ضيق المعتقد و رحابة الاعتقاد


حنان بن عريبية
الحوار المتمدن - العدد: 4181 - 2013 / 8 / 11 - 04:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كلما ازدادت المقاييس العقلية و المنطقية انتقادا لما هو سائد إلا و تدافعت تيارات القولبة الفكرية لصد أي طرح مخالف للمعتقد الثابت و المتعارف والذي لا يقبل التساؤل أو حتى السماح بتطور الفكر الفردي طالما أن الثقافة المجتمعية العربية تجعل المعتقد منحصرا في بوتقة الدين بالرغم من تجاوز هذا المصطلح للإطار الديني ليشمل كل ما هو متوارث من عادات و تقاليد و أعراف. إلا أن حماة المعتقد جعلوا السلوك الجماعي متصلا بالدين في حين أن موروث الشعائر و الطقوس ليس له علاقة سواء بإيمان الفرد بربه أو إيمانه المتعلق بالجانب المجتمعي و إنما هو تواصل لوتيرة ما سطره جمهور الفقهاء من ناحية أو اعتلاء التقاليد و العادات كرمزية ثقافة الآباء و الأجداد الواجب إتباعها من ناحية أخرى.
إن في انتهاج المعتقد بشكله المتعارف و حصره في بوتقة الدين اليوم يقطع مع كل ما هو فردي و شخصي خاصة بتوغله في أدق خصوصيات الإنسان ليصبح مقيدا و يفرز بالتالي إقصاء أي اعتقاد أو رأي أخر مخالف بالرغم من أن الاعتقاد يعكس تميز صفات الكائن البشري عن معتقد المجموعة و هو بمثابة بؤرة ضوء للخروج من إطار الفكر الضيــق و الدوائر المغلقة ضد أي انفتاح أو اختلاف لعقيدتها. فما هي سبل الخلاص ليجد الاعتقاد موقعه لدى الفرد برؤيته التجردية و المختزلة في الرأي الحر بدون تبعية لا تورث سوى انغلاقا و تواصلا لثقافة اللون الواحد أو كما أطلق عليها البعض ثقافة القطيع ؟
ما فتئت قضية الاختلاف تتحول لمعاناة نفسية تجعل من الفرد فردان. الأول ما أرادوه به و الثاني ما يريده هو. خاصة اذا كان المعتقد متموقعا بملكة العقل الذي تطغى عليه إلزامية الإتباع و حتمية الحفاظ عليه بحجة أن في الإخلاص له وفاءا لمن سبق و احتراما لأسس ثابتة قاموا بتشييدها و هذا الاعتقاد الجازم سبب في اضمحلال الاعتقاد النسبي الذي يتيح مجال التدبر و التفكر و إمكانية الارتقاء لتغيير يتماشى مع وضعية كل فرد كما فيه تقهقر للفكر و انحدار صوب الدغمائيات بما أن المعتقد قداسة لا يجب المساس منه أو حتى التساؤل في شأنه.
ويجتاح المرء شعور بخيانة المألوف اذا سمح الفرد لنفسه بالتساؤل أو بإمكانية اعتماد فكر مخالف أو محاولة الفصل بين ماهو متوارث و بين ما هو مختلف و تقدمي. لذا نلاحظ أن الإدراك الحداثي الذي يتمثل بوجوبية الخروج من السائد يلقى هجوما مبالغا فيه حتى يتم حماية الثقافة الأولى التي يكتسبها الشخص والتي جعلت المعتقد الجماعي و العشائري يتعرض لكل الجوانب الحياتية فلا مكان لما يعتقده الشخص.
غير أن الصيرورة الفكرية تتطلب التساؤل و التجرد ليستطيع الإنسان فهم رسالة التكليف و اكتشاف الرؤى الفردية و التجريدية ولم تكن يوما خيانة لأعراف أو تقاليد و شعائر أو طقوس و حتى إيديولوجيات أصبحت كلها تتماهى مع الدين فالرأي المجرد يساعد كثيرا في فهم الصراع النفسي الداخلي الذي يتخذ ظاهريا شكل الصد أمام الاختلاف بحجية الامتثال لرأي الجماعة و الأغلبية السائدة.
الخلل يكمن في تشبث هذه النوعية من البشر بثقافة التبعية رغم إزهاقها لكل معالم التفرد و الطاقات الإبداعية. فالاعتقاد الشخصي بتمظهراته التلقائية و التحررية و الذي يكون حتى في شكله التمردي على و ضع قائم و أعراف بيئية و مجتمعية هو وحده من يولد الأفكار ويثريها. فالرأي المخالف المجرد يضعنا أمام نسبية الشيء و هذا ما ترفضه المجتمعات العربية الإسلامية. فمنطق الكلية و الشمولية المستمد من السائد و المتعارف الغابر يطغى على المعاملات خاصة تلك التي تتجه بخطاباتها نحو الأشخاص في خصوصياتهم. فأغلبيتهم يتفقون على فكرة هي نتاج توارث و اتصال وثيق بالماضي محافظة عليه وفارضة منهج الجماعة و الاتفاق على رفض ما هو جديد. وهو ما يجعل المعتقد في شكله الديني يتسم بعلاقة أفقية بين العبد و ربه عكس ما يطرحه الاعتقاد السليم أن العلاقة عمودية و لا دخل للعنصر البشري في إيمان الشخص. و يتجلى هذا في شكل العبادات الفردية التي اتخذت دائرة الإتباع وتم حصرها في إطار الجماعة و عدم الخروج بها عن دائرة الفكر الديني الضيق الذي لم يتحرر من اعتماد كل ما هو شكلي في الخطاب و بالتالي تحولت العبادات لقوالب محددة ومحدودة تجعل كل طرف مقابل مراقبا الآخر في طريقة تعبده و كيفية إيمانه و مهاجمة اعتقاده الشخصي عند طرحه لرؤية مختلفة.
إن المتوارث لا ينسجم مع الرؤية التجريدية و المتحررة التي تكون كفيلة بأن تحرر السائد و المتعارف وتطور حس البحث و السؤال رغم أن جل الملاحظات الميدانية أبرزت أن كل متفرد برأيه يسهل التعامل معه عكس من يدافع عن فكرة جماعية فرضت لتتحول منهجا متبعا لا يجب الحياد عن ضوابطه. فالقيمة العملية في الاعتقاد الشخصي المحض جعلت مجال البحث متغيرا و متجددا يفرز حراكا فكريا عكس المعتقد الثابت الذي لا يبدو أنه قادر على أن يستوفي حاجتنا للسؤال و المعرفة و الطرح الجيد .
إضافة أن المجتمع المتمدن و الحضاري يضمن الحقوق و يحدد الواجبات تجاه الأفراد لا تجاه الإله. فحرية الاعتقاد اعتراف بكينونة الإنسان الحر المسئول و إِذعَان لمواهبه الشخصية لا العبد الخاضع والمسلوب الإرادة. وهذه الحرية تؤسس لدولة ديمقراطية تفصل بين علاقة الفرد بربه و علاقته بالآخر. وهو ما يدعم نظرية فصل الدين عن الدولة.
و الجدير بالذكر أن عدم خلط الدين بمؤسسات الدولة ليس إقصاء للدين كما يروج أنصار دولة الخلافة و إنما المحافظة على العلاقات بين الأفراد رغم اختلافهم العقائدي. فهناك من يرى إيمانه روحيا لا ينزل لمرتبة المادة و المحسوس و هناك من يرى الإيمان في احترام الطقوس و الشعائر و تدوين لكل سلوك تعبدي لا يجب الحياد عنه أو تغييره. في حين أن قيام المعتقد على وجوبية إتباع السلف نظرية تبرر الهجوم المبالغ فيه عند نقد الموروث و إدانة كل سائل أو ناقد بتهمة التطاول على الأئمة و على الإسلام ككل عند الأطياف التي تبنت المعتقد منهجا.
و بالرغم من أن اختلاف المذاهب الإسلامية من سنة وشيعة وخوارج و معتزلة... لا يعطي أحقية فكرة التمركز الديني لأحد و الحديث باسم المسلمين أو تمثيلهم أو اعتبار السلوك المغاير في مذهب ما سلوكا شاذا و غير مسلم. إلا أن الذهنية المسيطرة اليوم في مجتمعاتنا ترى أن عقيدتها الموروثة منذ ما يزيد عن ألف سنة هي الصالحة و الواجب إتباعها بما أنها مقياس الدين و إرغام الناس بانتهاجها وان كان باللجوء للعنف و الترهيب.
إن النزعة المحدودة في مخزون الفكر المقولب على شاكلة الجماعة تجعل المعتقد في جانبه الديني و الحياتي و المجتمعي فاقدا للمعنى الإنساني في التواصل مع الآخر و مفتقرا للجانب الروحي في العبادة و الإيمان التلقائي. كما أن الحرية الفردية و الكرامة الإنسانية لا يتوفران بالإتباع و التبعية بل بالتفرد. فالقدرات التي يحملها كل فرد كافية لنسج ثقافة الاختلاف و الاعتراف بها و التعايش معها إذا اقتنع الطرف المقابل أن المعتقد الذي يمنح الأفراد حيثيات إيمانهم و يرسم خارطة سلوكهم الروحي معطى فيه التملك و السيطرة على حرية الأفراد و لا يتيح للذهن التمشي وفقا لمتغيرات العصر. وهو نسق يعرقل الجهود في إرساء دولة المواطنة و الديمقراطية التي تدعم تحرير المعتقد بالاعتقاد الحيوي و النشيط و القضاء على ثقافة الانطواء و الانكماش التي يتميز بها المجتمع العربي الإسلامي في إطار محافظته على المعتقد و العقيدة والتي لا تمثل جميع الأطياف. فالاعتقاد المنطلق و المتسائل يتجاوز ثقافة المعتقد المحدودة التي جعلت كل اختلاف يوصف بالكفر أو الإلحاد ينظر إليه كتعد على الدين و بالتالي الانسياق في منظومة التكفيريين و لعب دور الوسيط بين الخالق و العبد التي لا يعترف بها الدين الإسلامي و يرى فيها تعديا على الذات الإلهية. فالإسلام جعل كل فرد مسئولا و مكلفا في كنف الحرية و العدالة الإلهية طبقا لنظرية التساوي أمام الخالق فلا أحد له سلطة التسلط على أحد لإتباع منهج محدد.
نستخلص مما سبق أن الغاية النهائية في الخضوع للمعتقد المشخصن تنازلا عن حرية الاعتقاد الذاتي الذي يسير بثقافة الاختلاف التي تؤسس للحرية. فلا حرية فردية و لا انتعاش لملكة عقل لا يكون خالصا من كل عناصر التأثير. فشيم الطابع العقلي إنتاج رؤى مختلفة تنم عن حراك فكري لا إتباع لأفكار فيها الغابرة و المستحدثة والتي تروج ضمنيا للبائدة بعدم اعترافها بما هو مختلف و مهاجمته.