عن مجابهة الظلم بالطغيان


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4163 - 2013 / 7 / 24 - 13:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


في كل عام، كنت أدعى للحديث عن ذكرى ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالملكية والتي يحتفل بها كثير من العراقيين، إن لم أقل معظمهم. انقطعت تلك الدعوات بعد أن أثرت سؤالا ظننته يقارب البداهة: أليس من الأجدى لنا، كعراقيين معارضين لنظام البعث، أن نقيم فعّاليات، ولتكن حزائنية، نتأمل وندرس فيها كيف أن حدثا تمر ذكراه بعد ثلاثة أيام من 14 تموز، وأقصد غيّر مجرى الحياة في العراق وفي المنطقة؟ فسلطة 14 تموز في نهاية المطاف لم تعمّر أكثر من أربع سنوات وسبعة اشهر فيما دام حكم البعث 35 سنة، أي فترة تمثل 42 بالمئة من عمر الدولة العراقية الحديثة.
ثمة هروب من مجابهة تلك الحقيقة من جانب كل القوى السياسية العراقية من دون استثناء. هروب قد يجعل السؤال فضائحيا لو وجّهته إلى إنسان عادي. يكتفي الخطاب السائد بالإحالة إلى القمع الوحشي وشراء الذمم، توصيفان لاشك ينطبقان على نظام البعث وعلى نظم أخرى. ولكن، أكان بوسع نظام سياسي حكم طوال عصر كامل تلك الفترة وأدخل البلاد بما نعرف من حروب وكوارث أن يعمّر مستندا إلى هذين العنصرين فقط؟
هو سؤال يحيل إلى المجتمع نفسه الذي مكّن السلطة من البقاء لا من قدرتها على فرض حكمها على المجتمع فقط. من هنا خطورته. لسنا الوحيدين الذين أغمضوا أعينهم عن تشريح ماضيهم وتفسير انزلاقهم إلى الإذعان لبشاعات ارتكبها حكّامهم، بل وتأييدها في أحيان كثيرة. فلايزال اليابانيون يرفضون الإعتراف بوحشية استعمارهم لكوريا ولأجزاء من الصين، بل هم يمجّدون تقاليدهم المعسكرة للمجتمع. في ختام مؤتمر دعينا له في طوكيو، أراد مضيّفونا الإحتفاء بنا فقدموا عروضا يتبارى الأطفال فيها على المبارزة, ولسنا الوحيدين الذين زيّفنا ظاهرة الإذعان بالإحالة إلى معارضة، بطولية ولاشك، شملت غالبية الشعب الساحقة. لايقتصر التزييف على بلدان أوربا الشرقية فقط، فأعمال تاريخية مهمة صدرت خلال السنوات الأخيرة كشفت عن حجم التواطؤ الشعبي الفرنسي مع الإحتلال النازي لبلدهم بعد أن تشبّعنا بحكايا المقاومة الفرنسية البطولية ضد الإحتلال. وثمة نفاق مارسته مجتمعات بأكملها بإغماض العين عن اندفاعها الحماسي وراء النازية، إذ أن كتب التاريخ المدرسية النمساوية تغفل الحديث عن فترة النازية بالكامل. فهتلر، بعد كل هذا وذاك، كان نمساويا. ويبقى الألمان منفردين في محاسبة الذات، ربما لأن الوحش النازي انطلق من بين صفوفهم.
وفق الرواية المتداولة، جاء صعود البعث عارضا، قطعا لتاريخ كان ماضيا في سيرورته التطورية "العادية"، أو لأستعير من الفيلسوف اللبناني الراحل مهدي عامل وهو يصف نظم البعث والناصرية بكونها "جاءت في غفلة من التاريخ". ولكن ما هي سيرورة التاريخ الطبيعي هذه؟ لعلنا نحن الذين غفلنا عن التاريخ.
في مقال نشرته (بالإنكليزية) أواخر عام 1990، أي بعد احتلال الكويت وقبل حرب تحريرها، وكان عنوانه "إرهاب الدولة وانحطاط السياسة في العراق"، رويت لقائي مع شيخ واحدة من أكبر قبائل العراق. كان الرجل وجزء كبير من قبيلته انتقلوا إلى المعسكر المعادي لنظام صدام حسين. سألته عن رؤيته للبديل عن النظام الذي يعمل على إسقاطه. أجاب ببساطة بأن العراقيين جرّبوا حكم التكارتة، نسبة إلى تكريت، وانتهوا إلى حال الطغيان وكوارث الحروب. "ونرى بأن أخوتنا السوامرة، نسبة إلى مدينة سامرّاء، هم الأصلح للحكم". سألته عن جرائم استخدام النظام للأسلحة الكيمياوية ضد الأكراد. كان جوابه العفوي مرعبا: "وماذا ينتظر من يتمرد على الدولة (لاحظوا أنه يماهي السلطة بالدولة)؟ أن يُضرب بالشوكولاته؟"
لا أحاجج حول دور البعث، أو أي نظام آيديولوجي، في تخريب الثقافة السياسية للشعب: مماهاة الدولة بالسلطة الحاكمة، الإذعان لحكم الحزب الواحد، المنظمات الجماهيرية واحدية التمثيل، الإعلام الدعائي المحتكر من قبل الدولة، إشاعة قيم العسكرة، التحكم بالحياة الإقتصادية، وفوق هذا كله عبادة الحاكم. ولا أحاجج حول نشوء جيلين لايعرفون معنى الإنتخابات التنافسية الحرة والبرلمانات. ولا أحاجج في تربية تلقي بكل مشاكل البلاد، بل والفضائع التي يرتكبها الحاكم، على كاهل العدو الخارجي.
أحاجج حول مصدر ذلك كله.
جاءت ثورة تموز 1958 بعد أن فقد النظام الملكي مشروعيته في أعين غالبية السكان. لست أطلق هنا حكما قيَميا، فثمة معايير ألجأ إليها لقياس الأمر. إذ يهرب عشرات، أو مئات، ألوف الفلاحين من شيوخهم إلى المدن، والأخيرون هم عماد النظام السياسي في الريف، فهذا مؤشر على أن الفلاح لم يعد يرَ في شيخه وسيطا بينه وبين الدولة ولا زعيما عليه أن يدين له بالولاء, وحين ينفض أبناء الحي الحضري عن أعيانهم, وهم في غالبيتهم تجار يمثلون عماد النظام السياسي في المدن، فهذا يعني أنهم ما عادوا يجدون فيهم مثل ذلك الوسيط, وتتجاوز تلك العمليات بعدها الإقتصادي إذ لايجد كل هؤلاء في القوانين ومؤسسات القضاء ما يجيرهم من مظالم. ذلك ما أعنيه بفقدان نظام سياسي لمشروعيته في أعين الجمهرة.
لكن تلك الجمهرة، وقد خبرت تحيز المؤسسات والقوانين، توقد ثورات. والثورات وحدها لاتعد ببناء مؤسسات ما لم يكن ثمة ضغط شعبي على الحكام الجدد. إنها تبحث عن العدل أيا كان مصدره. أحب المصريون عبد الناصر، وأحب العراقيون عبد الكريم قاسم. ترسّخ في الوعي الجمعي أن ثمة عدلا جاء بعد جور. وأعلن القادة العسكريون الجدد أنهم سيعودون إلى ثكناتهم ما إن يُصلحوا الحياة السياسية ويتم إقرار دستور دائم في كل من البلدين. بل أن الثورة المصرية لم تلغ النظام الملكي إلا بعد سنة من انتصارها فيما العراقية أعلنت الجمهورية يوم أبادت العائلة الحاكمة.
لم تخرج تظاهرات جماهيرية تطالب بإقرار دساتير دائمة، ولم تخرج تظاهرات تطالب بالعودة إلى حكم برلماني، ولم تخرج تظاهرات تطالب العسكر بالعودة إلى ثكناتهم كما وعدوا. ولم يكن لدى السلطات الجديدة يومها ما يمكن أن تشتري به الذمم ولا كان قمعها، أقلّه في البدء، مغاليا في الوحشية.
وظل العراقيون حتى اليوم يبحثون عن الحاكم العادل، وإن كان مستبدا وميّالا إلى تجاوز القانون وتهميش المؤسسات. وهو ما يدعو إلى القلق من أن النظام البرلماني هو شرط ضروري، لكنه ليس شرطا كافيا لرسوخ الديمقراطية.
حين كان صدّام حسين نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة الحاكم منذ 1968، أنشأ خطا هاتفيا مباشرا بوسع أي فرد استخدامه طالبا مقابلته أو عارضا لمشكلة له. أذكر الحماس الذي قوبلت به تلك المبادرة/ المناورة حتى من جانب من لم يؤيدوا حكم البعث. فمفهوم الإذعان، في رأيي، لا يعني التأييد بالضرورة، بل هو ينطوي على طيف واسع من الرؤى يمتد من غير الراضين عن وضع قائم لكنهم لا يرون موجبا لتبديله وصولا إلى المتحمسين لما هو قائم.
وإذ تتعالى اليوم أصوات المعارضة لفساد مؤسسة البرلمان وانحياز مؤسسة القضاء لحاكم السلطة التنفيذية في العراق، فقد يكون هذا بداية لمراجعة حادة وجادة للنفس والنظر إلى مآلنا إذ بحثنا عن القائد العادل لا المؤسسات العادلة. والقائد الذي قد يبدو عادلا في البدء، أو قد يتظاهر بذلك، لن يجد ما يوقفه حين يوغل في البشاعة.
تكفي متابعة عدد المتذمّرين من مبالغة الأكراد لهول ما تعرضوا له، وتكفي متابعة عدد من يركّزون على مطالب الكويت الجائرة (وهي جائرة في رأيي) من دون إشارة إلى ما أرتكبته نظام البعث عند احتلاله لها، لنعرف أننا مهّدنا للبشاعة كما كنّا نتاجا لها.