الشارع (1) قصة: روبرت فالزر


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4134 - 2013 / 6 / 25 - 12:01
المحور: الادب والفن     

Robert Walser
ترجمها: خليل كلفت (عن الإنجليزية)
خطوتُ خطواتٍ، وكانت عديمة الفائدة، والآن خرجتُ إلى الشارع، مستثارا لامباليا. فى البداية بدا وكأنه يسود العَمَى، واعتقدتُ أنه لم يَعُدْ أحدٌ يرى أحدا، وكان الجميع عميان وكانت الحياة تراوح مكانها، وكان الجميع يتلمَّسُون الطريق حولهم فى حالة من التشوُّش.
ولأن أعصابى كانت فى غاية التوتُّر، أحسستُ بالأشياء بحدَّة استثنائية. كانت الواجهات تنتصب أمامى، باردة. واندفعتْ الرءوس والملابس نحوى وتلاشتْ مثل أشباح.
ومرَّتْ رعشةٌ عبر جسمى، وجرؤتُ بصعوبة على مواصلة السير. واستحوذ علىَّ انطباع وراء آخر. كنتُ أترنَّح، وكان الجميع يترنَّحون. وكان لكل الأشخاص السائرين هنا خُطط فى رؤوسهم، الأعمال. وقبل لحظة، كان لى أيضا هدف أفكر فيه. أما الآن، فلا خُطط على الإطلاق، لكننى كنتُ أبحث عن هدف مرة أخرى، ورجوتُ أن أجد شيئا ما.
كانت الحشود تغلى وتفور بالنشاط. واعتقد كل شخص أنه فى المقدمة. وطفا الرجال، والنساء. وبدا أن الجميع يعززون نفس الغاية. من أين جاءوا، إلى أين كانوا يذهبون؟
أحدهم كان هذا، وآخرُ ذاك، وثالث لا شيء. وكان كثير منهم مدفوعين، وكانوا يعيشون بلا هدف، وَيَدَعُون أنفسهم مقذوفين فى كل وأىّ طريق. وكان أىّ إحساس بالخير يُطرح جانبا، غير مستعمَل؛ كان الذكاء يبحث فى الفراغ؛ وحملتْ القدرات الرائعة والكثرة ثمرة ضئيلة.
وجاء المساء؛ وكان الشارع أشبه بشبح. كان الآلاف يسيرون هنا وهناك كل يوم. ولم يكن يوجد مكانٌ أىُّ مكان آخر. وفى الصباح الباكر كانوا سريعين؛ وفى الليل، مُتْعَبِين. وكثيرا ما انتهوا إلى الفشل. وتدحرجتْ الأفعال واحدا فوق آخر؛ وكثيرا ما كانت القدرة تثير الضيق، بلا نهاية.
وفيما كنتُ أواصل المشى على هذا النحو، قابلتُ نظرةَ حوذىّ أحد كبار النبلاء. ثم قفزتُ فى أوتوبيس، وركبتُ مسافة، ودخلتُ فى مطعم لآكل شيئا، ثم خرجتُ من جديد. وفى كل مكان ذهابٌ وتدفُّقٌ بقياس منتظم. وكان الفهم البشرىّ مسلَّما به. وعرف كل شخص، فى لحظة، جيدا جدا كل شيء عن كل شخص آخر، لكن الحياة الداخلية ظلتْ خفية. فالروح تجدد نفسها بصورة متواصلة.
كانت العجلات تطحن، وصارت الأصوات مرتفعة؛ وكان المشهد بكامله ساكنا بصورة غريبة.
أردتُ أن أتكلَّم مع شخص ما، لكننى لم أجد وقتا؛ وبحثتُ عن نقطة ثابتة ما، لكننى لم أجد واحدة. ووسطَ الاندفاع الصارم إلى الأمام أحسستُ بالرغبة فى الوقوف ساكنا. وكانت الكثرة والحركة بالغتىْ الكثرة وبالغتىْ السرعة. وانسحب كل شخص عن كل شخص. وكان هناك جَرْى، مثل شيء ما مُسال، انطلاق متواصل، مثل التبخُّر. وكان كل شيء تخطيطيًّا، شبحيًّا، حتى أنا نفسى.
فجأة رأيتُ اشتدادا لا يُوصف فى كل العجلة والهرولة، وقلتُ لنفسى: "هذا المجموع الكلى لا يريد شيئا ولا يفعل شيئا إنهم متشابكون كلُّ منهم مع آخر، ولا يتحركون، سُجناء؛ إنهم يتركون أنفسهم لضغوط غامضة لكنهم هم أنفسهم يمثلون القوة التى تقع عليهم وتقيِّدهم، عقلا وعضوا".
وفيما كنتُ أمرّ، كلمتْنى عينا امرأة: "تعالَ معى. غادرْ الدوامة، اتركْ وراءك هذا الخليط، انضمّ للشخص الوحيد الذى سيجعلك قويًّا. وإذا أخلصتَ لى، ستكون غنيًّا. وأنتَ فى الفوضى فقير".
أردتُ أن أتبع نداءها، ولكنْ تمّ اكتساحنا بعيديْن عن بعضنا البعض فى التيار. كان الشارع لا يُقاوَم.
ثم دخلتُ فى ريف مفتوح، وكان كل شيء فيه هادئا. ومارًّا بى انطلق بسرعة قطار بنوافذ حمراء، عن قُرْب. وفى البعيد كان الرعد الخفيف المتواصل المتموج لحركة المرور أخفتَ صوتًا من أن يُسْمَع.
مشيتُ على طول حافة الغابة وغمغمتُ بقصيدة لبرينتانو. وكان القمر يومض عبر الأغصان.
فجأة لاحظتُ رجلا يقف غير بعيد عنى، بلا حراك تماما، وبدا أنه ينتظرنى.
مشيتُ حوله، محتفظا به دائما على مرأًى منى، وهذا ما ضايقه؛ ذلك أنه نادَى علىَّ: "لماذا لا تأتى إلى هنا وتُلقِى نظرة ملائمة علىَّ؟ أنا لستُ ما تتصوَّره".
ذهبتُ إليه. كان يُشبه أىّ شخص آخر، باستثناء أنه بدا غريبا، ليس أكثر. عندئذ عُدْتُ من جديد إلى حيث كان الضوء، والشارع.
1919