إلى روح فقيد التنوير العفيف الأخضر


سعيد الكحل
الحوار المتمدن - العدد: 4178 - 2013 / 8 / 8 - 10:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

انتقل إلى عفو ربه المفكر المستنير العفيف الأخضر . وسيترك هذا الرحيل فراغا كبيرا في ميدان المواجهة مع الفكر الأصولي المتشدد بطبعاته الإسلاموية أو السلفية أو اليسراوية ، خصوصا بعد غياب وتغييب مفكرين ومناضلين بفعل الموت الطبيعي أو الاغتيال الإرهابي . زمن عز فيه الصوت الحر المتحلل من الارتباط الأيديولوجي الحرْفي والببغاوي . عرفت الفقيد من كتاباته في المواقع الإلكترونية والجرائد الورقية ، وازداد ارتباطي به إنسانيا وعاطفيا لموقفه النبيل الذي تجاوز التضامن العلني إلى التداعي بالقلق والانشغال عن مصيري التهديدات بالقتل التي توصلت بها من قبل تنظيم متطرف . تواترت مراسلاتنا سنة ونصف إلى حين اعتقال المتطرفين مصدر التهديد . كان ، رحمه الله ، دائم السؤال عن أحوالي ودائم الانشغال باقتراح الحلول التي يراها مناسبة لي . لم يُكتب لي لقاؤه المباشر : لكن نضاليته الصادقة وإنسانيته الراقية وحبه للحرية وللعدل وتغليبه المصلحة العامة والتشبث بفقه الواقع جعلت منه مفكرا يشاركني مغربيتي ويقاسمني انشغالاتي كمواطن مغربي يتملكني الخوف على مصير وطني أمام المد الأصولي المتشدد . تابع الراحل ، بكل اهتمام وقلق ، ما بات يعرف "بثورة الربيع العربي" في تونس وإرهاصاتها التي جسدتها حركة 20 فبراير في المغرب . كان حرصه شديدا على ضرورة أن يتمسك المغاربة بهويتهم الوطنية والدينية والسياسية ،إذ لم تفته الفرصة إلا وعبر عن قناعته كالتالي (قناعتي هي أن نقطة الانطلاق لفهم المجتمع المغربي، الملكي حتى النخاع، وخاصة لحماية وحدة الأمة المغربية، بعنصريها الأمازيغي والعربي، السائرة على طريق الحداثة والديمقراطية، هي الالتفاف حول المَلَكية المغربية التي تمثل سدا منيعًا في وجه أقصى اليمين الديني العامل بنشاط على تسليم المغرب إلى فوضى دامية على الطريقة الصومالية أو الإيرانية) . لم يكن يعش في المغرب ولم يتلق دعما من النظام ، لكنه كان واقعيا يدرك مخاطر القوى الإسلامية على المكتسبات الحضارية والحقوقية التي راكمها الشعب المغربي بنضالات أبنائه وبناته . فلم ير في النظام المغربي الشر المستطير الذي لا يزول إلا بزواله بل أقر له بالإيجابيات ومنها (يُحسب في رصيد الملكية المغربية أنها، حتى في سنوات الرصاص، أعطت لنخبها هامشا من حرية التعبير لم تعرفه لا تونس البورقيبية ولا الجزائر البومدينية ولا أي بلد عربي آخر باستثناء لبنان). فالتحديث والدمقرطة لا يشترطان أنظمة جمهورية كما لا يتحققان على أنقاض الأنظمة ،بل هما عمليتان قد ينخرط فيهما أي نظام له القابلية للاستمرارية والتفاعل الإيجابي مع حركية المجتمع : وكذلك كان تقييمه للنظام الملكي في المغرب . لم تخنه فراسته في كون الإسلاميين أخطر عقبة في وجه التحديث والدمقطرة لاعتبارات ثقافية ونفسية شكلت شخصية الإسلاميين وذهنياتهم ( فالإسلاميون لا يخرجون ولا يخالفون توجيهات "فقهاء الولاء والبراء .. المهووسون بالحاكمية، أي بعبادة الأسلاف الذين أعطوهم حق حكم الأحياء من وراء قبورهم. وهكذا حرّموا وجرّموا كل جديد في الفكر والحياة وكل تجديد لسنة الأسلاف). ولما كان الأمر يتعلق بطريقة التفكير لدى الإسلاميين هي أصل البلاء الذي يجلبه هؤلاء لشعوبهم ، فإن العفيف الأخضر يراهن على المقاربة الفكرية في التصدي للتطرف لأنه نتاج ذهنية منغلقة تعادي قيم الاختلاف وتنبذ التسامح وتعشق القتل . لهذا اقتنع ( بإمكان هذه القراءة التعددية، التي تجد اليوم في علوم الحداثة سنداً نفسياً ،أن تشكل منطلقاً لفقه جديد على طرفي نقيض مع فقه الولاء والبراء .. في منظور هذا الفقه ، الإسلام ليس "قرآناً وسيفا" كما زعم حسن البنا بل قرآن فقط، "والنساء شقائق الرجال" أي متساوون في الحقوق والواجبات كافة ، والمواطنون سواسية كأسنان المشط بقطع النظر عن دينهم ولونهم وعرقهم وليس للإسلام فيتو على جميع العلوم والمؤسسات والقيم الكونية بل أقصى مناه أن يقتبسها حيث يجدها). كان تقييم العفيف لمدونة الأسرة التي حرص الملك محمد السادس على وضعها لفائدة الأسرة المغربية تقييما نوعيا حيث اعتبر إصلاح الأسرة وضمان حقوق النساء هي المدخل الأساس لكل تحديث مجتمعي ومؤسساتي وتفكيك للذهنية الأصولية تقف عند ظاهر النص وتضعه خارج سياق الواقع المتحرك . ولا يمكن إنجاز التحديث والتغيير في المجتمع إلا بتحرير الخلف من سلطة السلف فيما يتعلق بقراءة النصوص الدينية التي هي بحاجة إلى مناهج جديدة في دراستها وتأويلها ، لا يمكن إحداث التغيير إلا عبر مدونة الأحوال الشخصية. وهذا ما فعله الملك (وذلك عندما وقع على مدونة إصلاح الأحوال الشخصية التي هي في الإسلام ، كما دلت التجربتان التركية والتونسية ، حجر الزاوية ونقطة الانطلاق في عملية الإصلاح الديني الصعبة والمثيرة للحماس) . فالإسلاميون يدركون أن أي إصلاح جدري وحقيقي لمدونة الأحوال الشخصية سيقود حتما إلى إحداث تغيير مماثل في المجتمع . لهذا يناهضون كل مشاريع إصلاح قانون الأحوال الشخصية حتى تظل منافذ تغيير المجتمعات العربية مقفلة في وجه التغيير والتحديث والإصلاح . وقد أثبتت الوقائع في الدول العربية التي أسقت "الثورات" أنظمها أن أول ما يتصدى له الإسلاميون بالتعطيل والإلغاء قانون الأحوال الشخصية في البنود التي تقر للمرأة بحقوقها الزوجية وتحمي كرامتها وإنسانيتها ، كما أن أولى مطالبهم إباحة تعدد الزوجات وزواج ملك اليمين وتجريد المرأة من حقها في الولاية على نفسها وأولادها الخ . غفر الله للعفيف الأخضر وأسكنه فسيح جناته ،وإنا لله وإنا إليه راجعون .