ وكأن مهمتنا هى تمجيد الثورة والشعب وليس إنارة السبيل أمامهما. وفى هذا السياق، تبدو الثورة المصرية أعظم ثورة فى التاريخ بأعدادها المليونية مع أن التاريخ قديمه وحديثه لم يعرف إنجاب هذه الأعداد البشرية الهائلة حقا، بلا استعداد لمواجهة متطلبات تأمين مستقبلهم، فيما تتمثل السمة السلبية الكبرى لهذه الأعداد الكبيرة فى أنها نتيجة مباشرة للانفجار السكانى فى العالم الثالث الذى يعجز سكانه إلا عن الإنجاب، كما صار يقال عنا. أما خروج عشرات الملايين فإنه شهادة فقر تدل على حالة انفجار ثورة الغضب بسبب تردِّى الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فى سياق معاناة رهيبة لمتلازمة الفقر والجهل والمرض والشقاء والحرمان والكوارث الصحية والبيئية، حيث لا مبرر لاعتبار هذه المليونيات التسونامية نقطة تفوُّق لشعبنا على شعوب الغرب مثلا، حيث لا حاجة لتلك الشعوب، بفضل ما حققت أثناء ثوراتها الاجتماعية والسياسية من ديمقراطية شعبية من أسفل، وبفضل نضالاتها الاقتصادية النقابية والسياسية المنظمة، إلى خروج عشرات الملايين التى لايُخرجها سوى الفقر الوحشى.
15: ونحن نلتقى بجيشنا مرة وهو يدافع سياسيا عن استقلال البلاد فى حدود استطاعته فى سبيل جلاء الإنجليز، ومرة أخرى وهو يواجه العدوان الثلاثى فى 1956 فينتصر سياسيا مهما كان مهزوما عسكريا رغم البطولات والتضحيات، ومرة ثالثة مهزوما منكسرا فى 1967، ومرة رابعة وهو يقاتل فى حرب استنزاف مهمة لثلاث سنوات تالية للهزيمة، ومرة خامسة وهو يوقف حرب الاستنزاف لثلاث سنوات أخرى للاستعداد لمعركة حاسمة، ومرة سادسة وهو يخوض حرب أكتوبر 1973 لتحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، وهى حرب حقيقية كبرى لولا التوظيف السياسى لنتائج الحرب كحرب تحريك لمفاوضات أدت إلى عقد معاهدة السلام مع إسرائيل فى 1979. وفى كل مرة يمكن تقييم مدى تماسك أداء جيشنا بالتحليل الدقيق للشروط والأسباب والنتائج والمسئولية، آخذين فى الاعتبار طابعه المزدوج الناشئ عن الطابع المزدوج لرأسمالية تابعة غير أنها تتعرض للعدوان الاستعمارى الصهيونى.
16: والأهم، فى سياق هذا المقال، هو تقييم مواقف الجيش المعاصر، أىْ جيش العقود الأخيرة، من حيث دوره الداخلى. وبكلمات أخرى، فإن المطلوب هو تحديد الموقف إزاء حركة الجيش فى 1952 ومختلف السياسات المطبقة فى مختلف المجالات فى الفترة التالية وبالأخص عسكرة الدولة والمجتمع وتوظيف ملكية الدولة التى قامت على التمصير والتأميم فى خلق رأسمالية دولة بيروقراطية تتمثل النواة الصلبة لطبقتها الجديدة الحاكمة فى العسكر فلم تخلق ثروة جديدة بصفة رئيسية بل وضعت أيدى الطبقة الجديدة على الثروة البائسة القائمة، وهى ذاتها نواة الطبقة التى خصخصت الثروة القائمة بعد تصفية الناصرية ولم تخلق بدورها ثروة جديدة، وقامت بتدمير الديمقراطية، وتصفية الحياة السياسية. وكانت هزيمة 1967 نتيجة كارثية من نتائج تلك السياسات الاقتصادية والاجتماعية. فهل كانت حركة 1952 مفيدة أم ضارة بمصر؛ بمعنى هل قطعت الطريق على ثورة ما كانت محتملة، كما أكد السادات؟ وما التقييم الحقيقى لملكية الدولة والقطاع العام، خاصة على خلفية مَنْ يعبدونهما؟ ولا ينتهى سؤال إلا ليبدأ سؤال جديد ضمن متلازمة أسئلة مترابطة لا حصر لها.
17: وتمتد ضرورة تقييم المواقف والانقلابات والتدخلات الكبيرة لجيشنا الوطنى لتحديد الموقف المنطلق من المحتوى الفعلى للإجراء أو الانقلاب أو التدخل العسكرى بدلا من مناقشة شرعية الانقلابات أو التدخلات كأشكال للصراع الطبقى أو شرعية النظام الذى تحدُث هذه الانقلابات أو التدخلات ضده؛ فى بلد وعالم ضاعت فيهما الشرعية ومعاييرها بسبب فقدان ما يمكن النظر إليه على أنه ممارسة ديمقراطية حقيقية يُفترض أنه تُستمدّ منها كل شرعية حقيقة.
18: ولا شك فى أن حركة 1952 بكل نتائجها كانت أكبر عمل قام به الجيش المصرى فى تاريخه وتاريخنا الحديث. وهنا يبرز جانب مهم للمسألة. فلا شك فى أن تلك الحركة كانت انقلابا عسكريا ضد شرعية الملك فاروق الأول؛ فهل أخطأ الجيش أو "كفر" عندما خرج على الشرعية الملكية الوراثية الراسخة لأسرة محمد على الكبير مؤسس الدولة الحديث فى مصر؟ وعندما يقال إن شرعية الملك فاروق لم تكن شرعية حقيقية لفساد واستبداد نظامه وتعاونه مع المحتل، فإن ميزان معايير الشرعية يختلّ تماما، ويبدأ الشك الحاد فى شرعية حكم كلٍّ من عبد الناصر، و السادات، و مبارك، و طنطاوى، و مرسى، حيث تنشأ من جديد أسئلة حادة بدورها حول استبداد وفساد كل هذه الأنظمة وحول وجودها جميعا فى إطار مقتضيات التبعية الاقتصاية وبالتالى غير الاقتصادية للإمپريالية.
19: وإذا كانت الحركتان المشكوك فى أنهما انقلاب عسكرى تتمثلان فى إطاحة الجيش بحكم مبارك وإطاحته بحكم مرسى، يغدو السؤال متعلقا بمدى شرعية كل من هذين الرئيسيْن "المدنييْن" "المنتخبيْن" مبارك و مرسى، وإذا أخذنا فى الاعتبار كونهما غير شرعيَّيْن أصلا لأنه لا توجد أىّ شرعية حقيقية فى مصر، حيث لا وجود لانتخابات حرة نزيهة ولا يحزنون، كما أن الرئيسيْن المذكوريْن قاما بتدمير كل أساس لكل شرعية لهما بممارساتهما الخارجة على القانون، يغدو السؤال كما يلى: ما شرعية أن يحلّ محلهما الجيش بالذات دون غيره من القوى أو الجهات، بقيادة طنطاوى فى المرة الأولى وبقيادة السيسى فى المرة الثانية؛ رغم قيام الجيش بوصفه الجيش فى المرة الثانية بتولية غيره فى الحكم؟ والردّ: أساس شرعية الجيش فى المرتين هو امتلاك القوة المادية القادرة على الإطاحة بحكم، وعلى تنظيم الحكم اللاحق، بالذات أو الواسطة، أىْ امتلاك القوة العسكرية الحاسمة؛ ولا علاقة للقدرة العسكرية الخالصة بالشرعية بحال من الأحوال.
20: وفى المرة الأولى كان مطلب قوى الثورة أن يُدير مصر مجلس مدنى منتخب وقابل للعزل واستطاع الجيش، رغم استناد حركته إلى الثورة الشعبية، أن يَئِدَ هذه الفكرة فاختار لتحالفه من بين كل القوى السياسية الإخوان المسلمين وبالتالى حلفاءهم من السلفيِّين. وفى المرة الثانية، الحالية، اتجه الجيش مباشرة إلى تولية حكم جديد، بالاستناد الشكلى إلى الدستور الإخوانى السلفى رغم تعطيله فى اتجاه إحيائه بالتعديل، فتفادى الحكم العسكرى المباشر بعد تجربة طنطاوى التى أصابت من وجهة نظر مصالح الطبقة الحاكمة بتفادى حرب أهلية عن طريق خطوتيْن كبيرتيْن مترابطتيْن: الإطاحة بحكم مبارك، والتحالف الاضطرارى مع الإخوان المسلمين وحلفائهم؛ رغم أنها أخطأت بعدم حصر الإخوان فى إطار أضيق بدلا من خروج التطورات السياسية عن السيطرة وصولا إلى الحكم الإخوانى الذى اكتمل برئاسة مرسى.
21: وكانت علاقات القوة هى التى منعت قوى الثورة من تحقيق أوهام ساذجة لدى بعض عناصرها فى تولِّى السلطة بحكم ديناميتها الذاتية المتواضعة، إلا فى صورة واحدة وحيدة هى التى يبدو أنها تحدث الآن: التعاون مع قيادات لقوى المعارضة والثورة فى اتجاه تحييدها واحتوائها ودمجها فى سلطة الدولة بصورة تدريجية، وصولا إلى التصفية التدريجية للثورة بالتحالف الاضطرارى مع "الثورة" بدلا من تحالف اضطرارى سابق مع الإخوان وحلفائهم.
22: وكان التحالف السابق مع الإسلام السياسى بهدف ترويضه واحتوائه فى الأجل الطويل المحتمل وكتاكتيك مباشر وفورى لتحييده تفاديا لحرب أهلية محتملة إذا انضم الإخوان إلى قوى الثورة ضد حكم طنطاوى العسكرى المباشر إذا لم يقدم لهم ما يرونه استحقاقا لهم ليس بسبب دور مهم فى الثورة التى انقلبوا عليها فى الحال بل بسبب مظلوميتهم التاريخية ومعاناتهم فى المعتقلات والسجون، ليس بسبب نضال حقيقى متواصل فى سبيل الاستقلال أو الديمقراطية، بل بسبب صراعهم الإرهابى الرجعى الدموى على السلطة ضد الحكومات والأنظمة القائمة.
23: والسبب الفعلى وراء التحالف العسكرى السابق والصدام العسكرى الحالى مع الإخوان المسلمين واحد: لأنهم القوة السياسية الإرهابية المنظمة الكبيرة بلا منازع، كان لا مناص للجيش من محاولة تحييدهم بالتحالف معهم بسرعة تفاديا للحرب الأهلية؛ ولأنهم هذه القوة الكبيرة فإنهم يجاهدون فى سبيل إعادة تنظيم الدولة والمجتمع وفقا لمقتضيات دولة دينية ولهذا فإنه كان لا مناص للجيش من الصدام المبكر معهم تفاديا لحرب أهلية يخوضونها بعد المزيد من الأخونة والتمكين. وكان خطر الإخوان فى المرتيْن يتمثل فى أن يحلّوا محل الجيش والدولة والطبقة عن طريق الصدام المسلح بسرعة مع الجيش، أو عن طريق أخونته ضمن أخونة الدولة والمجتمع وصولا إلى دولة دينية بسرعة بالغة فى مجالات، وببطء حذر فى مجالات أخرى. وباختصار فإن القوة السياسية المنظمة للإسلام السياسى الإخوانى دفعت الجيش فى المرة الأولى إلى أن يستمد منها قوة مضافة متفاديا بنفس الخطوة خطرها على الجيش والطبقة الحاكمة، كما تدفعه الآن إلى الصدام معها لأنها ازدادت قوة وقطعت أشواطا فى الأخونة فصارت تمثل خطرا مباشرا على الدولة والمجتمع.
24: ويرى بعض الكتاب والمحلِّلين أن عبارة الحرب الأهلية التى تتكرر فى مقالاتى أحيانا غير دقيقة؛ وفى رأى بعضهم تكون الحرب الأهلية فى حالة اقتتال جيش منقسم، وفى رأى بعضهم الآخر تكون الحرب الأهلية فى حالة الاقتتال بين إثنيات/قوميات أو طوائف دينية أو مذهبية متصارعة. غير أن الحرب الأهلية تشترط بصفة رئيسة وجود الدولة بجيشها كطرف فيها وقد ينقسم الجيش أو لا ينقسم وقد تتورط فيها إثنيات أو ديانات أو مذاهب، ويشترط بعض علماء السياسة سقوط معدل سنوى يصل إلى ألف قتيل ويهبط آخرون كثيرا بهذا الرقم حتى إلى مائة قتيل. وتتمثل مشكلةٌ فى أن اتفاقيات چنيڤ-;- لا تقدم تعريفا واضحا دقيقا للحرب الأهلية وهذا ما تشكو منه منظمة الصليب الأحمر. والحقيقة أننى ذكرتُ عدة مرات فى مقالات سابقة أننى أتحدث عن "حرب أهلية خاطفة" ولا أتحدث عن حرب أهلية كبيرة كتلك التى تدور رحاها فى سوريا فى الوقت الحالى، حيث لا تستطيع القوة العسكرية للإسلام السياسى الصمود طويلا أمام الجيش المصرى، إلا إذا أهمل هذا الأخير إهمالا جسيما لفترة طويلة، بما يتيح من فرص للمزيد والمزيد من تغلغل الأخونة. ومن الجلى أن الحديث عن "حرب أهلية خاطفة" لا يعنى مطلقا التقليل من شأن خطرها بسبب قصر أمدها.
25: وكما يحدث الخلاف حول وجود انقلاب من عدمه فإن تقييم حركة شعبية ضخمة يكون إيجابيا من وجهة نظر أنصارها، وسلبيا من وجهة نظر خصومها. وعلى هذا فإن حشود المليونيات الإخوانية السلفية ثورية من وجهة نظر أنصارها ورجعية من وجهة نظر قوى الثورة، كما أن مليونيات رفض الحكم الإسلامى الإخوانى ثورية وتقدمية من وجهة نظر قوى الثورة ومؤامرة كبرى يشرف عليها الجيش وينفق عليها الفلول من وجهة نظر قوى الإسلام السياسى.
26: فهل ينبغى أن نكفّ عن محاولة تفسير موضوعى ممكن؟ بالطبع لا. فالأساس الحقيقى للحكم على ثورية أو رجعية هذه الحشود أو تلك يرتبط بصورة وثيقة بالموقف من نظرية وممارسة طرف سياسى-اجتماعى أو آخر. وهنا تبدو المقارنة الحقيقية بين حركة شعبية تنفخ فيها الحياة نظريةٌ للدولة الدينية من شأنها أن تُعيد البلدان والدول والمجتمعات والشعوب إلى ما قبل العصور الوسطى بكثير، من ناحية، وحركة شعبية عفوية أطلقها الجحيم الذى صارت تعيش فيه الطبقات العمالية والفقيرة فى سبيل تحسين شروط حياتهم وعملهم، من ناحية أخرى. ويكون الموقف من المليونيات المتعارضة وفقا للموقف الأكثر جوهرية إزاء رغبة الجماهير الشعبية فى التحرُّر، من ناحية، ومن ناحية أخرى، رغبة جماعات تراثية سلفية، فى إرجاع هذه الجماهير إلى ماضوية حظيرة الدولة الدينية التى أثبتت تجاربها الفعلية أنها دنيوية أكثر منها دينية رغم أوهامها عن الحل الدينى للمشكلات الاجتماعية المعاصرة. وهنا تناقض فكرى عميق بين تنظيم الحياة وفقا لقانون البشر بهدف تحقيق مقتضيات حياة أفضل لهم فى هذه الدنيا، وبين تنظيم الحياة وفقا لقانون إلهى يخضع له البشر بهدف تحقيق مقتضيات حياة أبدية فى جنة الخلد فى الآخرة، مع أن هؤلاء المناضلين فى سبيل الجنة "مسحورون" بدنيوية قصوى تجعلهم "أجرأ من مُجَلَّحَة الذئاب".
27: ويختلف معيار تقييم الانقلاب العسكرى من عدمه تماما عن هذا. ورغم الضجة الإخوانية السلفية والغربية الهائلة الحالية عن انقلاب عسكرى قام به الجيش فى مصر فى 3 يوليو فإن هؤلاء جميعا لم يتحدثوا عن أىّ انقلاب فى 11 فبراير 2011 عند تنحية مبارك. رغم أن ما حدث مع مبارك انقلابٌ عسكرى أجبر الرئيس "الشرعى" (مبارك) على التنحِّى، وكان انقلاب قصر من داخل النظام لإنقاذ النظام من حرب أهلية كان قد بدأها مبارك بالفعل، لأن من البديهيات التى صارت تفرض نفسها على الإستراتيچيِّين أن الحرب الأهلية تدمِّر فيما تدمِّر الطبقة الحاكمة ودولتها وجيشها. وهو انقلاب عسكرى لأنه حدث داخل نواة متماسكة للنظام وليس فى سياق وجود صراعات كبرى بين فرقاء فى نظام مبارك، ولم يأتِ تدخُّل الجيش أىْ الانقلاب العسكرى إلا عندما أجبرت الثورة الشعبية مبارك على الرحيل، من خلال إجبار نظام مبارك على التخلص منه.
28: وبالمقابل حدث قيام الجيش بالإطاحة بالرئيس السابق مرسى فى سياق تطوريْن كبيريْن متزامنيْن: من ناحية، مطالبة الشعب بقيادة حركة "تمرُّد" برحيل الحكم الإخوانى السلفى قبل وبعد 30 يونيو، ومن ناحية أخرى، احتدام الصراع بين قطاعين، قومى وإخوانى سلفى من الرأسمالية التابعة الحاكمة. وكان هذان التطوران يرجعان إلى مصدريْن مختلفيْن تماما: كانت موجة 30 يونيو الثورية (وليس "ثورة" 30 يونيو، كما يعبِّر بعضهم مخطئين) نابعة من صراع الطبقات العمالية والشعبية ضد الرأسمالية التابعة الحاكمة فى سبيل تحقيق الأهداف الاجتماعية لثورة يناير التى لم تتحقق رغم منجزات إسقاط حكام وانتزاع حريات غير رسمية.
29: وكان تدخُّل الجيش فى 3 يوليو نابعا من داخل الطبقة الرأسمالية التابعة الحاكمة بين قطاع قومى حاسم وقطاع إخوانى سلفى لا يستهان بثرائه ونفوذه الشعبى فكان عملا عسكريا لا شك فيه ولكنه كان تتويجا لانتصار القطاع القومى على الدينى بعد صراع استمر بقوة قرابة عام ونصف عام تقريبا. ولا يقع فى وَهْم أن هذا كان انقلابا عسكريا سوى أولئك الذين لا يتصورون التناقضات والصراعات والمواجهات المسلحة وحتى الحروب الأهلية داخل الطبقة الرأسمالية الحاكمة طوال التاريخ الحديث. فالانقلاب العسكرى هو التفسير السهل المبتذل لعمليات اجتماعية وسياسية أكثر تعقيدا بكثير؛ ولا يمكن تسمية انتصار جناح على آخر بالانقلاب العسكرى ما دام يمثل ذروة صراع أطول.
30: وهنا يتجلى فارق كبير بين انقلاب الجيش فى 11 فبراير وانتصار الجيش فى 3 يوليو: الثورة الشعبية أجبرت الجيش، على غير إرادته، على الانقلاب على مبارك؛ فلم يكن يقوم بتنفيذ مشروع سياسى أصلى خاص به، وبالمقابل فرغم استناد الجيش إلى مليونيات 30 يونيو إلا أنها لم تجبر الجيش، على غير إرادته، على الإطاحة بالرئيس السابق مرسى، ذلك أن الجيش كان يقوم هنا بتنفيذ مشروع خاص به كممثل للقطاع الحاسم من الرأسمالية القومية التابعة. وهناك مَنْ يرفض منى الإشارة إلى تمثيل الجيش للطبقة ودولتها وأعتقد أننى أوضحتُ أننى لا أعنى تمثيلا دائما من جانب الجيش للطبقة والدولة بل أعنى دور الجيش فى فترة تميزت بالحكم العسكرى المباشر تارة، وبالسيطرة الفعلية للجيش تارة أخرى. وهناك مَنْ يستند فى حكمه بأن تدخُّل الجيش لم يكن انقلابا عسكريا إلى واقع أن الجيش يتولى السلطة بنفسه فلا يقوم بتولية غيره فى حالة الانقلاب العسكرى؛ غير أن مفهوم الانقلاب العسكرى لا يستبعد مطلقا تولية الجيش لغيره؛ فليس هذا بيت القصيد.
31: وإذا كان الجيش قد أحنى رأسه للعاصفة الثورية بالانقلاب العسكرى فى 11 فبراير، فإن الجيش فى 3 يوليو إنما كان ينفِّذ مشروعه الخاص الذى حرص على ألَّا يظهر بمظهر الانقلاب العسكرى بالاستفادة من موجة 30 يونيو الثورية ومن الإعداد الجيد أمنيا وإعلاميا لتدخُّله. وبالأحرى فإن الجيش لم يتدخل فى صراع بين الشعب وحكم مرسى، كما تدخل بانقلابه ضد مبارك لحسم صراع الشعب مع مبارك، بل كان يحارب معركته الخاصة، ويمارس صراعه الخاص مع الإخوان المسلمين والسلفيِّين و مرسى والمرشد. وعدم إدراك هذه الحقائق عن الصراع داخل الطبقة الرأسمالية وعدم التمييز الدقيق بين خصائص تدخل الجيش فى 11 فبراير وتدخله فى 3 يوليو يؤديان إلى المواقف المتمثلة فى تشخيص ما حدث بأنه انقلاب عسكرى وفى الشطط ضده فى التقييم؛ وكأننا نرفض أن يدخل الجيش فى معركة مع الإخوان أو حكمهم الدينى، وكأن الأفضل لنا هو التعاون والتعايش والتحالف بين الجيش والإخوان ضدنا، أو بقاء الإخوان فى الحكم.
32: وهناك عامل مهم وراء تفسير تدخل الجيش بالانقلاب العسكرى وهو الموقف من الجيش. وفى غياب تصور واضح عن الفرق بين الحكم العسكرى المباشر ووجود الجيش كعنصر أساسى من عناصر السلطة التنفيذية، وبالتالى دوره الفعال فى الحكم الطبقى فى كل البلدان والدول، مهما ادَّعت لنفسها امتلاك مؤسسات ديمقراطية، يجرى النظر إلى ظهور الجيش فى تطورات بعينها على أنه انقلاب عسكرى ونذير بالحكم العسكرى والديكتاتورية العسكرية بلا جدال. وهذا مع أن التخلص من الحكم الإسلامى يمثل الحلقة الرئيسية فى النضال الثورى للشعب فى الوقت الحالى.
33: وهناك فى الحقيقة اختلاف كبير وجوهرىّ بين الإخوان المسلمين والجيش. فالإخوان جماعة أصولية إرهابية ينبغى ويمكن، من وجهة نظر الشعب والدولة فى آن معا، التخلُّص منها مهما كبرتْ ومهما روَّعتْ، أما الجيش فإنه لا يمكن التخلص منه كمؤسسة من مؤسسات الدولة الطبقية ومن دوره المحورى فى الديكتاتورية الرأسمالية إلا عند التخلص من الدولة ذاتها فى مجتمع لا يحتاج إلى دولة لأنه صار مجتمعا لاطبقيا، مجتمعا بلا طبقات. ذلك أن الدولة وسلطاتها ومؤسساتها وجيشها لا توجد إلا بوصفها أداة سيطرة طبقة على مجتمع وطبقاته. كما أنه يستحيل الخلاص من الديكتاتورية العسكرية التى ينطبق مفهومها أيضا على الدولة الپوليسية أو الديكتاتورية الپوليسية إلا فى سياق الخلاص من الرأسمالية ونظامها ومجتمعها ودولتها وجيشها وسلطتها كنتائج طبيعية لثورة شيوعية، بالطبع مع ضرورة المقاومة المتواصلة المستميتة للديكتاتورية العسكرية أو الپوليسية بالأدوات الفعالة للديمقراطية الشعبية من أسفل. وهكذا يمكن ويجب التخلص من أىّ حكم لمجموعة أيديولوچية سياسية متطرفة كالأصولية أو الفاشية أو القومية ولكنْ ليس من الحكم الطبقى بما هو كذلك بكل مؤسساته العضوية ومنها الجيش.
34: ونعود إلى مسألة "انقلاب عسكرى أم ثورة؟"؛ فيما يتعلق بالإطاحة بحكم الإخوان والسلفيِّين. وقد رأينا أن الثورة حاضرة فى صورة موجة من موجاتها الكبرى، كما أن تدخُّل الجيش حاضر، وهما آتيان من منبعيْن مختلفين: منبع ضرورة النضال الثورى الشعبى ضد الطبقة الرأسمالية فى سبيل تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، وهذا فى حالة الثورة، ومنبع ضرورة حسم الصراع داخل الطبقة الرأسمالية بين قطاعين متعادييْن فيها لخطورة استمرار حكم القطاع الإسلاموى على بقاء القطاع الآخر، القومى، وهذا فى حالة تدخُّل الجيش. ومعيار تقييم هذا التدخل، وحسم أنه ليس انقلابا عسكريا، موضوعىّ وواضح وضوح الشمس. أما المعيار الإشكالى المزدوج فإنه يكمن فى مسألة الموقف السياسى إزاء نوعيْن متعارضيْن بل متعادييْن من المليونيات الشعبية وقواها وقياداتها وأهدافها وكذلك الموقف السياسى إزاء التدخُّل العسكرى للجيش ضد الحكم الإخوانى السلفى.
35: وهنا تتمثل المسألة الحقيقية فى الأساس الطبقى لهذا الموقف أو ذاك. وكما رأينا فإنه خارج هذيْن الموقفيْن الطبقييْن، هناك مجموعات ثورية ترى كلما لمحتْ جيشا يتدخل فى السياسة، ومهما كانت طبيعة هذا التدخل، ومهما كان المسار الفعلى والاتجاه الفعلى للأمور، أننا إزاء انقلاب عسكرى يمهِّد مباشرة للحكم العسكرى المباشر. ومن الجلىّ أن إنكار التناقض والصراع داخل الطبقة الرأسمالية التابعة المالكة/الحاكمة هو الذى يقود إلى مثل هذا التشوُّش، إلى هذا العجز التام عن فهْم أننا إزاء انتصار حاسم حققه قطاع من الرأسمالية على آخر، وعن فهْم أن الأداة الطبيعية لحسم الصراع لدى أحد القطاعيْن هو الجيش، على حين تتمثل الأداة الطبيعية لحسم الصراع لدى القطاع الآخر فى الميليشيات المحاربة فى سيناء وفى كل أنحاء مصر.
36: وهنا تبرز مسألة شكل ومحتوى التدخلات العسكرية أو الانقلابات العسكرية، كما تبرز العلاقة بين الثورة الشعبية والتدخل أو الانقلاب العسكرى. ولا شك فى أن وجود وحكم الطبقة الرأسمالية التابعة مُعطًى تاريخى ولا سبيل إلى إنكاره أو عدم التسليم به رغم النضال التاكتيكى والإستراتيچى ضده. أما الجدال فيبدأ عند الانتقال إلى شرعية حكمها. وإذا كانت هذه الرأسمالية تستمدّ "مشروعيةَ" (تاريخيةَ) نشأتها وتكوينها واستغلالها الطبقى الاقتصادى واستمرار وجودها من قوانين التطور التاريخى، ومن عصر الرأسمالية الإمپريالية التى تقسم العالم إلى رأسماليات متقدمة ورأسماليات تابعة، فإن شرعية حكمها محاطة دائما بالشكوك لأنها شرعية تقوم على حق مزعوم للطبقة الرأسمالية الكبيرة فى السيطرة على الاقتصاد والسلطة والحكم، من خلال دساتير وقوانين ومؤسسات منظمة وفقا لمقتضيات ازدهار اقتصاد وسلطة هذه الطبقة، وليس وفقا لمقتضيات ازدهار حياة ومستويات معيشة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الأخرى. وهذه الشرعية التى تقوم على حق احتكار واغتصاب طبقة لناتج عمل وكدّ طبقات أخرى دون حدّ أدنى للتوزيع العادل للثروة إلا فى حدود قدرة الشعب على فرضه من أسفل لا تكون شرعية مقدَّسة ومكرَّسة ومعتمدة إلا من وجهة نظر مصالح الطبقة المالكة العليا، وفى المدى الواسع لسيطرة أيديولوچيتها على المجتمع بكل طبقاته رغم السمات الخصوصية الأيديولوچية المميزة لكل طبقة.
37: وتتضاعف لاشرعية هذه الشرعية التأسيسية المزعومة للطبقة الرأسمالية الكبيرة بلاشرعية وسائل وأدوات وآليات تكوين سلطات ومؤسسات دولة هذه الطبقة. وتتمثل نظرية تكوين دولة هذه الطبقة فى تشكُّلها على أساس الفصل بين سلطات متوازنة للدولة: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. ومقتضى النظرية هو أن السلطة التشريعية تسنّ قوانين تنفذها السلطة التنفيذية فى مجال إدارة الدولة وتنفذها السلطة القضائية بتطبيقها على الدعاوى القضائية التى تُرفع أمامها، ومن خلال ممارسة مؤسسات السلطة التنفيذية ومؤسسات السلطة القضائية تأتى مقترحات ومشاريع تعديلات للقوانين وسنّ قوانين جديدة لتوضع تحت تصرُّف السلطة التشريعية.
38: وما يجعل هذه النظرة القانونية الخالصة تتلاشى تماما هو أن الدولة وسلطاتها ليست محلقة فى السماء الصافية، بل هى راسخة الجذور فى الأرض الاجتماعية الصلبة، وليست على "مسافة واحدة"، كما يقال عندنا فى هذه الأيام كما تعلمنا من أصدقائنا الأمريكان فيما يبدو، إزاء طبقات ومجتمعات وإثنيات وديانات ومذاهب وطوائف المجتمع، بل هى أداة لتحقيق المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للطبقة الرأسمالية الكبيرة ومن صميم هذه المصالح تنظيم وتطوير علاقات الاستغلال والاضطهاد والخضوع مع الطبقات العاملة والشعبية مع الحرص الدائم على ألَّا تصل العلاقات بين هذه الطبقة وطبقات المجتمع الأخرى إلى علاقات تناحرية وصدامات واضطرابات ومواجهات تُدَمِّر الاستقرار الضرورى لتنظيم الاستغلال الاقتصادى ومختلف مقتضياته.
39: وهذا الأساس الطبقى الوطيد للدولة يبتعد بها عن أن تكون دولة جميع "المواطنين"، إنْ جاز القول بأنهم مواطنون بمعنى الكلمة، بل هى نعمة لطبقة ونقمة على باقى الطبقات، على النقيض من طابع الحياد الطبقى الذى تضفيه الطبقة الحاكمة على دولتها. وتضمن الممارسة السياسية المتصلة بطريقة التوظيف والتصعيد للسلطات وسنّ القوانين واتخاذ القرارات أن تكون كل هذه السلطات والقوانين والقرارات وكل ما يتفرع عنها فى خدمة الطبقة الحاكمة.
40: وتبدأ هذه العملية بما يمكن أن نسميه الديمقراطية المباشرة الشكلية القائمة فى كل بلدان العالم. وهى تتألف من مجموع الناخبين وفقا لعمر للناخب يقرره القانون أو الدستور فى كل بلد. ويكون هذا المجموع الذى يصل عدده إلى عشرات الملايين من الناخبين فى بلد مثل مصر بمثابة پرلمان واسع، يقوم من خلال الانتخابات الپرلمانية والرئاسية والاستفتاءات على الدساتير وغيرها، بانتخاب الپرلمان "المصغَّر" الذى يحمل اسم السلطة التشريعية ويتكون فى العادة من مئات من أعضاء مجلس أو مجلسيْن. ويكون الپرلمان "المصغَّر" أو الپرلمان، ببساطة، ملائما لمصالح الطبقة الحاكمة، لأن القوة المالية والدعائية والسيطرة الأيديولوچية لهذه الطبقة تحسم النتائج على خلفية الأمية الألفبائية أو السياسية أو الاثنتيْن معا للناخبين حسب حالة كل بلد، واغترابهم الأيديولوچى بحكم الأيديولوچيات المنتشرة بينهم والتى تخدم التخلف والرجعية والشوڤ-;-ينية والطبقة الحاكمة.
41: والمهم أن هذا الپرلمان الملائم لمصالح الطبقة الحاكمة والذى تمنحه نظرية الدولة الحديثة السلطة التشريعية، وحده بلا منازع، تحرمه الممارسة السياسية والإدارية من حق التشريع إلا فى البلدان التى توجد فيها سلطة تشريعية مستقلة نسبيا عن السلطة التنفيذية وإلا فإن الپرلمان يكون تابعا للسلطة التنفيذية ومجرد مكتب تشريعى ملحق بوزاراتها ومؤسساتها وأجهزتها، تتمثل وظيفته فى الإقرار الشكلى لقوانين درستها السلطة التنفيذية وقتلتْها بحثا وقدمت مشاريعها. وهنا تكون السلطة التنفيذية للطبقة الحاكمة وليس السلطة التشريعية أو الشعب مصدر القوانين والتشريعات والسيدة بلا منازع لكل السلطات مانحة نفسها سلطة التشريع إلى جانب صفتها الأصلية كسلطة تنفيذية.
42: ورغم أن السلطة التنفيذية لا تستطيع أن تتحكم فى السلطة القضائية بنفس القبضة الحديدية التى تسيطر بها على ما يسمَّى بالسلطة التشريعية إلا أنها تُوقِعُها تحت سيطرتها المُحكمة من عدة طرق؛ فالقضاء يحكم بالقوانين التى جاءت أصلا من السلطة التنفيذية وهى قوانين غير عادلة فى الأغلب الأعمّ لأنها تحرص قبل كل شيء ليس على مقتضيات العقل بل على مقتضيات مصالح الطبقة الحاكمة، ويحكم القاضى بالورق والسلطة التنفيذية هى التى تتحكم فى إظهار الأدلة أو إخفائها أو إتلافها أو حتى فرمها، كما رأينا فى محاكمات ثورة 25 يناير، والسلطة التنفيذية هى التى تتحكم فى تنفيذ أو عدم تنفذ الأحكام القضائية، والسلطة التنفيذية هى التى تُحكم سيطرتها الإدارية والمالية على السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية هى التى تتجاوز القضاء الطبيعى أو العادى فتفرض المحاكم الاستثنائية من كل الأنواع ساحبةً من القضاء الطبيعى على هذا النحو جانبا كبيرا من ولايتها القضائية، والسلطة التنفيذية هى التى تدير الدولة والاقتصاد والمجتمع لتقذف بالسلطة القضائية فى بيئة من الفساد العام تحيط القضاء الجالس والقضاء الواقف والمتقاضين جميعا بشرورها.
43: ويسبح القضاة بحكم تربيتهم القانونية النظرية وبحكم ضمائرهم الحية وبحكم قيم العدل التى تشبَّعوا بها ضد التيار، فيجتهدون فى تطبيق القوانين، ولكنْ دون خروج عليها، على الدعاوى القضائية العينية على أساس التمحيص الدقيق للأدلة بحثا عن الحقيقة وسط غابة من التلفيق والتزوير والفساد. ولهذا تتكرر مذابح القضاء فى مصر وغيرها؛ ولا مذابح للپرلمانات.
44: غير أنه تسود فى البلدان الرأسمالية المتقدمة، وأيضا فى بلدان قليلة أخرى فيما يسمَّى بالعالم الثالث، أوضاع من الاستقلال النسبى الأوسع للسلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية. وتتوفر هذه الأوضاع فى البلدان الرأسمالية المتقدمة بسبب انقسام كبير مستقر داخل الطبقة الرأسمالية حيث توجد قوتان متنافستان ومتصارعتان بقوة فى الانتخابات والاستفتاءات والتفضيلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وينشأ هذا الانقسام تاريخيا كمحصلة لآليات تبلور وتطور رؤيتيْن متعارضتين داخل الطبقة الرأسمالية الحاكمة، ومن خلالها فى المجتمع كله، طوال تاريخ طويل يصل فى حالات إلى قرون عبر التاريخ الحديث بشأن قضايا وأزمات وحروب كبرى وصراعات طبقية داخلية وخارجية كبرى واجهتها؛ بحيث تتعايش الرؤيتان متصارعتيْن داخل الرأسمالية الكبيرة فى البلد الواحد دون قدرة على التوفيق التام أو الدمج والامتزاج بينهما، ويتبلور هذا الصراع فى وجود حزبين سياسييْن كبيريْن متعارضيْن لنفس الطبقة الكبيرة الواحدة.
45: ولا يعنى وجود الانقسام والصراع داخل حزبين كبيرين للرأسمالية الحاكمة، وبالتالى الاستقلال الأوسع للسلطة التشريعية، أكثر من آلية رشيدة نسبيا للحكم الطبقى، وهى آلية تعبِّر فى نهاية الأمر عن الوحدة العليا التى تشمل مختلف سلطات الدولة رغم وعبْر تطبيق مبدأ الفصل بينها. ولا يقف هذا الحكم الطبقى، شأنه شأن كل حكم طبقى، على مسافة واحدة من الطبقات بحيث يقيم علاقات عادلة بينها، بل يفرض سيطرة الطبقة الحاكمة على مختلف طبقات المجتمع، بعيدا عن كل ديمقراطية مزعومة، ومحلّ التزوير المباشر فى الانتخابات يحلّ تزييف إرادة الشعب عن طريق الاعتماد على الأمية السياسية والدعاية الديماجوچية المضللة والنفوذ والمال. وإذا كان المواطنون متساوين أمام القانون فإن أقدارهم وحظوظهم من الثروة والنفوذ مختلفة تماما، قبل وبعد المثول أمام القانون، وفقا للطبقات التى ينتمون إليها أو يصعدون إليها أو يهبطون منها.
46: أما الأمثلة القليلة لأوضاع الاستقلال النسبى للسلطة التشريعية فى العالم الثالث فهى الاستثناء الذى يُثْبِت القاعدة، كما يقال. وتنشأ هذه الأوضاع فى حالة وجود قبيلتيْن كبيرتيْن متنافستيْن ومتوازنتيْن ومتكافئتيْن أو فى حالة وجود اتحاد قبلىّ كبير فى مواجهة قبيلة كبيرة أو اتحاديْن قبليَّيْن متكافئين، حيث تنتمى القِمَم العليا القيادية لهذه القبائل إلى الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة، فيكون الصراع محتدما فى كل أركان الحياة السياسية والاقتصادية داخل الپرلمان وفى الطريق إليه وخارجه، فى كل انتخابات، وأمام كل صندوق، بحيث يمتنع التزوير المباشر رغم التزييف الأكثر تعقيدا لإرادة الشعب بعيدا عن مزاعم الديمقراطية. وبالطبع فإن الانقسام إلى قبائل وبقاؤها فى المرحلة القبلية والتنافس المتكافى بينها فى بعض الحالات معطيات بشرية طبيعية لجزء من التطور العام للبشرية. وعند ظهور نتائج الانتخابات العامة فى هذه البلدان يزعم كل طرف انتصاره الانتخابى ويبدأ الاقتتال وبفضل بعض الوساطات يتمّ الاتفاق على اقتسام السلطة (كينيا وزيمبابوى). وعندما لا تنجح الوساطات يتطور الاقتتال الناشئ إلى حرب أهلية يمكن أن ينتصر فيها طرف على الآخر ويسحقه، وفى كثير من الأحيان بتدخلات أجنبية (كوت ديڤ-;-وار).
47: وهناك بالطبع ما يسمَّى بديمقراطية الهند التى تختلف تجربتها عن النموذجين الرأسمالى المتقدم والقبلى الأفريقى. ويمكن القول إن الآليات المختفية تحت الوضع المتميز للحكم الهندى، بعيدا عن الديمقراطية أيضا، تتمثل فى التأثر على مدى أربعة قرون من احتلال بريطانيا للهند بطريقة حكمها لمستعمراتها، وبالثقافة الإنجليزية، وداخليا كآليات لاستيعاب التعدد الهائل لقوميات الهنود وإثنياتهم ولغاتهم وثقافاتهم ودياناتهم، والاستفادة من تجربة انفصال پاكستان عن الاتحاد الهندى عند الاستقلال على أساس الدين الإسلامى، وضرورات الاستناد إلى المزايا الاقتصادية والسياسية للدولة الكبيرة فى منطقة مهمة من العالم محاطة بنفوذ دول كبرى بتقدمها أو بسكانها. وقد تبلور كل هذا فى صورة الرؤيتين المتنافستين والحزبين المتصارعين داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة.
48: أما النمور الآسيوية الأصلية (كوريا الجنوبية، هونج كونج، تايوان، سنغافورة) فقد تطورت آليات الحكم فيها، على الطريقة الغربية، فى سياق التشابك العميق بين السياسة والاقتصاد على أساس متين صلب من سير هذه البلدان، عبْر دروبها الخاصة الاستثنائية، فى طريق اللحاق بالغرب أو الشمال الصناعى المتقدم.
49: ونعود من هذه الاستطرادات الكثيرة، التى قد تكون غير مستحبة من جانب قراء يمكنهم القفز عليها على كل حال، إلى موضوعنا الأصلى. إننا هنا إزاء شرعيةِ لاشرعياتٍ متراكبة ومتداخلة ومتشابكة فى مصر، وينبغى الانطلاق فى تمحيص موقف بعينه، تدخُّل أو انقلاب عسكرى مثلا، من التحليل العينى للواقع العينى. وعلى سبيل ليس من العقل أن يكون الموقف من انقلاب عسكرى ضد الملك المصرى فاروق الأول فى يوليو 1952 مماثلا للموقف من انقلاب عسكرى ضد الرئيس التشيلى سالڤ-;-ادور أيّيندى فى سپتمبر 1973؟
50: ونحن ككتاب ومحلِّلين سياسيِّين لا نشارك فى حكم قائم أو انقلاب عسكرى، ولا ندافع دفاعا عقائديا أجوف عن شرعية حكم أو شرعية انقلاب عسكرى، بل نعمل فقط على محاولة فَهْم الدور السياسى الذى يلعبه الحكم أو الانقلاب، مؤيِّدين دائما الشرعية الثورية للثورة الشعبية، محاولين تحليل قدرة الثورة الشعبية على، أو عجزها عن، توظيف الشرعية الثورية التى تمنحها لنفسها فى شيء باقٍ ينفع الناس عن طريق رفع مستويات معيشة الطبقات الشعبية بالتركيز على بناء مؤسسات ديمقراطية شعبية من أسفل، لمقاومة الاستغلال والاستبداد والديكتاتورية الطبقية العسكرية التى مناص من أن تنتهى إليها الثورة المضادة أىْ النظام الذى ثار عليه الشعب، بعيدا عن المشاركة فى بناء مؤسسات دولة الثورة المضادة.
51: ومن الجلى أن قوى الثورة السياسية الشعبية لا تصل إلى السلطة سواءٌ أكان النظام الاجتماعى الاقتصادى القائم رأسماليا صناعيا متقدما مستقرا بوصفه كذلك أو رأسماليا تابعا مستقرا بوصفه كذلك أيضا. بل تكون نتائج الثورة محدودة فى الحالتين، حيث تكون الثورة الاجتماعية الرأسمالية متحققة أصلا فى بلدان النظام الرأسمالى الصناعى المتقدم فلا تكون مطلوبة أو واردة فيها، على حين تكون الثورة الاجتماعية الرأسمالية غائبة وفات أوانها فى بلدان العالم الثالث؛ العالم الذى تحولت إليه المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة، التى تحققت فيها معادلة "ثورة سكانية دون ثورة صناعية".
52: وعلى هذا فإن السلطة التى فى يد الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة، المتقدمة أو التابعة، لا تنتقل إلى قوة اجتماعية أخرى بل تبقى فى يدها. وتتحول الطبقة الحاكمة إلى ثورة مضادة فور تفجُّر الثورة الشعبية السياسية التى تحمل نعت أو لقب الثورة السياسية من باب التجاوز وليس لأنها مماثلة للثورة السياسية التى تأتى فى سياق ثورة اجتماعية فتنقل سلطة الدولة إلى أيدى الطبقة الرأسمالية الكبيرة التى جلبتْها الثورة فهى التى قادت الثورة الاجتماعية ثم الثورة السياسية. وتكون المهمة الحقيقية هنا هى التركيز على تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، رغم تحديات كبرى أمام قابليتها للبقاء طويلا، بحكم هشاشة اقتصادات العالم الثالث وعجزها بالتالى عن تحمُّل التكلفة الاقتصادية للديمقراطية الشعبية من أسفل، فى مقابل الثروة الهائلة التى تخلقها الرأسمالية المتقدمة بحيث كانت الديمقراطيات الشعبية من أسفل قادرة على البقاء الطويل إلى الآن منذ الثورات الاجتماعية الرأسمالية التى جعلتْها ممكنة.
53: وإذا كنتُ قد استطردتُ فيما سبق للربط بين المفاهيم الغائبة أو المشوشة وتطورات المشهد السياسى المصرى فإنه يبقى مفهوم مهم غائب يترتب على غيابه قدر هائل من التشوش والغموض والإلغاز وهو مفهوم الثورة. فالثورة فى نظر الكثيرين تتمثل فى عواصف كبرى وممتدّة من الاحتجاجات الشعبية فى سبيل تحقيق أهداف كالتى نادت بها ثورتنا، ويعتقد كثيرون أن الثورة السياسية تتفجر فتفتح الأبوابَ على مصاريعها أمام الثورة الاجتماعية. وقد تصور كثيرون أن ثورة 25 يناير ثورة اجتماعية، ظنا منهم أن الثورة تكون ثورة اجتماعية لأن أوضاعا اجتماعية اقتصادية دفعت إليها فتعمل بالتالى على التحرر من تلك الأوضاع من خلال "التغيير الاجتماعى"، عبْر تحقيق أهداف تتمثل فى "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، أو لأن قوى الثورة تتألف فى المحل الأول، ولنفس السبب، من الطبقات الاجتماعية العاملة والكادحة والفقيرة.
54: والحقيقة أن كل هذه الاعتبارات بعيدة عن المفهوم العلمى للثورة الاجتماعية التى تساوى فى العصر الحديث الثورة الاجتماعية الرأسمالية، أىْ التحوُّل الرأسمالى، أىْ التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية، فهذه الثورة عملية تاريخية كبرى تنشأ من خلالها، فى آن معا، طبقات اجتماعية جديدة وبالأخص الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة وطبقات أخرى أيضا بينهما، ومجتمع جديد يحل محل المجتمع الإقطاعى وطبقاته، وينشأ من خلالها اقتصاد رأسمالى يقوم فيه العمل المأجور على التقنية الحديثة، الصناعية وما بعد الصناعية.
55: وتجرى الثورة الاجتماعية الرأسمالية بصورة تراكمية بطيئة استغرقت فى تجاربها التاريخية الأصلية قرونا أو عقودا طويلة وتأتى عند اكتمال النضج الكافى لهذا التحوُّل التدريجى التراكمى البطيئ عواصف وأعاصير الثورة السياسية الشعبية لتحرير هذا التحول من العراقيل الموروثة أو الجديدة التى نشأت من عملية التحوُّل ذاتها، لتندفع الثورة إلى الأمام بقوة (وهذا هو النموذج الرئيسى للتحول الرأسمالى)، وقد لا تأتى الثورة السياسية الشعبية فيواصل التحول الرأسمالى اندفاعه إلى الأمام بقوة أيضا (النموذج الپروسى اليونكرى الذى تحقق على أكمل صورة فى الياپان التى لم تشهد ثورة سياسية شعبية). أما الثورة الاجتماعية الاشتراكية التى تبلورت نظريتها فإن ثورات القرن العشرين المسماة بالثورات الاشتراكية لم تنجح، رغم أهميتها التاريخية الكبرى، فى تحقيقها بما يتفق مع طموحات قادتها وشعوبها، وتبلورت كرأسماليات دولة بما يتفق مع مقتضيات التاريخ العينىّ فى شروط موضوعية وذاتية غير مواتية للثورة الاشتراكية فى البلد الواحد وفى العالم.
56: وعندما لا تأتى ثورة سياسية شعبية فى سياق ثورة اجتماعية تسبقها، أىْ فى سياق تحوُّل رأسمالى جذرى سابق عليها، فإن قانون بناء المجتمع الجديد باستخدام أنقاض المجتمع القديم يحكم على الثورة السياسية باستمرار ما سبقها. ويكون ما يسبق الثورة السياسية تحوُّلا رأسماليا حضاريا كبيرا فيكون استمراره بعدها ظاهرة تاريخية تقدمية كبرى، أما فى حالة الخرائب الدائرية التى سبقت ثورة 25 يناير فى صورة رأسمالية تابعة متدهورة فإنها تستمر بعد الثورة، حيث يتم بناء الجديد باستخدام الأنقاض البائسة للنظام السابق البائس.
57: وبالطبع فإن حدوث ثورة سياسية رأسمالية فى مجتمع إقطاعى ليس واردا، وعلى سبيل المثال فإن الإقطاع كان قد زال فى فرنسا قبل ثورة 1789 بوقت طويل رغم وجود عراقيل قروسطية أو بقايا إقطاعية أزالتها الثورة السياسية بعد أن دمرتْ الثورة الاجتماعية أسسها. ولهذا كانت الثورة السياسية الفرنسية، مثل كلِّ ثورةٍ سياسية تأتى فى سياق ثورة اجتماعية، ثورة فى الثورة، أو ثورة على الثورة، بمعنى أن تلك الثورة السياسية أشعلها ليس التناقض مع مجتمع إقطاعى كان قد زال بل تناقُض الطبقات الاجتماعية الجديدة مع العلاقات الاستغلالية الجديدة والبقايا الموروثة من الإقطاع والقرون الوسطى فى آنٍ معا.
58: ويحيط الالتباس بمسألة التمييز بين الثورة الاجتماعية، الرأسمالية أو الاشتراكية، والثورة السياسية. ورغم أن كل أسس فَهْم الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية من خلال عملية طويلة من التحول الاجتماعى الاقتصادى يشتمل عليها إنتاج ماركس فإن التباسا شديدا عنيدا يحيط عند المفكرين الماركسيِّين بمسألة التمييز الضرورى بين الثورتيْن. وعلى سبيل المثال فإنه يجب النظر إلى الثورة الفرنسية فى 1789 أو الثورة البلشڤ-;-ية فى 1917 على أنها ثورة سياسية فى سياق ثورة اجتماعية، وليس على أنها ثورة اجتماعية مع أن هذه الأخيرة استغرقت أكثر من مائة سنة فى فرنسا قبل 1789، ومع أنها استغرقت قرابة ستين سنة فى روسيا قبل 1917.
59: وقد يبدو أنه لا ضرورة لكل هذا التدقيق فى التمييز بين الثورتين الاجتماعية والسياسية. غير أن طبيعة الثورة وثيقة الصلة بهذا التمييز، الذى يساعدنا أيضا فى فَهْم خطأ التعلُّق مثلا بأوهام تحوُّل الثورة السياسية إلى ثورة اجتماعية ينتقل عن طريقه البلد الرأسمالى التابع إلى بلد رأسمالى صناعى متقدم أو إلى بلد اشتراكى، بدلا من التركيز على الشيء الذى يكمن هلاك الثورة الشعبية فى عدم العمل على تحقيقه أو تأخير بدء هذا العمل والانصراف إلى مجرد إسقاط حاكم تلو آخر أو المشاركة فى إستراتيچية الثورة المضادة المتمثلة فى الاستفتاءات والدساتير والانتخابات المتكررة لصرف قوى الثورة عن الفعل الثورى الإضرابى لتحقيق العمل المشار إليه وهو إرساء أسس الديمقراطية الشعبية من أسفل التى لا أمل دون تحقيقها أوّلًا فى السير إلى الأمام فى مجال التحرُّر من التبعية الاقتصادية والاستقلال الحقيقى عن طريق التنمية الشاملة والتصنيع والتحديث قبل فوات الأوان.
60: ولا شك فى أن إدراك المقصود بالثورة الاجتماعية كتغيير مادى كبير متحقق على الأرض بصورة تراكمية طويلة جدا فى العصر الحديث يرتبط ارتباطا وثيقا بفهم آليات التغيير الثورى طوال تاريخ المجتمع البشرى. ويركِّز ماركس، من ناحية، على تطور دور التقدم التقنى وإنتاجية العمل وقوى الإنتاج المادية كمحرك للتاريخ والتغيير الاجتماعى وإحداث الثورات، ولكنه يركِّز أيضا، من ناحية أخرى، على الصراع الطبقى كذلك كمحرك للتاريخ والتغيير الاجتماعى وإحداث الثورات.
61: ويمكن أن يُغرى الشق الأول مفكرا ماركسيا بالنظر إلى مجال الإنتاج المادى على أنه أساس التغيير والثورة، فيما يُغرى الشق الثانى مفكرا ماركسيا آخر بالنظر إلى مجال التوزيع على أنه أساس التغيير والثورة. غير أن المجالين متكاملان لأن تطوُّر إنتاجية العمل يرتبط ارتباطا وثيقا بتطور قوى الإنتاج وبنشأة الطبقات الاجتماعية ذاتها والصراع بينها. ولا شك فى أن الصراع الطبقى المرير يُحدث التغيير عندما يصل إلى الذروة فى صراع الثورة والثورة المضادة. غير أن الصراع الطبقى مرتبط بالبداهة بنشأة الطبقات الاجتماعية بالتدريج مع تطور التكنولوچيا وقوى الإنتاج بالتدريج أيضا، وهو تطور يتأثر تأثُّرا حاسما بالصراع الطبقى من جديد.
62: وفى المشاعات البدائية التى بدأت بها كل الشعوب كانت إنتاجية العمل متدنية فى الأصل بالبداهة فكان إنتاج الفرد المنتِج يكفيه بالكاد فينعدم إنتاج الفائض الذى يسمح بالاستغلال الاقتصادى الطبقى. وكان العبيد المجلوبون من خارج المشاعة يشكلون عبودية كامنة لاستحالة استغلالهم. وبصورة تدريجية فعلتْ القوانين التقنية التصاعدية فِعْلها التراكمى فأدى الارتفاع التدريجى لإنتاجية العمل إلى ظهور الاستغلال، وإلى عمل العبيد لإنتاج فائض اجتماعى يكفى لاعتماد طبقة اجتماعية كاملة عليه هى طبقة ملاك العبيد.
63: وهكذا كانت الثورة "السياسية" العبودية التى سيطرتْ بها هذه الطبقة على العبيد ووضعتْ يدها على الفائض الاجتماعى الذى ينتجونه وتفرغتْ لإنتاج العلم والفكر والفلسفة والأدب والفن والجيوش والأكروپولات؛ فكانت الحضارة العبودية. كما تفرغت للحكم والدستور والتنظيم السياسى والإدارى للدولة العبودية والمجتمع العبودى. على أن هذه الثورة العبودية"السياسية" كانت ذروة وتتويجا للثورة العبودية "الاجتماعية" التى تطورت عبر القرون وانتهت إلى الانقسام الطبقى للمجتمع وظهور المجتمع العبودى فكانت الثورة العبودية خطوة تقدمية كبرى إلى الأمام فى المسيرة التاريخية للبشر.
64: وتتمثل الثورة الأكثر أهمية بين الثورتين أو اللحظتين الاجتماعية والسياسية للثورة العبودية، تماما كما فى "اللحظتين" الاجتماعية والسياسية للثورة الرأسمالية فى التاريخ الحديث، فى الثورة أو اللحظة الاجتماعية، فهى صانعة التغيير المادى الفعلى وكذلك الروحى للمجتمع، غير أن الثورتين الاجتماعية والسياسية متكاملتان حتى فى حالة عدم حدوث ثورة سياسية مستقلة، كما هو الحال فى النموذج الياپانى للثورة الرأسمالية فرغم عدم وجود ثورة سياسية منفصلة تتخذ شكل عاصفة الثورة السياسية الشعبية فى النموذج الياپانى فإن انتقال سلطة الدولة (وهذا هو محتوى الثورة السياسية) إلى الطبقة الرأسمالية التى تخلقها الثورة الاجتماعية، بالإضافة إلى طبقات اجتماعية أخرى، يتمّ بالتدريج من خلال عمل مشترك يدًا فى يدٍ بين ما هو اجتماعى وما هو سياسى، لنرى فى الياپان فى النهاية مجتمعا رأسماليا ودولة رأسمالية، اقتصادا رأسماليا وسلطة رأسمالية، فطائر الرأسمالية لا ينطلق محلِّقا؛ إلا بجناحين اقتصادى وسياسى.
65: ولعل المزيد من وضوح المفاهيم الاجتماعية السياسية أن يساعد على الفهم الصحيح لطبيعتها الاجتماعية، ومهمتها الكبرى ذات الأولوية القصوى والمتمثلة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل، التى يجب العمل بلا إبطاء فى سبيل تحقيقها، كخطوة تاريخية كبرى أولى يشترطها كل انطلاق من كل درب محتمل نحو آفاق مستقبل لا يُنال مطلقا إلا عبر هذا الجسر التاريخى، بشرط القدرة على حماية هذه الديمقراطية من أسفل وتوسيعها وتطويرها فى مواجهة هجمات وضربات واعتداءات متواصلة من الديكتاتورية الباقية من أعلى، كما يحدث فى الثورات والثورات المضادة جميعا.
11 أغسطس 2013