ما بعد مرسى بين إسقاط الحكم الإخوانى السلفى وإسقاط النظام


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4146 - 2013 / 7 / 7 - 20:34
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان     

1: انقلاب عسكرى؟
لا شك فى أن التطورات التى جرت بمناسبة مرور عام كامل على تولِّى الرئيس المعزول محمد مرسى رئاسة الجمهورية كانت انتصارا تاريخيا لثورة شعبية ضد الحكم الإسلاموى الإخوانى السلفى. وكانت الحركة الجماهيرية الهائلة التى قادتها حركة تمرُّد التى جمعت أكثر، وربما أكثر كثيرا من 22 مليونا من التوقيعات الموثقة والموثوقة التى نجحت فى إبراز الحجم الهائل للرفض الشعبى، كما نجحت فى أن تكون حافزا جبارا للحركة الشعبية، ولا شك فى أن الحماقات التى لا تنتهى من جانب مرسى والإخوان والسلفيِّين ظلت تصبّ الزيت على النار وظلت تشعل غضب الشعب وكذلك حماسه وانعقاد عزمه على التخلص من الحكم الإسلاموى؛ مهما كان الثمن.
ولم تقتصر هذه المواجهة الكبرى التى انتهت بتحرُّر مصر من الحكم الإخوانى مع فتح الباب مباشرة أمام تحرُّر الشعوب العربية وكثير من شعوب العالم، من الإسلام السياسى بوجه عام ومن الإخوان المسلمين بوجه خاص، على مواجهة خالصة صافية بين الشعب والحكم الإخوانى؛ فقد تعددت وتداخلت وتعقدت أطراف المواجهة. فإلى جانب الصراع الكبير منذ ثورة يناير بين الشعب والثورة المضادة أىْ الطبقة الرأسمالية الكبيرة التابعة للاستعمار بكل قطاعاتها وأجنحتها وتوجهاتها ومصالحها المباركية والإسلاموية ظلت هناك حقيقة أن الطبقة الرأسمالية التابعة هذه ليست نسيجا واحدا بل هناك انقسام بين القطاعات الإسلاموية والقطاعات غير الإسلاموية. ورغم التحالف الاضطرارى الذى بدأ به مبارك وورثه عنه المجلس العسكرى بقيادة المشير طنطاوى مع الإخوان المسلمين على رأس الإسلام السياسى، لم يكن من شأن تحالف اضطرارى مؤقت بحكم وظيفته المتمثلة فى التحالف لتصفية الثورة أن يكون زواجا كاثوليكيا أو تحالفا إستراتيچيا بين العسكر والإخوان؛ ومن هنا تعددت الخلافات والمشكلات والصراعات والإعداد من كل جانب لمواجهة لا مناص منها بين دولة مبارك التى يبرز الجيش كممثل سياسى لها والإخوان المسلمين كقيادة للإسلام السياسى. وعلى الفُصحاء والمتفاصحين الذين لم يدركوا بعدُ الدور الذى تلعبه التناقضات والصراعات داخل الطبقة الرأسمالية الكبيرة الحاكمة فى تاريخ العصر الحديث كله أن يقرأوا قليلا ليعرفوا أن التناقضات داخل قطاعات من الطبقة الحاكمة يمكن أن تقود حتى إلى حرب داخل هذه الطبقة فى سياق حرب أهلية فى الدولة والمجتمع.
وكانت التطورات الأخيرة ثورة شعبية ضد الإخوان والسلفيِّين بقيادة حركة تمرُّد فى سياق ثورة يناير ضد نظام مبارك وضد حكم الإخوان أىْ ضد الطبقة الرأسمالية التابعة بقطاعيها الأيديولوچييْن الكبيرين الإسلاموى وغير الإسلاموى، ولكنها كانت أيضا صراعا حاسما بين هذين القطاعيْن الرأسمالييْن. ولا شك بالطبع فى أن الثورة الشعبية بعشرات الملايين من ثوارها أعطت فرصة ذهبية لقيادة الجيش لحسم الصراع بينها وبين الإخوان، ولا شك أيضا فى أن مكتب الإرشاد لم يفهم طبيعة المعادلة وظن أن الترويع والإرهاب والتهديد بمذابح جديدة ستكون كافية لقمع الشعب وإخضاع ثورته أو تمرُّده؛ فتمادَى فى ارتكاب الحماقات والأخطاء والخطايا التى سهلت الإطاحة به.
كما ظل الحكم الإخوانى يقيم رهانه على شرعيته المزعومة أمام الغرب أو الشمال الذى لا يتسامح بسهولة مع الانقلابات العسكرية والحكم العسكرى؛ بالطبع من باب النفاق تأكيدا لمزاعمه المتصلة بنشر الديمقراطية فى العالم. وبالفعل كان من المستحيل تقريبا على قيادة الجيش أن تقوم بتدخل عسكرى لحسم الصراع مع الإخوان لو لم تكن هناك موجة جديدة كبرى لثورة يناير يمكن توظيفها كغطاء شعبى ضد اتهامات الانقلاب العسكرى، وهى اتهامات بدأت بالفعل بالمواقف الدولية التى يمكن أن تترتب عليها إزاء مصر، على حين أننا لسنا إزاء انقلاب عسكرى، كما سنبيِّن بعد قليل، بل بالأحرى إزاء انتصار القطاع غير الإسلاموى على القطاع الإسلاموى من الرأسمالية المصرية التابعة.
أمامنا إذن انتصاران وهزيمة واحدة؛ انتصار الثورة الشعبية على الحكم الإخوانى، وانتصار الجيش ممثلا للقطاعات الحاسمة من الرأسمالية المصرية التابعة على الحكم الإخوانى أيضا، والطرف المهزوم الذى تلقَّى ضربة تاريخية قاصمة فى الحاليْن هو هذا الحكم الإخوانى السلفى؛ ولا يستبعد هذا مواجهة حاسمة لا مناص منها مع مقاومة مسلحة بدأت بالفعل للتطورات الجديدة من جانب الإخوان والسلفيِّين؛ مهما كانت احتمالات تطور العمل الإرهابى فى مصر فى المستقبل.
وهنا تبدأ إشكالية الطرفين المنتصريْن: الثورة الشعبية لم تنجح بعد فى إسقاط نظام مبارك أو خلفائه، ونظام مبارك أو خلفائه لم ينجح بعد فى تصفية الثورة! ولهذا فإن الصراع بين الثورة والثورة المضادة مستمر بين الطرفين المنتصريْن!
وفى الوقت الحالى تبحث الولايات المتحدة الأمريكية المنقسمة بين الحزب الديمقراطى الحاكم والحزب الجمهورى المعارض إعادة النظر فى المعونة العسكرية لمصر، إذا استقر تقييمها النهائى للتطورات المصرية على أنها انقلاب عسكرى، مع أن هذه الولايات المتحدة ذاتها لم تعتبر تدخل الجيش أثناء ثورة يناير انقلابا عسكريا؛ والفرق هو أن الولايات المتحدة كانت قد قالت كلمتها فى المرة الأولى فيما يتعلق بالرئيس الأسبق مبارك مُطالبةً برحيله قبل أن يتحرك الجيش، ولم تكن قد قالت كلمتها هذه المرة قبل تدخل الجيش رغم أن موقفها كان قد بدأ يتحرك. فهل يكون تدخل الجيش انقلابا عسكريا إذا حدث بدون موافقة أمريكا ولا يكون انقلابا عسكريا إذا حدث بموافقة أمريكا؟!
وفى المرة الأولى كان هناك انقلاب عسكرى وكان انقلابَ قصرٍ بامتياز ضد حكم مبارك لإنقاذ نظام وسلطة ودولة الطبقة الرأسمالية التابعة، وفى هذه المرة يحتدم صراع كبير بين قطاعين كبيرين من هذه الطبقة الرأسمالية: قطاع قومى مصرى يضم القوات المسلحة وقطاع دينى رجعى لا يضم القوات المسلحة معتمدا على الشرعية المزعومة للرئيس المعزول وعلى الميليشيات والعمل المسلح والجماعات الإرهابية والحشود الجماهيرية؛ فانتصر القطاع القومى المصرى الذى يضم القوات المسلحة وكل هذا وسط موجة ثورية شعبية كبرى ضمت عشرات الملايين فى مختلف ميادين وشوارع مصر. وهذا ليس انقلابا عسكريا بل هو انتصار فى سياق الصراع بين ثورة مضادة قومية على ثورة مضادة إسلاموية (وينبغى التنويه بأن صفة القومية هنا لا تشير إلى الأيديولوچيا أو الحركة القومية العربية بل تعنى على وجه الحصر القومية المصرية ذات الأيديولوچيا البرچوازية الپراجماتية).
وفى المرتين اللتين تدخل فيهما الجيش فى السياسة بعد تفجُّر ثورة يناير كانت هناك عناصر مشتركة بالغة الأهمية بين التدخليْن. كان هناك العنصر الرئيسى بلا مُنازع وهو المتمثل فى إنقاذ الطبقة الرأسمالية التابعة ونظامها وسلطتها ودولتها، وإلى جانبه وفى سبيله تأتى عناصر أخرى يتم تقديم عنصر منها على أنه الهدف الوحيد لتدخل الجيش وهو عنصر حماية الشعب والثورة. والحقيقة أن العناصر متعددة ومتداخلة ومتشابكة. وفى المرتين اللتين تدخل فيهما الجيش كان هناك العنصر الرئيسى المتمثل فى تفادى الحرب الأهلية فما هو هدف تفادى الحرب الأهلية؟ إنه إنقاذ الطبقة ونظامها ودولتها نظرا لأن حربا أهلية تأتى فى سياق ثورة شعبية تنتهى بالضرورة، كما يقول المنطق وكما يقول تاريخ الحروب الأهلية فى العصر الحديث، إلى هزيمة وتمزيق وانهيار الطبقة الرأسمالية وجيشها وشرطتها ومختلف مؤسساتها حيث تحل محلَّها طبقة مالكة جديدة بأفرادها ومجموعاتها ومؤسساتها.
غير أن تفادى الحرب الأهلية لإنقاذ النظام لا يعنى هذا فقط، بل يعنى أيضا حماية الشعب من الناحية العملية من ويلات الحرب الأهلية. وصحيح أن هذه الحماية تأتى فى سياق عمليات التصفية التدريجية للثورة الشعبية، غير أن مواجهة التصفية التدريجية أفضل فرصة، من وجهة نظر الثورة، من مواجهة ويلات الحرب الأهلية. وهكذا فإن تدخُّل الجيش يؤدى إلى تفادى الحرب الأهلية، وإلى حماية الشعب من ويلاتها، وإلى تكريس طريق التصفية التدريجية للثورة. وينبغى أن ندرك بوضوح أن هذه الحماية للشعب لتفادى انفجاراته وظيفة أساسية من وظائف الدولة الطبقية ومؤسساتها ومنها المؤسسة العسكرية، تتمثل فى تخفيف حدة الصراع بين طبقات المجتمع والحيلولة دون احتدامه وتطوره إلى مستويات الانفجارات والحرب الأهلية.
وفى المرة الأولى تدخل الجيش ليحكم حكما عسكريا مباشرا بقيادة المشير طنطاوى كفترة انتقالية وليس بالضرورة كحكم عسكرى ممتد لفترة طويلة وهو حكم رفضه الشعب، ومن ناحية أخرى أدى تحالفه الاضطرارى مع الإخوان المسلمين بحثا عن غطاء سياسى شعبى إلى التسليم الاضطرارى للحكم لجماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا قد نجحوا فى أخونة السلطة التشريعية عن طريق انتخاب مجلس شعب إخوانى ومجلس شورى إخوانى قبل أخونة الرئاسة والحكومة والدستور والبدء فى الأخونة الشاملة للدولة بما فى ذلك المناصب الحاسمة فى الدولة والهجوم الشامل على الثقافة. وهكذا سلمت قيادة الجيش سلطة الدولة للإخوان، بعد أن أجبرت الناخبين على الاختيار بين كابوسين: مرسى و شفيق.
وبالطبع فإن الخيال المريض الذى تصور أن من الملائم أن يكون شفيق رئيسا جديدا لمصر هو الذى حسم مسألة انتخاب مرسى. ومن أكاذيب الإخوان والسلفيِّين وجبهة الإنقاذ بكل أحزابها والليبراليِّين واليسار والجيش القولُ بأن مرسى هو أول رئيس مدنى منتخب فى تاريخ مصر، بل كانت تلك الانتخابات الرئاسية أكبر تزييف لإرادة الشعب المصرى بأسلوب مبتكر للغاية يفوز فيه مَنْ لا يريده الشعب لأن الشعب لا يريد المرشح الآخر أيضا.
أما الآن فقد تدخل الجيش لكل هذه الأسباب المتشابكة ليس ليحكم حكما عسكريا مباشرا بل لتولية حكم "مدنى" بدلا من الحكم الإسلامى. وبالطبع فإن مفهوم الانقلاب العسكرى وارد فى كل من حالتىْ الإطاحة بحكم: حالة الحكم العسكرى المباشر، أو حالة تولية حكم "مدنى". وهنا تبرز مسألة شائكة حقا. فالسلطة التنفيذية، وفى قلبها الجيش، هى السلطة الحقيقية الوحيدة أو الرئيسية فى كل سلطة طبقية فى كل مكان فى العالم، ولا يمكن التحرر من السلطة الطبقية والسلطة الفعلية لجيشها فى إطار النظام الرأسمالى فهو بامتياز قضية ثورة شيوعية على طريق اضمحلال الدولة بكل سلطاتها ومنها الجيش. وعلى الثورة الشعبية أن تقاوم أىَّ حكم عسكرى مباشر، وكلَّ تغوُّل للسلطة التنفيذية، وفى قلبها الجيش بطبيعة الحال، على المجتمع ومؤسسات حرياته، أو على السلطة القضائية، أو على السلطة التشريعية إنْ جاز تسميتها سلطة أو تشريعية، فهى لا تعدو فى الحقيقة أن تكون مكتبا تشريعيا ملحقا بأجهزة الدولة التى تقوم بإعداد مشاريع القوانين، وتفرضها على تلك السلطة المزعومة، وتفرضها بالتالى من خلال هذه السلطة على السلطة القضائية!
وبالإضافة إلى صندوق انتخابات تزييف إرادة الشعب الذى أوصل محمد مرسى إلى منصب الرئاسة، كان الإخوان المسلمون قد قاموا فى سبيل ذلك بتوظيف وسائل الإرهاب والترويع والتلويح بالعنف والحرب الأهلية فى حالة عدم فوز مرسى بالانتخابات. وإذا كانت هذه التهديدات قد خلعت قلب قيادة عجوز للجيش عند انتخاب الرئيس المعزول فأحنت رأسها للعاصفة مع تشجيعٍ لم نفهم أبعاده بعدُ من جانب البيت الأبيض على تولية مرشح الإخوان المسلمين، فقد لجأت جماعة الإخوان المسلمين إلى نفس تهديدات العنف والحرب الأهلية فى سبيل استمرار رئيسهم فى الحكم، غير أن الوضع كان مختلفا هذه المرة بحكم اختلاف قيادة الجيش، وبحكم الرفض الشعبى الذى يقف على تجربة عام كامل من رئاسة مرسى، وكانت تجربة مفزعة حقا، وبحكم مستوى أعلى من وعى الجماهير الشعبية وإصرارها على التخلص من جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية الإرهابية الأخرى.
ومنذ الإطاحة بالرئيس المعزول، تشن جماعات الإسلام السياسى الإرهابية بقيادة الجماعة الإرهابية الأم، أىْ جماعة الإخوان المسلمين، هجوما مسلحا واسع النطاق فى القاهرة ومختلف المحافظات وفى سيناء فى مقاومة يائسة للتطورات الجديدة أسقطت يوم الجمعة 5 يوليو، عشرات القتلى وأكثر بكثير من ألف قتيل، وتنذر بالمزيد، وتتعدد السيناريوهات التى يتوقعها كثيرون تتراوح بين عودة إرهاب الثمانينات والتسعينات، والنموذج الجزائرى، والحرب الأهلية، والاحتمالات مفتوحة غير أن المواجهة فى الفترة القصيرة القادمة يمكن أن تكسر المقاومة الإخوانية السلفية فتستبعد بذلك السيناريو الأسوأ: سيناريو الحرب الأهلية، وعلى كل حال فإن عدم التكافؤ فى علاقات القوة بين الدولة والشعب فى إطار سيرهما منفردين وضربهما منفردين، من ناحية، والإسلام السياسى من ناحية أخرى، يؤدى إلى أن أىّ "حرب" بين الفرقاء ستكون حربا خاطفة حاسمة. ولا مناص من مواجهة حاسمة مع هذه المقاومة المسلحة الرجعية اليائسة لإغلاق الطريق أمام تطور الاشتباكات إلى سيناريوهات عديدة كلها كريهة فلا خيار فى الشر.
2: تفسير بيان السيسى والقوى السياسية لتدخل الجيش:
ويشتمل بيان عزل مرسى وتعيين الرئيس الجديد المؤقت على تفسيرٍ للتدخل الاضطرارى من جانب الجيش تتضمنه مقدمة وديباجة. ويتضمن التفسير قبل كل شيء أن القوات المسلحة سوف تظل بعيدة عن العمل السياسى، مضيفا أن جماهير الشعب استدعت الدور "الوطنى" للقوات المسلحة وليس دورها "السياسى"، وأنها كانت أول مَنْ أعلن الابتعاد عن الدور السياسى والسياسة والحكم، وأنها استشعرت "أن الشعب الذى يدعوها لنصرته لا يدعوها لسلطة أو حكم وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب ثورته"، كما جاء فى المقدمة التى سبقت الديباجة. وتستعرض الديباجة "جهودًا مضنية بصورة مباشرة وغير مباشرة لاحتواء الموقف الداخلي وإجراء مصالحة وطنية بين كافة القوى السياسية بما فيها مؤسسة الرئاسة منذ شهر نوفمبر 2012" بذلتها القوات المسلحة "بدأت بالدعوة لحوار وطنى استجابت له كل القوى السياسية الوطنية وقوبل بالرفض من مؤسسة الرئاسة" .. "ثم تتابعت وتوالت الدعوات والمبادرات" المرفوضة؛ وصولا إلى "أن خطاب السيد الرئيس ليلة أمس وقبل انتهاء مهلة الـ 48 ساعة جاء بما لا يلبى ويتوافق مع مطالب جموع الشعب" فكان لا مناص من فرض "خارطة مستقبل" توافقت عليها القوى السياسية التى حضرت الاجتماع الذى جرى فيه إلقاء البيان الحاسم الذى توافقت عليه القوات المسلحة وتلك القوى السياسية.
وينطوى البيان فى مقدمته وديباجته التفسيريتين على حقائق معروفة للجميع غير أنها تنطوى على تجاهل الهدف أو الهدف الرئيسى للتدخل والذى سبقت الإشارة إليه والذى يتمثل بلا بلا جدال فى إنقاذ الطبقة الرأسمالية التابعة ونظامها وسلطتها ودولتها، وإلى جانب ذلك وفى سبيله تأتى عناصر أخرى يتم تقديم عنصر منها على أنه الهدف الوحيد لتدخل الجيش؛ وهو عنصر حماية الشعب والثورة، كما سبق القول. وعلى كل حال فإن تدخل الجيش لإنقاذ النظام والسلطة والطبقة لا يعنى هذا فقط، بل يعنى أيضا تفادى الحرب الأهلية، وإلى حماية الشعب من ويلاتها، وإلى تكريس طريق التصفية التدريجية للثورة. وصحيح أن هذه الحماية للشعب تأتى فى سياق عمليات التصفية التدريجية للثورة الشعبية، غير أن مواجهة التصفية التدريجية أفضل فرصة، من وجهة نظر تطوُّر الثورة، من مواجهة ويلات الحرب الأهلية.
وعلى هذا فإن تفسير بيان السيسى للتدخل ينطوى على حقائق ومغالطات إذْ ليس من المنطقى أن نتوقع منه أن يكشف كل سرِّ أهدافه المنطقية كجزء لا يتجزأ من الطبقة الرأسمالية المصرية التابعة.
3: تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت:
ونقف عند عدد من عناصر خارطة المستقبل. ونبدأ بتعطيل الدستور لنلاحظ أن روح التوافق والتوافقية والمصالحة والتعايش السلمى أدى بالبيان إلى تقديس الدستور الإخوانى السلفى بدلا من إلغائه. ونقرأ فى بند آخر ما يلى "تشكيل لجنة تضم كافة الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذى تم تعطيله مؤقتا". أىْ أن الدستور الإخوانى السلفى هو الأساس الذى سيتم إجراء "مراجعة" له فى حدود "التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور"، أىْ تلك التعديلات البائسة التى ارتضتها معارضة جبهة الإنقاذ والقوى السياسية الأخرى. ولا ندرى هل تم هذا لاسترضاء حزب النور وشيخ الأزهر وبابا الكنيسة أم اقتناعا بالدستور الإخوانى السلفى بعد الإطاحة بسلطة الإخوان!
4: رئيس مؤقت للجمهورية:
وينص البيان فى بنده الأول وبنود أخرى على تولية رئيس المحكمة الدستورية العليا، الذى يؤدى اليمين أمام الجمعية العامة لهذه المحكمة، رئاسة الجمهورية وإدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد، حيث يدعو البيان إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. و"لرئيس المحكمة الدستورية العليا" (؟!) سلطة إصدار إعلانات دستورية خلال المرحلة الانتقالية. والفكرة الأساسية هنا هى الإصرار على "الانتخابات الرئاسية المبكرة" التى روجت لها حركة تمرُّد رغم مجدها الذى لا ينكره إلا جاحد، بل لا ينكره حتى جاحد.
ومن ناحية نجد إصرارا على أن شكل الحكم فى مصر سيكون نظاما رئاسيا فى تسليمٍ مرفوضٍ بجوهر الدساتير المصرية المتعاقبة وصولا إلى الدستور الإخوانى السلفى، كما نجد رفضا ضمنيا ولكنْ حاسما لفكرة التوافق على تكوين مجلس قابل للعزل لإدارة البلاد، ونجد إصرارا على إستراتيچية التصفية التدريجية للثورة الشعبية حيث تتمثل أداة أساسية من أدواتها فى الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، كما نجد إصرارا على الاندفاع بكل سرعة فى طريق تطبيق هذه الإستراتيچية. وهكذا توشك إستراتيچية الاستفتاءات والدساتير والانتخابات الپرلمانية والرئاسية التى جرى تطبيقها بعد ثورة يناير وهى إستراتيچية الثورة المضادة على أن تتكرر، والدليل أنها تمخضت عن مجلس الشعب الإخوانى، ومجلس الشورى الإخوانى، والدستور الإخوانى، ورئيس الجمهورية الإخوانى، وأخونة الدولة. ولهذا يمكن القول بكل وضوح إن كل من شارك أو روَّج للمشاركة فى تلك الاستفتاءات والانتخابات، فردا كان أم حزبا، إنما كان يشارك أو يروِّج للمشاركة فى إستراتيچية الثورة المضادة.
ومن الضرورى والمبدئى أن نقول هذا اليوم بكل وضوح لأن هذه العملية برمتها توشك على التكرار. على أن الثورة التى لم تحقق غاياتها مستمرة. وما دامت الثورة مستمرة رغم التطورات الجديدة التى يمكن أن توحى لكل ساذج أو انتهازى بوصول الثورة إلى سلطة الدولة فإن الاستفتاءات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية ستكون أداة السلطة الجديدة، مهما اختلفت عن الحكم العسكرى المباشر أو الحكم الإخوانى، فى تصفية الثورة بإبعادها عن الفعل الثورى الإضرابى، خاصة وأن السلطة الجديدة لا تملك حلولا سحرية لتحديات سياسية واقتصادية وأمنية كبرى.
ولا شك فى أن مناشدة البيان المحكمة الدستورية العليا "سرعة إقرار" .. "مشروع قانون انتخابات مجلس النواب والبدء فى إجراءات الإعداد للانتخابات الپرلمانية"، تدلّ على رغبة سياسية أساسية انعقدت على اندفاع السلطة الجديدة فى طريق تكرار خدعة الشرعية الدستورية بدلا من الشرعية الثورية، وخدعة الطريق الپرلمانى بدلا من الطريق الثورى. ومعنى هذا هو تشديد السلطة الجديدة على سرعة "طبخ" الدستور، وقانون مجلس "النواب"، وانتخاب مجلس النواب ورئيس الجمهورية. وفى ضوء الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس الجديد والذى يتضمن حلّ مجلس الشورى فإنه يمكن القول إن هذا البيان التوافقى فى لحظة حرجة ترك أمر الكثير من القرارات للرئيس الجديد، على أساس الصلاحيات التى تم إسنادها إليه.
5: للرئيس الانتقالى سلطة إصدار إعلانات دستورية خلال المرحلة الانتقالية:
وتعنى سلطة إصدار إعلانات دستورية من الناحية العملية أن الرئيس الانتقالى سوف يتمتع بسلطات رئيس الجمهورية فى الدساتير المصرية المتعاقبة بمجملها بالإضافة إلى سلطة التشريع. وقد بدأ الرئيس الجديد بالفعل ممارسة سلطاته بادئا بحلّ مجلس الشورى الباطل أصلا على كل حال؛ إلا من وجهة نظر الدستور الإخوانى المعطل. ومهما كانت ثقة الدولة أو الشعب فى عدم استعداد الرئيس الجديد للانفراد باتخاذ القرارات فقد كان الأوفق اشتراط قابلية العزل. ويوجد خطأ غريب فى نص البيان جعل "رئيس المحكمة الدستورية العليا"، وليس رئيس الجمهورية، هو الذى يتمتع بسلطة "إصدار إعلانات دستورية"؛ وفى أعقاب تعيين المستشار عدلى منصور الرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا رئيسا للجمهورية حلَّ محله فى رئاسة هذه المحكمة مستشار جديد، وليس من المعقول إسناد سلطة التنفيذ والتشريع لغير رئيس الجمهورية!

6: تشكيل حكومة بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية:
ومن الجلى أن القرارت الأولى بالمسئولين الجدد تدفع إلى الفريق الرئاسى، وربما إلى الحكومة أيضا، بدماء جديدة وكفاءات متنوعة لا غنًى عنها فى مرحلة دقيقة للغاية ولا مجال فيها للفشل بل تحتاج إلى نجاحات وإنجازات سريعة. ولا شك فى أن إعادة النظر فى مناصب الأخونة ستكون متروكة لقرارات رئاسية قادمة ربما اقتصرت على شكل الإعلانات الدستورية وربما أجاز إعلان دستورى ممكن أشكالا أخرى للقرارات الرئاسية.
7: تمكين ودمج الشباب فى مؤسسات الدولة:
ويرتبط بتشكيل الحكومة وعشرات وربما مئات المناصب التى تأخونتْ بند فى البيان ينص على "اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب فى مؤسسات الدولة ليكون شريكًا فى القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة".
وكنتُ قد طرحتُ هذا الاحتمال فى مقال لى بتاريخ 29 يونيو 2013 بعنوان "خطاب مرسى إعلان للحرب الأهلية"، وبدلا من صوغه من جديد، أستشهد منه بما يلى: "ما البديل؟ ماذا بعد 30 يونيو؟ إلى مَنْ ستذهب سلطة الدولة؟ وكيف سيكون سلوكها الاجتماعى-الاقتصادى والسياسى؟ وإذا كان لدولة مبارك سهم راجح فى الإطاحة بالحكم الإخوانى السلفى، بالطبع بالاستناد إلى ثورة الشعب، فما هو التشكُّل المتوقع للحكم العتيد من حيث علاقات القوة بين القوى المشاركة فيه؟ إنها أسئلة لا يتسع المجال فى هذا المقال الصغير لتناولها بالردود، بالإضافة إلى أن الردود ليست سهلة. على أن الأرجح فى الأجل القصير هو تفادى الحكم العسكرى المباشر، وهو المرفوض بصورة حاسمة من جانب الثورة الشعبية، ما لم تكن هناك طموحات نحو الزعامة والرئاسة لدى شخصية عسكرية ما، ولا شك فى أن الشعب سوف يقاومها. وعلى كل حال فإنه لا مناص من غطاء مدنى للسيطرة الفعلية لقيادة الجيش التى تمثل سياسيًّا تلك القطاعات الحاسمة غير الإسلاموية من الطبقة المالكة كما تُمثل جزءًا لا يتجزأ منها. ورغم أن قانون الثورة السياسية يتلخص فى أن الجماهير الثورية، وهى دائما وقود الثورة السلمية أو المسلحة، لا تحكم بل إن الطبقة المالكة ذات السيطرة الاقتصادية والسياسية والأيديولوچية هى التى تحكم، فإنه يمكن القول إن الانتصار النهائى فى الأيام أو الأسابيع المقبلة، فيما نأمل، ستعقبه فترة من مزاعم عريضة بأن الثورة قد وصلت إلى السلطة. فرغم السيطرة الفعلية للدولة المباركية سيصل كثيرون من قيادات المعارضة وقيادات شباب الثورة إلى مناصب رفيعة هى مفاتيح حقيقية للسلطة. فكيف يمكن تحليل هذا التناقض بين استمرار دولة مبارك والقيادة السياسية والإدارية الآتية من قيادات الثورة والمعارضة؟ سنرى بسرعة بالغة بعد إسقاط حكم الإخوان والسلفيِّين التحوُّل التدريجى للعديد من قيادات الثورة والمعارضة إلى جزءٍ لا يتجزأ من الحكم الجديد وإلى ممثلين سياسيِّين للطبقة الرأسمالية التابعة. وضد كل هؤلاء سوف تتواصل الثورة الشعبية فى سبيل تحقيق أهداف ثورة يناير 2011 التى يمكن أن نسمِّيها بكلمات أخرى: الديمقراطية الشعبية من أسفل".
ومن غير المنطقى ألَّا يكون الأمر كذلك سواء من حيث الحاجة الماسة للنظام إلى دور هذه القيادات الجديدة أو من حيث التحوُّل المنطقى لمثل هذه القيادات من خلال القيام بمثل هذا الدور فى اتجاه دمجها "فى مؤسسات الدولة"!
8: وضع ميثاق شرف إعلامى:
وينصّ بندٌ آخر على مايلى: "وضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن". ومن الجلىّ أن مثل هذا الحديث المبكر عن "وضع ميثاق شرف إعلامى"، وهو هدف ركز عليه الإسلام السياسى وأبواقه الإعلامية والرئاسة من قبل فى سبيل كبح جماح ولَجْم الإعلام المصرى الخاص الذى ساهم باقتدار، فى استقلال نسبى عن "الدولة العميقة" حينا أو فى تبعية مباشرة لها أحيانا، والحقّ يُقال، فى إلحاق الهزيمة بالإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين.
9: لجنة عليا للمصالحة الوطنية:
وينص البند الأخير فى البيان على "تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات". ويجرى التشديد على أنه لا مجال لإقصاء أو استبعاد قوى الإسلام السياسى بما فى ذلك الجماعة الإرهابية الأم، وعلى أنه لا مجال لحظر أو حل أحزاب وحركات وجماعات الإسلام السياسى، وعلى أن قوى الإسلام السياسى مدعوَّة إلى ممارسة السياسة بما فى ذلك المشاركة فى مختلف الاستفتاءات والانتخابات. وكانت لمشاركة رئيس حزب النور السلفى فى الاجتماع السياسى التأسيسى دلالتها الواضحة.
وربما كان المقصود من وراء مثل هذه التأكيدات طمأنة بعض القوى السلفية بالذات وحزب النور بوجه خاص وكذلك قواعد وشباب الإخوان المسلمين لإحداث انقسام أو انشقاق أو شرخ فى صفوف قوى الإسلام السياسى كتاكتيك ضرورى للحيلولة دون اتساع نطاق المواجهة المسلحة الحالية. أما السير فى طريق المصالحة والتوافقية مع الإسلام السياسى بما يتجاوز مجرد تاكتيك لحظى فمن شأنه تدمير كل ما تم إنجازه فى مجال قطع الطريق على الدولة الدينية بما يؤدى بنا إلى الغرق فى مستنقع الحكم الإخوانى مرة، والحكم السلفى مرة أخرى، والحكم الإخوانى السلفى مرة ثالثة، والحكم الدينى الإسلامى الطائفى الرجعى فى كل الأحوال. وهذا خطر تؤكده وتنذر به فلسفة المصالحة والتوافقية والاندماج التى صارت عقيدة تتغنى بها معارضة القوى السياسية ومعظم قيادات حركات شباب الثورة التى تتجه الآن إلى الإمساك بمسئوليات سلطة الدولة.
ويتمثل ما ينسجم مع تفادى الحكم الدينى الإسلامى فى مصر والعالم العربى ومناطق أخرى من العالم، لكى لا يعود بنا هذا الحكم إلى ما قبل العصور الوسطى، بعيدًا تماما عن هذه المواقف الانتهازية المتخاذلة إزاء الإسلام السياسى. ويشتمل الموقف الصحيح على عناصر أساسية مترابطة منها حلّ وحظر كل الجماعات الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسمين وحلّ وحظر كل الأحزاب الإسلامية وعلى رأسها حزب الحرية والعدالة الإخوانى وحزب النور السلفى، والعزل السياسى لكل كوادر وقيادات الإسلام السياسى.
وبعيدًا عن الحل الأمنى الذى اعتمدته عهود الرئاسات السابقة، بعد أن قام عبد الناصر بتدشينه وتكريسه فى سياق تدمير الحريات النسبية التى كانت قد نشأت بفضل ثورة 1919، بعد حلّ وحظر الأحزاب السياسة، باستثناء الإخوان المسلمين قبل الصدام فى 1954، وإخضاع النقابات لأجهزة الدولة، وإقامة دولة الحزب الواحد بأسمائه التنكرية المتعاقبة، ودولة الرأى الواحد القائم على إقصاء الجميع. وفى غياب إطلاق الحريات الحزبية والنقابية، وفى غياب الصحافة الحرة المستقلة عن الدولة، كان لا مناص من غياب الصراع الفكرى واعتماد سياسة الحل الأمنى، وصولا إلى دولة المخابرات داخل الدولة جنبا إلى جنب مع الدولة الپوليسية. وصار مكان الشيوعيِّين والإخوان المسلمين وكل المعارضين للنظام هو السجن بلا بديل. ومن الجلى أن إطلاق الحريات برفع كافة القيود هو البديل الوحيد للحل الأمنى بكل ما يؤدى إليه من كوارث سياسية وأمنية.
ومن ناحية أخرى فإنه ينبغى أن تتم إحالة الرئيس المعزول وكل المسئولين معه عن جرائم فترة رئاسته، وعن جرائم فترة التحالف الإخوانى السلفى مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إلى المحاكمة العادلة دون الدخول من جديد فى عمليات "قتل" القضايا عن طريق البطء والتسويف كما حدث مع مبارك وعصابته، ويبدو أن وضع القضاء سيكون أفضل فى المحاكمات الجديدة فى غياب الفرم الشامل للأدلة الذى قامت به أجهزة الدولة فى المرة الأولى.
ولا شك فى أن مدى اتساع نطاق رد الفعل الإخوانى السلفى الإرهابى العنيف، أو تراجُعه، ضد ما يسمونه بالانقلاب العسكرى فى سبيل استعادة رئاسة مرسى والحكم الإخوانى السلفى، سيكون حاسما فى الموقف من قوى الإسلام السياسى؛ بمعنى أن من شأن مواجهة مسلحة قوية وممتدة من جانب هذه القوى إخراس ألسنة دعاة التصالح والتوافق المتظاهرين بالديمقراطية على حين أن أغلبهم لن يُلقوا بالًا إلى الديمقراطية فى مواجهة الجماهير الشعبية ذاتها بمجرد توظيفهم فى الدور السياسى المرسوم لهم.
وعلينا أن نقاوم بحزم كل دعاوى المصالحة الوطنية ودمج شباب الإخوان فى المجتمع المدنى والمجتمع السياسى، قبل حل وحظر الأحزاب والجماعات الإسلامية، والعزل السياسى لفترات كافية، ومحاكمة المسئولين عن الجرائم، والقصاص للشهداء. ويتجاهل التغنى باختلاف شباب الإخوان عن قياداتهم حقيقة أن تلك القيادات كانت شبابا أيضا، وأن الشباب أكثر أيديولوچية وأقل دنيوية من القيادات الأكثر دنيوية والأقل أيديولوچية إلا من باب التجارة الدنيوية بالإسلام. على أنه لا مناص من بذل جهودة كبيرة فى مجال إعادة التربية السياسية والفكرية للشباب جميعا.
10: رفض الدولة الدينية من حيث المبدأ دون الاكتفاء بمجرد رفض جرائم الحكم الإخوانى:
والحقيقة أن الرؤية السياسية والفكرية التى تنطلق منها الثورة ضد الحكم الإخوانى أو معارضته تتراوح بين الرفض الشعبى العفوى للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التى أدت إلى ثورة يناير وتدهورت إلى حدود قصوى فى عهد طنطاوى ثم فى عهد مرسى، من جهة، وبين رفض أخونة الدولة من جانب القوى السياسية للمعارضة والقيادات الشبابية، من جهة أخرى. وتتمثل الأخونة فى عملية واسعة بل شاملة من الإجراءات القانونية وغير القانونية من حيث اتفاقها مع السلطات الدستورية لرئيس الجمهورية فى سبيل تمكين الإخوان المسلمين من السيطرة الشاملة على الدولة والإمساك بكل مفاتيح سلطة الدولة والاقتصاد وتحويلها إلى دولة "مغانم" للإخوان المسلمين والسلفيِّين المتعطشين إلى السيطرة السياسية والاقتصادية دون أن يعرفوا كيف يديرون دولة.
وهذه الرؤية بمنطلقيْها المتمثليْن فى رفض الحالة الاقتصادية للشعب ورفض الأخونة لا تكفى. ولا شك فى أن رفض الشعب للحكم الإخوانى انطلاقا من تدهور أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية سليم تماما وفى محله تماما، ولا شك كذلك فى أن رفض الأخونة سليم تماما وفى محله تماما؛ خاصةً وأنه يصطدم بمصالح لقطاعات من الرأسمالية والنخب السياسية والإدارية غير الإسلاموية لأنه يأتى على حسابها وبدلا منها بصورة تؤدى باطراد إلى تهميشها وإفقارها. وبدلا من كل هذا ينبغى الانطلاق من رؤية رفض الحكم الدينى الإسلامى بما هو كذلك. ولا أدرى كيف تصيبنا كل هذه الدهشة إزاء الأخونة بعد تسليم القوى المعارضة والثورية برئاسة الإخوان وحكم الإخوان من خلال المشاركة فى انتخاب مرسى وباقى المؤسسات الإخوانية التى نشأت فى سياق خدعة بناء مؤسسات دولة الثورة!
فالأخونة لا مناص منها ما دامت كل قوة جديدة تستولى على السلطة، فى غياب مؤسسات راسخة ومعايير للحكم الطبقى، كما هو الحال فى الغرب، مدفوعة إلى شمول السيطرة: فالميول المماثلة للأخونة واسعة النطاق فى العالم وفى مصر وقد بدأ النظام الجمهورى فى مصر فى أعقاب انقلاب 1952 بعسكرة الدولة، وكانت كل جماعة أيديولوچية جديدة فى الحكم تفعل نفس الشيء من بلشفة البلاشفة لدولتهم إلى "تشييع" الشيعة فى إيران لدولتهم، إلى تمكين السيطرة الشاملة للنازية والفاشية وغيرهما. فالأخونة لا تدعو فى حد ذاتها إلى الدهشة بل تدعو إلى الرفض الحاسم لأنها تضرّ بمصالح أخرى فى المجتمع ولكنْ قبل كل شيء لأنها تقود بصورة حثيثة إلى الدولة الدينية. غير أن أخونة الدولة ألحقت أضرارا فادحة بالحكم الإخوانى، ومشروع دولتهم الدينية الإسلامية، وألحقت بهم هزيمة مروِّعة فى نهاية المطاف.
وإذا كانت الأخونة تنتمى إلى نوع من السلوك النموذجى لكل مجموعة أيديولوچية جديدة تصل إلى الحكم، فقد نتجت أضرارها على الإخوان أنفسهم وعلى الشعب كله عن السرعة الخاطفة الحربية التى جرت به. فبدلا من من الرويَّة التى كان يمكن أن تدفع بأشخاص أكفاء امتلأت مؤسسات الدولة ومصالحها وأجهزتها بفيض من عديمى الكفاءة وبالتالى الفشل وبالتالى السخط الشعبى. وبدلا من التنظيم الدقيق الذى لا يقوم بالأخونة بصورة فورية بحيث لا تكون كل المناصب من اللحظة الأولى للموثوقين من الأهل والعشيرة جرت الأخونة على العكس من المطلوب.
وساعدت على اعتماد هذا السلوك المختل عدة عوامل منها أن عملا تحت الأرض طوال عقود طويلة من الصراع على السلطة بوسائل الإرهاب وليس فى سبيل الاستقلال أو الديمقراطية أو الحرية أو العدالة لا يؤهل أحدا لإدارة دولة، ومنها تعجُّل قطاعات محرومة ومهمَّشة من كوادر وقواعد الإخوان فى محاولة الحصول على مغانم السيطرة على السلطة والاقتصاد من جانب قادتهم، ومنها استشعار قيادات الإخوان لعواقب دخولهم، بسبب أخونتهم السريعة المنفلتة، فى خصومات وعداوات مع كل الأطراف فى الدولة والمجتمع بحيث صار شعارهم الضمنى "نتغدَّى بيهم قبل ما يتعشوا بينا".
وباختصار فإن إضفاء طابع حزب أو جماعة أو أيديولوچيا على الدولة والمجتمع فى بلد من البلدان فنٌّ أثبتت جماعة الإخوان المسلمين أنها لم تملكه ولم تتأهل له؛ وكان عليها أن تدفع ثمن كل تلك العربدة: الضربة القاصمة للإخوان والإسلام السياسى فى مصر والعالم العربى والعالم!