أسطورة الدستور أولا


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4160 - 2013 / 7 / 21 - 00:11
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

أسطورة الدستور أولا
أغلقوا أبواب جحيم الشرعية الدستورية
وعودوا إلى الثورة المغدورة رغم النوايا الحسنة

1: رغم الدروس القاسية منذ 25 يناير إلى الآن، نرى قيادات قوى المعارضة وقيادات قوى الثورة، وهى القيادات التى تتحول الآن بجانبها الأكبر فى مصر إلى سلطة دولة الرأسمالية التابعة، ما تزال تعتقد أن الدستور ينبغى أن يكون أولا لأنه الأساس الذى يقوم عليه بناء مؤسسات الدولة جميعا.
2: وينطوى الإصرار على شعار "الدستور أولا" على مغالطتين كبيرتين: وتنكشف المغالطة الأولى عند الرد قبل كل شيء على سؤال أعمق هو ما يلى: أيهما نختار (فى سياق ثورة يناير التى تتفرع عنها وتنبع منها كل الموجات الثورية والاحتجاجات اللاحقة): طريق النضال الپرلمانى والدستورى والشرعية الدستورية، وفى هذه الحالة ينبغى أن يكون الشعار هو الدستور أولا لأن بناء كل المؤسسات يقوم على أساسه؛ أم طريق النضال الثورى الاحتجاجى الإضرابى والشرعية الشعبية الثورية فى سبيل بناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل؟ وفى هذه الحالة الأخيرة يكون شعار "الدستور أولا" غير وارد بالطبع بل خارج نطاق مقتضيات العقل والمنطق، فالدستور هو حجر الأساس فى حالة اختيار طريق الشرعية الدستورية ولكنْ فى هذه الحالة فقط. والسؤال الحقيقى باختصار هو ما يلى: الثورة أولًا أم الدستور أولًا؟ وليس المقصود أن النظام الرأسمالى المصرى التابع سيعيش فى المستقبل كله بدون دستور أو مؤسسات دولة؛ غير أن تلك المرحلة إنما تأتى فيما بعد، فى زمن الاستقرار الرجعى بعد أن تكون الثورة قد وضعت أوزارها، حتى فى حالة انتصارها بنجاحها فى تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل.
3: وتتمثل المغالطة الكبيرة الثانية فى شعار "الدستور أولا" فى حقيقة أن الثورة بعد أيامها المجيدة وانتصارها المدوِّى المتمثل فى إسقاط مبارك سرعان ما نكصت على أعقابها عندما فرض عليها التحالف العسكرى الإخوانى السلفى طريق الشرعية الدستورية فقبلتْ بها. وكانت الثورة تطالب بإسقاط دستور 1971 وإعداد دستور جديد ولكنْ فى سياق الشرعية الشعبية الثورية وليس فى سياق الشرعية الدستورية التى فرضتها الثورة المضادة الحاكمة. وتم بالفعل تعطيل الدستور وإقرار التعديلات الدستورية التى كانت مطالب شعبية قبل ثورة يناير، وأمر بإجرائها مبارك قُبَيْلَ تنحيته، وسارع المجلس العسكرى إلى الاستفتاء عليها فى 19 مارس 2011، ثم لفق من الدستور المعطل والتعديلات المستفتى عليها الإعلان الدستورى التأسيسى الصادر بدون استفتاء عليه فى نهاية ذلك الشهر؛ فكان دستورا للحكم أثناء ما سُمِّىَ بالفترة الانتقالية وتمَّ على أساسه وعلى أساس الإعلانات الدستورية والقوانين اللاحقة النابعة منه إجراء الانتخابات الپرلمانية والرئاسية وكل الباقى. كان لدينا إذن دستور قام على "الإحياء" الملغز لدستور 1971 فور "تعطيله" الملغز بالتالى وغير الجاد، وكان ذلك الدستور "أولا" بالفعل. والدستور حسب مؤلفيه؛ ولو قام التحالف العسكرى الإخوانى السلفى بوضع دستور جديد فى تلك الفترة بدلا من الإعلان الدستورى التأسيسى لكان أسوأ بما لا يُقاس من الدستور الإخوانى السلفى الأخير المعطل الذى يجرى الآن "إحياؤه" بالاكتفاء بإدخال تعديلات بائسة عليه؛ أىْ أن هذا الدستور الإخوانى السلفى هو الذى سيحكم مصر بعد تلفيقه وطبخه على عجل؛ فلماذا كان الهجوم على هذا الدستور بل لماذا كان إسقاط حكم المرشد ما دام دستوره هو أساس الحكم الجديد؟! تتمثل المغالطة الكبيرة الثانية إذن فى تجاهُل أن الدستور كان أولًا بالفعل وكان هو نفسه دستور 1971 "المعطَّل" فى نظر هذه الأدمغة "المعطَّلة" والمغلقة "بالضبة والمفتاح"، تماما كما أن الحكم الجديد يبدأ بالدستور أولا، فهو بشحمه ولحمه الدستور الإخوانى السلفى "المعطَّل"!
4: ومما سبق يمكن استنتاج أن عقليات المشاركين فى الحكم الجديد تسكنها مغالطة عجيبة فهؤلاء الناس يعتقدون أن بعض التعديلات الدستورية على أىّ دستور استبدادى من شأنها أن تُحوِّل ذلك الدستور المرفوض إلى دستور جديد، وديمقراطى، ومقبول. وهم يتجاهلون حتى القيمة الرمزية للإلغاء الضرورى لدستور يؤسس للحكم الدينى. المهم عندهم هو أن الحكام الجدد هم الذين سيحكمون. أما القيادات الشبابية المخلصة الواعية فمن المؤسف أن رفضهم للدستور الإخوانى السلفى الذى يجرى إحياؤه عن طريق تعديله يرتبط من جديد بشعار "الدستور أولا" بدلا من التحرر من ربقة الشرعية الدستورية للانتقال الحازم إلى طريق النضال الثورى والشرعية الثورية الشعبية. وقد روَّجتْ حركة "تمرُّد"، رغم مجدها، لشعار الانتخابات الرئاسية المبكرة، فأغرقت نفسها من جديد فى طريق الشرعية الدستورية وغاصت فيها ودفنت مبادراتها السابقة واللاحقة فيها.
5: ولكنْ لماذا نعتبر الشرعية الدستورية طريقا إلى الجحيم مفروشا بالنوايا الحسنة؟ وبالطبع فإن النوايا الحسنة متوفرة باستثناءات انتهازية وزعامية ولكنها لا تعصم من الأخطاء والخطايا وحتى الجرائم. وعلى سبيل المثال كان توظيف شعار "يسقط حكم العسكر"، وهو شعار ثورى سليم وإلزامى فى زمن الحكم العسكرى المباشر، لصالح شعار زائف مضلِّل وهو شعار "تسليم السلطة لرئيس مدنى منتخب"، جريمة كبرى ارتكبتها قوى الثورة بإصرار وعناد مع أن هذا كان يعنى المجيء بالحكم الدينى للمرشد، وذلك بعد أن جاء مبارك قبل تنحيته والمجلس العسكرى الحاكم من بداية حكمه بالإخوان المسلمين والسلفيّين بالتحالف الاضطرارى معهم بكل ما ترتب عليه، على أمل أن تظل الأوضاع رغم الرئاسة الإخوانية تحت السيطرة الفعلية للجيش. وهذا وضع غير مضمون فلو استمرت الأخونة على نفس المنوال أشهرَ قليلة أخرى لتمت أخونة الطبقة والدولة والمجتمع والسلطة والجيش والقضاء والإعلام والتعليم وكل شيء لنعيش فى جحيم جمهورية مصر الإسلامية الرجعية فى أزمنة ما قبل العصور الوسطى. وهناك واقع أن الحصاد الفعلى لمشاركة قوى الثورة فى تنفيذ إستراتيچية الثورة المضادة المتمثلة فى متلازمة الشرعية الدستورية التى تشمل الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية كأدوات فعالة للتصفية التدريجية الطويلة للثورة بإبعاد الجماهير الشعبية الثورية عن طريق الشرعية الثورية والفعل الثورى الإضرابى فى سبيل بناء مؤسسات الديمقراطية الشعبية من أسفل وترسيخ مكاسبها ومنجزاتها.
6: وقد تمثلتْ النتائج المنطقية المُرّة للشرعية الدستورية فى وصولنا فى نهاية المطاف إلى حافة حرب أهلية مدمرة بين الإسلام السياسى وباقى المصريِّين فى الدولة والمجتمع. وقد أعدَّ الإخوان المسلمون لهذه الحرب الأهلية بالتحالف الإجرامى مع إيران وحماس وباستخدام الجماعات الإخوانية السلفية فى سيناء كرأس حربة فى حرب تشمل مصر كلها. وقد أعدت الجماعة ما استطاعت من قوة من رجال وسلاح لصدام محتمل كانت دلائله تزداد ظهورا يوما بعد يوم. وفى لحظة الحسم وجدنا الجماعة تمتشق السلاح وتُحارب بالمظاهرات والاعتصامات والمليونيات كمظلة "شعبية" لكفاحها المسلح ضد الشعب وضد الجيش.
7: ومع هذا يذرف المثقفون الدموع برقَّةٍ ملائكية منافقة بجانبها الأكبر على "شهداء" مُشعلى الحرب الإخوانية، ويطالبون بالمصالحة: بالمصالحة وسط معمعان الحرب بقتلاها الذين يسقطون كل يوم مستخدمين القتال كأداة فى سبيل عودة المهدى المنتظر محمد مرسى ليكرر التاريخ نفسه كما حدث مع إيجو تشابيث بعد انقلاب ضده فى مطلع القرن الجديد أو فى سبيل التفاوض لفرض شروط المستقبل السياسى والاقتصادى و "الدعوىّ" بصورة رسمية وبلا قيود للجماعات الإرهابية جميعا وعدم ملاحقة قياداتها الإجرامية. ونحن لا نجهل التناقض الطبقى العميق العدائى رغم السمع والطاعة بين قيادات الإخوان والسلفيِّين وقواعدهم ولا يمكن أن نتحدث عن معاملة واحدة نحوهم جميعا فالعقوبة القضائية لكلٍّ حسب جريمته وينبغى إعادة تربية هذه القواعد ومنهم كثير من شباب الإخوان الذين هم القوة الضاربة التى تستخدمها القيادات فى الميدان والشارع والمدينة والقرية وفى كل مكان وبالأخص فى ساحات القتال فى سيناء وغيرها.
20 يوليو 2013